قال مؤلفه رحمة الله تعالى عليه وقد وقفت على مجلد يشتمل على بضع وعشرين كراسة في الطعن على أنساب الخلفاء الفاطميين تأليف الشريف العابد المعروف بأخي محسن وهو محمد بن علي بن الحسين ابن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ويكنى بأبي الحسين وهو كتاب مفيد.
وقد غبرت زمانا أظن أنه قائل ما أنا حاكية حتى رأيت محمد بن إسحق النديم في كتاب الفهرست ذكر هذا الكلام بنصه وعزاه إلى أبي عبد الله بن رزام وأنه ذكره في كتابه الذي رد فيه على الإسماعيلية قال وأنا بريء من قوله : هؤلاء القوم من ولد ديصان الثنوي الذي ينسب إليه الثنوية وهو مذهب يعتقدون فيه خالقين أحدهما يخلق النور والآخر يخلق الظلمة فولد ديصان هذا ابناً يقال له ميمون القداح.
وإليه تنسب الميمونية وكان له مذهب في الغلو فولد لميمون هذا ابن يقال له عبد الله كان أخبث من أبيه وأعلم بالحيل فعمل أبوابا عظيمة من المكر والخديعة على بطلان الإسلام وكان عارفاً عالماً بجميع الشرائع والسنن وجميع علوم المذاهب كلها فرتب ما جعله من المكر في سبع دعوات يتدرج الإنسان من واحدة إلى أخرى حتى ينتهي إلى الأخيرة فيبقى معراً عن جميع الأديان لا يعتقد غير التعطيل والإباحة ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا ويقول إنه على هدى هو وأهل مذهبه وغيرهم ضال مغفل.
وكان عبد الله بن ميمون يريد بهذا في الباطن أن يجعل المخدوعين أمة له يستمد من أموالهم بالمكر والخديعة وأما في الظاهر فإنه يدعو إلى الإمام من آل البيت: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ليجمع الناس بهذه الحيلة.
وكان عبد الله بن ميمون هذا أراد أن يتنبأ فلم يتم له وأصله من موضع بالأهواز يعرف بقورج العباس ثم نزل عسكر مكرم وسكن ساباط أبي نوح فنال بدعوته مالا وكان يتستر بالتشيع والعلم وصار له دعاة فظهر ما هو عليه من التعطيل والإباحة والمكر والخديعة فثارت به الشيعة والمعتزلة وكسروا داره ففر إلى البصرة ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازي فادعى أنه من ولد عقيل بن أبي طالب وأنه يدعو إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ثم اشتهر خبره فطلبه العسكريون فهرب هو والحسين الأهوازي إلى سلمية ليخفى أمره بها فولد بها ابن يقال له أحمد ومات عبد الله بن ميمون فقام من بعده ابنه أحمد هذا في ترتيب الدعوة وبعث الحسين الأهوازي داعية إلى العراق فلقي حمدان بن الأشعت قرمط بسواد الكوفة.
وولد لأحمد بن عبد الله بن ميمون القداح ولدان هما: الحسين ومحمد المعروف بأبي الشلعلع ثم هلك أحمد فخلفه ابنه الحسين في الدعوة فلما هلك الحسين بن أحمد خلفه أخوه محمد بن أحمد المعروف بأبي الشلعلع .
وكان للحسين ابن اسمه سعيد فبقيت الدعوة له حتى كبر وكان قد بعث محمد هذا داعيين إلى المغرب وهما أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد وأخوه أبو العباس محمد بن أحمد بن محمد فنزلا في قبيلتين من البربر وأخذا على أهلها.
