172)
فصل
في إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة
ثمّ دعا الحسين عليه السلام بمسلم بن عقيل رضي الله عنه ودفع إليه الكتاب وقال : إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وهذه كتبهم إليّ ، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامض على بركة الله وعونه حتّى تدخل الكوفة ، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها وادع الناس إلى طاعتي ، فإن رأيت الناس مجتمعين على بيعتي فعجّل عليَّ بالخبر حتّى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى.
قال : ثمّ عانقه الحسين وبكيا جميعاً ، وكان الحسين عليه السلام ينظر إلى مصرعه ، فخرج مسلم من مكّة قاصداً المدينة مستخفياً لئلّا يعلم به بنو اُميّة ، فلمّا دخل المدينة بدأ بمسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله فصلّى عنده ، ثمّ أقبل (1) في جوف الليل ، فودع أهل بيته ، ثمّ استأجر دليلين من قيس عيلان يدلّانه على الطريق ، ويمضيان به إلى الكوفة على غير الجادّة ، فخرج الدليلان به من المدينة ليلاً وسارا فأضلّا الطريق ، واشتدّ بهما العطش فماتا عشطاً ، وسار (2) مسلم ومن معه إلى الماء وقد كادوا أن يهلكوا عطشاً ، فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام :
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : خرج.
2 ـ في المقتل : وصار.
--------------------------------------------------------------------------------
(173)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد :
فإنّي خرجت من المدينة ليلاً مع دليلين استأجرتهما فضلّا عن الطريق واشتدّ بهما العطش فماتا ، ثمّ صرنا إلى الماء بعد ذلك ـ وقد كدنا نهلك ـ وأصبنا الماء بموضع يقال له « المضيق » وقد تطيرّت من وجهي ، فرأيك في إعفائي.
فعلم الحسين عليه السلام أنّه قد تشأّم وتطيّر ، فكتب إليه :
[ بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن عليّ إلى مسلم بن عقيل ] (2)
أمّا بعد :
فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ والاستعفاء من وجهك إلاّ الجبن والفشل ، فامض لما اُمرت به.
فلمّا وصل الكتاب إليه وجد همّاً وحزناً في نفسه ، ثمّ قال : لقد نسبني أبو عبد الله إلى الجبن ، ثمّ سار مسلم حتّى دخل الكوفة. (3)
وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى اشراف البصرة مع مولى له يقال له سليمان ويكنّى أبا رزين يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ؛ منهم : يزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم ، وحسبي منكم ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 و 2 ـ من المقتل.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/196 ـ 197.
--------------------------------------------------------------------------------
(174)
قالوا : بخّ بخّ ، أنت والله فقرة الظهر ، ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدّمت فيه فرطاً.
قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر اُريد أن اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.
فقالوا : والله إنّا نمنحك النصيحة ، ونجهد لك الرأي ، فقل نسمع.
فقال : إنّ معاوية مات فأهون به هالكاً مفقوداً ، وإنّه قد انكسر باب (1) الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات بالّذي أراد ، اجتهد إليه ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد ـ شارب الخمر ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم ، مع قصر حلم ، وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطىء قدمه ، فاُقسم بالله قسماً مبروراً انّ الجهاد في الدين أفضل من جهاد المشركين.
وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله عليه وآله ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل ، [ له ] (2) فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكّعوا (3) في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس قد انخذل (4) بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ونصرته ، والله لا يقصّر أحد عن نصرته إلا أورثه الله الذلّ في ولده ،
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : انكسرت نار.
2 ـ من الملهوف.
3 ـ التسكّع : التمادي في الباطل.
4 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فقد صخر بن قيس انخذل.
--------------------------------------------------------------------------------
(175)
والقلّة في عشيرته ، وها أنذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله في ردّ الجواب.
فتكلّمت بنو حنظلة ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن نبل كنانتك ، وفرسان عشيرتك ، إن رميتَ بنا أصبتَ ، وإن غزوتَ بنا فتحتَ ، لا تخوض والله غمرة إلا خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، نصول (1) بأسيافنان ونقيك بأبداننا.
وتكلّمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : يا أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا مخالفتك والخروج من رأيك (2) ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا.
وتكلّمت بنو عامر بن تميم ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وخلفاؤك (3) ، ولا نرضى إن غضبتَ ، ولا نقطن إن ضعنتَ ، والأمر إليك ، فادعنا نجبك ، وأْمرنا نطعك ، والأمر لك إذا شئت.
فقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لارفع الله السيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم. ثمّ كتب إلى الحسين عليه السلام :
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد :
فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له بالأخذ بحظّي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وأنّ الله لم يخل الأرض قطّ من عاملٍ
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في الملهوف : ننصرك.
2 ـ في الملهوف : خلافك والخروج عن رأيك.
3 ـ في الملهوف : وحلفاؤك.
--------------------------------------------------------------------------------
(176)
عليها بخير ، أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على الخلق ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة ، هو أصلها ، وأنتم فرعها ، فأقدم سعدتَ بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلت لك بني سعد وغسلت درك صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها يلمع. (1)
فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الكتاب ، قال : مالك آمنك الله يوم الخوف ، وأعزّك وأرواك يوم العطش ، فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين عليه السلام بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع (2) من انقطاعه عنه.
وأمّا المنذر بن الجارود خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله بن زياد ، وكانت بحرية ابنة المنذر بن الجارود تحت عبيد الله بن زياد فأخذ المنذر الرسول والكتاب وأتى به إلى عبيد الله بن زياد فقتله ، ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد الناس من أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف.
ثمّ بات تلك الليلة ، فلمّا أصبح استناب أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، وأسرع هو إلى الكوفة. (3) ولمّا دخل مسلم الكوفة ـ وكان قبل وصول ابن زياد إليها ـ نزل في دار مسلم (4) بن المسيب ، وهي دار المختار بن ابي عبيدة الثقفي.
قال : وجعلت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الحسين عليه
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في الملهوف : حتّى استهلّ برقها فلمع.
2 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فخرج.
3 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 110 ـ 114.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سالم.
--------------------------------------------------------------------------------
(177)
السلام ، والقوم يبكون شوقاً منهم إلى مقدم الحسين عليه السلام ، ثمّ تقدّم إلى مسلم رجل من همذان يقال له عابس الشاكري ، فقال :
أمّا بعد ، فإنّي لا اُخبرك عن الناس بشيء ، فإنّي لا أعلم ما في أنفسهم ، ولكنّي اُخبرك عمّا أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم ، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا اُريد بذلك إلا ما عنده.
ثمّ قام حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي ، فقال : أنا والله الّذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه.
قال : وتتابعت الشيعة على كلام هذين الرجلين ، ثمّ بذلوا لمسلم الأموال ، فلم يقبل منها (1) شيئاً.
قال : وبلغ النعمان بن بشير قدوم مسلم واجتماع الشيعة إليه وهو يومئذ أمير الكوفة ، فخرج من قصر الامارة مغضباً حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنادى في الناس وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله ربّكم ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فإنّ فيها سفك الدماء ، وقتل الرجال ، وذهاب الأموال ، واعلموا أنّي لست اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ولا أثب إلاّ من وثب عليَّ ، ولا اُنبّه نائمكم ، فإن أنتم انتهيتم عن ذلك ورجعتم وإلاّ فوالله وإلا فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لأضربنّكم بسيفي ما بقي قائمه في يدي (2) ، ولو لم يكن منكم ناصر ، إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يريد البطل.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : منهم.
2 ـ في المقتل : ما ثبت قائمه بيدي.
--------------------------------------------------------------------------------
(178)
فقام إليه عبد الله بن مسلم (1) بن سعيد الحضرمي فقال : أيّها الأمير ، إنّ هذا الّذي (2) أنت عليه من رأيك إنّما هو رأي المستضعفين.
فقال له النعمان بن بشير ، يا هذا ، والله لأن أكون مستضعفاً (3) في طاعة الله تعالى أحبّ إليَّ من أن أكون من الغاوين في معصية الله ، ثمّ نزل عن المنبر ودخل القصر ، فكتب عبد الله بن مسلم (4) إلى يزيد لعنه الله :
[ بسم الله الرحمن الرحيم ] (5)
لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من شيعته من أهل الكوفة.
أمّا بعد :
إنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة ، وقد بايعته الشيعة للحسين عليه السلام وهم خلق كثير ، فإن كانت لك بالكوفة حاجة فابعث اليها رجلاً قويّاً ينفّذ فيا أمرك ، ويعمل فيها كعملك في عدوّك ، فإنّ النعمان بن بشير ضعيف أو هو مستضعف (6) ، والسلام.
وكتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقّاص بمثل ذلك ، فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد لعنه الله دعا بغلام كان لأبيه يقال له سرجون فأعلمه بما ورد عليه ، فقال له : أُشير عليك بما تكره.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : فقام إليه مسلم.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : الحضرمي أيّها انّها الّذي.
3 ـ في المقتل : والله لئن أكوننّ من المستضعفين.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سعيد.
5 ـ من المقتل.
6 ـ في المقتل : يتضعّف.
--------------------------------------------------------------------------------
(179)
قال : وإن كرهت.
قال : استعمل عبيد الله بن زياد على الكوفة.
قال : إنّه لا خير فيه ـ وكان يزيد يبغضه ـ فأشر بغيره ، فقال : لو كان معاوية حاضراً أكنت تقبله منه ؟
قال : نعم.
