تقدمة بقلم الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة
- وهي تتضمن بإيجاز :
كلمات عن حفظ الله تعالى للسنة
وتميز المدينة المنورة بأوفى نصيب منها
وسبق علماء المدينة في تدوين الحديث
وعن تأليف مالك للموطأ
وتأريخ تأليف الموطأ
وأن الموطأ أول ما صنف في الصحيح
وعن مكانة الموطأ وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث
وعن كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه
وأن الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر
وعن يسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد
وكلمات عن مزايا الموطأ وعن روايات الموطأ عن مالك
وكلمات في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ
وكلمات في رد الجرح للراوي بالعمل بالرأي وعن ظلم جملة من المحدثين للإمامين : أبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدثين
وكلمات للإمام ابن تيمية في دفع الجرح بالعمل بالرأي وعن تحجر جل الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث والرد على من قدح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياس على السنة
وكلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي وأهمية طبع كتاب " التعليق الممجد "
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة وتقدمة إمام موطأ الإمام مالك برواية الإمام محمد بن الحسن
وهو المشهور بموطأ الإمام محمد :
حفظ الله تعالى للسنة
:
- لقد حظيت سنة النبي صلى الله عليه و سلم - وهي أحاديثه الشريفة : أقواله وأفعاله وتقريراته - من أول يوم بالعناية التامة والحفظ والرعاية والعمل بها من الصحابة الكرام والتابعين الأخيار فحفظت حفظا تاما ونقلت نقلا دقيقا تحقيقا لقول الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
فمن حفظ الذكر والكتاب الكريم حفظها فإنها مفسرة له ومعرفة بأحكامه ومراميه قال سبحانه : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }
ولقد أقام الله سبحانه في القرون الثلاثة الأولى الخيرة : رجالا تلقوا هذا الدين بفهم وبصيرة وحب وولاء وإعزاز وتكريم فآثروه على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وديارهم وهاجروا في سبيل تحصيله وضبطه وتلقيه وتبليغه وهجروا الراحة والأوطان وطافوا القرى والبلدان لتحصيل الحديث النبوي الواحد وما يتصل به من آثار السلف الصالح فبلغوا الغاية وأتوا على النهاية وكانوا بحق { خير أمة أخرجت للناس }
نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسبقها في تدوين السنة
:
- وكان لكل بلد من البلدان التي فتحها الإسلام الحنيف واستقر فيها المسلمون نصيب من العلم يختلف عن الآخر قلة وكثرة بحسب كثرة الصحابة الواردين عليه والمقيمين فيه فكان نصيب دار الهجرة النبوية : المدينة المنورة أوفى نصيب لتوفر وجود الصحابة الكرام فيها إذ كانت هي ومكة المكرمة بعد فتحها دار الإسلام الأولى ومهوى أفئدة المؤمنين
فعاشت فيها السنة وجاشت وانتشرت في آفاق الإسلام وتوارثها الناس جيلا عن جيل وقبيلا عن قبيل وكثر في دار الهجرة الفقهاء والمحدثون كثرة بالغة فقد نقل عن مالك أنه قال : عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة . فلما نشأ مالك كانت السنة قد أخذت طريقها إلى التدوين
وكان تدوينها في المدينة المنورة قبل كل الأمصار فألف فيها الإمام محمد بن شهاب الزهري المدني شيخ مالك المتوفى سنة 124 ، وموسى بن عقبة المدني شيخ مالك أيضا المتوفي سنة 141 ، ومحمد بن إسحاق المطلبي المدني المتوفى سنة 151 ، وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن المدني المتوفى سنة 158
وألف في زمن هؤلاء وبعدهم غيرهم من أئمة الحديث والسنة في مكة المكرمة والكوفة والبصرة وخراسان ولكن السبق الأول في تدوين السنة كان لعلماء المدينة الأعلام ويأتي تأليف الإمام مالك " الموطأ " في عداد الكتب التي دونت السنة في المدينة وغيرها : ( الكتاب العاشر ) تدوينا والأول تصنيفا على الأبواب الفقهية كما يستفاد من " الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة " ( للعلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى ص 327 ، وص 4 من الطبعة الرابعة ) فجاء الإمام مالك وقد تعقد التأليف في السنة بعض الشيء وبلغ مالك في الإمامة للمسلمين مبلغا رفيعا فألف كتابه العظيم : " الموطأ "
