بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لمن نضر وجوه أهل الحديث وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السر الحثيث
وبعد فيقول أفقر المحتاجين وأحوج المفتقرين لعفو ذي الفضل والطول المتين على بن برهان الدين الحلبي الشافعي إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام وحفاظ ملة الإسلام كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام والحامل على التخلق بالأخلاق العظام وقد قال الزهري رحمه الله في علم المغازي خير الدنيا والآخرة وهو أول من ألف في السير
قال بعضهم أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه فيقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس لما جمعت من تلك الدرارى والدرر ومن ثم سماها عيون الأثر غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الإعتداد وعليه لهم كثير الإعتماد إذ هو من خصائص هذه الأمة ومفتخر الأئمة لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع ولا تمتد إليه الأطماع وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى بما فيما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوى الأفهام كالمعادات
ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع ومن ثم قال الزين العراقي رحمه الله
** وليعلم الطالب أن السيرا ** تجمع ما صح وما قد أنكرا **
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روبنا في الفضائل ونحوها تساهلنا وفي الأصل والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق ومالا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجرى مجرى ذلك وأنه يقبل منها مالا يقبل في الحلال والحرام لعدم تعلق الأحكام بها فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه عن لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق الأحداق ويحلو للأذواق يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الإنسجام ونهاية الإنتظام ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى لكوني لست من أهل هذا الشان ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان حتى أشار علي بذلك وبسلوك تلك المسالك من إشارته واجبة الإتباع ومخالفة أمره لاتستطاع ذو البديهة المطاوعة والفضائل البارعة والفواضل الكثيرة النافعة من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف لا تراه يتوقف ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف ولا أخبر في كثير من الأوقاف عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم مولانا الشيخ أبو عبدالله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب وسرى سره في سائر المسارى والمسارب ولي الله والقائم بخدمته في الإسرار والإعلان والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع إثنان مولانا الأستاذ أبو عبدالله وأبو بكر محمد البكري الصديقي
ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين وأستاذ جميع الأستاذين والمعدود من المجتهدين صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة مولانا الأستاذ محمد أبو الحسن تاج العارفين البكري الصديقي أعاد الله تعالى على وعلى أحبابي من بركاتهم وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم فلما أشار على ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف ومسلك شريف لا تمله الأسماع ولا تنفر منه الطباع والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس الموسومة بعيون الأثر إن كثرت ميزتها بقولى في أولها قال وفي آخرها انتهى
وإن قلت أتيت بلفظه أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال وعن الكثيرة بأي وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل أعني عيون الأثر غالبا وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كمايعلم بالوقوف عليهما وربما ميزت تلك الزيادة بقولى في أولها أقول وفي آخرها والله أعلم وقد يكون من الزيادة ما أقول وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على الشين وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر ثم عن لي أن أذكر من أبيات القصيدة الهمزية المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة بالبردة وما تضمنته تلك الأبيات وأشارت إليه من ذلك السياق فإنه أحلى في الأذواق وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه ويظهر تركيب مبناه وربما أذكر أيضا من أبيات تائية الإمام السبكى ما يناسب المقام وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى ب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقد سميت مجموع ذلك
إنسان العيون في سيرة الأ المأمون
وأسأل من لا مسئول إلا إياه أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين
& باب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم
هو محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبدالله ومعنى عبدالله الخاضع الذليل له تعالى وقد جاء أحب أسمائكم وفي رواية أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن وجاء أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به وقد سمى صلى الله عليه وسلم بعبد الله في القرآن قال الله تعالى وأنه لما قام عبدالله يدعوه وعبدالله هذا هو ابن عبدالمطلب ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع وقيل قيل له شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض أو سمى بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب قيل إسمه عامر وعاش مائة وأربعين سنة أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة وكان يقال له الفياض لجوده ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال قال وكان من حلماء قريش وحكمائها وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان وكان في جوار عبدالمطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله فلما علم عبدالمطلب بذلك ترك منادمة حرب ولم يفارقة حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لإبن عم اليهودي حفظا لجواره ثم نادم عبدالله بن جدعان انتهى ملخصا
وقيل له عبدالمطلب لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه أي وكان بهيئة رثة أي ثياب خلقة فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبدالمطلب ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم لكن غلب عليه
الوصف المذكور فقيل له عبدالمطلب أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبدالمطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور
وكان يقول لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبدالمطلب في ذلك ففكر وقال والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي معدة له في الآخرة ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام ووحد الله سبحانه وتعالى وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي ابن هاشم وهاشم هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته وهو أخو عبد شمس وكانا توءمين وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس ولم يمكن نزعها إلا بسيلان دم فكانوا يقولون سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية بن أخيه فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره فلم تدعه قريش فقال هاشم لأمية أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضى أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان فخرج كل منهما في نفر فنزلوا على الكاهن فقال قبل أن يخبروه خبرهم والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر فنصر هاشم على أمية فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل وأطعم الناس وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارث ذلك بنوهما وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار أي الذهب ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب
قال بعضهم ولا يعرف بنوا أب تباينوا في محال موتهم مثلهم فإن هاشما مات بغزة أي كما سيأتي وعبد شمس مات بمكة وقبر بأجياد ونوفلا مات بالعراق والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن أي قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم فإن إبراهيم أول من فعل ذلك أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين وفيه أن أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي ففي الإمتاع وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة وفيه أيضا هاشم عمرو العلا أول من أطعم الثريد بمكة وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحى فليتأمل