قال : فهذا عهد عبيد الله على الكوفة ، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبته وخاتمه عليه ، فمات وبقي العهد عندي.
قال : ويحك قد أمضيته (1) ، ثمّ كتب :
من عبد الله يزيد إلى عبيد الله بن زياد.
سلام عليك.
أمّا بعد :
فإن الممدوح مسبوب يوماً ، والمسبوب ممدوح يوماً ، ولك مالك ، وعليك ما عليك ، وقد انتميت ونميت إلى كلّ منصب ، كما قال الأوّل : رفعت فجاوزت السحاب برفعة فمالك إلاّ مقعد الشمس مقعد
وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان ، وابتلي [ به ] (2) بلدك من دون البلدان ، وابتليت به من بين العمّال ، وفي هذه تعتق أو تكون عبداً تعبد كما تعبد العبيد ، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة انّ مسلم بن عقيل في الكوفة يجمع المجموع ، ويشقّ عصا المسلمين ، وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : ويحك فامضه.
2 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(180)
تراب ، فإذا أتاك كتابي هذا فسرحين تقرأه حتّى تقدّم الكوفة فتكفيني أمرها فقد ضممتها إليك ، وجعلتها زيادة في عملك ، فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز ، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع ، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك ، فالعجل العجل ، الوَحاء (1) الوَحاء ، والسلام.
ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهلي وأمره أن يسرع [ السير إلى عبيد الله ] (2) ، فلمّا ورد الكتاب على ابن زياد وقرأه أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة كما أشرنا أوّلاً.
فسار وفي صحبته مسلم بن عمرو والباهلي ، والمنذر بن جارود ، وشريك ابن عبد الله الهمداني ، فلمّا وصل قريب الكوفة نزل ، فلمّا أمسى دعا بعمامة سوداء فاعتمّ بها متلثماً ، ثمّ تقلدّ سيفه ، وتوشّح قوسه ، وأخذ في يده قضيباً ، واستوى على بغل له ، وركب معه أصحابه ، وأقبل حتّى دخل من طريق البادية ، وذلك في ليلة مقمرة والناس متوقّعون قدوم الحسين عليه السلام ، وهم لا يشكّون انّه الحسين فهم يمشون بين يديه ويقولون : مرحباً بك يا ابن رسول الله ، قدمت خير مقدم.
فرأى عبيد الله بن زياد من إرادة (3) الناس بالحسين ما ساءه ، فسكت ولم يكلّمهم ، فتكلّم مسلم بن عمرو الباهلي ، وقال : إليكم عن الأمير يا ترابيّة ، فليس هذا من تظنّون ، هذا عبيد الله بن زياد.
فتفرّق الناس عنه ، وتحصّن النعمان بن بشير وهو يظنّه الحسين ، فجعل
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الوحاء : الاسراع.
2 ـ من المقتل.
3 ـ في المقتل : تباشير.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني :::
181)
يناشده الله والفتنة ، وهو ساكت من وراء الحائط ، ثمّ قال له : افتح الباب عليك لعنة الله ، وسمعها جماعة فصاحوا : ابن مرجانة والله ، وفتح الباب ، وتفرّق الناس ، ونودي بالصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخرج ابن زياد وقام خطيباً وقال : إن أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف المظلوم منكم ، وإطاء محرومكم ، والاحسان إلى سامعكم ، والشدّة على مريبكم ، وأنا متبع أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحبكم ومطيعكم كالوالد البارّ ، وسيفي وسوطي على من ترك أمري.
وسمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد ومقالته ، فانتقل عن موضعه حتّى أتى دار هانىء بن عروة المذحجي (1) ، فدخل ، ثمّ أرسل إليه : إنّي أتيتك لتجيرني وتؤويني لأن ابن زياد قدم الكوفة ، فاتقيته على نفسي ، فخرج إليه هانىء ، وقال : لقد كلفتني شططاً ، ولولا دخولك [ داري ] (2) لأحببت أن تنصرف عنّي ، غير أنّي أجد ذلك عاراً عليَّ أن يكون رجلاً أتاني مستجيراً فلا اُجيره ، انزل على بركة الله.
وجعل عبيد الله يسأل عن مسلم ولا يجد أحداً يرشده إليه ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم في دار هانىء ويبايعونه للحسين سرّاً ، ومسلم بن عقيل يكتب أسماءهم عنده ويأخذ عليهم العهود ألا ينكثوا ولا يغدروا حتّى بايعه أكثر من عشرين ألفاً ، وهم مسلم أن يثب بعبيدالله بن زياد فمنعه هانىء ، وقال : جعلت فداك ، لا تعجل فإنّ العجلة لا خير فيها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : المرادي.
2 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(182)
ودعا عبيد الله مولىً له يقال له معقل ، وقال له : هذه ثلاثة آلاف (1) درهم خذها إليك والتمس مسلم بن عقيل حيث ما كان من الكوفة ، فإذا علمت (2) موضعه فادخل عليه وأعلمه أنّك من الشيعة وعلى مذهبه ، وادفع إليه هذه الدراهم ، وقل : استعن بها على عدوّك ، فإنّك إذا دفعت إليه الدراهم وثق ولم يكتمك من أمره شيئاً ، ثمّ اغد عليَّ بالأخبار.
فأقبل معقل حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنظر إلى رجل من الشيعة يقال له مسلم بن عوسجة ، فجلس إليه ، ثمّ قال : يا عبد الله ، أنا رجل من أهل الشام غير أنّي اُحبّ أهل هذا البيت ، ومعي ثلاثة آلاف درهم أحببت أن أدفعها إلى رجل بلغني انّه قدم إلى بلدكم هذا ليأخذ البيعة لابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فإن رأيت أن تدلّني عليه حتّى أدفع إليه المال الّذي معي واُبايعه ، وإن شئت فخذ بيعتي قبل أن تدخلني (3) عليه.
قال : فظنّ مسلم أن القول على ما يقوله : فأخذ عليه الأيمان المغلّظة والعهود انّه ناصح ويكون عوناً لابن عقيل على ابن زياد ، وأعطاه معقل من العهود ما وثق به مسلم بن عوسجة.
وكان شريك بن عبد الله الأعور الهمداني قد نزل في دار هانىء (4) ، وكان يرى رأي عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وحكى معجزاته عليه السلام ، ثمّ مرض شريك في دار هانىء وعزم ابن زياد أن يصير إليه ، ودعا شريك مسلماً
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : هذه ألف.
2 ـ في المقتل : عرفت.
3 ـ في المقتل : تدلني.
4 ـ في « ح » : وكانت اُخت هانىء زوجة شريك قيل : منعته من قتل ...
--------------------------------------------------------------------------------
(183)
بن عقيل ، وقال له : غداً يأتيني هذا الفاسق عائداً ، وإنّي اُشاغله بالكلام فاخرج عليه واقتله ، واجلس في قصر الامارة ، وإن أنا عشت فسأكفيك أمر البصرة ، ثمّ جاء ابن زياد حين أصبح عائداً شريك فجعل يسأله ، فهمَّ مسلم بن عقيل أن يخرج عليه فيقتله ، فمنعه هانىء عن الخروج ، وقال : في داري نسوة وصبية وإنّي لا آمن الحدثان ، وجعل شريك يقول : ما الإنتظار بسلمى أن تحييها هل شربة عندها اسقى على ظمأ حي سليمى وحي من يحييها وإن تلفت وكانت منيتي فيها (1)
فقال ابن زياد : ما يقول الشيخ ؟
فقيل : إنّه مُبَرْسَمٌ (2) ، فوقع في قلب ابن زياد أمر ، فركب من فوره ورجع إلى القصر ، وخرج مسلم بن عقيل إلى شريك من داخل البيت ، فقال : ما منعك من الخروج إلى الفاسق وقد أمرتك بقتله ؟ فقال : [ منعنى من ذلك ] (3) حديث سمعته من عمّي عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : لا إيمان لمن قتل بالغدر مسلماً (4) ، فلم اُحبّ أن أقتله به في منزل هذا الرجل.
فقال شريك : أمّا لو قتلته قتلت فاسقاً فاجراً منافقاً كافراً.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ البيت الثاني في المقتل هكذا : ثمّ اسقنيها وإن تجلب عليّ ردى فتلك أحلى من الدنيا وما فيها
وأمّا في « ح » فقد ورد هذان البيتان : وإن تخشيت من سلمى مراقبة لا تطمأن إلى سلمى وتأمنها فليس تأمن يوماً من دواهيها اخرج إليها بكأس الموت اسقيها
2 ـ البرسام : علّة معروفة.
3 ـ من المقتل.
4 ـ في المقتل : الايمان قيد الفتك.
--------------------------------------------------------------------------------
(184)
قال : فلم يلبث (1) شريك بعدها إلا ثلاثاً حتّى مات رحمه الله ، وكان من خيار الشيعة وعبّادها ، وكان يكتم الايمان تقيّة.
وخرج ابن زياد فصلى على شريك ورجع إلى القصر ، فلمّا كان من الغد أقبل معقل على مسلم بن عوسجة وقال : إنّك كنت وعدتني أن تدخلني على هذا الرجل لأدفع إليه هذا المال فما الّذي بدا لك ؟
فقال : إنّا اشتغلنا بموت هذا الرجل وكان من خيار الشيعة.
فقال معقل : أو مسلم بن عقيل في دار هانىء ؟
قال : نعم.