وقد كان اشتهر أمرهم بسلمية وأيسروا وصار لهم أملاك كثيرة فبلغ خبرهم السلطان فبعث في طلبهم ففر سعيد من سلمية يريد المغرب وكان على مصر يومئذ عيسى النوشري فدخل سعيد على النوشري ونادمه فبلغ السلطان خبره وكان يتقصى عنه فبعث إلى النوشري بالقبض عليه فقرىء الكتاب وفي المجلس ابن المدبر وكان مؤاخياً لسعيد فبعث إليه يحذره فهرب سعيد وكبس النوشري داره فلم يوجد وسار إلى الاسكندرية فبعث النوشري إلى والي الاسكندرية بالقبض على سعيد وكان رجلا ديلميا يقال له علي بن وهسودان.
وكان سعيد خداعاً فلما قبض عليه ابن وهسودان قال: إني رجل من آل رسول الله.
فرق له وأخذ بعض ما كان معه وخلاه فسار حتى نزل سجلماسة وهو في زي التجار فتقرب إلى واليها وخدمه وأقام عنده مدة فبلغ المعتضد خبره فبعث في طلبه فلم يقبض عليه والي سجلماسة فورد عليه كتاب آخر فقبض عليه وحبسه وكان خبره قد اتصل بأبي عبد الله الداعي الذي تقدم ذكر خروجه هو وأخوه إلى البربر فسار حينئذ بالبربر إلى سجلماسة وقتل واليها وأخذ سعيداً وصار صاحب الأمر وتسمى بعبيد الله وتكنى بأبي محمد وتلقب بالمهدي وصار إماما علويا من ولد محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق ولم يلبث إلا يسيرا حتى قتل أبا عبد الله الداعي وتملك البربر وقلع بني الأغلب ولاة المغرب.
قال: فعبيد الله الملقب بالمهدي : هو سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن ميمون القداح بن ديصان الثنوي الأهوازي وأصلهم من المجوس.
قال: أما سعيد هذا الذي استولى على المغرب وتسمى بعبيد الله فإنه كان بعد أبيه يتيما في حجر عمه الملقب بأبي الشلعلع وكان على ترتيب الدعوة بعد أخيه فرتب أمرها لسعيد فلما هلك وكبر سعيد وصار على الدعوة وترتيب الدعاة والرياسة ظهر أمره وطلبه المعتضد فهرب إلى المغرب من سلمية.
ويقال إنه ترسم بالتعليم كي يخفي أمره وكان يقول عن محمد أنه ربيب في حجره وأنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر وذلك لضعف أمره في مبدئه ولذلك يقال عن محمد ابن عبيد الله يتيم المعلم.
وزعم آخر أن عبيد الله كان ربيباً في حجر بعض الأشراف وكان يطلب الإمامة فلما مات ادعى عبيد الله أنه ابنه وقيل بل كان عبيد الله من أبناء السوقة صاحب علم.
انتهى ما ذكره الشريف.
قال: ولم يدع سعيد هذا المسمى عبيد الله نسباً إلى علي بن أبي طالب إلا من بعد هربه من سلمية وآباؤه من قبله لم يدعوا هذا النسب وإنما كانوا يظهرون التشيع والعلم وأنهم يدعون إلى الإمام محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه حي لم يمت.
وهذا القول باطل وباطنهم غير ظاهرهم وليس يعرف هذا القول إلا لهم وهم أهل تعطيل وإباحة وإنما جعلوا علاقتهم بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً للخديعة والمكر.
ولم يتم لسعيد أمر بالمغرب إلا أن قال: أنا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتم له بذلك الحيلة والخديعة وشاع بين الناس أنه علوي فاطمي من ولد إسماعيل بن جعفر فاستعبدهم بهذا القول وخفي أمر مذهبه عليهم إلا من كشف له من خاصته ودعاته في تعطيل البارىء والطعن على جميع الأنبياء وإباحة أنفس أممهم وأموالهم وحريمهم ومع ما كانوا يظهرون لم يكن لهم جسارة أن يذكروا لهم نسباً على منبر ولا في مجمع بين الناس سوى ما يشيعون أنهم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نسب ينتسبونه تمويهاً على العامة.
