المقدمة
كتاب اللؤلؤة في السلطان
السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا؛ وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده؛ به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل؛ وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم؛ ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه؛ واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته؛ بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة، وأجرى له من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والله عاقبة الأمور " .
وقال حذيفة بن اليمان: ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه
ومن شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم؛ ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها؛ من المعجز الذي لا يدرك، والممتنع الذي لا يملك؛ ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم.
فمن حق الإمام على رعيته أن تقضي عليه بالأغلب من فعله، والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها، وإضرابه صفحاً عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق والياً عليها: أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي صفحته لي.
وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.
وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام؛ والعمود السلطان؛ والأطناب والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضها إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إلا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .
وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة، أو خلع يداً من طاعة، مات ميتة جاهلية.
وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
وفي كتاب للهند: أن رجلاً دخل على بعض ملوكهم، فقال أيها الملك، إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير، والكبير الخطير. ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة، لكان خرقاً مني أن أقول. ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بداً من أداء الحق إليك، وإن أنت لم تسلني ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد أخل بنفسه. وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك. فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك، لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي، وتصرف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي.
وقال عمرو بن عتبة للوليد، حين تغير الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً؟ قال: كل مقبول منك، والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به السلطان
قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير له إذا سخط، ولا يستقل ما حمله، ولا يلحف في مسألته.
وقال أيضاً: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم؛ فإن كنت حافظاً إذا أولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك، ذليلاً إذا صرموك، راضياً إذا أسخطوك؛ تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض.
وقال الأصمعي: توصلت بالملح، وأدركت بالغريب.
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عند حمل إليه.
ولما قدم معاوية من الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا. فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد بلغته لنوفست فيه.
قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف: لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإن خنت قليلاً خنت كثيراً. واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطى. واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي: ولا تتعوض بخير شراً، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
وقال يزيد: حدثني أبي: أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه.
وقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ، فقلت: يا يرفأ، أني سائل مسترشد، أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل يوم، قال كثير؛ فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئاً وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العين، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لكم اللحم كذلك، فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً. فسكن عن غربه، وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي.
قوله: لثتها على رأسي؛ يقال: رجل ألوث، إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث، إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة؛ يقال: لثت عمامة على رأسي؛ يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقول: صلائق، هو شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى. يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته؛ وصلقته، إذا شويته.
وقوله: غريضاً، يقول: طرياً؛ يقال: لحم غريض، تراد به: الطراءة. قال العتابي:
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: سبائك، يريد الحوارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
الصناب: صباغ يتخذ من الزبيب والخردل؛ ومنها قيل للفرس: صنابي، إذا كان ذلك اللون.
قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب
وقوله: أكسار بعير، فالكسر والعصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقول: نعى على قوم شهواتهم، أي عابهم بها ووبخهم.
ومما يصحب به السلطان: أن لا يسلم على قادم بين يديه، وإنما استن ذلك زياد، وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس، ولم يكلمه زياد شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة؟ كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجراً! قال: لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
دخل أبو سلم على أبي العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس؛ فقال له: يا أبا مسلم، هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك.
أبو حاتم عن العتبي قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك، قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال: لهذا بعثت إلي! أخوه وابنه عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له: وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا: من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقالوا: إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبد فاجعله ربا.
وقال شبيب بن شيبة: ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وقرأت في كتاب للهند: أنه أهدى لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى، وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشير له. فغمزها باللباس تغضينا بعينه، فلحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.
اختيار السلطان لأهل عمله
لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان، قال له: أوصيك بثلاثة: حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس، إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء، وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك، حيث وضعتهما فقدر ضعتهما. عمال القدر. قال: وما عمال القدر؟ قال أن نختار من كل كورة رجالا لعملك فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطأوا فهم المخطئون وأنت المصيب.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطأة: أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشني، فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة: الحسن البصري وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به. فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة، يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها، فاستقضاه.
قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية دلني على قوم من القراء أولهم فقال له: القراء ضربان: ضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم.
أيوب السختياني، قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح! وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله. فقال له روح بن زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم؛ ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشعبي. فولاه قضاء البصرة.
وسأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أبا مجلز عن رجل يوليه خراسان. فقال له: ما تقول في فلان؟ قال: مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير ويمنع القليل، و يحسد أمه، وينافس أباه، ويحقر مولاه. قال: ففلان؟ قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير.