قال : قم بنا إليه حتّى أدفع إليه هذا المال ، فأخذ بيده وأدخله على مسلم ، فرحب به وأدناه ، وأخذ بيعته وأمر بقبض ما معه من المال ، وأقام معقل في دار هانىء بقيّة يومه حتّى أمسى ، ثمّ أتى ابن زياد فخبّره الخبر ، فبقي ابن زياد متعجباً لذلك ، ثمّ قال لمعقل : اختلف كلّ يوم إلى مسلم ولا تنقطع عنه فإنّك إن قطعته استراب وخرج من منزل هانىء فالقى في طلبه عناء.
ثمّ دعا ابن زياد محمد بن الأشعث لعنه الله وأسماء بن خارجة الفزاري وعمرو بن الحجّاج ، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء ، فقال ابن زياد : خبّروني ما الّذي يمنع هانىء من المصير إلينا ؟
فقالوا أصلح الله الأمير ، إنّه مريض.
فقال ابن زياد : إنّه كان مريضاً غير أنّه برأ ، وجلس على باب داره ، فلا عليكم أن تصيروا إليه وتأمروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : قال : ثمّ فما لبث.
--------------------------------------------------------------------------------
(185)
فقالوا : نفعل ذلك ، فبينا عبيد الله بن زياد مع هؤلاء القوم في المحاورة إذ دخل عليه رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي ، فقال : أصلح الله الأمير ، إنّي كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً يريد البادية فأنكرته ، ثمّ إنّي لحقته وسألته عن حاله ، فذكر انّه من أهل المدينة ، ثمّ نزلت عن فرسي ففتشته ، فأصبت معه هذا الكتاب ، فأخذه ابن زياد ففضه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحسين بن علي.
أمّا بعد :
فإني اُخبرك انّه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل ، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل ، فإن الناس كلّهم معك ، وليس لهم في يزيد هوىً.
فقال ابن زياد : أين هذا الرجل الّذي أصبت (1) معه الكتاب ؟
قال : هو بالباب.
فقال : ائتوني به ، فلمّا وقف بين يديه ، قال : ما اسمك ؟
قال : عبد الله بن يقطين (2).
قال : من دفع إليك هذا الكتاب ؟
قال : دفعته إليّ امرأة لا أعرفها ، فضحك ابن زياد ، وقال : اختر أحد اثنتين : إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب ، أو القتل ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ ارسل ـ خ ل ـ.
2 ـ في المقتل : يقطر.
--------------------------------------------------------------------------------
(186)
فقال : أمّا الكتاب فإنّي لا اخبرك ، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأني لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك.
قال : فأمر به ، فضربت عنقه رضي الله عنه.
ثمّ أقبل على محمد بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وأسماء بن خارجة ، وقال : صيروا إلى هانىء فاسألوه أن يصير إلينا فإنّا نريد مناظرته ، فأتوا هانىء وهو جالس على باب داره ، فسلّموا عليه ، وقالوا : ما يمنعك من إتيان الأمير وقد ذكر غير مرّة ؟
فقال : ما منعني من المصير إليه إلا العلّة.
فقالوا : صدقت ، ولكنّه بلغه انّك تقعد على باب دارك في كلّ عشيّة ، وقد استبطأك والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، ونحن نقسم عليك إلا ما ركبت معنا ، فدعا هانىء بثيابه فلبسها ، ثمّ ركب وسار مع القوم حتّى إذا صار بباب القصر كأنّ نفسه أحسّت بالشرّ فالتفت إلى حسّان بن أسماء ، فقال : يا ابن أخي ، إن نفسي تحدثني بالشر.
فقال حسّان : سبحان الله يا عمّ ! ما أتخوف عليك فلا تحدّثنّ نفسك بشيء ، ثمّ دخل القوم على ابن زياد ، فلمّا نظر إليهم من بعيد التفت إلى شريح القاضي وكان في مجلسه ، فقال : « أتتك بخائن رجلاه » (1) ، وأنشد : اريد حياته ويريد قتلي خليلي من عذيري (2) من مراد
فقال هانىء : وما ذاك ، أيّها الأمير ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ مثل جاهلي.
2 ـ في المقتل : عذيري من خليل.
--------------------------------------------------------------------------------
(187)
فقال : يا هانىء ، جئت بمسلم بن عقيل وجمعت له الرجال والسلاح في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليَّ ؟
قال هانىء : ما فعلت.
فقال ابن زياد : بل فعلت ، ثمّ استدعى بمعقل حتّى وقف بين يديه ، فقال ابن زياد : أتعرف هذا ؟
فنظر هانىء إلى معقل فعلم أنّه كان عيناً عليهم ، فقال هانىء : أصلح الله الأمير ، والله ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكنّه جاءنى مستجيراً فاستحييت من ردّه وأخذني من ذلك ذمام ، فأمّا إذ علمت فخل سبيلي حتّى أرجع إليه وآمره أن يخرج من داري ، واعطيك من العهود والمواثيق ما تثق به انّي أرجع إليك واضع يدي في يدك.
فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أو تأتيني بمسلم.
فقال : إذاً والله لا آتيك به ، أنا آتيك بضيفي تقتله أيكون هذا في العرب ؟!
فقال ابن زياد : والله لتأتينّي به.
فقال هانىء : والله لا آتيك به.
قال : فتقدم مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : أصلح الله الأمير ، ائذن لي في كلامه.
فقال : كلّمه بما أحببت ولا تخرجه من القصر ، فأخذ مسلم بن عمرو بيد هانىء فنحّاه ناحية ، فقال : ويحك يا هانىء اُنشدك الله (1) ان تقتل نفسك
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(188)
وتدخل البلاء على عشيرتك بسبب مسلم ، يا هانىء سلمه إليه فإنّه لا يقدم عليه بالقتل ، واُخرى انّه ليس عليك من ذلك ملامة فإن ه سلطان.
فقال هانىء : بلى والله عليَّ من ذلك أعظم عار وأكبر (1) خزي إن اُسلّم جاري وضيفي ، ورسول ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا حيّ صحيح الساعدين (2) كثير الأعوان والله لو لم أكن إلا وحدي لا ناصر لي لما سلمت أبداً ضيفي حتّى أموت دونه ، فردّه مسلم بن عمرو إلى ابن زياد وقال : أيّها الأمير ، إنّه أبى أن يسلم مسلماً او يقتل ، فغضب ابن زياد ، وقال : ائتيني به وإلا ضربت عنقك.
فقال : والله إذاً تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوفني ؟ ثمّ أخذ قضيباً كان بيد يديه فضرب به وجه هانىء حتّى كسر أنفه وشج حاجبه.
قال : وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف من سيف أصحاب عبيد الله فجاذبه الرجل ومنعه من السيف ، وصاح ابن زياد : خذوه ، فأخذوه وألقوه في بيت من بيوت القصر وأغلقوا عليه بابه.
قال : فوثب أسماء بن خارجة ، فقال : أيّها الأمير أمرتنا بالرجل أن نأتيك به ، فلمّا جئناك به هشمت وجهه وسيّلت دمه.
قال : وأنت هاهنا أيضاً ، فأمر به فضرب حتّى وقع لجنبه ، فجلس أسماء ابن خارجة ناحية من القصر وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إلى نفسي
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : أكثر.
2 ـ في المقتل : صحيح شديد الساعدين.
--------------------------------------------------------------------------------
(189)
أنعاك يا هانىء.
قال : وبلغ ذلك الخبر إلى مذحج فركبوا بأجمعهم وعليهم عمرو بن الحجّاج فوقفوا بباب القصر ، ونادى عمرو : يا ابن زياد ، هذه فرسان مذحج لم نخلع طاعة ولا فارقنا جماعة ، فلم تقتل صاحبنا ؟
فقال ابن زياد لشريح : ادخل على صاحبهم ، فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم وأعلمهم أنّه لم يقتل.
قال شريح : فدخلت عليه ، فقال : ويحكم هلكت عشيرتي ، أين أهل الدين فينقذوني من يد عدوهم وابن عدوهم ؟ [ ثمّ قال ] (1) والدماء تسيل على لحيته : يا شريح ، هذه أصوات عشيرتي أدخل منهم عشرة ليروني وينقذوني ، فلمّا خرجت تبعني حمير بن بكير وقد بعثه ابن زياد علي عيناً ، فلو لا مكانه لأخبرت القوم بخبره.
قال : فخرج شريح ، فقال : يا هؤلاء ، لا تعجلوا بالفتنة ، فإنّ صاحبكم لم يقتل ، فانصرف القوم.
ثمّ خرج ابن زياد حتّى دخل المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر وشماله في أيديهم الأعمدة والسيوف ، فقال : أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اعتصموا بطاعة الله ورسوله وطاعة أئمتمكم ، ولا تختلفوا فتهلكوا وتندموا وتذلوا وتقهروا ، ولا يجعلنّ أحد على نفسه سبيلاً ، وقد أعذر من أنذر ، فما أتمّ الخطبة حسناً حتّى سمع الصيحة ، فقال : ما هذا ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(190)
فقيل : أيّها الأمير ، الحذر الحذر ، فهذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من (1) بايعه ، فنزل عن المنبر مسرعاً وبادر حتّى دخل القصر وأغلق عليه الأبواب ، فأقبل مسلم بن عقيل ومعه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام والسلاح وهم مع ذلك يلعنون ابن زياد ويزيد وزياد ، وكان شعارهم : « يا منصور أمت ».
