--------------------------------------------------------------------------------
( 23 )
عقيل
لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء ، من رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النبي : « إني أحب عقيلا حبين ، حبا له وحبا لحب أبي طالب له (1) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.
على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا ، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.
____________
1) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج3 ص576 ، وتذكرة الخواص ص7 ، والسير الحلبية ج1 ص304 ، ونكت الهميان ص200 ، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص78 مجلس 27 سنذكرها في فضل البكاء عليه .
--------------------------------------------------------------------------------
( 24 )
وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته ، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده ، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.
ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين ، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ.
إلى الشام :
لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص82 أنه بعد شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه .
على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة ، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.
فمن ذلك أن معاوية قال له : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقال عقيل :
« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلا أن رسول الله ليس فيهم ، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلا
--------------------------------------------------------------------------------
( 25 )
قارئا ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة » (2).
وقال له معاوية : إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك ، فقال عقيل :
« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل » .(3)
ثم صاح :
يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه ، وخشي الله على نفسه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه ، وركب الضلالة واتبع الهوى ، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ، ولم تكدح فيه يمينه ، رزقا أجراه الله على يديه ، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.
ثم التفت الى معاوية وقال : أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأني بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.
فأطرق معاوية ثم قال : ما الذي يعذرني من بني هاشم ، وأنشأ :
أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا * فيأبــوا لدى الإكرام أن يكرموا
وذا عطفتني رقتــان عليهــم * نأوا حســدا عني فكانوا هُم همُ
وأعطيتهم صفو الأخــا فكأنني * معـا وعطاياي المباحــة علقم
واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه * من القــوم إلا الهز بريّ المعمَم
حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة * وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم
أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.
فأجابه عقيل :
____________
2) الدرجات الرفيعة بترجمته.
3) العقد الفريد ج2 ص134 في باب الأجوبة المسكتة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 26 )
غديرك منهـم من يلـوم عليهم * ومن هـو منهـم في المقالة أظلم
لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة * ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم
أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة * إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ
فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه * وخيركم المبسوط والشر فالزموا
ثم رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم ، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة ، وعقولكم لكاسية ، وحفظكم الأوامر ، وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى ، فكتب اليه عقيل :
صدقت وقلت حقا غير أنـي * أرى ألا أراك ولا تـرانــي
ولست أقول سوء في صديقي * ولكنــي أصد إذا جفـانـي
فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه (4). فقال معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد ؟ فأنشأ يقول :
وإني امرؤ مني التكرم شيمة * إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال : يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها ، وأظلتك بسرادقاتها ، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.
فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي ، ثم قال له : لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة (5).
هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.
كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما
____________
4) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.
5) العقد الفريد ج1 ص135.
--------------------------------------------------------------------------------
( 27 )
والاها وذلك بعد حادثة صفين.
كتاب عقيل
فإنه كتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب : سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت : إلى أين يا أبناء الشائنين ، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره ؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.
فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما ، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع ، والسلام.
كتاب أمير المؤمنين
وكتب اليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه ، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب ، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع عنك ابن أبي ـ
--------------------------------------------------------------------------------
( 28 )
سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.
ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه بالعداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه الجهد ، وجروا اليه جيش الأحزاب ، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول ، وسابقتني في الإسلام ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمدلله على كل حال.
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها ، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ علىالسماوة حتى قربوا من واقصة وشراف ، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فرّها ربا ، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.
وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه ، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق ، والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت علىالحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت ، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد » (6) ولكنه كما قال أخو بني سليم :
فان تسألينـي كيف أنت فإنني * صبور علي ريب الزمان صليب
يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة * فيشمت بــاغ أو يسـاه حبيب
وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة (7) يدلنا على أنه كان مع أخيه
____________
6) الجملة بين قوسين في النهج ج2 ص64.
7) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج15 ص44 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج1 ص155 ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص45 ، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل ، وفي جمهرة رسائل العرب ج1 ص596.
--------------------------------------------------------------------------------
( 29 )
أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في حياته غير مفارق له ، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة ، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.
إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده ، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.
حديث الحديدة :
أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة ، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة ، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه ، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى ، نزاعة للشوى ، وهو مضطرم بين اوارها.
فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية ، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل ـ وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة ـ التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم ، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.