وأراد عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه أن يستعمل رجلا. فبدر الرجل فطلب منه العمل. فقال عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله، فقال له: إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي ولاية. فقال: يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا تحصيها.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك الحياة.
وتقول النصارى: لا يختار للجثلقة إلا زاهد غير طالب لها.
وقال إياس بن معاوية: أرسل إلى إلي عمر بن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكت، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل ما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال أتقرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي. قلت إن خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها لليل. قال: و ما هي؟ قلت: دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عي. قال: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدة فإن السوط يقومك. قم قد وليتك. قال: فولاني وأعطاني مائة درهم. فهي أول مال تمولته.
وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ويزيد وهشام.
وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء، فأبى عليه. قال له: وما يمنعك؟ قال مكحول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا مولى.
ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه. فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه. والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم. فخرج إليهم، فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة.
حسن السياسة وإقامة المملكة
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته. وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً، أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري. وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وقال أردشير لابنه: يا بني: إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالملك أس والعدل حارس. والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع. يا بني، اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول.
وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي ضميره لإقامة أمر دينه. فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة الرعية، ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمه على غيره مثل حكمه على نفسه. وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية.
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي، ولا عاقبت للغضب، واستكفيت، وأثبت على الغناء لا للهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووداً لم تشبه جرأة، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول.
وذكر أعرابي أمير فقال: كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف، القوي من غير عنف.
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك. وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل.
وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أكرم قريش وابن كريمها، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته.
وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وقال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره، فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل، فيبدر إليه من يسده؛ ثم يفعل ذلك بميسرته، فتغنيه اللحظة على الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا، فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا؟ وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله، وفي بعض يوم، قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغناء، فسد جميع ما ترى.
وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمر للحرب، وجاهد عدوك، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك، وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم.
وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته، من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها، وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة.
وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك، ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه، ولكن أعطهم عطاء قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء.
ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك.
وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما، وأخرى منك تحقن دماً، وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف؛ فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً. واعلم أنك تجل من الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدر لسخطك من العقاب، كما تقدر لرضاك من الثواب.
وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل.
وقال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم. فينبغي للسلطان أن يحترس منهما.
وفي كتاب التاج: أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية: و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها، ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته. وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه، قليلاً تجربته في غيره؛ ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه.
بسط المعدلة ورد المظالم
كتاب اللؤلؤة في السلطان
السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا؛ وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده؛ به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل؛ وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم؛ ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه؛ واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته؛ بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة، وأجرى له من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والله عاقبة الأمور " .
وقال حذيفة بن اليمان: ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه
ومن شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم؛ ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها؛ من المعجز الذي لا يدرك، والممتنع الذي لا يملك؛ ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم.
فمن حق الإمام على رعيته أن تقضي عليه بالأغلب من فعله، والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها، وإضرابه صفحاً عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق والياً عليها: أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي صفحته لي.
وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.
وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام؛ والعمود السلطان؛ والأطناب والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضها إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إلا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .
وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة، أو خلع يداً من طاعة، مات ميتة جاهلية.
وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
وفي كتاب للهند: أن رجلاً دخل على بعض ملوكهم، فقال أيها الملك، إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير، والكبير الخطير. ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة، لكان خرقاً مني أن أقول. ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بداً من أداء الحق إليك، وإن أنت لم تسلني ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد أخل بنفسه. وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك. فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك، لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي، وتصرف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي.
وقال عمرو بن عتبة للوليد، حين تغير الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً؟ قال: كل مقبول منك، والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به السلطان
قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير له إذا سخط، ولا يستقل ما حمله، ولا يلحف في مسألته.
وقال أيضاً: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم؛ فإن كنت حافظاً إذا أولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك، ذليلاً إذا صرموك، راضياً إذا أسخطوك؛ تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض.
وقال الأصمعي: توصلت بالملح، وأدركت بالغريب.
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عند حمل إليه.
ولما قدم معاوية من الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا. فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد بلغته لنوفست فيه.
قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف: لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإن خنت قليلاً خنت كثيراً. واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطى. واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي: ولا تتعوض بخير شراً، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
وقال يزيد: حدثني أبي: أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه.
وقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ، فقلت: يا يرفأ، أني سائل مسترشد، أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل يوم، قال كثير؛ فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئاً وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العين، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لكم اللحم كذلك، فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً. فسكن عن غربه، وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي.
قوله: لثتها على رأسي؛ يقال: رجل ألوث، إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث، إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة؛ يقال: لثت عمامة على رأسي؛ يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقول: صلائق، هو شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى. يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته؛ وصلقته، إذا شويته.