ولم يكن أحد من السلاطين المتقدمين كاشفهم في أمر نسبهم احتقاراً منه بهم وببلدهم ولبعد ما بينهم من المسافة فجرى أمرهم على ما ذكرنا منذ ملك سعيد المسمى بعبيد الله المغرب إلى أن جلس نزار بن معد يعني العزيز بمصر.
ثم ملك فنا خسرو بن الحسن الديلمي بغداد فقرب ما بينهما من المسافة فجمع العلويين ببغداد وقال لهم: هذا الذي بمصر يقول إنه علوي منكم.
فقالوا: ليس هو منا., فقال لهم : ضعوا خطوطكم.
فوضعوا خطوطهم أنه ليس بعلوي ولا من ولد أبي طالب.
ثم أنفذ إلى نزار بن معد رسولاً يقول له: نريد نعرف ممن أنت.
فعظم ذلك عليه فذكر أن قاضيه ابن النعمان ساس الأمر لأنه كان يلي أمر الدعوة والمكاتبة في أمرها فنسب نزاراً إلى آبائه وكتب نسبه وأمر به أن يقرأ على المنابر فقرىء على منبر جامع دمشق صدر الكتاب ثم قال: نزار العزيز بالله بن معد المعز لدين الله بن إسماعيل المنصور بالله بن محمد القائم بأمر الله ثم إن رسول فنا خسرو سار راجعا فقتل بالسم في طرابلس فلم يأتهم من بعده رسول وهلك فنا خسرو.
وذكر أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي وابنه غرس الدولة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق وابنه أبو القاسم عليا المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء وأبرز إليهم أبيات الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن أحمد الحسين التي أولها: ما مقامي على الهوان وعندي مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حميّ وإباءٌ محلّقٌ بي عن الضيم كما راغ طائرٌ وحشيّ أيّ عذر له إلى المجد إن ذلّ غلامٌ في غمده المشرفيّ أحمل الضيم في بلاد الأعادي وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي ومولاه مولا - - ي إذا ضامني البعيد القصيّ لفّ عرقي بعرقه سيدا النا - - س جميعا: محمدٌ وعليّ إنّ جوعي بذلك الربع شبعٌ وأُوامي بذلك الظلّ ريّ وقال الحاجب للنقيب أبي أحمد: قل لولدك محمد: أي هوان قد أقام فيه عندنا وأي ضيم لقي من جهتنا وأي ذلك أصابه في مملكتنا وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز وجعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر.
فقال النقيب أبو أحمد: أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه ولا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحله إياه وعزاه إليه.
فقال القادر: إن كان كذلك فليكتب الآن محضر يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر ويكتب محمد خطه فيه.
فكتب محضر بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم: النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى.
لا أكتب وأخاف دعاة صاحب مصر.
وأنكر الشعر وكتب بخطه أنه ليس بشعره ولا يعرفه فأجبره أبوه على أن يسطر خطه في المحضر فلم يفعل وقال: أخاف دعاة المصريين وغلبتهم فإنهم معروفون بذلك.
فقال أبوه: يا عجبا! أتخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع وحلف أن لا يكلمه وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقية وخوفا من القادر وتسكينا له.
فلما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره له وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة وولاها محمد بن عمر النهرسابسي.
وقال الإمام علي بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري في كتاب الكامل في التاريخ! ذكر ابتداء الدولة العلوية بافريقية
هذه الدولة اتسعت أكناف مملكتها وطالت مدتها فنحتاج نستقصي ذكرها فنقول: أول من ولى منهم: أبو محمد عبيد الله فقيل هو محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد ابن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومن ينسبه هذا النسب يجعله: عبد الله بن ميمون القداح الذي ينسب إليه القداحيه .
وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني بن محمد بن إسماعيل بن جعفر يعني الصادق وقد اختلف العلماء في صحة نسبه.
فقال: هو وأصحابه القائلون بإمامته إن نسبه صحيح ولم يرتابوا فيه.