تأليف مالك الموطأ
:
- وقد ذكر العلماء أن تأليف الإمام مالك " الموطأ " إنما كان باقتراح من الخليفة العباسي إبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد ولد سنة 95 ، وتوفي سنة 158 رحمه الله تعالى - في قدمة من قدماته إلى الحج دعاه المنصور لزيارته فزاره فأكرمه أبو جعفر وأجلسه بجانبه وسأله أسئلة كثيرة فأعجبه سمته وعلمه وعقله وسداد رأيه وصحة أجوبته فعرف له مقامه في العلم والدين وإمامة المسلمين
فقد جاء أن أبا جعفر قال لمالك : ضع للناس كتابا أحملهم عليه فكلمه مالك في ذلك - أي مانعه مالك في حمل الناس على كتابة - فقال ضعه فما أحد اليوم أعلم منك فوضع " الموطأ " فلم يفرغ منه حتى مات أبو جعفر
وفي رواية : قال مالك : دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض وقد نزل عن سريره إلى بساطه فقال لي : حقيق أنت بكل خير وحقيق بكل إكرام فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر فقال لي : أنت أعلم الناس فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين قال : بلى ولكنك تكتم ذلك فما أحد أعلم منك اليوم بعد أمير المؤمنين
يا أبا عبد الله - كنية الإمام مالك - ضع للناس كتبا وجنب فيها شدائد عبد الله بن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود واقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأمة والصحابة ولئن بقيت لأكتبن كتبك بماء الذهب فأحمل الناس عليها
فقلت له : يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وغيرهم وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم فقال : " لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به " . انتهى ( هذا وما قبله من " ترتيب المدارك " للقاضي عياض 2 : 71 - 73 )
وقال العلامة المؤرخ القاضي الإمام ابن خلدون في أوائل " مقدمته " ( ص 17 - 18 ، و " انتصار الفقير السالك " للراعي الأندلسي ص 208 ) " وقد كان أبو جعفر لمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها ( أطال الإمام ابن جرير الطبري في ترجمة أبي جعفر المنصور أي إطالة في سنة تاريخ وفاته سنة 158 ، فترجم له وذكر أخباره ووصاياه ... في 54 صفحة من 8 : 54 - 108 . قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح " الموطأ " 1 : 9 ، " وذكروا أن المهدي والهادي سمعا " الموطأ " من مالك وأن الرشيد وبنيه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عن مالك " الموطأ أيضا " انتهى
فهكذا كانت نشأة الملوك في العلم في القرون الخيرة الأولى ومنه تدرك نشأة جدهم أبي جعفر المنصور في القرن الأفضل والأعلم التي أشار إليها الإمام ابن خلدون ) وهو القائل لمالك حين أشارعليه بتأليف " الموطأ " : يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر - وشواد ابن مسعود - ووطئه للناس توطئة قال مالك : فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ " . انتهى
فألف مالك " الموطأ " على هذا المنهج فالموطأ معناه : المسهل الميسر ( يقال في اللغة : وطؤ الموضع يوطؤ وطاءة ووطوءة : لان سهل فهو وطيء ووطأ الموضع صيره وطيءا ووطأ الفراش : دمثه ودثره والموطأ : المسهل الميسر . كما في " القاموس " و " المعجم الوسيط " )
وذكر العلماء أن الإمام ابن أبي ذئب معاصر الإمام مالك وبلديه - قد صنف موطأ أكبر من موطأ مالك حتى قيل لمالك : ما الفائدة في تصنيفك ؟ فقال : ما كان لله بقي ( من " الرسالة المستطرفة " ص 9 )
تأريخ تأليف الموطأ
:
- ذكر العلماء أن أبا جعفر المنصور حين حج بالناس أيام خلافته طلب من الإمام مالك أن يدون كتاب " الموطأ "
وقد استقرأت حجات أبي جعفر بعد خلافته في " تاريخ الطبري " فتبين أنها كانت خمس حجات أولها في سنة 140 ثم سنة 144 ، ثم سنة 147 ، ثم سنة 152 ، ثم سنة 158 ، التي توفي فيها بمكة حاجا محرما
ولم يتعرض الإمام ابن جرير عند ذكره هذه الحجات لأبي جعفر للحديث عن تدوين كتاب " الموطأ "