وكان مسلم قد عقد لعبد الله الكندي على كندة وقدمة أمام الخيل ، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج [ وأسد ] (2) ، وعقد لأبي تمامة بن عمر الصائدي على تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، وأقبل مسلم يسير حتّى أحاط بالقصر وليس في القصر إلا نحواً من ثلاثين رجلاً من الشرط ، ومقدار عشرين من الأشراف ، وركب أصحاب ابن زياد واختلط القوم واقتتلوا قتالاً شديداً ، وابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس.
قال : وجعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له كثير بن شهاب ومحمد ابن الأشعث والقعقاع بن شور (3) وشبث بن ربعي ينادون بأعلى أصواتهم من فوق القصر : ألا يا شيعة الحسين ، الله الله في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم ، فإنّ جنود الشام قد أقبلت ، وإن الأمير عبيد الله قد عاهد الله لئن أقمتم على حربكم ولم تنصرفوا من يومكم ليحر منكم العطاء ، وليفرقن مقاتليكم في مغازي أهل الشام ، وليأخذن البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقي منكم بقيّة من
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : جمع ممّن.
2 ـ من المقتل.
3 ـ كذا في المقتل : وفي الأصل : الفقاع بن سويد.
--------------------------------------------------------------------------------
(191)
أهل المعصية إلا أذاقها وبال أمرها.
فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون ويتخاذلون عن مسلم ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.
قال : وكانت المرأة تأتي أخاها وابنها وزوجها وأباها فتشرده من بين القوم وتقول : ما لنا وللدخول بين السلاطين ، فجعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ، فما غابت الشمس حتّى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه ، واختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلي المغرب فتفرّقت عنه العشرة ، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ومضى في بعض الأزقّة وقد اُثخن بالجراح لا يدري أين يذهب ، حتّى صار إلى امرأة يقال لها طوعة ، وقد كانت قبل ذلك اُمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اُسيد الخضرمي ، فولدت له بلال بن اُسيد ، وكانت المرأة واقفه بباب دارها تنتظر ابنها ، فسلّم عليها مسلم ، فردت عليه.
فقال : يا أمة الله ، اسقيني ، فسقته ، فجلس على بابها.
فقالت : يا عبد الله ، ما شأنك ، ألست قد شربت ؟
فقال : بلى ، ولكنّي ما لي في الكوفة من منزل ، وإنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به ، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ ؟ فإنّي من أهل بيت شرف وكرم ، ومثلي من يكافىء بالاحسان.
فقالت : ومن أنت ؟
فقال : يا هذه ، ذري عنك التفتيش وأدخليني منزلك فعسى الله أن
--------------------------------------------------------------------------------
(192)
يكافيك عنّا بالحسنى.
فقالت : يا عبد الله ، خبّرني باسمك ، فإنّي أكره أن تدخل منزلي من قبل معرفة خبرك ، وهذه الفتنة قائمة ، وهذا اللعين ابن زياد بالكوفة.
فقال لها : أنا مسلم بن عقيل.
فقالت المرأة : قم فادخل ، فأدخلته منزلها فجاءته بالمصباح ، وأتته بالطعام فأبى أن يأكل ، فلم يكن بأسرع من أن جاء ولدها ، فلمّا دخل رأى من أُمه أمراً منكراً من دخولها ذلك البيت وخروجها وهي تبكي.
فقال لها : يا اُماه ، ما قضيتك (1) ؟
فقالت : يا بنيّ ، اقبل على شأنك ، فلمّا ألح عليها قالت : يا بنيّ ، إنّي اُخبرك بأمر فلا تفشيه ، هذا مسلم بن عقيل في ذلك البيت ، وكان من قضيته (2) كذا وكذا ، فسكت الغلام ولم يقل شيئاً ثمّ أخذ مضجعه.
فلمّا أصبح ابن زياد نادى في الناس أن يجتمعوا ، ثمّ خرج من القصر فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : أيّها الناس ، إنّ مسلم بن عقيل السفيه أتى هذه البلدة ، فأظهر الخلاف وشقّ العصا ، وقد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، والمنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين يزيد ، وله في كلّ يوم حاجة مقضية ، ثمّ نزل عن المنبر ودعا بالحصين بن نمير ، فقال : ثكلتك اُمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة ان لم تضيّق على أهلها أو يهدوك إلى مسلم ، فوالله لئن خرج من الكوفة سالماً لتزهقنّ أنفسنا في طلبه ، فانطلق الآن
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : ما قصتك ؟
2 ـ في المقتل : قصته.
--------------------------------------------------------------------------------
(193)
فقد سلّطتك على دور الكوفة ، وسككها ، فانصب المراصد ، وجدّ (1) في الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.
وأقبل محمد بن الأشعث حتّى دخل على ابن زياد ، فلمّا رآه رحّب به ، وأقبل ابن تلك المرأة الّتي مسلم في دارها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فخبّره بمكان مسلم في دار طوعة ، ثمّ تنحّى.
فقال ابن زياد : ما الّذي سارك يا عبد الرحمن ؟
فقال : أصلح الله الأمير ، البشارة الكبرى.
فقال : وما ذاك ؟ فأخبره الخبر ، فسرّ عدوّ الله ، وقال : قم فائتني به ولك ما بذلت من الجائزة والحظّ الأوفر (2) ، ثمّ أمر ابن زياد خليفته عمرو بن حريث لعنه الله أن يرسل مع محمد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه ، فركب محمد بن الأشعث حتّى وافى الدار.
وسمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال فعلم أنّه قد أتي ، فبادر مسرعاً إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وأفرغ عليه لامة حربة ، وتقلد بسيفه ، والقوم يرمون الدار بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطراف (3) القصب ، فتبسم مسلم ، ثمّ قال : يا نفس ، اخرجي إلى الموت الّذي ليس منه محيص ، ثمّ قال للمرأة : رحمك الله وجزاك خيراً ، اعلمي أنّي ما اُتيت إلا من قبل (4) ابنك ، ولكن افتحي الباب ، ففتحت الباب ، وخرج مسلم في وجوه ا لقوم كالأسد المغضب
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : وخذ
2 ـ في المقتل : الأوفى.
3 ـ في المقتل : هواري.
4 ـ في المقتل : أنّي ابتليت من قبل.
--------------------------------------------------------------------------------
(194)
فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟
فأرسل [ إليه ] (1) ابن الأشعث : أيّها الأمير ، أتظنّ (2) أنّك بعثتني إلى بقال من بقالي (3) الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ؟ أو لا تعلم أيّها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام ؟
فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلا به. (4)
فجعل محمد بن الأشعث يناديه : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك لك الأمان ، ومسلم يقول : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة ، ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول : أقسمت لا اُقتل إلا حراً أكره أن اُخدع أو اُغرا كلُّ امرىءٍ يوماً سيلقى شراً وإن رأيت الموت شيئاً نكرا أو يخلط البارد سخناً حراً أضربكم ولا أخاف ضراً (5)
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : انظر.
3 ـ كذا في البحار ، وفي الأصل والمقتل : بقاقيل.
4 ـ من قوله : « حتّى قتل منهم جماعة كثيرة » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 44/354 عن كتابنا هذا ، وكذا في عوالم العلوم : 17/203.
5 ـ رويت هذه الأرجاز في المقتل هكذا : أقسمت لا أقتل إلا حراً كل امرىء يوماً ملاق شراً أضربكم ولا أخاف ضرا ويُخلط البارد سخنا مرا وإن رأيت الموت شيئاً مراً رُد شعاع الشمس فاستقرا ضرب همام يستهين الدهرا ولا اُقيم للأمان قدرا
أخاف أن اُخدع أو اُغرّا
--------------------------------------------------------------------------------
(195)
فناداه ابن الأشعث : ويحك يا ابن عقيل ، انّك لا تكدّ ولا تغرّ ، والقوم اليسوا بقاتليك ، فلا تقتل نفسك.
فلم يلتفت إليه وجعل يقاتل حتّى أثخن الجراح وضعف عن القتال ، فتكاثروا عليه من كلّ جانب ، وجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة ، فقال مسلم : ويلكم ما لكم ترموني بالحجارة كما يرمي الكفار وأنا من أهل بيت النبوّة الأبرار ؟ ويلكم أمّا ترعون حقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا حقّ ذرّيّته ، ثمّ حمل عليهم مع ضعفه فهزمهم وكسرهم في الدروب والسكك ، ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار من تلك الدور ، ورجع القوم إليه ، فصاح بهم محمد بن الأشعث ، ذروه حتّى اكلمه ، فدنا منه وقال : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك أنت آمن ودمك في عنقي ، وأنت في ذمّتي.
فقال مسلم : يا ابن الأشعث ، أتظنّ أنّي أعطي بيدي يداً وأنا أقدر على القتال ؟ لا والله لا كان ذلك ، ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه ، ثمّ رجع إلى موقعه فوقف وهو يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي فلم يجترىء أحد أن يسقيه ويدنو منه.
فأقبل ابن الأشعث على أصحابه ، وقال : والله إنّ هذا لهو العار والشنار. أن تجزعوا (1) من رجل واحد ، فحملوا عليه ، وحمل عليهم.