وذهب كثير من العلماء بالأنساب إلى موافقتهم أيضاً وشهد بصحة هذا القول ما قاله الشريف الرضي:
ما مقامي على الهوان وعندي ** مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حميّ
ألبس الذلّ في بلاد الأعادي! ** وبمصر الخليفة العلويّ
من أبوه أبي ومولاه مولاي ** إذا ضامني البعيد القصيّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدا النـ ** ـاس جميعاً محمدٌ وعليّ
إنّ ذلّي بذلك الحيّ عزٌّ ** وأُوامي بذلك الرّبع ريّ
قال أي ابن الأثير: إنما لم يودعها ديوانه خوفاً ولا حجة فيما كتبه في المحضر المتضمن القدح في أنسابهم فإن الخوف يحمل على أكثر من هذا على أنه قد ورد ما يصدق ما ذكرته وهو أن القادر بالله لما بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر الباقلاني وأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسوي والد الشريف الرضي يقول له: قد عرفت منزلك منا وما لا نزال عليه من صدق الموالاة وما تقدم لك في الدولة من مواقف محمودة ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة نرضاها ويكون ولدك على ما يضادها ولقد بلغنا أنه قال شعرا وهو كذا وكذا فيا ليت شعري على أي مقام ذل أقام وهو ناظر في النقابة والحج وهما من أشرف الأعمال ولو كان في مصر لكان كبعض الرعايا.
وأطال القول.
فحلف أبو أحمد أنه ما علم بذلك وأحضر ولده فقال له في المعنى فأنكر الشعر فقال له: اكتب خطك إلى الخليفة بالاعتذار واذكر فيه أن نسب المصري مدخول وأنه مدع في نسبه.
فقال: لا أفعل.
فقال أبوه: أتكذبني في قولي فقال: ما أكذبك ولكن أخاف الديلم وأخاف من المصري ومن الدعاة التي له في البلاد.
فقال أبوه: أتخاف من هو بعيد منك وتراقبه وتسخط من أنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك.
وتردد القول بينهما ولم يكتب الرضي خطه فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أن لا يقيم معه في بلد فآل الأمر إلى أن حلف الرضي أنه ما قال هذا الشعر.
واندرجت القصة على هذا.
ففي امتناع الرضي من الاعتذار ومن أن يكتب طعناً في نسبهم دليل قوي على صحة نسبهم.
وسألت أنا جماعة من أعيان العلويين عن نسبه فلم يرتابوا في صحته.
وذهب غيرهم إلى أن نسبه مدخول ليس بصحيح وغلا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهودياً.
وقد كتب في الأيام القادرية محضر يتضمن القدح في نسبه ونسب أولاده وكتب فيه جماعة من العلويين وغيرهم: أن نسبه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه غير صحيح.
وزعم القائلون بصحة نسبه أن العلماء ممن كتب في المحضر إنما كتبوا خوفاً وتقية ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله.
وزعم الأمير عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم بن المعز بن باديس صاحب تاريخ إفريقية والغرب أن نسبه معرق في اليهودية ونقل فيه عن جماعة من العلماء وقد استقصى ذلك في ابتداء دولتهم وبالغ.
وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه وما عداه فقد أحسن فيما ذكر لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم عظم ذلك على اليهود والنصارى والروم والفرس وسائر العرب لأنه سفه أحلامهم وعاب أديانهم فاجتمعوا يداً واحدة عليه فكفاه الله كيدهم وأسلم منهم من هداه الله فلما قبض صلى الله عليه وسلم نجم النفاق وارتدت العرب وظنوا أن أصحابه يضعفون بعده فجاهد أبو بكر رضي الله عنه في سبيل الله فقتل مسيلمة وأهل الرده ووطأ جزيرة العرب وغزا فارس والروم فلما حضرته الوفاة ظنوا أن بوفاته ينتقض الإسلام فاستخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذل فارس والروم وغلب على ممالكهما فدس عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ظنا منهم أن بقتله ينطفىء نور الإسلام فولى عثمان رضي الله عنه فزاد في الفتوح فلما قتل وولى علي رضي الله عنه قام بالأم أحسن قيام فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأمور قد ضبطها المحدثون وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.