وقد يقال لامنافاة لأن الأولية في ذلك إضافية فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحى لكونه من خزاعة وأولية هاشم بإعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** وأطعم في المحل عمرو العلا ** فللمسنتين به خصب عام **
وقال أيضا ** عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ** مر السحاب ولا ريح تجاريه ** ** جفانه كالجوابي للوفود إذا ** لبوا بمكة ناداهم مناديه ** ** أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ** قوتا لحاضره منهم وباديه **
وقد قيل فيه ** قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف ** ** الرائشون وليس يوجد رائش ** والقائلون هلم للأضياف **
وعن بعض الصحابة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبدالدار ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقتار **
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أهكذا قال الشاعر قال لا والذي بعثك بالحق ولكنه قال ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقراف ** **
الخالطين غنيهم بفقيرهم ** حتى يعود فقيرهم كالكافي **
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هكذا سمعت الرواة ينشدونه وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة فكان يعمل الطعام للحجاج يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد ويقال لذلك الرفادة
واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمى بذلك هاشما وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء
قال بعضهم لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء
قال ابن الصلاح روينا عن الإمام سهل الصعلوكي رضي الله عنه أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام أراد فضل ثريد عمرو العلا الذي عظم نفعه وقدره وعم خيره وبره وبقى له ولعقبه ذكره وقد أبعد سهل في تأويل الحديث
والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره وكان هاشم يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف
قال وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب يقول في خطبته يا معشر قريش إنكم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما أي عقولا وأوسط العرب أي أشرفها أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى أكرمكم الله تعالى بولايته وخصكم بجواره دون بني إسمعيل وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله مالم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل واسألكم بحرمة هذا البيت أن لايخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما
ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا فكانوا يجتهدون في ذلك ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى
وقيل في تسمية شيبة الحمد عبدالمطلب غير ما تقدم فقد قيل إنما سمى شيبة الحمد عبدالمطلب لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب فمن ثم سمى عبدالمطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم
وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة قيل وعمره حينئذ عشرون سنة وقيل أربع وقيل خمس وعشرون وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء فقال له الرجل ممن أنت يا غلام فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى فذهب إلى المدينة فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه
وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه أهذا ابن هاشم قالوا نعم فعرفهم أنه عمه فقالوا له إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه فدعاه المطلب وقال يا أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية ثم قدم به مكة فقالت قريش هذا عبد المطلب أي فإن هذا السياق يدل على أن عبدالمطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافى ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم وما وقع هنا
من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له
وفي السيرة الهشامية أن أم عبدالملطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم فقال شيبة لعمه إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي فأذنت له ودفعته إليه فأردفه خلفه على بعيره ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله فقالت قريش عبدالمطلب إبتاعه أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق فقال لهم ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم ولا يخالف هذا ما سبق من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا فيقول عبدي لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبدالمطلب ظنا منه وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره وهاشم بن عبد مناف وبعد مناف إسمه المغيرة أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله وهذا هو الحد الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنهما
ووجد كتاب في حجر أنا المغيرة بن قصي أوصى قريشا بتقوى الله جل وعلا وصلة الرحم ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن اسمه يزيد ويدعى مجمعا أيضا وقيل له قصى لأنه قصى أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم
أقول لا منافاة لجواز أن تكون أم قصى من بني كلب وأبوها من قضاعة وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها ولعل قضاعة كانت جهة الشام فلا يخالف ما قيل
وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام وقيل حزام بن ربيعة العذرى فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شر أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا
وفي لفظ لما قيل له قال ممن أنا قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه فقالت له بلادك خير من بلادهم وقومك خير من قومهم أنت أكرم أبا منهم أنت ابن كلاب بن مرة وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة فإني أخاف عليك فشخص مع الحجاج فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة فعرفوا له فضله وشرفه فأكرموه وقدموه عليهم فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه وهو آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة لأن قريشا أقرب إلى إسمعيل من خزاعة فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي ياء خزاعة وولى أمر مكة
وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة
وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لأبنته زوج قصي وقالت له لاقدرة لي على فتح البيت وإغلاقه وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر فقالت العرب أخسر صفقة من أبي غبشان
وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة
ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة لجواز أن يكون المراد آخر من ولى ذلك واستمر كذلك إلى أن مات قال بعضهم وكان
أبو غبشان خالا لقصي وكان في عقله شيء فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل
والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الإقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها إثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي ومن ثم قيل له مجمع وفي كلام بعضهم ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم مجمعا وإلى ذلك يشير قول الشاعر ** قصي لعمرى كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر **
وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبدالمطلب مدحه بها حذافة بن غانم فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به فتلقاهم عبدالمطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره فلما نظر إليه حذافة هتف به فقال عبدالمطلب لأبي لهب ويلك ما هذا قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب قال الحقهم وأسألهم ما شأنهم فلحقهم فأخبروه الخبر فرجع إلى عبدالمطلب فقال ما معك قال والله ما معي شيء قال الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل فلحقهم أبو لهب فقال قد عرفتم تجارتي ومالي وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا وهذا ردائي رهنا بذلك فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به فلما سمع عبدالمطلب صوت أبي لهب قال وأبي إنك لعاص ارجع لا أم لك قال يا أبتاه هذا الرجل معي فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني فاردفه خلفه حتى دخل مكة فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها ** بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ** يضئ ظلام الليل كالقمر البدر **
هي القصيدة الجيدة