وقال ابن الأشعث : احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد ، فقصده رجل من أهل الكوفة يقال له بكير بن حمران ، فاختلفا بضربتين ضرب بكير ضربة على شفة مسلم العليا وضرب ضربة مسلم بن عقيل فبلغت الضربة إلى
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : أتجزعون ؟
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس
فصل
في إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة
ثمّ دعا الحسين عليه السلام بمسلم بن عقيل رضي الله عنه ودفع إليه الكتاب وقال : إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وهذه كتبهم إليّ ، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامض على بركة الله وعونه حتّى تدخل الكوفة ، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها وادع الناس إلى طاعتي ، فإن رأيت الناس مجتمعين على بيعتي فعجّل عليَّ بالخبر حتّى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى.
قال : ثمّ عانقه الحسين وبكيا جميعاً ، وكان الحسين عليه السلام ينظر إلى مصرعه ، فخرج مسلم من مكّة قاصداً المدينة مستخفياً لئلّا يعلم به بنو اُميّة ، فلمّا دخل المدينة بدأ بمسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله فصلّى عنده ، ثمّ أقبل (1) في جوف الليل ، فودع أهل بيته ، ثمّ استأجر دليلين من قيس عيلان يدلّانه على الطريق ، ويمضيان به إلى الكوفة على غير الجادّة ، فخرج الدليلان به من المدينة ليلاً وسارا فأضلّا الطريق ، واشتدّ بهما العطش فماتا عشطاً ، وسار (2) مسلم ومن معه إلى الماء وقد كادوا أن يهلكوا عطشاً ، فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام :
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : خرج.
2 ـ في المقتل : وصار.
--------------------------------------------------------------------------------
(173)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد :
فإنّي خرجت من المدينة ليلاً مع دليلين استأجرتهما فضلّا عن الطريق واشتدّ بهما العطش فماتا ، ثمّ صرنا إلى الماء بعد ذلك ـ وقد كدنا نهلك ـ وأصبنا الماء بموضع يقال له « المضيق » وقد تطيرّت من وجهي ، فرأيك في إعفائي.
فعلم الحسين عليه السلام أنّه قد تشأّم وتطيّر ، فكتب إليه :
[ بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن عليّ إلى مسلم بن عقيل ] (2)
أمّا بعد :
فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ والاستعفاء من وجهك إلاّ الجبن والفشل ، فامض لما اُمرت به.
فلمّا وصل الكتاب إليه وجد همّاً وحزناً في نفسه ، ثمّ قال : لقد نسبني أبو عبد الله إلى الجبن ، ثمّ سار مسلم حتّى دخل الكوفة. (3)
وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى اشراف البصرة مع مولى له يقال له سليمان ويكنّى أبا رزين يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ؛ منهم : يزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم ، وحسبي منكم ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 و 2 ـ من المقتل.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/196 ـ 197.
--------------------------------------------------------------------------------
(174)
قالوا : بخّ بخّ ، أنت والله فقرة الظهر ، ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدّمت فيه فرطاً.
قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر اُريد أن اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.
فقالوا : والله إنّا نمنحك النصيحة ، ونجهد لك الرأي ، فقل نسمع.
فقال : إنّ معاوية مات فأهون به هالكاً مفقوداً ، وإنّه قد انكسر باب (1) الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات بالّذي أراد ، اجتهد إليه ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد ـ شارب الخمر ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم ، مع قصر حلم ، وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطىء قدمه ، فاُقسم بالله قسماً مبروراً انّ الجهاد في الدين أفضل من جهاد المشركين.
وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله عليه وآله ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل ، [ له ] (2) فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكّعوا (3) في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس قد انخذل (4) بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ونصرته ، والله لا يقصّر أحد عن نصرته إلا أورثه الله الذلّ في ولده ،
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : انكسرت نار.
2 ـ من الملهوف.
3 ـ التسكّع : التمادي في الباطل.
4 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فقد صخر بن قيس انخذل.
--------------------------------------------------------------------------------
(175)
والقلّة في عشيرته ، وها أنذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله في ردّ الجواب.
فتكلّمت بنو حنظلة ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن نبل كنانتك ، وفرسان عشيرتك ، إن رميتَ بنا أصبتَ ، وإن غزوتَ بنا فتحتَ ، لا تخوض والله غمرة إلا خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، نصول (1) بأسيافنان ونقيك بأبداننا.
وتكلّمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : يا أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا مخالفتك والخروج من رأيك (2) ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا.
وتكلّمت بنو عامر بن تميم ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وخلفاؤك (3) ، ولا نرضى إن غضبتَ ، ولا نقطن إن ضعنتَ ، والأمر إليك ، فادعنا نجبك ، وأْمرنا نطعك ، والأمر لك إذا شئت.
فقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لارفع الله السيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم. ثمّ كتب إلى الحسين عليه السلام :
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد :
فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له بالأخذ بحظّي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وأنّ الله لم يخل الأرض قطّ من عاملٍ
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في الملهوف : ننصرك.
2 ـ في الملهوف : خلافك والخروج عن رأيك.
3 ـ في الملهوف : وحلفاؤك.
--------------------------------------------------------------------------------
(176)
عليها بخير ، أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على الخلق ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة ، هو أصلها ، وأنتم فرعها ، فأقدم سعدتَ بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلت لك بني سعد وغسلت درك صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها يلمع. (1)
فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الكتاب ، قال : مالك آمنك الله يوم الخوف ، وأعزّك وأرواك يوم العطش ، فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين عليه السلام بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع (2) من انقطاعه عنه.
وأمّا المنذر بن الجارود خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله بن زياد ، وكانت بحرية ابنة المنذر بن الجارود تحت عبيد الله بن زياد فأخذ المنذر الرسول والكتاب وأتى به إلى عبيد الله بن زياد فقتله ، ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد الناس من أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف.
ثمّ بات تلك الليلة ، فلمّا أصبح استناب أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، وأسرع هو إلى الكوفة. (3) ولمّا دخل مسلم الكوفة ـ وكان قبل وصول ابن زياد إليها ـ نزل في دار مسلم (4) بن المسيب ، وهي دار المختار بن ابي عبيدة الثقفي.
قال : وجعلت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الحسين عليه
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في الملهوف : حتّى استهلّ برقها فلمع.
2 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فخرج.
3 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 110 ـ 114.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سالم.
--------------------------------------------------------------------------------
(177)
السلام ، والقوم يبكون شوقاً منهم إلى مقدم الحسين عليه السلام ، ثمّ تقدّم إلى مسلم رجل من همذان يقال له عابس الشاكري ، فقال :
أمّا بعد ، فإنّي لا اُخبرك عن الناس بشيء ، فإنّي لا أعلم ما في أنفسهم ، ولكنّي اُخبرك عمّا أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم ، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا اُريد بذلك إلا ما عنده.
ثمّ قام حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي ، فقال : أنا والله الّذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه.
قال : وتتابعت الشيعة على كلام هذين الرجلين ، ثمّ بذلوا لمسلم الأموال ، فلم يقبل منها (1) شيئاً.
قال : وبلغ النعمان بن بشير قدوم مسلم واجتماع الشيعة إليه وهو يومئذ أمير الكوفة ، فخرج من قصر الامارة مغضباً حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنادى في الناس وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله ربّكم ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فإنّ فيها سفك الدماء ، وقتل الرجال ، وذهاب الأموال ، واعلموا أنّي لست اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ولا أثب إلاّ من وثب عليَّ ، ولا اُنبّه نائمكم ، فإن أنتم انتهيتم عن ذلك ورجعتم وإلاّ فوالله وإلا فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لأضربنّكم بسيفي ما بقي قائمه في يدي (2) ، ولو لم يكن منكم ناصر ، إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يريد البطل.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : منهم.
2 ـ في المقتل : ما ثبت قائمه بيدي.
--------------------------------------------------------------------------------
(178)
فقام إليه عبد الله بن مسلم (1) بن سعيد الحضرمي فقال : أيّها الأمير ، إنّ هذا الّذي (2) أنت عليه من رأيك إنّما هو رأي المستضعفين.
فقال له النعمان بن بشير ، يا هذا ، والله لأن أكون مستضعفاً (3) في طاعة الله تعالى أحبّ إليَّ من أن أكون من الغاوين في معصية الله ، ثمّ نزل عن المنبر ودخل القصر ، فكتب عبد الله بن مسلم (4) إلى يزيد لعنه الله :
[ بسم الله الرحمن الرحيم ] (5)
لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من شيعته من أهل الكوفة.
أمّا بعد :
إنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة ، وقد بايعته الشيعة للحسين عليه السلام وهم خلق كثير ، فإن كانت لك بالكوفة حاجة فابعث اليها رجلاً قويّاً ينفّذ فيا أمرك ، ويعمل فيها كعملك في عدوّك ، فإنّ النعمان بن بشير ضعيف أو هو مستضعف (6) ، والسلام.
وكتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقّاص بمثل ذلك ، فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد لعنه الله دعا بغلام كان لأبيه يقال له سرجون فأعلمه بما ورد عليه ، فقال له : أُشير عليك بما تكره.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : فقام إليه مسلم.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : الحضرمي أيّها انّها الّذي.
3 ـ في المقتل : والله لئن أكوننّ من المستضعفين.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سعيد.
5 ـ من المقتل.
6 ـ في المقتل : يتضعّف.
--------------------------------------------------------------------------------
(179)
قال : وإن كرهت.
قال : استعمل عبيد الله بن زياد على الكوفة.
قال : إنّه لا خير فيه ـ وكان يزيد يبغضه ـ فأشر بغيره ، فقال : لو كان معاوية حاضراً أكنت تقبله منه ؟
قال : نعم.