وكان أول من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسيد وأبو شاكر ميمون بن ديصان وغيرهما فألقوا إلى كل من وثقوا به أن لكل شيء من العبادات باطنا وأن الله لم يوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرم عليهم شيئا وأباحوا لهم نكاح الأمهات والأخوات وقالوا: هذه قيود للعامة وهي ساقطة عن الخاصة وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة.
وتفرق أصحابهم في البلاد وأظهروا الزهد والعبادة يغرون الناس بذلك وهم على خلافه فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة وكان أصحابه قالوا له: إنا نخاف الجند فقال لهم: إن أسلحتهم لا تعمل فيكم.
فلما ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقل إن سيوفهم لا تعمل فينا فقال: إذا كان قد بدا الله فما حيلتي وتفرقت هذه الطائفة في البلاد وتعلموا الشعبذة والنأرنجيات والنجوم والكيمياء فهم يحتالون على كل قوم بما ينفق عليهم وعلى العامة بإظهار الزهد.
ونشأ لابن ديصان ابن يقال له أبو عبد الله القداح علمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة فحذق وتقدم.
وكان بنواحي أصبهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بدندان يتولى تلك المواضع وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم فسار إليه القداح وعرفه من ذلك ما زاد به محله وأشار إليه أن لا يظهر ما في نفسه ويكتمه ويظهر التشيع والطعن على الصحابة فاستحسن قوله وأعطاه مالا ينفقه على الدعاة إلى هذا المذهب فسير دعاته إلى كور الأهواز والبصرة والكوفة والطالقان وخراسان وسلمية من أرض حمص.
وتوفي القداح ودندان فقام من بعد القداح ابنه أحمد وصحبه انسان يقال له أبو القاسم رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب بن زاذان النجار من أهل الكوفة وألقى إليه مذهبه فقبله وسيره إلى اليمن وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعا الناس إلى المهدي وأنه خارج في هذا الزمان فنزل بعد بقرب قوم من الشيعة يعرفون ببني موسى فأظهر أمره وقرب أمر المهدي وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح.
واتصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق فساروا إليه وكثر جمعهم وعظم بأسهم وأغاروا على من جاورهم وسبوا وجبوا الأموال وأرسل إلى من بالكوفة من ولد القداح هدايا عظيمة.
وأوفدوا إلى المغرب رجلين: أحدهما الحلواني والآخر أبو سفيان وقالوا لهما: إن المغرب أرض بور فاذهبا فأحرثا حتى يجيء صاحب البذر.
فسارا ونزل أحدهما بأرض كتامة فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما وحملوا إليهما الأموال والتحف فأقاما سنين كثيرة وماتا وكان من إرسال أبي عبد الله الشيعي إلى المغرب ما كان.
فلما توفي عبد الله بن ميمون القداح ادعى ولده أنه من ولد عقيل بن أبي طالب وهم مع هذا يسترون أمرهم ويخفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم فتوفي وخلف ولده محمداً ثم توفي محمد وخلف أحمد والحسين فسار الحسين إلى سلمية وله بها ودائع من جهة جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان.
وبقي ببغداد من أولاد القداح أبو الشلعلع وكان الحسين يدعى أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن المغرب يكاتبونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن ولها ولد من الحداد يماثلها في الجمال فأحبها وحسن موقعها منه وأحب ولدها وأدبه وعلمه فتعلم العلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية وهو الحسين مات ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو عبيد الله وعلمه أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام والوصي وزوجه ابنة عمه أبي الشلعلع وجعل لنفسه نسبا وهو: عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وبعض الناس يقول: إن عبيد الله هذا من ولد القداح.