فإن قيل كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك
أجيب بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا
على أمر جليل لا يغدر بل يحرص على وفاء ما رهن عليه ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد رضي الله تعالى عنه إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى فقال له كسرى أنتم قوم غدر وأخاف على الرعايا منكم فقال له حاجب أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك فقال له كسرى ومن لي بوفائك قال هذه قوسي رهينة فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه فقيل له العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب أمر عطارد رضي الله عنه قومه بالذهاب إلى بلادهم وجاء عطارد رضي الله عنه إلى كسرى فطلب قوس أبيه فقال إنك لم تسلم إلى شيئا فقال أيها الملك أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة فدفعها له وكساه حلة فلما وفد عطارد على النبي صلى الله عليه وسلم دفعها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها وقال إنما يلبس هذه الحلة من لاخلاق له فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله ** تزهو علينا بقوس حاجبها ** تيه تميم بقوس حاجبها **
وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام مني بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم فأبت خزاعة فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر ثم تداعوا للصلح وإتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا فقال لهم موعدكم فناء الكعبة غدا فلما اجتمعوا قام يعمر فقال ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين فلا تباعة لأحد على أحد في دم وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية وفضى لقصي بأنه أولى بولاية مكة فتولاها قيل وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها أي بتجارة وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية
البيت فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولى أمر البيت بعد ثابت بن إسمعيل عليه الصلاة والسلام فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسمعيل لأمهم واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسمعيل في ذلك لخئولتهم وإعظاما لأن يكون بمكة بغى
ثم إن جرهما بغوا بمكة وظلموا من يدخلها من غير أهلها وأكلوا ما الكعبة الذي يهدى لها حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه فأجمعت أي عزمت خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة وذهب من بقى إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ** ** بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والدهور البواتر **
ومن غريب الإتفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال الأمر كما كان والله ذهب ملكنا وذل عزنا وانقضت أيام دولتنا قلت وما ذاك أصلح الله الوزير قال سمعت منشدا أنشدني كأن لم يكن بين الحجون البيت وأجبته من غير روية بلى نحن كنا أهلها البيت فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال أو قد فعل قال نعم فمازاد أن رمى القلم من يده وقال هكذا تقول الساعة بغتة
ومما يؤثر عن يحيى هذا ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع ويحفظ أحسن ما يكتب ويحدث بأحسن ما يحفظ وقال من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما
وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم وكان كبير خزاعة عمرو بن لحى وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره وقد بلغ عمرو بن لحى في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد والسدائف جمع سديف وهو شحم السنام وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف
وفي كلام بعضهم صار عمرو للعرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة
وهو أول من غير دين إبراهيم أي فقد قال بعضهم تضافرت نصوص العلماء على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو ابن لحى فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة
وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما
وعمرو أول من وصل الوصيلة وحمى الحامي ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي وأول من أدخل الشرك في التلبية فإنه كان يلبى بتلبية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك قال له ذلك الشيخ إلا شريكا هو لك فأنكر عمرو ذلك فقال له ذلك الشيخ تملكه وما ملك وهذا لا بأس به فقال ذلك عمرو فتبعه العرب على ذلك أي فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده قال تعالى توبيخا لهم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة فإن كل القبائل
من ولد إسمعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحى فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة قال كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت جهنم يحطم بضعها بضعا ورأيت عمرا يجر قصبه في النار وفي رواية أمعاءه أي وهي المراد بالقصب بصم القاف وفي رواية رأيته يؤذى أهل النار بريح قصبه ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره ياء موحدة ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار والإندلاق الخروج بسرعة وقال صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى وأكثم بالثاء المثلثة وهو في اللغة واسع البطن يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا اشبه من رجل منك به ولا بك منه فقال أكثم فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان أي ودين إسمعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة السلام فإن العرب من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الدجال فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى فقام أكثم فقال أيضرني شبهي إياه فقال لا أنت مؤمن وهو كافر ورده ابن عبدالبر حيث قال الحديث الذي فيه ذكر الدحال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو ابن لحي
وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأثان لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ورآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه قالوا هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده وكان عند هبل سبع قداح قدح فيه مكتوب الغفل إذا اختلفوا فيمن
يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله وقدح مكتوب فيه نعم وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أولا وقدح فيه بها وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان
وعاش عمرو بن لحى هذا ثلثمائة سنة وأربعين سنة ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصي ابنته كما تقدم
وقيل وكان لعمرو تابع من الجن فقال له اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان وقيل لهذيل ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن ويعوق لمراد وقيل لهمدان ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا فحزن أهل عصرهم عليهم فصور لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم فجعلوها في مؤخر المسجد فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم تعبدونها ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين
وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فمات ود فحزن الناس عليه حزنا شديدا واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه وذلك بأرض بابل فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه قالوا نعم فصور لهم صورته ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا تلك الصور بأسمائهم ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها فأرسل الله لهم نوحا فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك
ويقال إن عمرو بن لحى هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلى قديد وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه وكذلك الأوس والخزرج وغسان
وذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض } أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلى والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى هذا كلامه
وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بإمرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي
وقيل زنى بها فمسخا حجرين فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة فلما كان زمن عمرو بن لحى أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها إمرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتى بالطائف عند اللات ويصيف عن العزى فكانوا يعظمونهما وكانو يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة
وقصى هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه كباب بني شيبة وباب بني سهم وباب بني مخزوم وباب بني جمع وتركوا قدر الطواف بالبيت فبنى قصى دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف وليس حوله جدار زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن ولاية الصديق رضي الله عنه فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها ثم لما كان زمن ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى دورا أخر
وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد ثم إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في المسجد زيادة كثيرة ثم إن عبدالملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا ثم إن الوليد بن عبدالملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن
وكانت قريش قبل ذلك أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها وهو على ثلثي فرسخ من مكة وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها فقد كان بمكة شجر كثير من العضاة والسلم وشكوا ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها فهابوا ذلك فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا فقال قصي إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا بهلة الله أي لعنته على من أراد فسادا فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه
وفي كلام السهيلي عن الواقدي الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله
قال وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبدالله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع
وأنزل قصي القبائل من قريش أي فإنه جعلها إثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها وظواهرها ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر والأولى أشرف من الثانية ومن الأولى بنو هاشم وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله ** من بني هاشم بن عبد مناف ** وبنو هاشم بحار الحياء ** ** من قريش البطاح من عرف النا ** س لهم فضلهم بغير امتراء
قال بعضهم كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام فليخرج كل إسنان منكم من ماله خرجا ففعلوا فجمع من
ذلك شيئا كثيرا فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم وسقى الماء المحلى بالزبيب وسقى اللبن وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر
ومما يؤثر عن قصي من أكرم لئيما أشركه في لؤمه ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان والحسود العدو الخفى
ولما احتضر قال لأولاده اجتنبوا الخمرة فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان
وحاز قصي شرف مكة كله فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة
وكان عبدالدار أكثر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي وذهب شرفه كل مذهب وكان يليه في الشرف أخوه المطلب كان يقال لهما البدران وكانت قريش تسمى عبد مناف الفياض لكثرة جوده فأعطى قصي ولده عبدالدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة أي فإنه قال له أما والله يابني لألحقنك بالقوم يعنى أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفحتها له أي بسبب الحجابة للبيت ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك أي وهذا هو المراد باللواء ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك وهذا هو المراد بالسقاية ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعنى دار الندوة أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة
فلما مات عبدالدار وأخوه عبد مناف أراد بنوا عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب وهؤلاء إخوة لأب وأم أمهم عاتكة بنت مرة ونوفل أخوهم لأبيهم أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبدالدار وأجمعوا على المحاربة أي وأخرج بنوا عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا هم وحلفاؤهم ثم مسجوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت
عبدالمطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوءمة أبيه ووضعتها في الحجر وقالت من تطيب بهذا فهو منا فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر فالمطيبون من قريش خمس قبائل وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم وهم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم
وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنوا عدي خاصة ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف والحجابة واللواء لبني الدار ودار الندوة بينهم بالإشتراك وتخالفوا على ذلك هذا
والذي رأيتهم في المشرق فيم يحاضر به من آداب المشرق ولما شرف عبد مناف ابن قصي في حياة أبيه وذهب شرفه كل مذهب وكان قصي يحب إبنه عبد الدار أراد أن يبقى له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان وجعل دار الندوة لولده عبد مناف ابن عبدالدار ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبدالدار ثم وليها ولده من بعده
والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقى الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا وهذا السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم وبعده ولده عبدالمطلب وكان شريفا مطاعا جوادا وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده فلما كبر عبد المطلب فوض إليه أمر السقاية والرفادة فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا أي أفنية ودورا فسأل عبدالمطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل فلما وقف خاله أبو سعد ابن عدي بن النجار على كتابه بكى وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال فقال لا والله حتى ألقى نوفلا فقال تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش فأقبل أبو سعد حتى وقف
عليه فقام نوفل قائما وقال يا أبا سعد أنعم صباحا فقال له أبو سعد لا أنعم الله لك صباحا وسل سيفه وقال ورب هذه البنية لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأملأن منك هذا السيف فقال قد رددتها عليه فأشهد عليه مشايخ قريش ثم نزل على عبدالمطلب فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة
ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس أي فإن خزاعة قالت نحن أولى بنصرة عبدالمطلب لأن عبد مناف جد عبدالمطلب أمه حيى بنت حليل سيد خزاعة كما تقدم فقالوا لعبدالمطلب هلم فلنحالفك فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا بإسمك اللهم هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بل بحر صوفة وما أشرقت الشمس على ثبير وهب بفلاة بعير وما أقام الأخشبان واعتمر بمكة إنسان والمراد من ذلك الأبد
وعبدالمطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب ثم بعده قام بها ولده أبو طالب ثم اتفق أن أبا طالب أملق أي افتقر في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك فقال له العباس بشرط إن لم تعطنى تترك السقاية لأكفلها فقال نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية فصارت للعباس ثم لولده عبدالله بن عباس واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح ثم ترك بنو العباس ذلك
والرفادة إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم لولده عبد المطلب ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس ثم استمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر
وأما القيادة وهي إمارة الركب فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب ثم لابنه أبي سفيان فكان يقود الناس في غزواتهم قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب ومن ثم لما قال الوليد بن عبدالملك لخالد بن يزيد بن معاوية لست في العير ولا في النفير قال له ويحك العير والنفير عيبتي أي وعائي لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب جدى أبو سفيان صاحب العير وجدى عتبة بن ربيعة صاحب النفير
ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبدالدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب وهذه كانت سنة قصي فكان لا ينكح رجل إمرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة ولا يعقد لواء حرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها ويدرعها بيده فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حباته كالدين المتبع ولا زالت هذه الدار في يد بني عبدالدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم فلامه عبدالله بن الزبير رضي ا