قال : فهذا عهد عبيد الله على الكوفة ، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبته وخاتمه عليه ، فمات وبقي العهد عندي.
قال : ويحك قد أمضيته (1) ، ثمّ كتب :
من عبد الله يزيد إلى عبيد الله بن زياد.
سلام عليك.
أمّا بعد :
فإن الممدوح مسبوب يوماً ، والمسبوب ممدوح يوماً ، ولك مالك ، وعليك ما عليك ، وقد انتميت ونميت إلى كلّ منصب ، كما قال الأوّل : رفعت فجاوزت السحاب برفعة فمالك إلاّ مقعد الشمس مقعد
وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان ، وابتلي [ به ] (2) بلدك من دون البلدان ، وابتليت به من بين العمّال ، وفي هذه تعتق أو تكون عبداً تعبد كما تعبد العبيد ، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة انّ مسلم بن عقيل في الكوفة يجمع المجموع ، ويشقّ عصا المسلمين ، وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : ويحك فامضه.
2 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(180)
تراب ، فإذا أتاك كتابي هذا فسرحين تقرأه حتّى تقدّم الكوفة فتكفيني أمرها فقد ضممتها إليك ، وجعلتها زيادة في عملك ، فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز ، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع ، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك ، فالعجل العجل ، الوَحاء (1) الوَحاء ، والسلام.
ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهلي وأمره أن يسرع [ السير إلى عبيد الله ] (2) ، فلمّا ورد الكتاب على ابن زياد وقرأه أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة كما أشرنا أوّلاً.
فسار وفي صحبته مسلم بن عمرو والباهلي ، والمنذر بن جارود ، وشريك ابن عبد الله الهمداني ، فلمّا وصل قريب الكوفة نزل ، فلمّا أمسى دعا بعمامة سوداء فاعتمّ بها متلثماً ، ثمّ تقلدّ سيفه ، وتوشّح قوسه ، وأخذ في يده قضيباً ، واستوى على بغل له ، وركب معه أصحابه ، وأقبل حتّى دخل من طريق البادية ، وذلك في ليلة مقمرة والناس متوقّعون قدوم الحسين عليه السلام ، وهم لا يشكّون انّه الحسين فهم يمشون بين يديه ويقولون : مرحباً بك يا ابن رسول الله ، قدمت خير مقدم.
فرأى عبيد الله بن زياد من إرادة (3) الناس بالحسين ما ساءه ، فسكت ولم يكلّمهم ، فتكلّم مسلم بن عمرو الباهلي ، وقال : إليكم عن الأمير يا ترابيّة ، فليس هذا من تظنّون ، هذا عبيد الله بن زياد.
فتفرّق الناس عنه ، وتحصّن النعمان بن بشير وهو يظنّه الحسين ، فجعل
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الوحاء : الاسراع.
2 ـ من المقتل.
3 ـ في المقتل : تباشير.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني :::
181)
يناشده الله والفتنة ، وهو ساكت من وراء الحائط ، ثمّ قال له : افتح الباب عليك لعنة الله ، وسمعها جماعة فصاحوا : ابن مرجانة والله ، وفتح الباب ، وتفرّق الناس ، ونودي بالصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخرج ابن زياد وقام خطيباً وقال : إن أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف المظلوم منكم ، وإطاء محرومكم ، والاحسان إلى سامعكم ، والشدّة على مريبكم ، وأنا متبع أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحبكم ومطيعكم كالوالد البارّ ، وسيفي وسوطي على من ترك أمري.
وسمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد ومقالته ، فانتقل عن موضعه حتّى أتى دار هانىء بن عروة المذحجي (1) ، فدخل ، ثمّ أرسل إليه : إنّي أتيتك لتجيرني وتؤويني لأن ابن زياد قدم الكوفة ، فاتقيته على نفسي ، فخرج إليه هانىء ، وقال : لقد كلفتني شططاً ، ولولا دخولك [ داري ] (2) لأحببت أن تنصرف عنّي ، غير أنّي أجد ذلك عاراً عليَّ أن يكون رجلاً أتاني مستجيراً فلا اُجيره ، انزل على بركة الله.
وجعل عبيد الله يسأل عن مسلم ولا يجد أحداً يرشده إليه ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم في دار هانىء ويبايعونه للحسين سرّاً ، ومسلم بن عقيل يكتب أسماءهم عنده ويأخذ عليهم العهود ألا ينكثوا ولا يغدروا حتّى بايعه أكثر من عشرين ألفاً ، وهم مسلم أن يثب بعبيدالله بن زياد فمنعه هانىء ، وقال : جعلت فداك ، لا تعجل فإنّ العجلة لا خير فيها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : المرادي.
2 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(182)
ودعا عبيد الله مولىً له يقال له معقل ، وقال له : هذه ثلاثة آلاف (1) درهم خذها إليك والتمس مسلم بن عقيل حيث ما كان من الكوفة ، فإذا علمت (2) موضعه فادخل عليه وأعلمه أنّك من الشيعة وعلى مذهبه ، وادفع إليه هذه الدراهم ، وقل : استعن بها على عدوّك ، فإنّك إذا دفعت إليه الدراهم وثق ولم يكتمك من أمره شيئاً ، ثمّ اغد عليَّ بالأخبار.
فأقبل معقل حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنظر إلى رجل من الشيعة يقال له مسلم بن عوسجة ، فجلس إليه ، ثمّ قال : يا عبد الله ، أنا رجل من أهل الشام غير أنّي اُحبّ أهل هذا البيت ، ومعي ثلاثة آلاف درهم أحببت أن أدفعها إلى رجل بلغني انّه قدم إلى بلدكم هذا ليأخذ البيعة لابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فإن رأيت أن تدلّني عليه حتّى أدفع إليه المال الّذي معي واُبايعه ، وإن شئت فخذ بيعتي قبل أن تدخلني (3) عليه.
قال : فظنّ مسلم أن القول على ما يقوله : فأخذ عليه الأيمان المغلّظة والعهود انّه ناصح ويكون عوناً لابن عقيل على ابن زياد ، وأعطاه معقل من العهود ما وثق به مسلم بن عوسجة.
وكان شريك بن عبد الله الأعور الهمداني قد نزل في دار هانىء (4) ، وكان يرى رأي عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وحكى معجزاته عليه السلام ، ثمّ مرض شريك في دار هانىء وعزم ابن زياد أن يصير إليه ، ودعا شريك مسلماً
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : هذه ألف.
2 ـ في المقتل : عرفت.
3 ـ في المقتل : تدلني.
4 ـ في « ح » : وكانت اُخت هانىء زوجة شريك قيل : منعته من قتل ...
--------------------------------------------------------------------------------
(183)
بن عقيل ، وقال له : غداً يأتيني هذا الفاسق عائداً ، وإنّي اُشاغله بالكلام فاخرج عليه واقتله ، واجلس في قصر الامارة ، وإن أنا عشت فسأكفيك أمر البصرة ، ثمّ جاء ابن زياد حين أصبح عائداً شريك فجعل يسأله ، فهمَّ مسلم بن عقيل أن يخرج عليه فيقتله ، فمنعه هانىء عن الخروج ، وقال : في داري نسوة وصبية وإنّي لا آمن الحدثان ، وجعل شريك يقول : ما الإنتظار بسلمى أن تحييها هل شربة عندها اسقى على ظمأ حي سليمى وحي من يحييها وإن تلفت وكانت منيتي فيها (1)
فقال ابن زياد : ما يقول الشيخ ؟
فقيل : إنّه مُبَرْسَمٌ (2) ، فوقع في قلب ابن زياد أمر ، فركب من فوره ورجع إلى القصر ، وخرج مسلم بن عقيل إلى شريك من داخل البيت ، فقال : ما منعك من الخروج إلى الفاسق وقد أمرتك بقتله ؟ فقال : [ منعنى من ذلك ] (3) حديث سمعته من عمّي عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : لا إيمان لمن قتل بالغدر مسلماً (4) ، فلم اُحبّ أن أقتله به في منزل هذا الرجل.
فقال شريك : أمّا لو قتلته قتلت فاسقاً فاجراً منافقاً كافراً.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ البيت الثاني في المقتل هكذا : ثمّ اسقنيها وإن تجلب عليّ ردى فتلك أحلى من الدنيا وما فيها
وأمّا في « ح » فقد ورد هذان البيتان : وإن تخشيت من سلمى مراقبة لا تطمأن إلى سلمى وتأمنها فليس تأمن يوماً من دواهيها اخرج إليها بكأس الموت اسقيها
2 ـ البرسام : علّة معروفة.
3 ـ من المقتل.
4 ـ في المقتل : الايمان قيد الفتك.
--------------------------------------------------------------------------------
(184)
قال : فلم يلبث (1) شريك بعدها إلا ثلاثاً حتّى مات رحمه الله ، وكان من خيار الشيعة وعبّادها ، وكان يكتم الايمان تقيّة.
وخرج ابن زياد فصلى على شريك ورجع إلى القصر ، فلمّا كان من الغد أقبل معقل على مسلم بن عوسجة وقال : إنّك كنت وعدتني أن تدخلني على هذا الرجل لأدفع إليه هذا المال فما الّذي بدا لك ؟
فقال : إنّا اشتغلنا بموت هذا الرجل وكان من خيار الشيعة.
فقال معقل : أو مسلم بن عقيل في دار هانىء ؟
قال : نعم.