وقال أي ابن الأثير: هذه الأقوال فيها ما فيها فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبد الله الشيعي وغيره ممن قام في إظهار هذه الدعوة حتى يخرجوا الأمر من أنفسهم ويسلموه إلى ولد يهودي! وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده دينا يثاب عليه! قال: فلما عهد الحسين إلى عبيد الله قال له: إنك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة وتلقى محنا شديدة فتوفي الحسين وقام بعده عبيد الله وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه.
وشاع خبر عند الناس أيام المكتفي فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم الذي ولي بعده وتلقب بالقائم وهو يومئذ غلام وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب وذلك أيام زيادة الله بن الأغلب.
قال المؤلف رحمة الله عليه وأما المحضر فنسخته هذا ما شهد به الشهود أن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد ينسب إلى ديصان بن سعيد الذي تنسب إليه الديصانية.
وأن هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد لا أسعده الله .
وأن من تقدمه من سلفه من الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وأن ما ادعوه من الانتساب إليه زور وباطل.
وأن هذا الناجم في مصر هو وسلفه كفار فساق زنادقة ملحدون معطلون وللإسلام جاحدون أباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسبوا الأنبياء وادعوا الربوبية.
وفي آخره: وكتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة.
وقال ابن خلدون في كتاب العبر:
ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفننا في الشمات بعدوهم حسب ما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدأ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي وابنه أبي القاسم خشياً على أنفسهما فهرا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر.
وأنهما خرجا من الاسكندرية في زي التجار ونمى خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا من الشارة والزي فأقبلوا إلى المغرب.
وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر اليسع صاحب سجلماسة ابن آل مدرار على خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة.
ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بإفريقية والمغرب ثم باليمن ثم بالاسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الأبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويديلون من أمرهم.
ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولا كاملا.
وما زال بنو العباس يغصون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أميه وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم.
وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر! واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرق اتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيدين كذلك لعرف ولو بعد مهلة.
فمهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم ومصلاه وموطن الرسول ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق.
ولقد خرجوا مرارا بعد ذهاب الدولة ودروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأئمة ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله.
والعجب في القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف:
فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدد بدعتهم وليس إثبات منتسبهم بالذي يغنى عنهم من الله شيئاً في كفرهم وقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ}. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها: يا فاطمة: اعملي: "فلن أغنى عنك من الله شيئاً"
ومتى عرف أمرؤ قضية أو استيقن أمراً وجب عليه أن يصدع به " واللّهُ يَقُولُ الحقَّ وَهُوَ يَهْدِى السبيلَ ".
والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرر خروجهم مرةً بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون.
كما قيل: فلو تسأل الأيام ما أسمى ما درت وأين مكاني ما اعرفن مكاني حتى لقد سمى محمد بن إسماعيل الإمام جد عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه من اخفائه حذرا من المتغلبين عليهم فتوصل شيعة آل العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم وازدلفوا بهذا الرأي القائل إلى المستضعفين من خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتاميين شيعة العبيديين وأهل دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم من هذا النسب وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم: الشريف الرضي.
وأخوه المرتضى. وابن البطحاوي. , أبو حامد الاسفراييني , والقدوري, والصيمري , وابن الاكفاني , والأبيوردي , وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة
وغيرهم من أعلام الأئمة ببغداد في يوم مشهود وذلك سنة اثنتين وأربعمائة في أيام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب فنقله الأخباريون كما سمعوه وروه حسبما وعوه والحق من ورائه.
وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع وتلتمس فيه ضوال الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار وما نفق فيها نفق عند الكافة فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل والإفن والشقشقة وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق بأسواقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والباطل نفق البهرج والزائف والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه.
قال أي ابن خلدون: وكان الإسماعيلية من الشيعة يذهبون إلى أن الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه من بعده وأن الإمام بعده ابنه محمد المكتوم وبعده ابنه جعفر المصدق وبعده ابنه محمد الحبيب وكانوا أهل غلو في دعاويهم في هؤلاء الأئمة.
وكان محمد بن جعفر هذا يؤمل ظهور أمره والظفر بدولته.
وكان باليمن من هذا المذهب كثير بعدن في قوم يعرفون ببني موسى وكذلك كان بإفريقية من لدن جعفر الصادق بمرجانة وفي كتامة وفي نفزة وسماتة تلقوا ذلك من الحلواني وابن بكار داعيتي جعفر الصادق وقدم على جعفر بن محمد والد عبيد الله من أهل اليمن رجل من أولئك الشيعة يعرف بعلي بن الفضل فأخبره بأخبار اليمن فبعث معه أبا القسم رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب الكوفي من رجالات الشيعة وقال له: ليس لليمن إلا أنت فخرجا من القادسية سنة ثمان وستين ومائتين ودخلا اليمن على حين انخلع محمد بن يعفر من الملك وأظهر التوبة فدعوا للرضى من آل محمد وظهرت الدعوة سنة سبعين وتسمى أبو القاسم بالمنصور وابتنى حصنا بجبل لاعة وزحف بالجيوش وفتح مدائن اليمن وملك صنعاء وأخرج بني يعفر وفرق الدعاة في اليمن والبحرين واليمامة والسند والهند ومصر والمغرب.
وكان أبو عبد الله المحتسب داعي المغرب وأصله من الكوفة واسمه الحسين بن أحمد ابن محمد بن زكريا من رام هرمز وكان محتسبا بسوق الغزل من البصرة وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس محمد.
ويعرف أبو عبد الله بالمعلم كان يعلم الناس مذهب الإمامية الباطنية واتصل بالإمام محمد بن جعفر ورأى أهليته فأرسله إلى ابن حوشب صاحب اليمن وأمره بامتثال أمره والاقتداء بسيرته ثم يذهب بعدها إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فلما بلغ إلى ابن حوشب لزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة حتى أتى الموسم ولقي به رجالات كتامة واختلط بهم ووجد لديهم بذار من ذلك المذهب كما قدمنا فاشتملوا عليه وسألوه الرحلة فارتحل معهم إلى بلدهم ونزل بها وجاهر بمذهبه وأعلن إمامة أهل البيت ودعا للرضى من آل محمد على عادة الشيعة وأطاعته قبائل كتامة بعد فتن وحروب ثم اجتمعوا على تلك ثم هلك الإمام محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بعد أن عهد لابنه عبيد الله المهدي وشاع خبر دعاته باليمن وإفريقية وطلبه المكتفي وكان يسكن عسكر مكرم فانتقل إلى الشام ثم طلب ففر بنفسه وبابنه أبي القاسم وكان غلاما حدثا وبلغ مصر وأراد قصد اليمن فبلغه أن علي بن المفضل أحدث فيها الأحداث من بعد ابن حوشب وأساء السيرة فكره دخول اليمن واتصل به شأن أبي عبد الله وما فتح الله عليه بالمغرب فاعتزم على اللحاق به وسرح عيسى النوشري عامل مصر في طلبه وكانوا خرجوا من الإسكندرية في زي التجار فلما أدركت الرفقة خفي حالهم بما اشتبه من الزي فافلتوا إلى المغرب. انتهى كلام ابن خلدون رحمه الله
قال المؤلف رحمة الله عليه :
وأنت إذا سلمت من العصبية والهوى وتأملت ما قد مر ذكره من أقوال الطاعنين في أنساب القوم علمت ما فيها من التعسف والحمل مع ظهور التلفيق في الأخبار وتبين لك منه ما تأبى الطباع السليمة قبوله ويشهد الحس السليم بكذبه فإنه قد ثبت أن الله تعالى لا يمد الكذاب المفتعل بما يكون سبباً لانحراف الناس إليه وطاعتهم له على كذبه.
قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ وقال تعالى في الدلالة على صدقه: " أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ ".
وقد علم أن الكذب على الله تعالى والافتراء عليه في دعوى استحقاق الخلافة النبوية على الأمة والإمامة لهم شرعا بكونه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته من أعظم الجنايات وأكبر الكبائر فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يظهر من تعاطى ذلك واجترأ عليه ثم يمده في ظهوره بمعونته ويؤيده بنصره حتى يملك أكثر مدائن الإسلام ويورثها بنيه من بعده وهو تعالى يراه يستظهر بهذه النعم الجليلة على كذبه ويفتن بمخرقته العباد ويحدث بباطله الفتن العظيمة والحروب المبيدة في البلاد ثم يخليه تعالى وما تولى من ذلك بباطله من غير أن يشعره شعار الكذابين ويحل به ما من عادته تعالى أن يحل بالمفسدين فيدمره وقومه أجمعين.
كما لا يليق بحكمته تعالى أن يخذل من دعا إلى دينه وحمل الكافة على عبادته ولا يؤيده على إعلاء كلمته بل يسلمه في أيدي أعداء دينه المجاهرين بكفرهم وطغيانهم حتى يزيدهم ذلك كفراً إلى كفرهم وضلالاً إلى ضلالهم فإن فعله هذا بالصادق في دعائه إليه تعالى كتأييده الكاذب فيها سواء بل الحكمة الإلهية والعادة الربانية وسنة الله التي قد خلت في عباده اقتضت أنه تعالى إذا رأى الكذاب يستظهر بالمحافظة على التنمس بالباطل ويتوصل إلى إقامة دولته بالكذب ويحيلها بالزور في ادعائه نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير صحيح وصرفه الناس عن طاعة بني العباس الثابتة أنسابهم المرضية سيرتهم العادلة بزعمهم أحكامهم ومذاهبهم أن يحول بينه وبين همه بذلك ويسلبه الأسباب التي يتمكن بها من الاحتراز ويعرضه لما يوقعه في المهلك ويسلك به سبيل أهل البغي والفساد.
فلما لم يفعل ذلك بعبيد الله المهدي بل كتب تعالى له النصر على من ناوأه والتأييد بمعونته على من خالفه وعاداه حتى مكن له في الأرض وجعله وبينه من بعده أئمةً وأورثهم أكثر البسيطة وملكهم من حد منتهى العمارة في مغرب الشمس إلى آخر ملك مصر والشام والحجاز وعمان والبحرين واليمن وملكهم بغداد وديار بكر مدة ونشر دعوتهم إلى خراسان ونصرهم على عدوهم أي نصر تبين أن دعواهم الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة وهذا دليل يجب التسليم له.
وقد روى موسى بن عقبة أن هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما قاله له: أتراه كاذبا أو صادقا قال أبو سفيان: بل هو كاذب قال هرقل: لا تقولوا ذلك فإن الكذب لا يظهر به أحد " واللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
وقد نقل عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الإشارة إلى أمر عبيد الله المهدي فمن ذلك: أن إن ظهور القائم مثله كمثل عمود من نور سقط من السماء إلى الأرض رأسه بالمغرب وأسفله بالمشرق.
وكذلك كان بداية أمر المهدي عبيد الله فإنه ابتدأ من المغرب وانتهى أمره على يد بنيه إلى المشرق فإنه ظهر بسجلماسة في ذي الحجة سنة تسعين ومائتين وهي أقصى مسكون المغرب ودعي للمستنصر ببغداد في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
وكان علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم يقول: في سنة أربع وخمسين ومائتين ستكشف عنكم الشدة ويزول عنكم كثير مما تجدون إذا مضت عنكم سنة اثنتين وأربعين يشير بذلك إلى أن البداية من تاريخ وقته فيكون المراد سنة ست وتسعين ومائتين وفي ذي الحجة منها كان ظهور الإمام المهدي بالله رحمة الله عليه .