افتراء على عقيل :
قال الصفدي : لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش ، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب ، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله
--------------------------------------------------------------------------------
( 30 )
يصلي عليها ، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق (.
واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين ، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياء ـ عليه السلام ـ بشيء من تلك المفتريات . فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته ، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.
قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنه قال : مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا ، أن عقيلا ليرمد فيقول : لا تذروني حتى تذروا عليا ، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.
لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب . كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة ، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة ، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين ، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف ، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.
إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير ؛ « استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ».
نعم كان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يقول غير مرة : « ما زلت مظلوما (9)» من دون تلك الزيادة ، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب علىالأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة ، ولا نص من صاحب الشريعة ، ولا فقه ناجع ، ولا إقدام في الحروب ، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم ، وألصقوها بالسيد الكريم ، وما أسرع أن عاد
____________
نكت الهميان ص200.
9) الشافي للسيد المرتضى ص203.
--------------------------------------------------------------------------------
( 31 )
السهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.
الخلف عن عقيل :
الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث : « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح ، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر ، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد ، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.
إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل ، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.
ومن هنا كان السجاد ـ عليه السلام ـ يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر ، فقيل له في ذلك ، قال :
« إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ فأرق لهم (10) ».
فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف * كمــا علا برسـول الله عدنان
فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.
ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين ، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.
وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة ، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا ، وحفيد
____________
10) كامل الزيارة لابن قولويه ص107.
--------------------------------------------------------------------------------
( 32 )
عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة 334 هـ.
ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.
وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور ، له أدب وفضل مات سنة 330 ، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان (11).
وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة 698 ، وتوفي سنة 769 ، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس (12).
ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري ، فقيه من فقهاء الامامية ، متبحّر في العلم ، واسع الاطلاع ، قيق النظر ، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وميرزا حبيب الله الرشتي ، سكن النجف ، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر ، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق ، منها كفاية الموحدين في أصول الدين ، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات ، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهر ـ قدس سره ـ ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة ، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة 1321 هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف (13).
وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة
____________
11) عمدة الطالب.
12) طبقات القراء ج1 ص428 .
13) أعيان الشيعة ج11 ص253.
( 23 )
عقيل
لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء ، من رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النبي : « إني أحب عقيلا حبين ، حبا له وحبا لحب أبي طالب له (1) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.
على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا ، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.
____________
1) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج3 ص576 ، وتذكرة الخواص ص7 ، والسير الحلبية ج1 ص304 ، ونكت الهميان ص200 ، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص78 مجلس 27 سنذكرها في فضل البكاء عليه .
--------------------------------------------------------------------------------
( 24 )
وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته ، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده ، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.
ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين ، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ.
إلى الشام :
لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص82 أنه بعد شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه .
على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة ، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.
فمن ذلك أن معاوية قال له : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقال عقيل :
« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلا أن رسول الله ليس فيهم ، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلا
--------------------------------------------------------------------------------
( 25 )
قارئا ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة » (2).
وقال له معاوية : إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك ، فقال عقيل :
« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل » .(3)
ثم صاح :
يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه ، وخشي الله على نفسه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه ، وركب الضلالة واتبع الهوى ، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ، ولم تكدح فيه يمينه ، رزقا أجراه الله على يديه ، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.
ثم التفت الى معاوية وقال : أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأني بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.
فأطرق معاوية ثم قال : ما الذي يعذرني من بني هاشم ، وأنشأ :
أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا * فيأبــوا لدى الإكرام أن يكرموا
وذا عطفتني رقتــان عليهــم * نأوا حســدا عني فكانوا هُم همُ
وأعطيتهم صفو الأخــا فكأنني * معـا وعطاياي المباحــة علقم
واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه * من القــوم إلا الهز بريّ المعمَم
حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة * وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم
أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.
فأجابه عقيل :
____________
2) الدرجات الرفيعة بترجمته.
3) العقد الفريد ج2 ص134 في باب الأجوبة المسكتة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 26 )
غديرك منهـم من يلـوم عليهم * ومن هـو منهـم في المقالة أظلم
لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة * ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم
أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة * إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ
فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه * وخيركم المبسوط والشر فالزموا
ثم رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم ، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة ، وعقولكم لكاسية ، وحفظكم الأوامر ، وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى ، فكتب اليه عقيل :
صدقت وقلت حقا غير أنـي * أرى ألا أراك ولا تـرانــي
ولست أقول سوء في صديقي * ولكنــي أصد إذا جفـانـي
فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه (4). فقال معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد ؟ فأنشأ يقول :
وإني امرؤ مني التكرم شيمة * إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال : يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها ، وأظلتك بسرادقاتها ، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.
فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي ، ثم قال له : لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة (5).
هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.
كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما
____________
4) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.
5) العقد الفريد ج1 ص135.
--------------------------------------------------------------------------------
( 27 )
والاها وذلك بعد حادثة صفين.
كتاب عقيل
فإنه كتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب : سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت : إلى أين يا أبناء الشائنين ، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره ؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.
فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما ، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع ، والسلام.
كتاب أمير المؤمنين
وكتب اليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه ، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب ، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع عنك ابن أبي ـ
--------------------------------------------------------------------------------
( 28 )
سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.
ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه بالعداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه الجهد ، وجروا اليه جيش الأحزاب ، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول ، وسابقتني في الإسلام ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمدلله على كل حال.
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها ، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ علىالسماوة حتى قربوا من واقصة وشراف ، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فرّها ربا ، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.
وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه ، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق ، والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت علىالحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت ، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد » (6) ولكنه كما قال أخو بني سليم :
فان تسألينـي كيف أنت فإنني * صبور علي ريب الزمان صليب
يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة * فيشمت بــاغ أو يسـاه حبيب
وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة (7) يدلنا على أنه كان مع أخيه
____________
6) الجملة بين قوسين في النهج ج2 ص64.
7) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج15 ص44 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج1 ص155 ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص45 ، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل ، وفي جمهرة رسائل العرب ج1 ص596.
--------------------------------------------------------------------------------
( 29 )
أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في حياته غير مفارق له ، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة ، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.
إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده ، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.
حديث الحديدة :
أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة ، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة ، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه ، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى ، نزاعة للشوى ، وهو مضطرم بين اوارها.
فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية ، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل ـ وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة ـ التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم ، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.
افتراء على عقيل :
قال الصفدي : لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش ، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب ، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله
--------------------------------------------------------------------------------
( 30 )
يصلي عليها ، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق (.
واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين ، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياء ـ عليه السلام ـ بشيء من تلك المفتريات . فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته ، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.
قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنه قال : مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا ، أن عقيلا ليرمد فيقول : لا تذروني حتى تذروا عليا ، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.
لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب . كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة ، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة ، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين ، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف ، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.
إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير ؛ « استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ».
نعم كان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يقول غير مرة : « ما زلت مظلوما (9)» من دون تلك الزيادة ، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب علىالأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة ، ولا نص من صاحب الشريعة ، ولا فقه ناجع ، ولا إقدام في الحروب ، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم ، وألصقوها بالسيد الكريم ، وما أسرع أن عاد
____________
نكت الهميان ص200.
9) الشافي للسيد المرتضى ص203.
--------------------------------------------------------------------------------
( 31 )
السهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.
الخلف عن عقيل :
الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث : « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح ، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر ، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد ، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.
إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل ، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.
ومن هنا كان السجاد ـ عليه السلام ـ يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر ، فقيل له في ذلك ، قال :
« إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ فأرق لهم (10) ».
فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف * كمــا علا برسـول الله عدنان
فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.
ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين ، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.
وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة ، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا ، وحفيد
____________
10) كامل الزيارة لابن قولويه ص107.
--------------------------------------------------------------------------------
( 32 )
عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة 334 هـ.
ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.
وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور ، له أدب وفضل مات سنة 330 ، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان (11).
وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة 698 ، وتوفي سنة 769 ، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس (12).
ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري ، فقيه من فقهاء الامامية ، متبحّر في العلم ، واسع الاطلاع ، قيق النظر ، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وميرزا حبيب الله الرشتي ، سكن النجف ، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر ، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق ، منها كفاية الموحدين في أصول الدين ، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات ، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهر ـ قدس سره ـ ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة ، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة 1321 هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف (13).
وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة
____________
11) عمدة الطالب.
12) طبقات القراء ج1 ص428 .
13) أعيان الشيعة ج11 ص253.