حمد لمن نضر وجوه أهل الحديث وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السر الحثيث
وبعد فيقول أفقر المحتاجين وأحوج المفتقرين لعفو ذي الفضل والطول المتين على بن برهان الدين الحلبي الشافعي إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام وحفاظ ملة الإسلام كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام والحامل على التخلق بالأخلاق العظام وقد قال الزهري رحمه الله في علم المغازي خير الدنيا والآخرة وهو أول من ألف في السير
قال بعضهم أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه فيقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس لما جمعت من تلك الدرارى والدرر ومن ثم سماها عيون الأثر غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الإعتداد وعليه لهم كثير الإعتماد إذ هو من خصائص هذه الأمة ومفتخر الأئمة لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع ولا تمتد إليه الأطماع وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى بما فيما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوى الأفهام كالمعادات
ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع ومن ثم قال الزين العراقي رحمه الله
** وليعلم الطالب أن السيرا ** تجمع ما صح وما قد أنكرا **
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روبنا في الفضائل ونحوها تساهلنا وفي الأصل والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق ومالا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجرى مجرى ذلك وأنه يقبل منها مالا يقبل في الحلال والحرام لعدم تعلق الأحكام بها فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه عن لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق الأحداق ويحلو للأذواق يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الإنسجام ونهاية الإنتظام ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى لكوني لست من أهل هذا الشان ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان حتى أشار علي بذلك وبسلوك تلك المسالك من إشارته واجبة الإتباع ومخالفة أمره لاتستطاع ذو البديهة المطاوعة والفضائل البارعة والفواضل الكثيرة النافعة من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف لا تراه يتوقف ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف ولا أخبر في كثير من الأوقاف عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم مولانا الشيخ أبو عبدالله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب وسرى سره في سائر المسارى والمسارب ولي الله والقائم بخدمته في الإسرار والإعلان والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع إثنان مولانا الأستاذ أبو عبدالله وأبو بكر محمد البكري الصديقي
ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين وأستاذ جميع الأستاذين والمعدود من المجتهدين صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة مولانا الأستاذ محمد أبو الحسن تاج العارفين البكري الصديقي أعاد الله تعالى على وعلى أحبابي من بركاتهم وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم فلما أشار على ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف ومسلك شريف لا تمله الأسماع ولا تنفر منه الطباع والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس الموسومة بعيون الأثر إن كثرت ميزتها بقولى في أولها قال وفي آخرها انتهى
وإن قلت أتيت بلفظه أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال وعن الكثيرة بأي وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل أعني عيون الأثر غالبا وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كمايعلم بالوقوف عليهما وربما ميزت تلك الزيادة بقولى في أولها أقول وفي آخرها والله أعلم وقد يكون من الزيادة ما أقول وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على الشين وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر ثم عن لي أن أذكر من أبيات القصيدة الهمزية المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة بالبردة وما تضمنته تلك الأبيات وأشارت إليه من ذلك السياق فإنه أحلى في الأذواق وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه ويظهر تركيب مبناه وربما أذكر أيضا من أبيات تائية الإمام السبكى ما يناسب المقام وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى ب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقد سميت مجموع ذلك
إنسان العيون في سيرة الأ المأمون
وأسأل من لا مسئول إلا إياه أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين
& باب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم
هو محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبدالله ومعنى عبدالله الخاضع الذليل له تعالى وقد جاء أحب أسمائكم وفي رواية أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن وجاء أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به وقد سمى صلى الله عليه وسلم بعبد الله في القرآن قال الله تعالى وأنه لما قام عبدالله يدعوه وعبدالله هذا هو ابن عبدالمطلب ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع وقيل قيل له شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض أو سمى بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب قيل إسمه عامر وعاش مائة وأربعين سنة أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة وكان يقال له الفياض لجوده ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال قال وكان من حلماء قريش وحكمائها وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان وكان في جوار عبدالمطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله فلما علم عبدالمطلب بذلك ترك منادمة حرب ولم يفارقة حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لإبن عم اليهودي حفظا لجواره ثم نادم عبدالله بن جدعان انتهى ملخصا
وقيل له عبدالمطلب لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه أي وكان بهيئة رثة أي ثياب خلقة فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبدالمطلب ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم لكن غلب عليه
الوصف المذكور فقيل له عبدالمطلب أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبدالمطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور
وكان يقول لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبدالمطلب في ذلك ففكر وقال والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي معدة له في الآخرة ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام ووحد الله سبحانه وتعالى وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي ابن هاشم وهاشم هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته وهو أخو عبد شمس وكانا توءمين وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس ولم يمكن نزعها إلا بسيلان دم فكانوا يقولون سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية بن أخيه فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره فلم تدعه قريش فقال هاشم لأمية أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضى أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان فخرج كل منهما في نفر فنزلوا على الكاهن فقال قبل أن يخبروه خبرهم والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر فنصر هاشم على أمية فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل وأطعم الناس وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارث ذلك بنوهما وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار أي الذهب ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب
قال بعضهم ولا يعرف بنوا أب تباينوا في محال موتهم مثلهم فإن هاشما مات بغزة أي كما سيأتي وعبد شمس مات بمكة وقبر بأجياد ونوفلا مات بالعراق والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن أي قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم فإن إبراهيم أول من فعل ذلك أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين وفيه أن أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي ففي الإمتاع وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة وفيه أيضا هاشم عمرو العلا أول من أطعم الثريد بمكة وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحى فليتأمل