وقوله: غريضاً، يقول: طرياً؛ يقال: لحم غريض، تراد به: الطراءة. قال العتابي:
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: سبائك، يريد الحوارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
الصناب: صباغ يتخذ من الزبيب والخردل؛ ومنها قيل للفرس: صنابي، إذا كان ذلك اللون.
قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب
وقوله: أكسار بعير، فالكسر والعصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقول: نعى على قوم شهواتهم، أي عابهم بها ووبخهم.
ومما يصحب به السلطان: أن لا يسلم على قادم بين يديه، وإنما استن ذلك زياد، وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس، ولم يكلمه زياد شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة؟ كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجراً! قال: لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
دخل أبو سلم على أبي العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس؛ فقال له: يا أبا مسلم، هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك.
أبو حاتم عن العتبي قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك، قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال: لهذا بعثت إلي! أخوه وابنه عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له: وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا: من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقالوا: إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبد فاجعله ربا.
وقال شبيب بن شيبة: ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وقرأت في كتاب للهند: أنه أهدى لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى، وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشير له. فغمزها باللباس تغضينا بعينه، فلحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.
اختيار السلطان لأهل عمله
لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان، قال له: أوصيك بثلاثة: حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس، إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء، وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك، حيث وضعتهما فقدر ضعتهما. عمال القدر. قال: وما عمال القدر؟ قال أن نختار من كل كورة رجالا لعملك فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطأوا فهم المخطئون وأنت المصيب.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطأة: أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشني، فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة: الحسن البصري وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به. فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة، يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها، فاستقضاه.
قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية دلني على قوم من القراء أولهم فقال له: القراء ضربان: ضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم.
أيوب السختياني، قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح! وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله. فقال له روح بن زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم؛ ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشعبي. فولاه قضاء البصرة.
وسأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أبا مجلز عن رجل يوليه خراسان. فقال له: ما تقول في فلان؟ قال: مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير ويمنع القليل، و يحسد أمه، وينافس أباه، ويحقر مولاه. قال: ففلان؟ قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير.
وأراد عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه أن يستعمل رجلا. فبدر الرجل فطلب منه العمل. فقال عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله، فقال له: إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي ولاية. فقال: يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا تحصيها.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك الحياة.
وتقول النصارى: لا يختار للجثلقة إلا زاهد غير طالب لها.
وقال إياس بن معاوية: أرسل إلى إلي عمر بن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكت، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل ما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال أتقرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي. قلت إن خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها لليل. قال: و ما هي؟ قلت: دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عي. قال: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدة فإن السوط يقومك. قم قد وليتك. قال: فولاني وأعطاني مائة درهم. فهي أول مال تمولته.
وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ويزيد وهشام.
وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء، فأبى عليه. قال له: وما يمنعك؟ قال مكحول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا مولى.
ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه. فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه. والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم. فخرج إليهم، فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة.
حسن السياسة وإقامة المملكة
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته. وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً، أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري. وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وقال أردشير لابنه: يا بني: إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالملك أس والعدل حارس. والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع. يا بني، اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول.
وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي ضميره لإقامة أمر دينه. فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة الرعية، ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمه على غيره مثل حكمه على نفسه. وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية.
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي، ولا عاقبت للغضب، واستكفيت، وأثبت على الغناء لا للهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووداً لم تشبه جرأة، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول.
وذكر أعرابي أمير فقال: كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف، القوي من غير عنف.
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك. وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل.
وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أكرم قريش وابن كريمها، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته.
وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وقال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره، فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل، فيبدر إليه من يسده؛ ثم يفعل ذلك بميسرته، فتغنيه اللحظة على الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا، فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا؟ وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله، وفي بعض يوم، قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغناء، فسد جميع ما ترى.
وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمر للحرب، وجاهد عدوك، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك، وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم.
وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته، من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها، وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة.
وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك، ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه، ولكن أعطهم عطاء قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء.
ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك.
وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما، وأخرى منك تحقن دماً، وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف؛ فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً. واعلم أنك تجل من الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدر لسخطك من العقاب، كما تقدر لرضاك من الثواب.
وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل.
وقال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم. فينبغي للسلطان أن يحترس منهما.
وفي كتاب التاج: أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية: و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها، ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته. وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه، قليلاً تجربته في غيره؛ ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه.
بسط المعدلة ورد المظالم