قال : قم بنا إليه حتّى أدفع إليه هذا المال ، فأخذ بيده وأدخله على مسلم ، فرحب به وأدناه ، وأخذ بيعته وأمر بقبض ما معه من المال ، وأقام معقل في دار هانىء بقيّة يومه حتّى أمسى ، ثمّ أتى ابن زياد فخبّره الخبر ، فبقي ابن زياد متعجباً لذلك ، ثمّ قال لمعقل : اختلف كلّ يوم إلى مسلم ولا تنقطع عنه فإنّك إن قطعته استراب وخرج من منزل هانىء فالقى في طلبه عناء.
ثمّ دعا ابن زياد محمد بن الأشعث لعنه الله وأسماء بن خارجة الفزاري وعمرو بن الحجّاج ، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء ، فقال ابن زياد : خبّروني ما الّذي يمنع هانىء من المصير إلينا ؟
فقالوا أصلح الله الأمير ، إنّه مريض.
فقال ابن زياد : إنّه كان مريضاً غير أنّه برأ ، وجلس على باب داره ، فلا عليكم أن تصيروا إليه وتأمروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : قال : ثمّ فما لبث.
--------------------------------------------------------------------------------
(185)
فقالوا : نفعل ذلك ، فبينا عبيد الله بن زياد مع هؤلاء القوم في المحاورة إذ دخل عليه رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي ، فقال : أصلح الله الأمير ، إنّي كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً يريد البادية فأنكرته ، ثمّ إنّي لحقته وسألته عن حاله ، فذكر انّه من أهل المدينة ، ثمّ نزلت عن فرسي ففتشته ، فأصبت معه هذا الكتاب ، فأخذه ابن زياد ففضه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحسين بن علي.
أمّا بعد :
فإني اُخبرك انّه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل ، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل ، فإن الناس كلّهم معك ، وليس لهم في يزيد هوىً.
فقال ابن زياد : أين هذا الرجل الّذي أصبت (1) معه الكتاب ؟
قال : هو بالباب.
فقال : ائتوني به ، فلمّا وقف بين يديه ، قال : ما اسمك ؟
قال : عبد الله بن يقطين (2).
قال : من دفع إليك هذا الكتاب ؟
قال : دفعته إليّ امرأة لا أعرفها ، فضحك ابن زياد ، وقال : اختر أحد اثنتين : إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب ، أو القتل ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ ارسل ـ خ ل ـ.
2 ـ في المقتل : يقطر.
--------------------------------------------------------------------------------
(186)
فقال : أمّا الكتاب فإنّي لا اخبرك ، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأني لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك.
قال : فأمر به ، فضربت عنقه رضي الله عنه.
ثمّ أقبل على محمد بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وأسماء بن خارجة ، وقال : صيروا إلى هانىء فاسألوه أن يصير إلينا فإنّا نريد مناظرته ، فأتوا هانىء وهو جالس على باب داره ، فسلّموا عليه ، وقالوا : ما يمنعك من إتيان الأمير وقد ذكر غير مرّة ؟
فقال : ما منعني من المصير إليه إلا العلّة.
فقالوا : صدقت ، ولكنّه بلغه انّك تقعد على باب دارك في كلّ عشيّة ، وقد استبطأك والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، ونحن نقسم عليك إلا ما ركبت معنا ، فدعا هانىء بثيابه فلبسها ، ثمّ ركب وسار مع القوم حتّى إذا صار بباب القصر كأنّ نفسه أحسّت بالشرّ فالتفت إلى حسّان بن أسماء ، فقال : يا ابن أخي ، إن نفسي تحدثني بالشر.
فقال حسّان : سبحان الله يا عمّ ! ما أتخوف عليك فلا تحدّثنّ نفسك بشيء ، ثمّ دخل القوم على ابن زياد ، فلمّا نظر إليهم من بعيد التفت إلى شريح القاضي وكان في مجلسه ، فقال : « أتتك بخائن رجلاه » (1) ، وأنشد : اريد حياته ويريد قتلي خليلي من عذيري (2) من مراد
فقال هانىء : وما ذاك ، أيّها الأمير ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ مثل جاهلي.
2 ـ في المقتل : عذيري من خليل.
--------------------------------------------------------------------------------
(187)
فقال : يا هانىء ، جئت بمسلم بن عقيل وجمعت له الرجال والسلاح في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليَّ ؟
قال هانىء : ما فعلت.
فقال ابن زياد : بل فعلت ، ثمّ استدعى بمعقل حتّى وقف بين يديه ، فقال ابن زياد : أتعرف هذا ؟
فنظر هانىء إلى معقل فعلم أنّه كان عيناً عليهم ، فقال هانىء : أصلح الله الأمير ، والله ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكنّه جاءنى مستجيراً فاستحييت من ردّه وأخذني من ذلك ذمام ، فأمّا إذ علمت فخل سبيلي حتّى أرجع إليه وآمره أن يخرج من داري ، واعطيك من العهود والمواثيق ما تثق به انّي أرجع إليك واضع يدي في يدك.
فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أو تأتيني بمسلم.
فقال : إذاً والله لا آتيك به ، أنا آتيك بضيفي تقتله أيكون هذا في العرب ؟!
فقال ابن زياد : والله لتأتينّي به.
فقال هانىء : والله لا آتيك به.
قال : فتقدم مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : أصلح الله الأمير ، ائذن لي في كلامه.
فقال : كلّمه بما أحببت ولا تخرجه من القصر ، فأخذ مسلم بن عمرو بيد هانىء فنحّاه ناحية ، فقال : ويحك يا هانىء اُنشدك الله (1) ان تقتل نفسك
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(188)
وتدخل البلاء على عشيرتك بسبب مسلم ، يا هانىء سلمه إليه فإنّه لا يقدم عليه بالقتل ، واُخرى انّه ليس عليك من ذلك ملامة فإن ه سلطان.
فقال هانىء : بلى والله عليَّ من ذلك أعظم عار وأكبر (1) خزي إن اُسلّم جاري وضيفي ، ورسول ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا حيّ صحيح الساعدين (2) كثير الأعوان والله لو لم أكن إلا وحدي لا ناصر لي لما سلمت أبداً ضيفي حتّى أموت دونه ، فردّه مسلم بن عمرو إلى ابن زياد وقال : أيّها الأمير ، إنّه أبى أن يسلم مسلماً او يقتل ، فغضب ابن زياد ، وقال : ائتيني به وإلا ضربت عنقك.
فقال : والله إذاً تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوفني ؟ ثمّ أخذ قضيباً كان بيد يديه فضرب به وجه هانىء حتّى كسر أنفه وشج حاجبه.
قال : وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف من سيف أصحاب عبيد الله فجاذبه الرجل ومنعه من السيف ، وصاح ابن زياد : خذوه ، فأخذوه وألقوه في بيت من بيوت القصر وأغلقوا عليه بابه.
قال : فوثب أسماء بن خارجة ، فقال : أيّها الأمير أمرتنا بالرجل أن نأتيك به ، فلمّا جئناك به هشمت وجهه وسيّلت دمه.
قال : وأنت هاهنا أيضاً ، فأمر به فضرب حتّى وقع لجنبه ، فجلس أسماء ابن خارجة ناحية من القصر وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إلى نفسي
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : أكثر.
2 ـ في المقتل : صحيح شديد الساعدين.
--------------------------------------------------------------------------------
(189)
أنعاك يا هانىء.
قال : وبلغ ذلك الخبر إلى مذحج فركبوا بأجمعهم وعليهم عمرو بن الحجّاج فوقفوا بباب القصر ، ونادى عمرو : يا ابن زياد ، هذه فرسان مذحج لم نخلع طاعة ولا فارقنا جماعة ، فلم تقتل صاحبنا ؟
فقال ابن زياد لشريح : ادخل على صاحبهم ، فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم وأعلمهم أنّه لم يقتل.
قال شريح : فدخلت عليه ، فقال : ويحكم هلكت عشيرتي ، أين أهل الدين فينقذوني من يد عدوهم وابن عدوهم ؟ [ ثمّ قال ] (1) والدماء تسيل على لحيته : يا شريح ، هذه أصوات عشيرتي أدخل منهم عشرة ليروني وينقذوني ، فلمّا خرجت تبعني حمير بن بكير وقد بعثه ابن زياد علي عيناً ، فلو لا مكانه لأخبرت القوم بخبره.
قال : فخرج شريح ، فقال : يا هؤلاء ، لا تعجلوا بالفتنة ، فإنّ صاحبكم لم يقتل ، فانصرف القوم.
ثمّ خرج ابن زياد حتّى دخل المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر وشماله في أيديهم الأعمدة والسيوف ، فقال : أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اعتصموا بطاعة الله ورسوله وطاعة أئمتمكم ، ولا تختلفوا فتهلكوا وتندموا وتذلوا وتقهروا ، ولا يجعلنّ أحد على نفسه سبيلاً ، وقد أعذر من أنذر ، فما أتمّ الخطبة حسناً حتّى سمع الصيحة ، فقال : ما هذا ؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ من المقتل.
--------------------------------------------------------------------------------
(190)
فقيل : أيّها الأمير ، الحذر الحذر ، فهذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من (1) بايعه ، فنزل عن المنبر مسرعاً وبادر حتّى دخل القصر وأغلق عليه الأبواب ، فأقبل مسلم بن عقيل ومعه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام والسلاح وهم مع ذلك يلعنون ابن زياد ويزيد وزياد ، وكان شعارهم : « يا منصور أمت ».