نعم تعرض لذلك ابن جرير في كتابه " ذيل المذيل " المطبوع بآخر تاريخه 11 : 659 ، فذكر القصة عن المهدي أولا ثم ذكرها عن أبي جعفر ثانيا برواية الواقدي
وتابعه على ذكر ذلك كذلك : بتقديم رواية أن المهدي هو المقترح لتأليف " الموطأ " على رواية أن المنصور هو المقترح تأليفه : الإمام ابن عبد البر في " الانتقاء " ص 40 ، فساق الروايتين من طريق ابن جرير الأولى بسنده إلى إبراهيم بن حماد الزهري المدني عن مالك . والثانية بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي عن مالك
وعلق عليه شيخنا العلامة الكوثري رحمه الله تعالى ما يلي :
وصنيع ابن جرير في
ذيل المذيل " كما هنا يؤذن بترجيحه الرواية الأولى وتحاميه عن رواية الواقدي - أن القصة مع المنصور - لكن ابن عساكر خرج في " كشف المغطا من فضل الموطا " بطرق عن مالك ما يؤيد رواية الواقدي وإن لم تخل واحد منها عن مقال . وفيه - أي في " كشف المغطى " - سماع الرشيد " الموطأ " عن مالك لما حج مع أبي يوسف
والذي يستخلص من مختلف الروايات في ذلك أن المنصور تحادث مع مالك في تدوين علم أهل المدينة عام ثمانية وأربعين ومئة محادثة إجمالية ولما حج قبل حجته الأخيرة أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم
وأما إخراجه للناس ففي سنة تسع وخمسين ومئة في عهد المهدي فلا تثبت روايته ممن تقدم على ذلك " . انتهى
وقال شيخنا الكوثري أيضا رحمه الله تعالى في مقدمته لجزء " أحاديث الموطأ واتفاق الرواه عن مالك واختلافهم فيها " للدار قطني ما يلي : " ألف عبد العزيز بن عبد لله بن أبي سلمة الماجشون كتابا فيما اجتمع عليه أهل المدينة ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه استحسن صنيعه إلى أنه أخذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب حتى قرر أن يقوم هو بنفسه بجمع كتاب تحتوي أبوابه صحاح الأخبار وعمل أهل المدينة في أبواب الفقه فيدأ يمهد السبيل لذلك
وكان المنصور العباسي بلغه شيء مما عزم عليه مالك فاجتمع به في حجته - قبل - الأخيرة في التحقيق وأوصاه أن يدون علم أهل المدينة مجتنبا رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم حيث كان جماعة من أصحاب هؤلاء ينشرون علومهم في المدينة المنورة منهم الفقهاء العشرة في أيام عمر بن عبد العزيز ولهم أصحاب وأصحاب أصحاب أدركهم مالك
فتقوت عزيمة مالك حتى تجرد لجمع الصفوة من الأحاديث والآثار المروية عند أهل المدينة ولجمع العمل المتوارث بينهم مقتصرا في الرواية على شيوخ أهل المدينة سوى ستة وهم : أبو الزبير من مكة وإبراهيم بن أبي عبلة من الشام وعبد الكريم بن مالك من الجزيرة وعطاء بن عبد الله من خراسان وحميد الطويل وأيوب السختياني من البصرة إلى أن أتم عمله في عهد المهدي العباسي كما بينت ذلك فيما علقت على " الانتقاء " لابن عبد البر " . انتهى
وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة 148 ، بشأن تدوين علم أهل المدينة وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر . . غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة 158 ، والحجة التي قبلها كانت سنة 152 والتي قبلها سنة 147 ، والتي قبلها سنة 144 ، والتي قبلها سنة 140 ، كما أسلفته عن " تاريخ ابن جرير "
ولم يحج المنصور في سنة 148 ، وإنما حج بالناس ابنه جعفر كما في غير كتاب فتكون سنة 148 سبق قلم عن 147
ثم قوله : إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة وأوصاه بتجنب ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة وهي - كما عند ابن جرير - سنة 152 ، فيه بعد أيضا فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة 140 ، أو في ثاني حجة سنة 144 ، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة 147 ، أما في رابع حجة سنة 152 ، ففيه بعد شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألف " الموطأ " بأقل من سبع سنوات لأنه قد سمعه منه المهدي سنة 159 ، على ما ذكره شيخنا في حين أن المهدي إنما حج بالناس سنة 160 ، وحج الهادي سنة 161 ، كما عند ابن جرير
والمذكور أن مالكا ألف " الموطأ " في سنين كثيرة ذكر أنها أربعون وذكر أنها دون ذلك وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات لما عرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه " الموطأ " بعد سنة 140 جزما أو بعد سنة 147 ، وفراغه منه بعد سنة 158 جزما والله تعالى أعلم
وهكذا تم تأليف هذا الكتاب " الموطأ " فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقل قوله - حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقوال الصحابة وأقوال التابعين ورأيا هو إجماع أهل المدينة لم يخرج عنها فجمع الحديث بأوسع معانيه - وما يتصل به من آثار الصدر الأول لأنها كانت المرجع الأكبر في الأحكام العملية
الموطأ أول ما صنف في الصحيح
:
- قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح " الموطأ " ( 12 : 1 ) : " وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح واعترضوا قول ابن الصلاح : أول من صنف فيه البخاري وإن عبر بقوله : الصحيح المجرد للاحتراز عن الموطأ فلم يجرد فيه الصحيح بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات فقد قال الحافظ مغلطاي : لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك لوجوده أيضا في البخاري من التعاليق ونحوها
ولكن فرق الحافظ ابن حجر : بأن ما في الموطأ كذلك مسموع لمالك غالبا قال : " وما في البخاري قد حذف إسناده عمدا لأغراض قررتها في " التغليق " تظهر أن ما في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ " بل قال الحافظ مغلطاي : أول من صنف الصحيح مالك
وقول الحافظ : هو صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة : تعقبه السيوطي بأن ما فيه من المراسيل - مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة - هي حجة عندنا أيضا لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء
وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل وقال : وجميع ما فيه من قوله : بلغني ومن قوله : عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة لا تعرف : أحدها : إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن . والثاني : أن النبي صلى الله عليه و سلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر والثالث قول معاذ : آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه و سلم - وقد وضعت رجلي في الغرز - أن قال : حسن خلقك إلى الناس . والرابع : إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة "
وتعقب الحافظ ابن حجر أيضا الشيخ صالح الفلاني فقال ( كما في " الرسالة المستطرفة " ص 5 - 6 ) : " وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات الموطأ ومعلقات البخاري : نظر فلو أمعن الحافظ النظر في الموطأ كما أمعن النظر في البخاري لعلم أنه لا فرق بينهما وما ذكره من أن مالكا سمعها كذلك غير مسلم لأنه يذكر بلاغا في رواية يحيى مثلا أو مرسلا فيرويه غيره عن مالك موصولا مسندا
وما ذكر من كون مراسيل الموطأ حجة عند مالك ومن تبعه دون غيرهم : مردود بأنها حجة عند الشافعي وأهل الحديث لاعتضادها كلها بمسند ذكره ابن عبد البر والسيوطي وغيرهما
وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف : مردود بأن ابن عبد البر ذكر أن جميع بلاغاته ومراسليه ومنقطعاته كلها موصولة بطرق صحاح إلا أربعة فقد وصل ابن الصلاح الأربعة بتأليف مستقل وهو عندي وعليه خطه فظهر بهذا أنه لا فرق بين " الموطأ والبخاري " وصح أن مالكا أول من صنف في الصحيح كما ذكره ابن العربي وغيره "
مكانة " الموطأ " وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث
:
- تأليف الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية لا ينهض به إلا فقيه يدري معاني الأحاديث ويفقه مداركها ومقاصدها ويميز بين لفظ ولفظ فيها وهذا النمط من العلماء المحدثين الفقهاء يعد نزرا يسيرا بالنظر إلى كثرة المحدثين الرواة والحفاظ الأثبات إذ الحفظ شيء والفقه شيء آخر أميز منه وأشرف وأهم وأنفع فإن الفقه دقة الفهم للنصوص من الكتاب والسنة - عبارة أو إشارة صراحة أو كناية - وتنزيلها منازلها في مراتب الأحكام لا وكس ولا شطط ولا تهور ولاجمود
وهذه الأوصاف عزيزة الوجود في العلماء قديما فضلا عن شدة عزتها في الخلف المتأخر ويخطئ خطأ مكعبا من يظن أويزعم أن مجرد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه يجعل من فاعل ذلك فقيها عارفا بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط . قال محمد بن يزيد المستملي : سألت أحمد بن حنبل عن - شيخه - عبد الرزاق - صاحب المصنف المطبوع في أحد عشر مجلدا - : أكان له فقه ؟ فقال : ما أقل الفقه في أصحاب الحديث ( كما في ترجمة ( محمد بن يزيد المستملي ) في " طبقات الحنابلة " لابن أبي يعلى 329 : 1 )
وجاء في " تقدمة الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم ( ص 293 ) في ترجمة ( أحمد بن حنبل ) وفي " مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي ( ص 63 ) وفي " تاريخ الإسلام " للذهبي - مخطوط - من طريق ابن أبي حاتم في ترجمة ( أحمد بن حنبل ) أيضا ما يلي :
قال إسحاق بن راهويه : كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة فيقول يحيى بن معين من بينهم : وطريق كذا فأقول : أليس قد صح هذا بأجماع منا ؟ فيقولون : نعم فأقول : ما مراده ؟ ما تفسيره ؟ ما فقهه ؟ فيبقون - أي يسكتون مفحمين - كلهم إلا أحمد بن حنبل
انتهى
كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه
:
- قال عبد الفتاح : هذا النص يفيدنا بجلاء أن المعرفة التامة بعلم الحديث - ولو من أولئك الأئمة الكبار أركان علم الحديث في أزهى عصور العلم - لا تجعل المحدث الحافظ ( فقيها مجتهدا ) إذ لو كان الاشتغال بالحديث يجعل ( الحافظ ) : ( فقيها مجتهدا ) لكان الحفاظ الذين لا يحصى عددهم والذين بلغ حفظ كل واحد منهم للمتون والأسانيد ما لا يحفظه أهل مصر من الأمصار اليوم : أولى بالاجتهاد ولكنهم صانهم الله تعالى فما زعموه لأنفسهم
بل إن سيد الحفاظ الإمام ( يحيى بن سعيد القطان ) البصري إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل : كان لا يجتهد في استنباط الأحكام بل يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة كما في ترجمة ( وكيع بن الجراح ) في " تذكرة الحفاظ " للحافظ الذهبي ( 307 : 1 ) . وفي " تهذيب التهذيب " ( 450 : 10 ) في ترجمة ( أبي حنيفة النعمان بن ثابت ) : " قال أحمد بن سعيد القاضي : سمعت يحيى بن معين - تلميذ يحيى القطان - يقول : سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : لا نكذب الله ما سمعنا رأيا أحسن من رأي أبي حنيفة وقد أخذنا بأكثر أقواله " . انتهى
وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي محدث العراق لا يجتهد أيضا ويفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي ففي " تذكرة الحفاظ " للحافظ الذهبي ( 307 : 1 ) و " تهذيب التهذيب " ( 126 : 11 - 127 ) : " قال حسين بن حبان عن ابن معين - تلميذ وكيع - : " ما رأيت أفضل من وكيع كان يستقبل القبلة ويحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم ويفتي بقول أبي حنيفة "
وكذلك هؤلاء الحفاظ الأئمة الأجلة الذين عناهم الإمام إسحاق بن راهويه في كلمته المذكورة ومنهم يحيى بن معين كانوا لا يجتهدون وقد أخبر عنهم أنهم كانوا يفيضون في ذكر طرق الحديث الواحد إفاضة زائدة فيقول لهم : ما مراد الحديث ؟ ما تفسيره ؟ ما فقهه ؟ فيبقون كلهم إلا أحمد بن حنبل
وهذا عنوان دينهم وأمانتهم وحصافتهم وورعهم إذ وقفوا عند ما يحسنون ولم يخوضوا فيما لا يحسنون وذلك لصعوبة الفقه الذي يعتمد على الدراية وعمق الفهم للنصوص من الكتاب والسنة والآثار وعلى معرفة التوفيق بينها وعلى معرفة الناسخ والمنسوخ وما أجمع عليه وما اختلف فيه وعلى معرفة الجرح والتعديل وقدرة الترجيح بين الأدلة وعلى معرفة لغة العرب ألفاظا وبلاغة ونحوا ومجازا وحقيقة ...
ومن أجل هذا قال الإمام أحمد لما سأله محمد بن يزيد المستملي - كما تقدم - عن المحدث الحافظ الكبير ( عبد الرزاق بن همام الصنعاني ) صاحب التصانيف التي منها " المصنف " وشيخ الإمام أحمد نفسه وشيخ إسحاق بن راهويه ويحيى بن معين ومحمد بن يحيى الذهلي أركان علم الحديث وروايته في ذلك العصر وشيخ خلق سواهم المتوفى سنة 211 عن 85 سنة : " أكان له فقه ؟ فقال الإمام أحمد : ما أقل الفقه في أصحاب الحديث "
وروى الإمام البيهقي في " مناقب الشافعي " ( 152 : 2 ) : " عن الربيع المرادي قال : سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مقلاص - عبد العزيز بن عمران المتوفى سنة 234 ، الإمام الفقيه - : تريد تحفظ الحديث وتكون فقيها ؟ هيهات ما أبعدك من ذلك - ولم يكن هذا لبلادة فيه حاشاه -
قلت - القائل البيهقي - : وإنما أراد به حفظه على رسم أهل الحديث من حفظ الأبواب والمذاكرة بها وذلك علم كثير إذا اشتغل به فربما لم يتفرغ إلى الفقه فأما الأحاديث التي يحتاج إليها في الفقه فلا بد من حفظها معه فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه وبالله التوفيق
وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - هو الحاكم النيسابوري - قال : أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن قال : سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن يقول : سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - هو إسحاق بن راهويه - يقول : ذاكرت الشافعي فقال : لو كنت أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا
وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث ويسرد أبوابه سردا وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه وكان الشافعي يحفظ من الحديث ما كان يحتاج إليه وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتبه عليه وذلك لشدة اتقائه لله عز و جل وخشيته منه واحتياطه لدينه " . انتهى
قال عبد الفتاح : وفي كل من هذين النصين الغاليين فوائد عظيمة جدا ففيه أن الجمع بين الفقه والحديث على رسم أهل الحديث متعذر - إلا لمن أكرمه الله بذلك - إذ قال الشافعي في هذا : هيهات
وفيه بيان الإمام البيهقي لهذا المعنى بجلاء ووضوح وهو إمام محدث وفقيه فلكلامه مقام رفيع في هذا الباب
وفيه دعم الإمام البيهقي رحمه الله تعالى هذا الذي قاله في تفسير كلمة الشافعي لابن مقلاص بكلمة الشافعي لإسحاق بن راهويه رضي الله عنهما بشكل يقطع لسان كل مشاغب على الفقهاء من رواة الحديث بدعوى أنه أهل للاستنباط والفقه والاجتهاد في الأحكام
فهذا يحيى بن معين إمام الحفظ للحديث وإمام الجرح والتعديل يقف ساكتا في مسألة جواز تغسيل المرأة الحائض للمرأة الميتة حتى يأتي الإمام أحمد بن حنبل فيفتيهم بجواز ذلك ويذكر لهم دليله مما هو محفوظ لديهم كل الحفظ من عدة طرق . كما سيأتي نقله قريبا
وهذا الإمام الشافعي يقول لإسحاق بن راهويه : لو كنت أحفظ ما تحفظ لغلبت أهل الدنيا . وفيه بيان تميز الشافعي بالفقه وتميز ابن راهويه بالحفظ ولكنه لم يمكي ابن راهويه أن يبلغ مبلغ الشافعي بالفقه مع إقرار الشافعي له بالتفوق العظيم الباهر في الحفظ لأنه كما قال البيهقي : كان يسرد الحديث سردا مع أنه قد ذكره بعضهم في عداد من كان له مذهب فقهي
فسرد الحديث وحفظه وروايته : غير فهمه واستنباط معنايه على وجهها إذ خلق الله تعالى لكل علم أهلا ينهضون به ويتميزون على سواهم
الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر
:
- ولا غضاضة في هذا فالعلم رزق وعطاء من الله تعالى وهو كثير وكبير وثقيل ولا يملك كل إمام ناصية كل علم أراد معرفته فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي وتبعه الإمام ابن قدامة الحنبلي في بعض مباحث الإجماع في كتابيهما : " المستصفى " و " روضة الناظر " ما معناه : كم من عالم إمام في علم عامي في علم آخر
قال الإمام أبو حامد الغزالي في آخر رسالته : " قانون التأويل " : " واعلم أن بضاعتي في علم الحديث مزجاة " . انتهى
ومثل هذه الكلمة المملوءة بالتواضع لا يقولها هذا الإمام العظيم والمحجاج الفريد حجة الإسلام لولا ما كان عليه من السلوك السني والخلق السني والخلق السني : " أنتم أعلم بأمر دنياكم "
فهل رأيت في هؤلاء الأدعياء المدعين للاجتهاد من ينصف الواقع والحق فيقول عن نفسه فيما لا يحسنه مثل هذا ؟
خلق الله للعلوم رجالا ... ورجالا لنفشة ودعاوي
وقال الحافظ الإمام أبو عمر بن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " ( 160 : 2 ) تعقيبا على قول الإمام أحمد : " من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي ؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي قال أبو عمر : صدق أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن معين لا يعرف الشافعي . وقد حكي عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن زهير قال : سئل يحيى بن معين وأنا حاضر عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها ؟ فقال : " سل عن هذا أهل العلم " . انتهى
وجاء في " ذيل طبقات الحنابلة " للحافظ ابن رجب ( 131 : 1 ) و " المنهج الأحمد " للعليمي ( 208 : 2 ) في ترجمة ( يحيى بن منده الأصبهاني ) : " قال فوران : ماتت امرأة لبعض أهل العلم فجاء يحيى بن معين والدورقي فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائضا فجاء أحمد بن حنبل وهو جلوس فقال : ما شأنكم ؟ فقال أهل المرأة : ليس يجد غاسلة إلا امرأة حائضا فقال أحمد بن حنبل : أليس تروون عن النبي صلى الله عليه و سلم : " يا عائشة ناوليني الخمرة قالت : إني حائض فقال : إن حيضتك ليست في يدك " يجوز أن تغسلها فخجلوا وبقوا " . انتهى
يسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد
:
- فلا شك في يسر الرواية بالنظر لمن توجه للحفظ والتحمل والأداء وآتاه الله حافظة واعية فلهذا كان المتأهلون للرواية أكثر جدا من المتأهلين للفقه والاجتهاد روى الحافظ الرامهرمزي في كتابه " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " ( ص 560 ) بسنده عن أنس بن سيرين قال : " أتيت الكوفة فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث وأربع مئة قد فقهوا " . انتهى
وفي هذا ما يدل على أن وظيفة الفقيه شاقة جدا فلا يكثر عدده كثرة عدد النقلة الرواة وإذا كان مثل ( يحيى القطان ) و ( وكيع بن الجراح ) و ( عبدا الرزاق ) و ( يحيى بن معين ) وأضرابهم لم يجرؤوا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه فما أجرأ المدعين للاجتهاد في عصرنا هذا ؟ مع تجهيل السلف بال حياء ولا خجل نعوذ بالله من الخذلان
وإنما أكثرت من هذه الوقائع لأولئك الحفاظ الكبار والمحدثين الأئمة التي تبين منها أن الحفظ شيء والفقه وفهم النصوص شيء آخر لأن عددا من الناس في عصرنا يخيل إليهم أن كثرة الكتب التي تقذف بها المطابع اليوم ووفرة الفهارس التي تصنع لها : تجعل ( الإجتهاد ) أمرا ميسورا لمن أراده وهو خيال باطل وتوهم خادع
فالحفظ العجيب الذي كان عليه هؤلاء المحدثون الأكابر في القرون الأولى الزاهرة مع سيلان أذهانهم المسعفة - وليست كالكتب الجامدة الصماء - والبيئة التي كانت تجيش فيها من حولهم حلقات التحديث والتفقيه والسماع والتدريس ووفرة المحدثين والفقهاء كل ذلك لم يخولهم أن يجتهدوا ويغالطوا أنفسهم فصدقوا مع الله ومع أنفسهم ومع الناس
ولم يكونوا بحال من الأحوال أقل ذكاء من ( المتمجهدين ) في هذا العصر بل كانوا أهل ذكاء مشهور وفطنة بالغة ووعي شديد وانقطاع للعلم ولكنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما لا يحسنون واقتصروا على ما يحسنون فحمدت سيرتهم وعظمت مكانتهم في النفوس ودل ذلك على حسن إسلامهم وفهمهم لواقعهم فرحمة الله تعالى عليهم ورضوانه العظيم
قال الحافظ الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " ( 81 : 2 ) : " وليعلم أن الإكثار من كتب الحديث وروايته لا يصير بها الرجل فقيها إنما يتفقه باستنباط معانيه وإنعام التفكر فيه " وساق الشواهد الكثيرة الناطقة على ذلك
فكتاب " الموطأ " تأليف محدث فقيه وإمام مجتهد بارع كبير تميز بمزايا لا توجد في سواه من الكتب المصنفة في الحديث الشريف
مزايا " الموطأ "
:
- لكتاب " الموطأ " مزايا كثيرة تميز بها عن سواه من كتب الحديث الشريف أتعرض هنا إلى جملة منها باختصار :
فمزية " الموطأ "
أولا : أنه تأليف إمام فقيه محدث مجتهد متقدم كبير متبوع شهد له أئمة عصره ومن بعدهم بالإمامة في الفقه والحديث دون منازع . روى الحافظ ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 1 / 1 : 25 ) " عن علي بن المديني قال : كان حديث الفقهاء أحب إليهم من حديث المشيخة "
وقال الإمام ابن تيمية في " منهاج السنة النبوية " ( 115 : 4 من طبعة بولاق ) : " قال أحمد بن حنبل : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه . وقال علي بن المديني : أشرف العلم الفقه في متون الأحاديث ومعرفة أحوال الرواة " . انتهى
وفي " تدريب الراوي للحافظ السيوطي ( ص 8 ) : " قال الأعمش : حديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ " . وعقد الحافظ الرامهرمزي بابا طويلا في ( فضل من جمع بين الرواية والدراية ) ( ص 238 وما بعدها ) وعقد بعده الحافظ الخطيب البغدادي في آخر كتابه " الكفاية " ( ص 433 ) : ( باب القول في ترجيح الأخبار ) وذكر فيه ما يتصل بتفضيل حديث الفقيه على غيره
ومزيته ثانيا : أنه أطبق العلماء على الثناء عليه وتبجيله وكثر كلامهم في مدحه وتقريظه وأكتفي هنا بكلمات قالها إمام الأئمة الفقيه المحدث المجتهد المتبوع الإمام الشافعي رضي الله عنه وحسبك به وكفى
قال : ما على ظهر الأرض كتاب أصح بعد كتاب الله من كتاب مالك . وفي لفظ آخر : ماعلى الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك . وفي لفظ آخر : ما بعد كتاب الله تعالى أكثر صوابا من موطأ مالك . وفي لفظ آخر : ما بعد كتاب الله كتاب أنفع من الموطأ
وتنوع هذه العبارات يفيد تكرار ثناء الإمام الشافعي رضي الله عنه على كتاب الموطأ أكثر من مرة في أوقات متعددة
ومزيته ثالثا : أنه من مؤلفات منتصف القرن الثاني من الهجرة فهو سابق غير مسبوق بمثله إذ هو أول كتاب في بابه وللسابق فضل ومزية إذ هو الإمام الذي سن التأليف الحديثي على أبواب الفقه واقتدى به المؤتمون من ورائه مثل عبد الله بن المبارك والبخاري ومسلم وسعيد بن منصور وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وسواهم
فهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثناءنا الجميلا
ومزيته رابعا : أنه يرويه عن مؤلفه إمام فقيه محدث مجتهد كبير متبوع مشهود له بالإمامة في الفقه والحديث والعربية الإمام محمد بن الحسن الشيباني لازم شيخه مالكا ثلاث سنين وسمع منه الكتاب بلفظه فتملأ وتروى ونهل وعب من فقهه وعلمه وروايته مع ما كان عليه من الذكاء النادر والفطنة التامة وفقاهة النفس والبدن
ومزيته خامسا : أنه من رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف وشيخ الإمام الشافعي وقد أتقن روايته عن شيخه مالك وأضاف بعد روايته أحاديث الباب بيان مذهبه في المسألة موافقا أو مخالفا وبيان مذهب شيخة الإمام أبي حنيفة فيها وموافقته له أو مخالفته وبيان مذهب شيخة الإمام مالك أحيانا ومذهب عامة فقهائنا أيضا
ويعقب في كثير من الأبواب ببيان معنى الحديث وتوجيهه وما يستحسنه أو يستحبه أو يكرهه من وجوه المسألة . وقد يفصل تفصيلا وافيا الأقوال والفروق بين مذهبه ومذهب شيخة الإمام أبي حنيفة أو مذهب شيخه الإمام مالك ويبين أحوال المسألة وأحكامها كما في الباب 18 ( باب الوضوء من الرعاف ) . وقد يسوق تأييدا لما ذهب إليه مخالفا جملة أحاديث في الباب - عن غير مالك - عن أبي حنيفة وغيره
وذكر في بعض الأبواب 16 ستة عشر حديثا من غير طريق مالك كما في الباب 5 ( باب الوضوء من مس الذكر ) تأييدا لمذهبه من عدم نقض الوضوء بمسه . وهذا عدد كبير جدا في الباب
وقد يورد في بعض الأبواب - لتأييد مذهبه - ستة أحاديث أو سبعة أحاديث أو أكثر أو أقل من غير طريق مالك أيضا كما تراه في الباب 17 ( باب الاغتسال يوم الجمعة )
وهذا عدد كبير في الباب أيضا
ولكثرة ما رواه من الأحاديث فيه من غير طريق مالك ولكثرة ماذكره فيه أيضا من اجتهاده وفقهه وفقه أبي حنيفة وغيره في كل باب تقرييا ومذاهب بعض الصحابة في بعض الأبواب اشتهر هذا الكتاب باسم ( موطأ الإمام محمد )
ولا غرابة في ذلك إذ لم يكن ( موطأ محمد ) مجرد كتاب يروى بحروفه كما سمعه راويه من مؤلفه دون زيادة أو تعليق أو استدراك بل هو كتاب فيه فقه الإمام محمد وفقه شيخه الإمام أبي حنيفة وفقه عامة أصحابنا الحنفية قبل الإمام محمد ومذاهب بعض الصحابة ومناقشته أيضا لما ذهب إليه مالك أو غيره
فهو مدونة من فقه أهل الحديث والاجتهاد والرأي في الحجاز والعراق مع الموازنة بين تلك الآراء والمذاهب في المسألة
وهذه ميزة غالية جدا عند من يدركها ويعرف قيمتها فلا غرابة أن يضاف ( الموطأ ) هذا إلى روايه لأنه من طريقه يروى ولأنه أضاف إليه أحاديث كثيرة وأدخل فيه علما زائدا غير قليل يتصل بفقه الحديث وأحكام الباب ومقابلة الاجتهاد بمثله