المقصود أن الحسين عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض ، ولكنه كان صغيرا ، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه ، وكذلك عمر وعثمان ، وصحب أباه وروى عنه ، وكان معه في مغازيه كلها ; في الجمل وصفين ، وكان معظما موقرا ، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل ، فلما آلت الخلافة إلى أخيه ، وأراد أن يصالح معاوية شق ذلك عليه ، ولم يسدد رأي أخيه في ذلك ، بل حثه على قتال أهل الشام ، فقال له أخوه : والله لقد هممت أن أسجنك في بيت ، وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ، ثم أخرجك . فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم ، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن ، فكان معاوية يكرمهما إكراما زائدا ، ويقول لهما : مرحبا وأهلا . ويعطيهما عطاء جزيلا ، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف
ص: 477 ]
، وقال : خذاها وأنا ابن هند ، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا أحد بعدي . فقال الحسين : والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلين أفضل منا . ولما توفيالحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه ، وقد كان في الجيش الذين غزواالقسطنطينية مع ابن معاوية يزيد ، في سنة إحدى وخمسين . ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية ، كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس ، ثم ماتابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك ، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد ، بايع ابن عمر وابن عباس ، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير ، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها ، فعكف الناس علىالحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ، ويجلسون حواليه ويستمعون كلامه ، حين سمعوا بموت معاوية وخلافةيزيد ، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة ، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس ، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين ; لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه ، غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه ، ولكن أظفره الله بهم ، كما تقدم ذلك آنفا ، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين ، وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين ، وضرب أخاه عمرا وسجنه ، واقتص منه وأهانه ، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز ، واشتهر أمره وبعد صيته ،ص: 478 ]
ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين ، بل الناس إنما ميلهم إلىالحسين ، لأنه السيد الكبير ، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه ، ولكن الدولة اليزيدية كلها تناوئه .
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم ، وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد ، ومصيرالحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد ، فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، معهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية ، فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة ، ثم بعثوا بعدهما نفرا ; منهم قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكواء الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين ، ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي ، ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم ، وكتب إليهشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ،ص: 479 ]
وعزرة بن قيس ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير بن يحيى التميمي : أما بعد ؛ فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند ، والسلام عليك . فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين ، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ، ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية ; ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموتمعاوية ، وينالون منه ويتكلمون في دولته ، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن ، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم . فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق ، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما ، بعث إليه ليركب في أهله وذويه ، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه ، وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك ، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة ، فأخذ منها دليلين ، فسارا به على براري مهجورة المسالك ، فكان أحد الدليلين منهما أول هالك ، وذلك من شدة العطش ، وقد أضلوا الطريق ، فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له : المضيق . من بطن خبيت ، فتطير بهمسلم بن عقيل ص: 480 ] .
، فتلبث مسلم على ما هنالك ، ومات الدليل الآخر ، فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره ، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق ، وأن يجتمع بأهل الكوفة ; ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم ، فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له : مسلم بن عوسجة الأسدي . وقيل : نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي . فالله أعلم . فتسامع أهل الكوفة بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرةالحسين ، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم ، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا ، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا ، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليهم فقد تمهدت له البيعة والأمور ، فتجهزالحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره ، وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير ، أخبره رجل بذلك ، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به ولكنه خطب الناس ، ونهاهم عن الاختلاف والفتنة ، وأمرهم بالائتلاف والسنة ، وقال : إني لا أقاتل من لا يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي ، ولا آخذكم بالظنة ، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته ، لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته . فقام إليه رجل يقال له : عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي . فقال له : إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشم ، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين . فقال له النعمان : لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله . ثم نزل ، ص: 481 ]
فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك ، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص ، فبعث يزيد ، فعزلالنعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة ، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية وكان يزيد يستشيره ، فقال سرجون : أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا ؟ قال : نعم . قال : فاقبل مني ، فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد ، فوله إياها ، وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد ، وكان يريد أن يعزله عن البصرة فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره .
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد : إذا قدمت الكوفة فتطلب مسلم بن عقيل فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه . وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي ، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة ، فلما دخلها دخلها متلثما بعمامة سوداء ، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال : سلام عليكم . فيقولون : وعليكم السلام ، مرحبا يابن رسول الله . يظنون أنه الحسين ، وقد كانوا ينتظرون قدومه ، وتكاثر الناس عليه ، ودخلها في سبعة عشر راكبا ، فقال لهم مسلم بن عمرو الذي من جهة يزيد : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد ، فتحقق عبيد الله الخبر ، ونزل قصر الإمارة من الكوفة .
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم ، فأغلق باب القصر ، وقال : ما أنا بمسلم إليك أمانتي . فقال له عبيد الله : افتح لا فتحت . ففتح وهو يظنه الحسين ، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده ، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة ، وأمر مناديا فنادى ص: 482 ]
أن الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، فخرج إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أمير المؤمنين . أصلحه الله ، ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده . ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الحرورية وأهل الريب والخلاف والشقاق ، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب ونفي وأسقطت عرافته من الديوان .
فلما استقر أمره أرسل مولى لبني تميم - وقيل : كان مولى له اسمه معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص ، وأنه إنما جاء لهذه البيعة ، فذهب ذلك المولى ، فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بهامسلم بن عقيل ، حتى دخلها ، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى ، فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل ، فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم ، فدفع المال إلىأبي ثمامة الصائدي بأمر مسلم بن عقيل وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح وكان من فرسان العرب - فرجع ذلك المولى ، وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها ، وقد تحول مسلم بن عقيل من دارهانئ بن عروة المرادي ، إلى دار شريك بن الأعور ، ص: 483 ]
وكان من الأمراء الأكابر ، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته ، فبعث إلى هانئ يقول له : ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني . فبعثه إليه ، فقال له شريك : كن أنت في الخباء ، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء ، وهي إشارتي إليك ، فاخرج فاقتله . فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة ، وقام من بين يديه غلام يقال له : مهران . فتحدث عنده ساعة ، ثم قال شريك : اسقوني ماء . فتجبن مسلم عن قتله ، وخرجت جارية بكوز من ماء ، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت . قالها ثلاثا ، ثم قال : اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي ، أتحمونني من الماء ؟ ففهممهران الغدر ، فغمز مولاه ، فنهض سريعا وخرج ، فقالشريك : أيها الأمير ، إني أريد أن أوصي إليك . فقال : إني سأعود إليك . فخرج به مولاه ، فأذهبه وجعل يطرد به يقول له : إن القوم أرادوا قتلك . فقال : ويحك ! إني بهم لرفيق ، فما بالهم ؟ ! وقال شريك لمسلم : ما منعك أن تخرج فتقتله ؟ قال : حديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن " . وكرهت أن أقتله في بيتك . فقال : أما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد ولتكفين أمر البصرة ، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا . ومات شريك بعد ثلاث .
ص: 484 ]
وكان هانئ أحد الأمراء الكبار ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض ، فذكره عبيد الله ، وقال : ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء ؟ فقالوا : أيها الأمير ، إنه يشتكي . فقال : قد بلغني أنه يجلس على باب داره .
وزعم بعضهم أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده ، وقد هموا بقتله ، فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره ، فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة ، فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد ، فالتفتعبيد الله إلى القاضي شريح ، فقال متمثلا بقول الشاعر :
ص: 477 ]
، وقال : خذاها وأنا ابن هند ، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا أحد بعدي . فقال الحسين : والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلين أفضل منا . ولما توفيالحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه ، وقد كان في الجيش الذين غزواالقسطنطينية مع ابن معاوية يزيد ، في سنة إحدى وخمسين . ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية ، كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس ، ثم ماتابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك ، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد ، بايع ابن عمر وابن عباس ، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير ، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها ، فعكف الناس علىالحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ، ويجلسون حواليه ويستمعون كلامه ، حين سمعوا بموت معاوية وخلافةيزيد ، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة ، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس ، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين ; لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه ، غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه ، ولكن أظفره الله بهم ، كما تقدم ذلك آنفا ، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين ، وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين ، وضرب أخاه عمرا وسجنه ، واقتص منه وأهانه ، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز ، واشتهر أمره وبعد صيته ،ص: 478 ]
ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين ، بل الناس إنما ميلهم إلىالحسين ، لأنه السيد الكبير ، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه ، ولكن الدولة اليزيدية كلها تناوئه .
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم ، وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد ، ومصيرالحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد ، فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، معهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية ، فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة ، ثم بعثوا بعدهما نفرا ; منهم قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكواء الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين ، ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي ، ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم ، وكتب إليهشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ،ص: 479 ]
وعزرة بن قيس ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير بن يحيى التميمي : أما بعد ؛ فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند ، والسلام عليك . فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين ، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ، ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية ; ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموتمعاوية ، وينالون منه ويتكلمون في دولته ، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن ، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم . فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق ، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما ، بعث إليه ليركب في أهله وذويه ، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه ، وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك ، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة ، فأخذ منها دليلين ، فسارا به على براري مهجورة المسالك ، فكان أحد الدليلين منهما أول هالك ، وذلك من شدة العطش ، وقد أضلوا الطريق ، فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له : المضيق . من بطن خبيت ، فتطير بهمسلم بن عقيل ص: 480 ] .
، فتلبث مسلم على ما هنالك ، ومات الدليل الآخر ، فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره ، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق ، وأن يجتمع بأهل الكوفة ; ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم ، فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له : مسلم بن عوسجة الأسدي . وقيل : نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي . فالله أعلم . فتسامع أهل الكوفة بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرةالحسين ، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم ، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا ، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا ، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليهم فقد تمهدت له البيعة والأمور ، فتجهزالحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره ، وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير ، أخبره رجل بذلك ، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به ولكنه خطب الناس ، ونهاهم عن الاختلاف والفتنة ، وأمرهم بالائتلاف والسنة ، وقال : إني لا أقاتل من لا يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي ، ولا آخذكم بالظنة ، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته ، لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته . فقام إليه رجل يقال له : عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي . فقال له : إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشم ، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين . فقال له النعمان : لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله . ثم نزل ، ص: 481 ]
فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك ، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص ، فبعث يزيد ، فعزلالنعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة ، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية وكان يزيد يستشيره ، فقال سرجون : أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا ؟ قال : نعم . قال : فاقبل مني ، فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد ، فوله إياها ، وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد ، وكان يريد أن يعزله عن البصرة فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره .
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد : إذا قدمت الكوفة فتطلب مسلم بن عقيل فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه . وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي ، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة ، فلما دخلها دخلها متلثما بعمامة سوداء ، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال : سلام عليكم . فيقولون : وعليكم السلام ، مرحبا يابن رسول الله . يظنون أنه الحسين ، وقد كانوا ينتظرون قدومه ، وتكاثر الناس عليه ، ودخلها في سبعة عشر راكبا ، فقال لهم مسلم بن عمرو الذي من جهة يزيد : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد ، فتحقق عبيد الله الخبر ، ونزل قصر الإمارة من الكوفة .
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم ، فأغلق باب القصر ، وقال : ما أنا بمسلم إليك أمانتي . فقال له عبيد الله : افتح لا فتحت . ففتح وهو يظنه الحسين ، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده ، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة ، وأمر مناديا فنادى ص: 482 ]
أن الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، فخرج إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أمير المؤمنين . أصلحه الله ، ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده . ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الحرورية وأهل الريب والخلاف والشقاق ، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب ونفي وأسقطت عرافته من الديوان .
فلما استقر أمره أرسل مولى لبني تميم - وقيل : كان مولى له اسمه معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص ، وأنه إنما جاء لهذه البيعة ، فذهب ذلك المولى ، فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بهامسلم بن عقيل ، حتى دخلها ، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى ، فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل ، فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم ، فدفع المال إلىأبي ثمامة الصائدي بأمر مسلم بن عقيل وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح وكان من فرسان العرب - فرجع ذلك المولى ، وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها ، وقد تحول مسلم بن عقيل من دارهانئ بن عروة المرادي ، إلى دار شريك بن الأعور ، ص: 483 ]
وكان من الأمراء الأكابر ، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته ، فبعث إلى هانئ يقول له : ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني . فبعثه إليه ، فقال له شريك : كن أنت في الخباء ، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء ، وهي إشارتي إليك ، فاخرج فاقتله . فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة ، وقام من بين يديه غلام يقال له : مهران . فتحدث عنده ساعة ، ثم قال شريك : اسقوني ماء . فتجبن مسلم عن قتله ، وخرجت جارية بكوز من ماء ، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت . قالها ثلاثا ، ثم قال : اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي ، أتحمونني من الماء ؟ ففهممهران الغدر ، فغمز مولاه ، فنهض سريعا وخرج ، فقالشريك : أيها الأمير ، إني أريد أن أوصي إليك . فقال : إني سأعود إليك . فخرج به مولاه ، فأذهبه وجعل يطرد به يقول له : إن القوم أرادوا قتلك . فقال : ويحك ! إني بهم لرفيق ، فما بالهم ؟ ! وقال شريك لمسلم : ما منعك أن تخرج فتقتله ؟ قال : حديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن " . وكرهت أن أقتله في بيتك . فقال : أما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد ولتكفين أمر البصرة ، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا . ومات شريك بعد ثلاث .
ص: 484 ]
وكان هانئ أحد الأمراء الكبار ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض ، فذكره عبيد الله ، وقال : ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء ؟ فقالوا : أيها الأمير ، إنه يشتكي . فقال : قد بلغني أنه يجلس على باب داره .
وزعم بعضهم أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده ، وقد هموا بقتله ، فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره ، فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة ، فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد ، فالتفتعبيد الله إلى القاضي شريح ، فقال متمثلا بقول الشاعر :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
فلما سلم هانئ على عبيد الله قال : يا هانئ ، أين مسلم بن عقيل ؟ قال : لا أدري . فقام ذلك المولى التميمي - الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص ، فبايع في داره ، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلىمسلم - فقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم . فلما رآه هانئ قطع به وأسقط في يده ، فقال : أصلح الله الأمير ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولكنه جاء فطرح نفسه علي . فقال عبيد الله : فأتني به . فقال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه . فقال : أدنوه مني . فأدنوه فضربه بحربة على وجهه ، فشجه على حاجبه ، وكسر أنفه ، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله ، فدفع عن ذلك ، وقال عبيد الله : قد أحل الله لي دمك ; لأنك حروري . ثم أمر به ، فحبسه في جانب الدار ، وجاء قومه من بني مذحج ص: 485 ]عدل سابقا من قبل الشيخ عودة العقيلي في الإثنين فبراير 27, 2017 6:53 pm عدل 1 مرات