وقد يقال لامنافاة لأن الأولية في ذلك إضافية فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحى لكونه من خزاعة وأولية هاشم بإعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** وأطعم في المحل عمرو العلا ** فللمسنتين به خصب عام **
وقال أيضا ** عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ** مر السحاب ولا ريح تجاريه ** ** جفانه كالجوابي للوفود إذا ** لبوا بمكة ناداهم مناديه ** ** أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ** قوتا لحاضره منهم وباديه **
وقد قيل فيه ** قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف ** ** الرائشون وليس يوجد رائش ** والقائلون هلم للأضياف **
وعن بعض الصحابة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبدالدار ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقتار **
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أهكذا قال الشاعر قال لا والذي بعثك بالحق ولكنه قال ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقراف ** **
الخالطين غنيهم بفقيرهم ** حتى يعود فقيرهم كالكافي **
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هكذا سمعت الرواة ينشدونه وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة فكان يعمل الطعام للحجاج يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد ويقال لذلك الرفادة
واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمى بذلك هاشما وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء
قال بعضهم لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء
قال ابن الصلاح روينا عن الإمام سهل الصعلوكي رضي الله عنه أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام أراد فضل ثريد عمرو العلا الذي عظم نفعه وقدره وعم خيره وبره وبقى له ولعقبه ذكره وقد أبعد سهل في تأويل الحديث
والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره وكان هاشم يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف
قال وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب يقول في خطبته يا معشر قريش إنكم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما أي عقولا وأوسط العرب أي أشرفها أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى أكرمكم الله تعالى بولايته وخصكم بجواره دون بني إسمعيل وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله مالم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل واسألكم بحرمة هذا البيت أن لايخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما
ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا فكانوا يجتهدون في ذلك ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى
وقيل في تسمية شيبة الحمد عبدالمطلب غير ما تقدم فقد قيل إنما سمى شيبة الحمد عبدالمطلب لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب فمن ثم سمى عبدالمطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم
وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة قيل وعمره حينئذ عشرون سنة وقيل أربع وقيل خمس وعشرون وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء فقال له الرجل ممن أنت يا غلام فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى فذهب إلى المدينة فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه
وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه أهذا ابن هاشم قالوا نعم فعرفهم أنه عمه فقالوا له إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه فدعاه المطلب وقال يا أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية ثم قدم به مكة فقالت قريش هذا عبد المطلب أي فإن هذا السياق يدل على أن عبدالمطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافى ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم وما وقع هنا
من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له
وفي السيرة الهشامية أن أم عبدالملطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم فقال شيبة لعمه إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي فأذنت له ودفعته إليه فأردفه خلفه على بعيره ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله فقالت قريش عبدالمطلب إبتاعه أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق فقال لهم ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم ولا يخالف هذا ما سبق من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا فيقول عبدي لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبدالمطلب ظنا منه وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره وهاشم بن عبد مناف وبعد مناف إسمه المغيرة أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله وهذا هو الحد الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنهما
ووجد كتاب في حجر أنا المغيرة بن قصي أوصى قريشا بتقوى الله جل وعلا وصلة الرحم ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن اسمه يزيد ويدعى مجمعا أيضا وقيل له قصى لأنه قصى أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم
أقول لا منافاة لجواز أن تكون أم قصى من بني كلب وأبوها من قضاعة وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها ولعل قضاعة كانت جهة الشام فلا يخالف ما قيل
وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام وقيل حزام بن ربيعة العذرى فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شر أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا
وفي لفظ لما قيل له قال ممن أنا قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه فقالت له بلادك خير من بلادهم وقومك خير من قومهم أنت أكرم أبا منهم أنت ابن كلاب بن مرة وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة فإني أخاف عليك فشخص مع الحجاج فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة فعرفوا له فضله وشرفه فأكرموه وقدموه عليهم فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه وهو آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة لأن قريشا أقرب إلى إسمعيل من خزاعة فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي ياء خزاعة وولى أمر مكة
وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة
وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لأبنته زوج قصي وقالت له لاقدرة لي على فتح البيت وإغلاقه وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر فقالت العرب أخسر صفقة من أبي غبشان
وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة
ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة لجواز أن يكون المراد آخر من ولى ذلك واستمر كذلك إلى أن مات قال بعضهم وكان
أبو غبشان خالا لقصي وكان في عقله شيء فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل
والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الإقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها إثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي ومن ثم قيل له مجمع وفي كلام بعضهم ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم مجمعا وإلى ذلك يشير قول الشاعر ** قصي لعمرى كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر **
وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبدالمطلب مدحه بها حذافة بن غانم فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به فتلقاهم عبدالمطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره فلما نظر إليه حذافة هتف به فقال عبدالمطلب لأبي لهب ويلك ما هذا قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب قال الحقهم وأسألهم ما شأنهم فلحقهم فأخبروه الخبر فرجع إلى عبدالمطلب فقال ما معك قال والله ما معي شيء قال الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل فلحقهم أبو لهب فقال قد عرفتم تجارتي ومالي وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا وهذا ردائي رهنا بذلك فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به فلما سمع عبدالمطلب صوت أبي لهب قال وأبي إنك لعاص ارجع لا أم لك قال يا أبتاه هذا الرجل معي فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني فاردفه خلفه حتى دخل مكة فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها ** بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ** يضئ ظلام الليل كالقمر البدر **
هي القصيدة الجيدة
فإن قيل كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك
أجيب بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا
على أمر جليل لا يغدر بل يحرص على وفاء ما رهن عليه ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد رضي الله تعالى عنه إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى فقال له كسرى أنتم قوم غدر وأخاف على الرعايا منكم فقال له حاجب أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك فقال له كسرى ومن لي بوفائك قال هذه قوسي رهينة فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه فقيل له العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب أمر عطارد رضي الله عنه قومه بالذهاب إلى بلادهم وجاء عطارد رضي الله عنه إلى كسرى فطلب قوس أبيه فقال إنك لم تسلم إلى شيئا فقال أيها الملك أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة فدفعها له وكساه حلة فلما وفد عطارد على النبي صلى الله عليه وسلم دفعها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها وقال إنما يلبس هذه الحلة من لاخلاق له فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله ** تزهو علينا بقوس حاجبها ** تيه تميم بقوس حاجبها **
وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام مني بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم فأبت خزاعة فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر ثم تداعوا للصلح وإتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا فقال لهم موعدكم فناء الكعبة غدا فلما اجتمعوا قام يعمر فقال ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين فلا تباعة لأحد على أحد في دم وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية وفضى لقصي بأنه أولى بولاية مكة فتولاها قيل وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها أي بتجارة وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية
البيت فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولى أمر البيت بعد ثابت بن إسمعيل عليه الصلاة والسلام فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسمعيل لأمهم واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسمعيل في ذلك لخئولتهم وإعظاما لأن يكون بمكة بغى
ثم إن جرهما بغوا بمكة وظلموا من يدخلها من غير أهلها وأكلوا ما الكعبة الذي يهدى لها حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه فأجمعت أي عزمت خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة وذهب من بقى إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ** ** بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والدهور البواتر **
ومن غريب الإتفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال الأمر كما كان والله ذهب ملكنا وذل عزنا وانقضت أيام دولتنا قلت وما ذاك أصلح الله الوزير قال سمعت منشدا أنشدني كأن لم يكن بين الحجون البيت وأجبته من غير روية بلى نحن كنا أهلها البيت فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال أو قد فعل قال نعم فمازاد أن رمى القلم من يده وقال هكذا تقول الساعة بغتة
ومما يؤثر عن يحيى هذا ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع ويحفظ أحسن ما يكتب ويحدث بأحسن ما يحفظ وقال من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما
وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم وكان كبير خزاعة عمرو بن لحى وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره وقد بلغ عمرو بن لحى في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد والسدائف جمع سديف وهو شحم السنام وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف
وفي كلام بعضهم صار عمرو للعرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة
وهو أول من غير دين إبراهيم أي فقد قال بعضهم تضافرت نصوص العلماء على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو ابن لحى فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة
وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما
وعمرو أول من وصل الوصيلة وحمى الحامي ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي وأول من أدخل الشرك في التلبية فإنه كان يلبى بتلبية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك قال له ذلك الشيخ إلا شريكا هو لك فأنكر عمرو ذلك فقال له ذلك الشيخ تملكه وما ملك وهذا لا بأس به فقال ذلك عمرو فتبعه العرب على ذلك أي فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده قال تعالى توبيخا لهم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة فإن كل القبائل
من ولد إسمعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحى فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة قال كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت جهنم يحطم بضعها بضعا ورأيت عمرا يجر قصبه في النار وفي رواية أمعاءه أي وهي المراد بالقصب بصم القاف وفي رواية رأيته يؤذى أهل النار بريح قصبه ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره ياء موحدة ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار والإندلاق الخروج بسرعة وقال صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى وأكثم بالثاء المثلثة وهو في اللغة واسع البطن يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا اشبه من رجل منك به ولا بك منه فقال أكثم فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان أي ودين إسمعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة السلام فإن العرب من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الدجال فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى فقام أكثم فقال أيضرني شبهي إياه فقال لا أنت مؤمن وهو كافر ورده ابن عبدالبر حيث قال الحديث الذي فيه ذكر الدحال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو ابن لحي
وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأثان لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ورآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه قالوا هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده وكان عند هبل سبع قداح قدح فيه مكتوب الغفل إذا اختلفوا فيمن
يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله وقدح مكتوب فيه نعم وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أولا وقدح فيه بها وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان
وعاش عمرو بن لحى هذا ثلثمائة سنة وأربعين سنة ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصي ابنته كما تقدم
وقيل وكان لعمرو تابع من الجن فقال له اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان وقيل لهذيل ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن ويعوق لمراد وقيل لهمدان ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا فحزن أهل عصرهم عليهم فصور لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم فجعلوها في مؤخر المسجد فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم تعبدونها ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين
وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فمات ود فحزن الناس عليه حزنا شديدا واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه وذلك بأرض بابل فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه قالوا نعم فصور لهم صورته ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا تلك الصور بأسمائهم ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها فأرسل الله لهم نوحا فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك
ويقال إن عمرو بن لحى هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلى قديد وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه وكذلك الأوس والخزرج وغسان
وذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض } أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلى والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى هذا كلامه
وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بإمرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي
وقيل زنى بها فمسخا حجرين فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة فلما كان زمن عمرو بن لحى أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها إمرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتى بالطائف عند اللات ويصيف عن العزى فكانوا يعظمونهما وكانو يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة
وقصى هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه كباب بني شيبة وباب بني سهم وباب بني مخزوم وباب بني جمع وتركوا قدر الطواف بالبيت فبنى قصى دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف وليس حوله جدار زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن ولاية الصديق رضي الله عنه فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها ثم لما كان زمن ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى دورا أخر
وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد ثم إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في المسجد زيادة كثيرة ثم إن عبدالملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا ثم إن الوليد بن عبدالملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن
وكانت قريش قبل ذلك أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها وهو على ثلثي فرسخ من مكة وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها فقد كان بمكة شجر كثير من العضاة والسلم وشكوا ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها فهابوا ذلك فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا فقال قصي إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا بهلة الله أي لعنته على من أراد فسادا فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه
وفي كلام السهيلي عن الواقدي الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله
قال وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبدالله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع
وأنزل قصي القبائل من قريش أي فإنه جعلها إثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها وظواهرها ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر والأولى أشرف من الثانية ومن الأولى بنو هاشم وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله ** من بني هاشم بن عبد مناف ** وبنو هاشم بحار الحياء ** ** من قريش البطاح من عرف النا ** س لهم فضلهم بغير امتراء
قال بعضهم كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام فليخرج كل إسنان منكم من ماله خرجا ففعلوا فجمع من
ذلك شيئا كثيرا فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم وسقى الماء المحلى بالزبيب وسقى اللبن وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر
ومما يؤثر عن قصي من أكرم لئيما أشركه في لؤمه ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان والحسود العدو الخفى
ولما احتضر قال لأولاده اجتنبوا الخمرة فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان
وحاز قصي شرف مكة كله فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة
وكان عبدالدار أكثر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي وذهب شرفه كل مذهب وكان يليه في الشرف أخوه المطلب كان يقال لهما البدران وكانت قريش تسمى عبد مناف الفياض لكثرة جوده فأعطى قصي ولده عبدالدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة أي فإنه قال له أما والله يابني لألحقنك بالقوم يعنى أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفحتها له أي بسبب الحجابة للبيت ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك أي وهذا هو المراد باللواء ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك وهذا هو المراد بالسقاية ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعنى دار الندوة أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة
فلما مات عبدالدار وأخوه عبد مناف أراد بنوا عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب وهؤلاء إخوة لأب وأم أمهم عاتكة بنت مرة ونوفل أخوهم لأبيهم أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبدالدار وأجمعوا على المحاربة أي وأخرج بنوا عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا هم وحلفاؤهم ثم مسجوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت
عبدالمطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوءمة أبيه ووضعتها في الحجر وقالت من تطيب بهذا فهو منا فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر فالمطيبون من قريش خمس قبائل وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم وهم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم
وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنوا عدي خاصة ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف والحجابة واللواء لبني الدار ودار الندوة بينهم بالإشتراك وتخالفوا على ذلك هذا
والذي رأيتهم في المشرق فيم يحاضر به من آداب المشرق ولما شرف عبد مناف ابن قصي في حياة أبيه وذهب شرفه كل مذهب وكان قصي يحب إبنه عبد الدار أراد أن يبقى له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان وجعل دار الندوة لولده عبد مناف ابن عبدالدار ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبدالدار ثم وليها ولده من بعده
والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقى الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا وهذا السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم وبعده ولده عبدالمطلب وكان شريفا مطاعا جوادا وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده فلما كبر عبد المطلب فوض إليه أمر السقاية والرفادة فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا أي أفنية ودورا فسأل عبدالمطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل فلما وقف خاله أبو سعد ابن عدي بن النجار على كتابه بكى وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال فقال لا والله حتى ألقى نوفلا فقال تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش فأقبل أبو سعد حتى وقف
عليه فقام نوفل قائما وقال يا أبا سعد أنعم صباحا فقال له أبو سعد لا أنعم الله لك صباحا وسل سيفه وقال ورب هذه البنية لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأملأن منك هذا السيف فقال قد رددتها عليه فأشهد عليه مشايخ قريش ثم نزل على عبدالمطلب فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة
ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس أي فإن خزاعة قالت نحن أولى بنصرة عبدالمطلب لأن عبد مناف جد عبدالمطلب أمه حيى بنت حليل سيد خزاعة كما تقدم فقالوا لعبدالمطلب هلم فلنحالفك فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا بإسمك اللهم هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بل بحر صوفة وما أشرقت الشمس على ثبير وهب بفلاة بعير وما أقام الأخشبان واعتمر بمكة إنسان والمراد من ذلك الأبد
وعبدالمطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب ثم بعده قام بها ولده أبو طالب ثم اتفق أن أبا طالب أملق أي افتقر في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك فقال له العباس بشرط إن لم تعطنى تترك السقاية لأكفلها فقال نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية فصارت للعباس ثم لولده عبدالله بن عباس واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح ثم ترك بنو العباس ذلك
والرفادة إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم لولده عبد المطلب ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس ثم استمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر
وأما القيادة وهي إمارة الركب فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب ثم لابنه أبي سفيان فكان يقود الناس في غزواتهم قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب ومن ثم لما قال الوليد بن عبدالملك لخالد بن يزيد بن معاوية لست في العير ولا في النفير قال له ويحك العير والنفير عيبتي أي وعائي لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب جدى أبو سفيان صاحب العير وجدى عتبة بن ربيعة صاحب النفير
ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبدالدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب وهذه كانت سنة قصي فكان لا ينكح رجل إمرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة ولا يعقد لواء حرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها ويدرعها بيده فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حباته كالدين المتبع ولا زالت هذه الدار في يد بني عبدالدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم فلامه عبدالله بن الزبير رضي ا