وكان مسلم قد عقد لعبد الله الكندي على كندة وقدمة أمام الخيل ، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج [ وأسد ] (2) ، وعقد لأبي تمامة بن عمر الصائدي على تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، وأقبل مسلم يسير حتّى أحاط بالقصر وليس في القصر إلا نحواً من ثلاثين رجلاً من الشرط ، ومقدار عشرين من الأشراف ، وركب أصحاب ابن زياد واختلط القوم واقتتلوا قتالاً شديداً ، وابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس.
قال : وجعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له كثير بن شهاب ومحمد ابن الأشعث والقعقاع بن شور (3) وشبث بن ربعي ينادون بأعلى أصواتهم من فوق القصر : ألا يا شيعة الحسين ، الله الله في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم ، فإنّ جنود الشام قد أقبلت ، وإن الأمير عبيد الله قد عاهد الله لئن أقمتم على حربكم ولم تنصرفوا من يومكم ليحر منكم العطاء ، وليفرقن مقاتليكم في مغازي أهل الشام ، وليأخذن البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقي منكم بقيّة من
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : جمع ممّن.
2 ـ من المقتل.
3 ـ كذا في المقتل : وفي الأصل : الفقاع بن سويد.
--------------------------------------------------------------------------------
(191)
أهل المعصية إلا أذاقها وبال أمرها.
فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون ويتخاذلون عن مسلم ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.
قال : وكانت المرأة تأتي أخاها وابنها وزوجها وأباها فتشرده من بين القوم وتقول : ما لنا وللدخول بين السلاطين ، فجعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ، فما غابت الشمس حتّى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه ، واختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلي المغرب فتفرّقت عنه العشرة ، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ومضى في بعض الأزقّة وقد اُثخن بالجراح لا يدري أين يذهب ، حتّى صار إلى امرأة يقال لها طوعة ، وقد كانت قبل ذلك اُمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اُسيد الخضرمي ، فولدت له بلال بن اُسيد ، وكانت المرأة واقفه بباب دارها تنتظر ابنها ، فسلّم عليها مسلم ، فردت عليه.
فقال : يا أمة الله ، اسقيني ، فسقته ، فجلس على بابها.
فقالت : يا عبد الله ، ما شأنك ، ألست قد شربت ؟
فقال : بلى ، ولكنّي ما لي في الكوفة من منزل ، وإنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به ، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ ؟ فإنّي من أهل بيت شرف وكرم ، ومثلي من يكافىء بالاحسان.
فقالت : ومن أنت ؟
فقال : يا هذه ، ذري عنك التفتيش وأدخليني منزلك فعسى الله أن
--------------------------------------------------------------------------------
(192)
يكافيك عنّا بالحسنى.
فقالت : يا عبد الله ، خبّرني باسمك ، فإنّي أكره أن تدخل منزلي من قبل معرفة خبرك ، وهذه الفتنة قائمة ، وهذا اللعين ابن زياد بالكوفة.
فقال لها : أنا مسلم بن عقيل.
فقالت المرأة : قم فادخل ، فأدخلته منزلها فجاءته بالمصباح ، وأتته بالطعام فأبى أن يأكل ، فلم يكن بأسرع من أن جاء ولدها ، فلمّا دخل رأى من أُمه أمراً منكراً من دخولها ذلك البيت وخروجها وهي تبكي.
فقال لها : يا اُماه ، ما قضيتك (1) ؟
فقالت : يا بنيّ ، اقبل على شأنك ، فلمّا ألح عليها قالت : يا بنيّ ، إنّي اُخبرك بأمر فلا تفشيه ، هذا مسلم بن عقيل في ذلك البيت ، وكان من قضيته (2) كذا وكذا ، فسكت الغلام ولم يقل شيئاً ثمّ أخذ مضجعه.
فلمّا أصبح ابن زياد نادى في الناس أن يجتمعوا ، ثمّ خرج من القصر فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : أيّها الناس ، إنّ مسلم بن عقيل السفيه أتى هذه البلدة ، فأظهر الخلاف وشقّ العصا ، وقد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، والمنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين يزيد ، وله في كلّ يوم حاجة مقضية ، ثمّ نزل عن المنبر ودعا بالحصين بن نمير ، فقال : ثكلتك اُمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة ان لم تضيّق على أهلها أو يهدوك إلى مسلم ، فوالله لئن خرج من الكوفة سالماً لتزهقنّ أنفسنا في طلبه ، فانطلق الآن
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : ما قصتك ؟
2 ـ في المقتل : قصته.
--------------------------------------------------------------------------------
(193)
فقد سلّطتك على دور الكوفة ، وسككها ، فانصب المراصد ، وجدّ (1) في الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.
وأقبل محمد بن الأشعث حتّى دخل على ابن زياد ، فلمّا رآه رحّب به ، وأقبل ابن تلك المرأة الّتي مسلم في دارها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فخبّره بمكان مسلم في دار طوعة ، ثمّ تنحّى.
فقال ابن زياد : ما الّذي سارك يا عبد الرحمن ؟
فقال : أصلح الله الأمير ، البشارة الكبرى.
فقال : وما ذاك ؟ فأخبره الخبر ، فسرّ عدوّ الله ، وقال : قم فائتني به ولك ما بذلت من الجائزة والحظّ الأوفر (2) ، ثمّ أمر ابن زياد خليفته عمرو بن حريث لعنه الله أن يرسل مع محمد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه ، فركب محمد بن الأشعث حتّى وافى الدار.
وسمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال فعلم أنّه قد أتي ، فبادر مسرعاً إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وأفرغ عليه لامة حربة ، وتقلد بسيفه ، والقوم يرمون الدار بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطراف (3) القصب ، فتبسم مسلم ، ثمّ قال : يا نفس ، اخرجي إلى الموت الّذي ليس منه محيص ، ثمّ قال للمرأة : رحمك الله وجزاك خيراً ، اعلمي أنّي ما اُتيت إلا من قبل (4) ابنك ، ولكن افتحي الباب ، ففتحت الباب ، وخرج مسلم في وجوه ا لقوم كالأسد المغضب
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : وخذ
2 ـ في المقتل : الأوفى.
3 ـ في المقتل : هواري.
4 ـ في المقتل : أنّي ابتليت من قبل.
--------------------------------------------------------------------------------
(194)
فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟
فأرسل [ إليه ] (1) ابن الأشعث : أيّها الأمير ، أتظنّ (2) أنّك بعثتني إلى بقال من بقالي (3) الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ؟ أو لا تعلم أيّها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام ؟
فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلا به. (4)
فجعل محمد بن الأشعث يناديه : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك لك الأمان ، ومسلم يقول : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة ، ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول : أقسمت لا اُقتل إلا حراً أكره أن اُخدع أو اُغرا كلُّ امرىءٍ يوماً سيلقى شراً وإن رأيت الموت شيئاً نكرا أو يخلط البارد سخناً حراً أضربكم ولا أخاف ضراً (5)
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : انظر.
3 ـ كذا في البحار ، وفي الأصل والمقتل : بقاقيل.
4 ـ من قوله : « حتّى قتل منهم جماعة كثيرة » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 44/354 عن كتابنا هذا ، وكذا في عوالم العلوم : 17/203.
5 ـ رويت هذه الأرجاز في المقتل هكذا : أقسمت لا أقتل إلا حراً كل امرىء يوماً ملاق شراً أضربكم ولا أخاف ضرا ويُخلط البارد سخنا مرا وإن رأيت الموت شيئاً مراً رُد شعاع الشمس فاستقرا ضرب همام يستهين الدهرا ولا اُقيم للأمان قدرا
أخاف أن اُخدع أو اُغرّا
--------------------------------------------------------------------------------
(195)
فناداه ابن الأشعث : ويحك يا ابن عقيل ، انّك لا تكدّ ولا تغرّ ، والقوم اليسوا بقاتليك ، فلا تقتل نفسك.
فلم يلتفت إليه وجعل يقاتل حتّى أثخن الجراح وضعف عن القتال ، فتكاثروا عليه من كلّ جانب ، وجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة ، فقال مسلم : ويلكم ما لكم ترموني بالحجارة كما يرمي الكفار وأنا من أهل بيت النبوّة الأبرار ؟ ويلكم أمّا ترعون حقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا حقّ ذرّيّته ، ثمّ حمل عليهم مع ضعفه فهزمهم وكسرهم في الدروب والسكك ، ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار من تلك الدور ، ورجع القوم إليه ، فصاح بهم محمد بن الأشعث ، ذروه حتّى اكلمه ، فدنا منه وقال : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك أنت آمن ودمك في عنقي ، وأنت في ذمّتي.
فقال مسلم : يا ابن الأشعث ، أتظنّ أنّي أعطي بيدي يداً وأنا أقدر على القتال ؟ لا والله لا كان ذلك ، ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه ، ثمّ رجع إلى موقعه فوقف وهو يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي فلم يجترىء أحد أن يسقيه ويدنو منه.
فأقبل ابن الأشعث على أصحابه ، وقال : والله إنّ هذا لهو العار والشنار. أن تجزعوا (1) من رجل واحد ، فحملوا عليه ، وحمل عليهم.
وقال ابن الأشعث : احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد ، فقصده رجل من أهل الكوفة يقال له بكير بن حمران ، فاختلفا بضربتين ضرب بكير ضربة على شفة مسلم العليا وضرب ضربة مسلم بن عقيل فبلغت الضربة إلى
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ في المقتل : أتجزعون ؟
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس