الشيخ ابو احمد العقيلي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الشيخ ابو احمد العقيلي

تاريخ عقيل بن ابي طالب

كتاب الاشراف بين الاصالة والانحراف : تأليف الشيخ عودة العقيلي
تحفة المطالب في تاريخ عقيل بن ابي طالب :تأليف الشيخ عودة العقيلي

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 5:53 am

    [bالشهيد
    مُسلم بنُ عقيل عليه السلام


    العَلامَةُ المَرحُوم عَبْدُ الرَّزاق المُوسَوي المقُرَّم



    قسم الدّراسات الاسلامية
    مؤسّسة البعثة


    -------

    ( 1 )

    مقدمة الناشر


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا
    محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
    أجمعين إلى قيام يوم الدين

    1 ـ المؤلف :
    مؤلف هذا الكتاب هو : « العلوي النسيب ، الفاطمي الحسيب ، المخلص في ولائه لآل الرسول ، المتفاني في حبهم ، والمتهالك في مسيرهم ، العلامة المعاصر حجة الاسلام والمسلمين ، السيد عبد الرزاق المقرّم الموسوي النجفي » (1) الذي يصل نسبه الكريم بثلاثة وعشرين ظهرا إلى الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ.
    ولد المؤلف في سنة 1316 هـ في النجف الأشرف في بيت علم وتقوى وسيادة (2).
    جده لأمّه هو السيد حسين المتوفى سنة 1334 هـ ، وخاله هو السيد أحمد المتوفى سنة 1334 هـ ، وكانا من علماء زمانهما . وأبوه ، السيد محمد المتوفى 1351 هـ ، كان كثير الاعتكاف في مسجد الكوفة .
    وكانت أمه من نساء زمانها الصالحات ، وقد توفيت سنة 1370 هـ.
    درس المغفور له على جده السيد حسين وعلى علماء عظام مثل : الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء ( ت : 1366 هـ ) ، والسيد محسن الحكيم ( ت : 1390 هـ ) ، وآقا ضياء الدين العراقي ( ت : 1361 هـ ) ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ( ت : 1365 هـ ) ، والشيخ محمد حسين النائيني ( ت : 1355 هـ ) ، والشيخ محمد جواد البلاغي ( ت : 1352 هـ ) ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ( ت : 1361 هـ ) ، والشيخ عبد الرسول الجواهري ( ت : 1389 ) ، والشيخ حسين الحلي والسيد أبو القاسم الخوئي ـ دام ظله ـ . ولقد كان لثلاثة من اساتذته ، وهم الشيخ محمد جواد
    ____________
    1) كما وصفه بذلك سماحة العلامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ـ دام ظله ـ في تقديمه على كتاب « علي الاكبر عليه السلام » للمؤلف ـ قدس سره ـ طبعة قم 1401 هـ .
    2) أرّخ المرحوم شيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه « الذريعة » سنة ولادته بـ 1412 هـ كما جاء في كتاب « معجم مؤلفي الشيعة » تأليف الشيخ على الفاضل النجفي ، ص 400 ، غير أن التاريخ الذي ورد المتن منقول من المقدمة التي كتبها نجل المؤلف لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » طبع بيروت سنة 1399 هـ ، وهو أصح.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 2 )

    البلاغي ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ، والشيخ عبدالرسول الجواهري ، تأثير بالغ في نفس مؤلفنا الجليل.
    كان المرحوم العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يكن حبا عميقا لآل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، ولقد انعكس هذا الحب الشديد في آثاره العلمية التي خلفها الفقيد . وإليكم بعض تلك الآثار :
    1 ـ « زيد الشهيد عليه السلام ».
    2 ـ « مقتل الحسين عليه السلام ». (3)
    3 ـ « المختار بن أبي عبيد الثقفي ».
    4 ـ « السيدة سكينة عليها السلام ».
    5 ـ « الصديقة الزهراء عليه السلام ».
    6 ـ « علي الاكبر عليه السلام ».
    7 ـ « الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام ».(4)
    8 ـ « الامام زين العابدين عليه السلام ».
    9 ـ « الامام الرضا عليه السلام ».
    10 ـ « الامام الجواد عليه السلام ».
    11 ـ « قمر بني هاشم ، العباس عليه السلام ».
    12 ـ « يوم الاربعين عند الحسين عليه السلام ».
    13 ـ « سر الايمان في الشهادة الثالثة » ( وهو بحث في الشهادة بولاية أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ في الأذان ».
    14 ـ « محاضرات في الفقه الجعفري ».
    وجميع هذه الكتب قد طبعت . أما كتبه التي لم تطبع بعد فهي :
    1 ـ « المنقذ الأكبر محمد صلى الله عليه وآله ».
    2 ـ « الحسن بن علي عليه السلام ».
    3 ـ « عاشوراء في الاسلام ».
    4 ـ « الأعياد في الاسلام ».
    5 ـ « زينب العقيلة عليها السلام ».
    6 ـ « ميثم التمار ».
    8 ـ « أبو ذر الغفاري ».
    ____________
    3) ترجم هذين الكتابين إلى الفارسية الشيخ عزيز الله عطاردي وطبعتهما « انتشارات جهان ».
    4) الكتب الاربعة الأخيرة ترجمها إلى الفارسية حسن طارمي ونشرتها « انتشارات ميقات ».
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 3 )

    8 ـ « عمار بن ياسر ».
    9 ـ « نقل الأموات في الفقه الاسلامي ».
    10 ـ « نقد التاريخ في المسائل الست ».
    11 ـ « حلق اللحية ».
    12 ـ « ربائب الرسول صلى الله عليه وآله ».
    13 ـ « لكني والألقاب ».
    14 ـ « حاشية على كفاية الاصول ».
    15 ـ « حاشية على المكاسب للشيخ الانصاري ».
    16 ـ « نوادر الآثار ».
    17 ـ « يوم الغدير ».
    وقد كان المرحوم المقرم ، علاوة على تأليفاته المذكورة ، يتعاون مع الكثيرين ممن كانوا يتصدون لطبع كتب الشيعة القديمة ، ويكتب لها المقدمات والتعليقات القيمة . من ذلك :
    1 ـ « دلائل الامامة » للطبري الامامي.
    2 ـ « الامالي » للشيخ المفيد.
    3 ـ « الخصائص » للسيد الرضي.
    4 ـ « الملاحم » لابن طاووس.
    5 ـ « فرحة الغري » للسيد عبد الكريم بن طاووس.
    6 ـ « إثبات الوصية » للمسعودي.
    7 ـ « الكشكول » للسيد حيدر الآملي.
    8 ـ « بشارة المصطفى » لعماد الدين الطبري.
    9 ـ « الجمل » للشيخ المفيد.
    10 ـ « طرف من الانباء والمناقب » لابن طاووس.
    وكان العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يقيم كل سنة عددا من المجالس في مواليد المعصومين ووفياتهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وقد ضم كتابه « نوادر الآثار » طائفة من القصائد التي ألقيت في تلك المجالس ، كما نشرت طائفة أخرى منها في عدد من كتبه المطبوعة . وله أبيات في التوسل بأهل بيت الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ والتمسك بأذيالهم ، منها هذان البيتان يخاطب بهما أبا الفضل العباس ـ عليه السلام ـ :


    أبا الفضل يا نور عين الحسين * ويا كافــل الظعن يوم المسير
    أتعـرض عني وأنت الجـواد * وكهــف لمن بالحمى يستجير

    وفي 17 محرم الحرام من سنة 1391 هـ وافى الأجل العلامة السيد عبدالرزاق المقرم فانتقل


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 4 )

    إلى دار البقاء عن عمر قضاه في خدمة آل البيت ـ عليهم السلام ـ وإحياء ذكرهم الكريم.
    وقد أرخ لوفاته الشيخ أحمد الوائلي في قصيدة رثاه بها فقال :


    « رحت عبدالرزاق للرزاق » ( 1391 هـ ) (5)

    2 ـ هذا الكتاب
    هذا الكتاب واحد من آثار مؤلفنا الفقيد الخالدة عن أول شهيد من قافلة شهداء كربلاء العظام ، وسفير سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ ونائبه ، مسلم بن عقيل عليه السلام .
    مقدمة الكتاب تتناول حياة أبي طالب ( جد مسلم ) وحياة عقيل . ويتناول الكتاب نفسه سيرة حياة نائب الامام الحسين ـ عليه السلام ـ فيورد نقاطا لم تذكر من قبل عن حياة مسلم ـ عليه السلام ـ ويبحثها بكل دقة وتمحيص ويسير مع مسيرته خطوة خطوة . وفي غضون ذلك يحقق في مواضيع أخرى ، مثل « الطيرة في المنظور الاسلامي » ، وغير ذلك من الدروس الأخلاقية والإجتماعية ، يتطرق إليها ضمن كلامه على حركة مسلم بن عقيل (ع) التاريخية.
    لقد طبع هذا الكتاب قبل سنوات عديدة في النجف الأشرف . واليوم أعيد طبعه بحلة قشيبة ، بعد تصحيح الأغلاط المطبعية السابقة بقدر الإمكان.
    نسأل الله تعالى أن يحشر روح المؤلف الرفيعة مع مواليه المعصومين الأربعة عشر ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وأن يزيد من توفيقنا في نشر المعارف القرآنية العظيمة وسير العترة الطاهرة . إنه سميع مجيب.
    والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله والأئمة المعصومين ، ولا سيما مولانا وصاحبنا بقية الله في الأرضين .

    قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة
    محرم الحرام 1407 هـ
    ____________
    5) لمعرفة المزيد عن حياة العلامة السيد عبدالرزاق المقرم وآثاره يمكن الرجوع إلى المصادر التالية :
    1 ـ مقالة للشيخ محمد هادي الأميني نشرت في مجلة « العدل » طبع النجف ، العدد 17 بتاريخ 14 شعبان 1391.
    2 ـ مقدمة آية الله المرعشي النجفي لكتاب « علي الأكبر » طبع قم 1401 هـ
    3 ـ « معجم مؤلفي الشيعة » ص400.
    4 ـ « الذريعة » 7|119 و121 و123 و17|167 و22|32 و24|430 و25|135.
    5 ـ مقدمة السيد محمد حسين المقرم ، نجل الفقيد لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » ، طبع بيروت 1399 هـ.
    وقد اعتمدنا هذه المقدمة كأهم مصدر استقينامه ما جاء في هذا المختصر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 5 )


    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « اني أحب عقيلا حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له وان ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال « إلى الله تعالى أشكو ما تلقى عترتي من بعدي ». الأمالي للشيخ الصدوق



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 6 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 7 )

    المقدمة
    بيت أبي طالب : (1)
    لقد كان بيت أبي طالب موطد الأساس بالنبوات ، مرفوعة معالمه بخلافة الكبرى ، وكانت آصرة النبوة ضاربة فيه من آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل الذبيح إلى ما تناسل منه ممن دان بالتوحيد وكانت له الوصاية في المحافظة على نواميس الأنبياء ، وإنك لا تجد أحدا من عمود النسب الوضاح الذي يقف عنده الحديث النبوي (2) إلا آخذا بأعضاد الشرف والسودد ، حاملا للحنيفيّة البيضاء دين السلام ، والوئام ، وشرعة الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
    وان الوقوف على بعض ما ذكره التأريخ في حق هؤلاء الرجال يشهد لهذه الدعوى المدعومة بالوجدان ، فكان « عدنان » يصارح في خطبته بأن فيمن يتناسل منه النبي الكريم خاتم الرسل أجمعين ، الداعي الى كلمة الحق ورسالة الصدق ثم أوصى باتباعه.
    ولكن ولده « معد » على نهجه أمر الله تعالى « أرميا » أن يحمله على البراق كيلا تصيبه نقمة بختنصر ، وعرّفه بأنه سيخرج من صلبه نبيا يكون خاتم الأنبياء فحمله
    ____________
    1) طبعت هذه المقدمة في كتاب العباس ـ عليه السلام ـ ولنفاد النسخ رغب جماعة في إعادتها حرصا على الفائدة.
    2) في مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص106 وكشف الغمة للاربلي ص6 : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا . وكأن السر فيه أن ما فوق عدنان من الأسماء مما يتعاصى نطق العامة بها نظرا الى غرابتها فلا يؤمن معه من التصحيف فيسبب الوهن في ساحة جلالتهم والخفة في مقدارهم وقد ولد الرسول الأعظم ووصيه أمير المؤمنين المقدم ـ صلى الله عليهما وعلى آلهما أجمعين ـ.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 8 )

    إلى أرض الشام إلى أن هدأت الفتنة (3).
    وكان نور النبوة يشع في جبهة « نزار » (4) ، وورد النهي عن سب ربيعة ومضر والياس لكونهم مؤمنين ، والياس أول من أهدى البدن الى البيت الحرام ، وأول من ظفر بمقام إبراهيم ، وقد أدرك « مدركة بن الياس » كل عز لآبائه وفي جبهته نور النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ساطع ، وكان « كنانة » بن خزيمة بن مدركة يجاهر بالدعوة الى دين « الخليل » ورفض عبادة الاصنام ، وأنّ من صلبه نبيا يدعو إلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق.
    و« فهر بن مضر » كانت العرب تهابه لجمعه خصال الخير والنور اللائح على أسارير جبهته ، ولانتصاره على حسان بن عبد كلال حين جاء من اليمن لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتا باليمن يزوره الناس فأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان في الأسر ثلاث سنين ، ثم فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة والمدينة . (5)
    ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ويعلم قريشا بأنه من ولده ، ويأمر باتباعه ، وفي المأثور من كلامه : زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا نفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ، ثم قال :


    نهار وليل واختلاف حـوادث * سـواء علينا حلوها ومريرها
    يؤبان بالأحداث حتى تأوبـا * وبالنعم الضافي علينا ستورها
    على غفلة يأتي النبـي محمد * فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

    ثم قال :

    يا ليتني شاهــد فحـواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا (6)

    إن هذه السلسلة هي التي أنتجت قصيا فعبد مناف (7) فهاشما فعبد المطلب ثم
    ____________
    3) السيرة الحلبيّة ج1 ـ ص 20.
    4) الروض الأنف للسهبلي ج1 ـ ص8.
    5) السّيرة الحلبية ج1 ـ ص9 وص19.
    6) صبح الأعشى ج1 ـ ص211.
    7) كان اسمه عبدا ثم أضيف إليه مناف لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتى ضربت إليه الركبان من أطراف الأرض فقيل عبد مناف ، وهو الصحيح كما في اثبات الوصية للمسعودي ص75 ، فما في السيرة النبوية لإبن دحلان من أن أمه أخدمته صنما اسمه مناف لا يعبأ به لأنه لم يكن من الأصنام اسمه مناف وإنما الموجود « مناة » بالتاء المثناة من فوق ، ومن هنا كان ابن الكلبي يقول في كتاب الاصنام ص 32 : لا أدري أين
    =


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 9 )

    عبدالله وأبا طالب ومنهما أشرق الكون بخاتم الأنبياء وسيد الأوصياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ.
    والذي يجب الهتاف به أن كل واحد من عمود النسب غير مدنس بشيء من رجس الجاهلية ، ولا موصوم بعبادة وثن ، وهو الذي يرتضيه علماء الحق لكونهم صديقين بين أنبياء وأوصياء ، وقد نزههم الله سبحانه في خطابه لنبيه الأقدس : « وتقلبك في الساجدين » فانه أثبت لهم بلفظ الجمع المحلى باللام السجود الحق الذي يرتضيه لهم .
    وأن ما يؤثر عنهم من الأشياء المستغربة عندنا لابد وأن تكون من الشريعة المشروعة لهم أو يكون له معنى تظهره الدراية والتنقيب.
    وليس آزر الذي كان ينحت الأصنام ، وكاهنة نمرود أبا ابراهيم ـ عليه السلام ـ الذي نزل من ظهره لأن أباه اسمه تارخ ، وآزر إما أن يكون عمه كما يرتئيه جماعة المؤرخين ، واطلاق الأب على العم شائع على المجاز وبه جاء الكتاب المجيد : « إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق » فأطلق على إسماعيل لفظ الأب ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمه كما أطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جده.
    وإما أن يكون آزر جد إبراهيم لامه كما يرتئيه المنقبون والجد للأم أب في الحقيقة ومما يؤيد أنه غير أبيه قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » فميّزه باسمه ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى باضافة الابوة عن التسمية بآزر.
    كل ذلك مضافا الى مصارحة الرسول الكريم بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فإنه ـ صلى الله عليه وآله ـ قال :

    « لما أراد الله تعالى أن يخلقنا ، صورنا عمود نور في صلب آدم فكان ذلك النور في جبينه ثم انتقل الى وصية شيث ، وفيما أوصاه ألا يضع هذا النور الإلهي إلاّ في أرحام المطهرات من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولا بها يتناقلها كابر عن كابر فولدنا الأخيار من الرجال والخيّرات المطهرات المهذبات من النساء حتى انتهينا إلى صُلب




    ____________
    =
    كان هذا الصنم ولمن كان ومن نصبه ، ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير كما في الروض الأنف ج1 ـ ص6 : أن أمه أخدمته « مناة » بالتاء المثناة فسمي عد مناة ولكن رآه قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوله عبد مناف فإنه لا شاهد عليه ، والصحيح ما عليه المسعودي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 10 )

    عبد المطلب فجعله نصفين نصف في عبدالله فصار الى آمنة ونصف أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ». (


    ولم يزل هذا الحال كما وصفناه حتى أقبل دور شيخ الأبطح أبي طالب وورده أمير المؤمنين والإمامين السطين سيدي شباب أهل الجنة والأئمة من ولد سيد الشهداء حتى يقف العدد على ناموس الدهر وولي الأمر في كل عصر عجل الله فرجه.
    ههنا يقف اليراع عن تصوير عظمة هذا البيت المنيع ، ويرتج على الكاتب ويعي الشاعر ، فإن حقيقة القداسة بين طرفي النبوة والإمامة التي جمعها هذا البيت لم تدع مسرحا لقائل أو متسعا لواصف لتقاعس القدرة البشرية عن نعت ما هو فوق مستواها ، ولا يمكنها الخبرة بحقائق أنوار عالم الملكوت .
    نعم لها الاضافة في مقدار ما يمكنها من التوصل اليه ولو في الجملة من أنه بيت نبوة وإمامة ، بيت علم ودين ، بيت عز وسؤدد.


    بيت علا سمك الضراح رفعة * فكــان أعـلا شرفا وأمنعا
    أعزّه الله فمـا تهبــط فـي * كعبتــه الأملاك إلا خضعا
    بيت من القــدس وناهيك به * محط أسرار الهدى وموضعا
    فكان مأوى المرتجي والملتجي * فمــا أعز شأنه وأمنعا (9)

    وهذه الصفات الكريمة هي التي أهلت أبا طالب ـ عليه السلام ـ لحمل أعباء الوصاية عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بعد أن تلقاها عن أبيه عبد المطلب الذي كان وصيا من الأوصياء ، وقارئا للكتب السماوية ، كما أخبر أبو طالب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك إذ قال له : كان أبي يقرأ الكتب جميعا ، وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به (10).
    وكان أبو طالب كأبيه « شيبة الحمد » عالما بما جاء به الأنبياء وأخبروا به أممهم من حوادث وملاحم لأنه وصي من الأوصياء ، وأمين على وصايا الأنبياء حتى سلمها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (11)
    ____________
    هذا حاصل أحاديث ذكرها المجلسي في البحار ج6 ـ ص6 وج9 ـ ص8.
    9) من قصيدة للعلامة الحجة السيد محمد حسين الكيشوان رحمه الله .
    10) البحار ج9 ـ ص31.
    11) مرآة العقول ج1 ـ ص362.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 11 )

    وفي ذلك يقول درست بن منصور لأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ :
    أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لا ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلي النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : قلت : دفعها على أنه محجوج به ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لو كان محجوجا به ما دفعها اليه » قلت : فما كان حال أبي طالب ؟ قال : ـ عليه السلام ـ : « أقر بالنبي وبما جاء به حتى مات ». (12)
    وقال شيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ :
    أجمعت الشيعة على أن أبا طالب لم يعبد صنما قط ، وأنه كان من أوصياء ابراهيم ـ عليه السلام ـ ، وحكى الطبرسي إجماع أهل العلم على ذلك ، ووافقه ابن بطريق في كتاب الاستدراك (13)


    وقال الصدوق : كان عبد المطلب ، وأبوطالب من أعرف العلماء ، وأعلمهم بشأن النبي ، وكانا يكتمان ذلك عن الجهال والكفرة (14).



    ومما يشهد على ذلك ، الحديث الصحيح عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « والله ما عبد أبي ، ولا جدي عبد المطلب ، ولا عبد مناف ، ولا هاشم صنما ، وإنما كانوا يعبدون الله ، ويصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به ». (15)



    ويقول أبو الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ : « كان نقش خاتم أبي طالب : رضيت بالله ربا وبابن أخي محمد نبيا وبابني علي وصيا له » (16).


    مضافا إلى أن قريشا لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خصوصا لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن ما حل بهم ارتج الجبل ، وتساقطت
    ____________
    12) البحار ج9 ـ ص29.
    13) المصدر.
    14) إكمال الدين ص102.
    15) المصدر ص104.
    16) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 12 )

    الأصنام ، ففزعوا إلى أبي طالب لأنه مفزع اللاجي وعصمة المستجير ، وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلا الى المولى ـ جل شأنه ـ قائلا : إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة ، والعلوية العالية ، والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة فسكن ما حل بهم . وعرفت قريش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها ، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات وهي لا تعرف حقيقتها (17).
    ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فخصه به دون سائر بنيه وقال :


    وصيت من كنّيتــه بطالـب * عبد مناف (18) وهو ذو تجارب
    با ابن الحبيب أكرم الأقـارب * بابن الذي قد غـاب غيـر آب

    فقال أبو طالب :


    لا توصني بلامزم وواجب * إني سمعت أعجب العجائب
    من كل حبر عالم وكـاتب * بأن بحمد الله قـول الراهب

    فقال عبد المطلب : أنظر يا أبا طالب أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولم يذق شفقة أمه ، أنظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بني كلهم ، وخصصتك به ، فانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي ، هل قبلت وصيتي ؟ قال : نعم قد قبلت ، والله على ذلك شاهد.
    فقال عبد المطلب : مد يدك ، فمد يده وضرب عبد المطلب بيده على يد أبي ـ
    ____________
    17) روضة الواعظين للقتال ص69.
    18) إختلف في إسم أبي طالب على أقوال أربعة : الأول : اسمه شيبة حكاه السيوطي في شرح شواهد المغني ص 135 مصر ، الثاني : اسمه عمران حكاه ابن حجر في الإصابة ج4 ص115 بترجمته ، الثالث : كنيته حكاه الحكام النيسابوري في المستدرك ج3 ص108 ، عن محمد بن إسحاق ، الرابع اسمه عبد مناف نص عليه ابن حبيب في المحبر ص16 والطبري في التاريخ ج6 ص89 ، وابن الاثير في الكامل ج3 ص158 ، وأبو الفدا في المختصر ج1 ص170 ، وحكاه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص84 عن ابن معين ، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341 ، والسيوطي في شرح الشواهد المغني ج1 ص135 ، وابن قتيبة في المعارف ص88 ، وعند ابن حجر في الإصابة : أنه المشهور ، وفي عمدة الطالب ص5 نجف هو الصحيح وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب فإنه قال :


    أوصيك يا عبد مناف بعدي * بواحد بعد أبيـــه فــرد

    وقال أيضا :


    وصيت من كنيته بطالـب * عبد مناف وهو ذو تجارب


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 13 )

    طالب ثم قال عبد المطلب : الآن خفف عليّ الموت ، ولم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أر أحدا أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها (19).
    لم ينص عبدالمطلب عليه بالوصية لمحض أنه شقيق أبيه عبدالله فلقد كان الزبير يشارك أبا طالب في ذلك وإنما هو لكفايته لتلك المرتبة القدسية فقد صاغه المهيمن سبحانه متأهلا لحمل النواميس الإلهية « شديد بأعباء الخلافة كاهله ».
    فاجتمعت فيه القابلية الذاتية والمعدات المفاضة عليه من سلفه الطاهر ومن الأوصياء الماضين وتأكدت بمصاحبة النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ آناء الليل وأطراف النهار فلا يكاد يفارقه آنا ما وبمشهد منه الإرهاصات النبوية والإفاضات الإلهية المكهربة للمواد اللائقة.
    فرح أبو طالب بهذه الخطوة من أبيه العطوف ، وراح يدخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبي الرحمة ، فقام بأمره ، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود ، والعرب ، وقريش ، وكان يؤثره على أهله ونفسه وكيف لا يفعل هذا وهو يشاهد من ابن أخيه ولما يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبة ، ورجاحة أكثر ضحكه الابتسام ، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع ، وإذا وضع له الطعام والشراب لم يتناول منه شيئا إلا قال : باسم الله الأحد ، وإذا فرغ من الطعام حمد الله وأثنى عليه ، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء (20).
    وكان يوما معه بذي المجاز فعطش أبوطالب ، ولم يجد الماء فجاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى صخرة هناك ، فركله برجله فنبع من تحتها الماء العذب (21) ، وزاد على ذلك توفر الطعام في بيته حتى أنه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النبي منه شيئا (22).
    وهذا وحده كاف في الإذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه ـ صلى الله عليه وآله ـ أضف الى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوجه من خديجة :
    « وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل » (23) .

    وكان يقول في وصيته لقريش عند الوفاة :
    ____________
    19) مرآة العقول ج1 ص368.
    20) مناقب ابن شهر آشوب.
    21) السيرة الحلبية ج1 ص139.
    22) المصدر.
    23) المصدر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 14 )

    « يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ، ولا شرفا إلا أدركتموه ، فلكم به على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب وإلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البينة فإن فيها مرضاة للرب ، وقواما للجأش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ؛ فان صلة الرحم منسأة للأجل وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة ؛ فإن فيهما محبة للخاص ومكرمة للعام .
    واني اوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب كأني أنظر الى صعاليك العرب وأهل الوبر الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظموه ، فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ، ودورها خرابا ، وأعظمهم عليه أحوجهم اليه ، وأبعدهم أقربهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها.
    دونكم يا معشر قريش المحافظة على ابن أخيكم وكونوا له ولاة ولحزبه حماة ؛ والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا سعد ، ولا يأخذ بهديه إلا رشد ، ولو كان للنفس مدة ، وللأجل تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهي.










    وأنشد :
    أوصي بنصر النبي الخيـر مشهـده * عليــا ابنـي وشيــخ القوم عباسا
    وحمـزة الأسد الحامــي حقيقتـه * وجعفـرا أن يذودا دونــه الناســا
    كونوا فداء لكم أمي وما ولـــدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا (24)

    ولما جاء العباس إلى أبي طالب يخبره بتألب قريش على معاداته قال له :
    ____________
    24) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب ، واختصر هذه الوصية في تاريخ الخميس ج1 ص339 ، وطراز المجالس للخفاجي ص217 ، وثمرات الأوراق للحموي بهامش المستطرف ج2 ص10 ، وبلوغ الأرب ج1 ص327 ط أول ، وأسنى المطالب لزيني دحلان ص5.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 15 )

    « إن أبي أخبرني أن الرسول على حق ولا يضره ما عليه قريش من المعادات له ، وإن أبي طان يقرأ الكتب جميعا وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركته فآمنت به فمن أدركه فليؤمن به (25) ».


    واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب الإلهية مع أنه كان يقرؤها مثله ، يدلنا على تفننه في تنسيق القياس ، وإقامة البرهان على صحة النبوة وأن الواجب اعتناق شريعته الحقة.
    أما هو نفسه فعلى يقين من أن رسالة ابن أخيه خاتمة الرسالات ،وهو افضل من تقدمه قبل أن يشرق نور النبوة على وجه البسيطة ، ولم تجهل لديه صفات النبي المبعوث ، وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهل العلم من الأحبار حينما أسر إليه بأن ابن أخيه الروح الطيبة والنبي المطهر على لسان التوراة والإنجيل فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشو الخبر ، ثم قال له : إن أبي أخبرني أنه النبي المبعوث وأمر أن أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ولو لم يكن معتقدا صدق الدعوة لما قال لأخيه حمة لما أظهر الإسلام (26) :


    فصبرا أبا يعلى على دين أحمـد * وكـن مظهرا للدين وفقت صابرا
    وحط من أتى بالدين من عند ربه * بصـدق وحق لا تكن حمز كافرا
    فقد سريــي إذ قلت أنك مؤمـن * فكـن لرسول الله في الله ناصرا
    وناد قريشا بالــذي قد أتيتــه * جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا

    وقال رادا على قريش (27) :


    ألم تعلموا أنا وجدنا مـحـمـدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب

    وقال (28) :


    وأمسى ابن عبدالله فيننا مصدّقـا * على سخط من قومنا غير معتب

    وقال (29) :
    ____________
    25) الحجة على الذاهب ص65.
    26) المصدر ص71.
    27) خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261.
    28) الحجة على الذاهب ص45.
    29) شرح النهج الحديدي ج3 ص313.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 16 )


    أمين محب في العبـاد مســوم * بخاتــم رب قاهـر للخواتــم
    يرى الناس برهانـا عليه وهيبة * وما جاهل في فعلـه مثل عالـم
    نبي أتاه الوحــي من ربــه * فمن قال لا ، يقـرع بها سن نادم

    ومما خاطب بها النجاشي :


    تعلم خيـار النــاس أن محمدا * وزير لموسى والمسيح ابن مريم
    أتى بالهدى مثل الذي أتيا بــه * فكــل بأمر الله يهدي ويعصم
    وإنكــم تتلونـه في كتابكــم * بصدق حديث لا حديث المترجم
    فلا تجعلـوا لله نـدا وأسلمــوا * فإن طريـق الحـق ليس بمطلم

    وقال (30) :


    اذهب بني فما عليك غضاضة * اذهب وقر بذاك منك عيونــا
    والله لن يصلوا اليك بجمعهـم * حتى أوسدفي التـراب دفينــا
    ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * وصدقت ثم وكنت قبل أمينــا
    وذكرت دينا لا محالــة أنـه * من خير أديــان البرية دينـا

    وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحدا الريب في إيمان أبي طالب ؟ وهل يجوز على من يقول إنا وجدنا محمدا كموسى نبيا إلا الإعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين ؟ وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله « فأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا » ؟ ، وهل فرق بين أن يقول المسلم : أشهد أن محمدا رسول الله وبين أن يقول (3) :


    وإن كان أحمد قد جاءهم * بصـدق ولم يتهم بالكذب

    أو يعترف الرجل بأن محمدا كموسى وعيسى جاء بالهدى ، والرشاد مثل ما أتيا به ، ثم يحكم عليه بالكفر ؟ ، وهل هناك جملة يعبر بها عن الاسلام اصرح من قول المسلم :


    وذكرت دينا لا محالة أنه * من خير أديان البرية دينا

    ____________
    30) أورد الأبيات الزمخشري في الكشاف ج1 ص448 طع سنة 1308 ، وابن دحلان في السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية ج1 ص97 طبع سنة 1329 ، وأوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص306 باختلاف يسير ، وفي خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261 ، والإصابة ج4 ص116 ، وبلوغ الأرب ج2 ص325 طب سنة 1342 ذكر البيت الثالث والرابع ، وفي السيرة الحلبية ج1 ص313 البيت الثاني ، وفي تاريخ أبي الفدا ج1 ص120 ثلاثة ابيات باختلاف يسير.
    31) شرح النهج لابن أبي الحديد ج3 ص309. [/b]
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 5:57 am


    الشهيد
    مُسلم بنُ عقيل عليه السلام


    العَلامَةُ المَرحُوم عَبْدُ الرَّزاق المُوسَوي المقُرَّم



    قسم الدّراسات الاسلامية
    مؤسّسة البعثة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 1 )

    مقدمة الناشر


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا
    محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
    أجمعين إلى قيام يوم الدين

    1 ـ المؤلف :
    مؤلف هذا الكتاب هو : « العلوي النسيب ، الفاطمي الحسيب ، المخلص في ولائه لآل الرسول ، المتفاني في حبهم ، والمتهالك في مسيرهم ، العلامة المعاصر حجة الاسلام والمسلمين ، السيد عبد الرزاق المقرّم الموسوي النجفي » (1) الذي يصل نسبه الكريم بثلاثة وعشرين ظهرا إلى الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ.
    ولد المؤلف في سنة 1316 هـ في النجف الأشرف في بيت علم وتقوى وسيادة (2).
    جده لأمّه هو السيد حسين المتوفى سنة 1334 هـ ، وخاله هو السيد أحمد المتوفى سنة 1334 هـ ، وكانا من علماء زمانهما . وأبوه ، السيد محمد المتوفى 1351 هـ ، كان كثير الاعتكاف في مسجد الكوفة .
    وكانت أمه من نساء زمانها الصالحات ، وقد توفيت سنة 1370 هـ.
    درس المغفور له على جده السيد حسين وعلى علماء عظام مثل : الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء ( ت : 1366 هـ ) ، والسيد محسن الحكيم ( ت : 1390 هـ ) ، وآقا ضياء الدين العراقي ( ت : 1361 هـ ) ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ( ت : 1365 هـ ) ، والشيخ محمد حسين النائيني ( ت : 1355 هـ ) ، والشيخ محمد جواد البلاغي ( ت : 1352 هـ ) ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ( ت : 1361 هـ ) ، والشيخ عبد الرسول الجواهري ( ت : 1389 ) ، والشيخ حسين الحلي والسيد أبو القاسم الخوئي ـ دام ظله ـ . ولقد كان لثلاثة من اساتذته ، وهم الشيخ محمد جواد
    ____________
    1) كما وصفه بذلك سماحة العلامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ـ دام ظله ـ في تقديمه على كتاب « علي الاكبر عليه السلام » للمؤلف ـ قدس سره ـ طبعة قم 1401 هـ .
    2) أرّخ المرحوم شيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه « الذريعة » سنة ولادته بـ 1412 هـ كما جاء في كتاب « معجم مؤلفي الشيعة » تأليف الشيخ على الفاضل النجفي ، ص 400 ، غير أن التاريخ الذي ورد المتن منقول من المقدمة التي كتبها نجل المؤلف لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » طبع بيروت سنة 1399 هـ ، وهو أصح.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 2 )

    البلاغي ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ، والشيخ عبدالرسول الجواهري ، تأثير بالغ في نفس مؤلفنا الجليل.
    كان المرحوم العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يكن حبا عميقا لآل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، ولقد انعكس هذا الحب الشديد في آثاره العلمية التي خلفها الفقيد . وإليكم بعض تلك الآثار :
    1 ـ « زيد الشهيد عليه السلام ».
    2 ـ « مقتل الحسين عليه السلام ». (3)
    3 ـ « المختار بن أبي عبيد الثقفي ».
    4 ـ « السيدة سكينة عليها السلام ».
    5 ـ « الصديقة الزهراء عليه السلام ».
    6 ـ « علي الاكبر عليه السلام ».
    7 ـ « الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام ».(4)
    8 ـ « الامام زين العابدين عليه السلام ».
    9 ـ « الامام الرضا عليه السلام ».
    10 ـ « الامام الجواد عليه السلام ».
    11 ـ « قمر بني هاشم ، العباس عليه السلام ».
    12 ـ « يوم الاربعين عند الحسين عليه السلام ».
    13 ـ « سر الايمان في الشهادة الثالثة » ( وهو بحث في الشهادة بولاية أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ في الأذان ».
    14 ـ « محاضرات في الفقه الجعفري ».
    وجميع هذه الكتب قد طبعت . أما كتبه التي لم تطبع بعد فهي :
    1 ـ « المنقذ الأكبر محمد صلى الله عليه وآله ».
    2 ـ « الحسن بن علي عليه السلام ».
    3 ـ « عاشوراء في الاسلام ».
    4 ـ « الأعياد في الاسلام ».
    5 ـ « زينب العقيلة عليها السلام ».
    6 ـ « ميثم التمار ».
    8 ـ « أبو ذر الغفاري ».
    ____________
    3) ترجم هذين الكتابين إلى الفارسية الشيخ عزيز الله عطاردي وطبعتهما « انتشارات جهان ».
    4) الكتب الاربعة الأخيرة ترجمها إلى الفارسية حسن طارمي ونشرتها « انتشارات ميقات ».
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 3 )

    8 ـ « عمار بن ياسر ».
    9 ـ « نقل الأموات في الفقه الاسلامي ».
    10 ـ « نقد التاريخ في المسائل الست ».
    11 ـ « حلق اللحية ».
    12 ـ « ربائب الرسول صلى الله عليه وآله ».
    13 ـ « لكني والألقاب ».
    14 ـ « حاشية على كفاية الاصول ».
    15 ـ « حاشية على المكاسب للشيخ الانصاري ».
    16 ـ « نوادر الآثار ».
    17 ـ « يوم الغدير ».
    وقد كان المرحوم المقرم ، علاوة على تأليفاته المذكورة ، يتعاون مع الكثيرين ممن كانوا يتصدون لطبع كتب الشيعة القديمة ، ويكتب لها المقدمات والتعليقات القيمة . من ذلك :
    1 ـ « دلائل الامامة » للطبري الامامي.
    2 ـ « الامالي » للشيخ المفيد.
    3 ـ « الخصائص » للسيد الرضي.
    4 ـ « الملاحم » لابن طاووس.
    5 ـ « فرحة الغري » للسيد عبد الكريم بن طاووس.
    6 ـ « إثبات الوصية » للمسعودي.
    7 ـ « الكشكول » للسيد حيدر الآملي.
    8 ـ « بشارة المصطفى » لعماد الدين الطبري.
    9 ـ « الجمل » للشيخ المفيد.
    10 ـ « طرف من الانباء والمناقب » لابن طاووس.
    وكان العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يقيم كل سنة عددا من المجالس في مواليد المعصومين ووفياتهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وقد ضم كتابه « نوادر الآثار » طائفة من القصائد التي ألقيت في تلك المجالس ، كما نشرت طائفة أخرى منها في عدد من كتبه المطبوعة . وله أبيات في التوسل بأهل بيت الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ والتمسك بأذيالهم ، منها هذان البيتان يخاطب بهما أبا الفضل العباس ـ عليه السلام ـ :


    أبا الفضل يا نور عين الحسين * ويا كافــل الظعن يوم المسير
    أتعـرض عني وأنت الجـواد * وكهــف لمن بالحمى يستجير

    وفي 17 محرم الحرام من سنة 1391 هـ وافى الأجل العلامة السيد عبدالرزاق المقرم فانتقل


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 4 )

    إلى دار البقاء عن عمر قضاه في خدمة آل البيت ـ عليهم السلام ـ وإحياء ذكرهم الكريم.
    وقد أرخ لوفاته الشيخ أحمد الوائلي في قصيدة رثاه بها فقال :


    « رحت عبدالرزاق للرزاق » ( 1391 هـ ) (5)

    2 ـ هذا الكتاب
    هذا الكتاب واحد من آثار مؤلفنا الفقيد الخالدة عن أول شهيد من قافلة شهداء كربلاء العظام ، وسفير سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ ونائبه ، مسلم بن عقيل عليه السلام .
    مقدمة الكتاب تتناول حياة أبي طالب ( جد مسلم ) وحياة عقيل . ويتناول الكتاب نفسه سيرة حياة نائب الامام الحسين ـ عليه السلام ـ فيورد نقاطا لم تذكر من قبل عن حياة مسلم ـ عليه السلام ـ ويبحثها بكل دقة وتمحيص ويسير مع مسيرته خطوة خطوة . وفي غضون ذلك يحقق في مواضيع أخرى ، مثل « الطيرة في المنظور الاسلامي » ، وغير ذلك من الدروس الأخلاقية والإجتماعية ، يتطرق إليها ضمن كلامه على حركة مسلم بن عقيل (ع) التاريخية.
    لقد طبع هذا الكتاب قبل سنوات عديدة في النجف الأشرف . واليوم أعيد طبعه بحلة قشيبة ، بعد تصحيح الأغلاط المطبعية السابقة بقدر الإمكان.
    نسأل الله تعالى أن يحشر روح المؤلف الرفيعة مع مواليه المعصومين الأربعة عشر ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وأن يزيد من توفيقنا في نشر المعارف القرآنية العظيمة وسير العترة الطاهرة . إنه سميع مجيب.
    والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله والأئمة المعصومين ، ولا سيما مولانا وصاحبنا بقية الله في الأرضين .

    قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة
    محرم الحرام 1407 هـ
    ____________
    5) لمعرفة المزيد عن حياة العلامة السيد عبدالرزاق المقرم وآثاره يمكن الرجوع إلى المصادر التالية :
    1 ـ مقالة للشيخ محمد هادي الأميني نشرت في مجلة « العدل » طبع النجف ، العدد 17 بتاريخ 14 شعبان 1391.
    2 ـ مقدمة آية الله المرعشي النجفي لكتاب « علي الأكبر » طبع قم 1401 هـ
    3 ـ « معجم مؤلفي الشيعة » ص400.
    4 ـ « الذريعة » 7|119 و121 و123 و17|167 و22|32 و24|430 و25|135.
    5 ـ مقدمة السيد محمد حسين المقرم ، نجل الفقيد لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » ، طبع بيروت 1399 هـ.
    وقد اعتمدنا هذه المقدمة كأهم مصدر استقينامه ما جاء في هذا المختصر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 5 )


    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « اني أحب عقيلا حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له وان ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال « إلى الله تعالى أشكو ما تلقى عترتي من بعدي ». الأمالي للشيخ الصدوق



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 6 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 7 )

    المقدمة
    بيت أبي طالب : (1)
    لقد كان بيت أبي طالب موطد الأساس بالنبوات ، مرفوعة معالمه بخلافة الكبرى ، وكانت آصرة النبوة ضاربة فيه من آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل الذبيح إلى ما تناسل منه ممن دان بالتوحيد وكانت له الوصاية في المحافظة على نواميس الأنبياء ، وإنك لا تجد أحدا من عمود النسب الوضاح الذي يقف عنده الحديث النبوي (2) إلا آخذا بأعضاد الشرف والسودد ، حاملا للحنيفيّة البيضاء دين السلام ، والوئام ، وشرعة الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
    وان الوقوف على بعض ما ذكره التأريخ في حق هؤلاء الرجال يشهد لهذه الدعوى المدعومة بالوجدان ، فكان « عدنان » يصارح في خطبته بأن فيمن يتناسل منه النبي الكريم خاتم الرسل أجمعين ، الداعي الى كلمة الحق ورسالة الصدق ثم أوصى باتباعه.
    ولكن ولده « معد » على نهجه أمر الله تعالى « أرميا » أن يحمله على البراق كيلا تصيبه نقمة بختنصر ، وعرّفه بأنه سيخرج من صلبه نبيا يكون خاتم الأنبياء فحمله
    ____________
    1) طبعت هذه المقدمة في كتاب العباس ـ عليه السلام ـ ولنفاد النسخ رغب جماعة في إعادتها حرصا على الفائدة.
    2) في مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص106 وكشف الغمة للاربلي ص6 : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا . وكأن السر فيه أن ما فوق عدنان من الأسماء مما يتعاصى نطق العامة بها نظرا الى غرابتها فلا يؤمن معه من التصحيف فيسبب الوهن في ساحة جلالتهم والخفة في مقدارهم وقد ولد الرسول الأعظم ووصيه أمير المؤمنين المقدم ـ صلى الله عليهما وعلى آلهما أجمعين ـ.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 8 )

    إلى أرض الشام إلى أن هدأت الفتنة (3).
    وكان نور النبوة يشع في جبهة « نزار » (4) ، وورد النهي عن سب ربيعة ومضر والياس لكونهم مؤمنين ، والياس أول من أهدى البدن الى البيت الحرام ، وأول من ظفر بمقام إبراهيم ، وقد أدرك « مدركة بن الياس » كل عز لآبائه وفي جبهته نور النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ساطع ، وكان « كنانة » بن خزيمة بن مدركة يجاهر بالدعوة الى دين « الخليل » ورفض عبادة الاصنام ، وأنّ من صلبه نبيا يدعو إلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق.
    و« فهر بن مضر » كانت العرب تهابه لجمعه خصال الخير والنور اللائح على أسارير جبهته ، ولانتصاره على حسان بن عبد كلال حين جاء من اليمن لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتا باليمن يزوره الناس فأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان في الأسر ثلاث سنين ، ثم فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة والمدينة . (5)
    ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ويعلم قريشا بأنه من ولده ، ويأمر باتباعه ، وفي المأثور من كلامه : زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا نفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ، ثم قال :


    نهار وليل واختلاف حـوادث * سـواء علينا حلوها ومريرها
    يؤبان بالأحداث حتى تأوبـا * وبالنعم الضافي علينا ستورها
    على غفلة يأتي النبـي محمد * فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

    ثم قال :

    يا ليتني شاهــد فحـواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا (6)

    إن هذه السلسلة هي التي أنتجت قصيا فعبد مناف (7) فهاشما فعبد المطلب ثم
    ____________
    3) السيرة الحلبيّة ج1 ـ ص 20.
    4) الروض الأنف للسهبلي ج1 ـ ص8.
    5) السّيرة الحلبية ج1 ـ ص9 وص19.
    6) صبح الأعشى ج1 ـ ص211.
    7) كان اسمه عبدا ثم أضيف إليه مناف لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتى ضربت إليه الركبان من أطراف الأرض فقيل عبد مناف ، وهو الصحيح كما في اثبات الوصية للمسعودي ص75 ، فما في السيرة النبوية لإبن دحلان من أن أمه أخدمته صنما اسمه مناف لا يعبأ به لأنه لم يكن من الأصنام اسمه مناف وإنما الموجود « مناة » بالتاء المثناة من فوق ، ومن هنا كان ابن الكلبي يقول في كتاب الاصنام ص 32 : لا أدري أين
    =


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 9 )

    عبدالله وأبا طالب ومنهما أشرق الكون بخاتم الأنبياء وسيد الأوصياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ.
    والذي يجب الهتاف به أن كل واحد من عمود النسب غير مدنس بشيء من رجس الجاهلية ، ولا موصوم بعبادة وثن ، وهو الذي يرتضيه علماء الحق لكونهم صديقين بين أنبياء وأوصياء ، وقد نزههم الله سبحانه في خطابه لنبيه الأقدس : « وتقلبك في الساجدين » فانه أثبت لهم بلفظ الجمع المحلى باللام السجود الحق الذي يرتضيه لهم .
    وأن ما يؤثر عنهم من الأشياء المستغربة عندنا لابد وأن تكون من الشريعة المشروعة لهم أو يكون له معنى تظهره الدراية والتنقيب.
    وليس آزر الذي كان ينحت الأصنام ، وكاهنة نمرود أبا ابراهيم ـ عليه السلام ـ الذي نزل من ظهره لأن أباه اسمه تارخ ، وآزر إما أن يكون عمه كما يرتئيه جماعة المؤرخين ، واطلاق الأب على العم شائع على المجاز وبه جاء الكتاب المجيد : « إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق » فأطلق على إسماعيل لفظ الأب ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمه كما أطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جده.
    وإما أن يكون آزر جد إبراهيم لامه كما يرتئيه المنقبون والجد للأم أب في الحقيقة ومما يؤيد أنه غير أبيه قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » فميّزه باسمه ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى باضافة الابوة عن التسمية بآزر.
    كل ذلك مضافا الى مصارحة الرسول الكريم بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فإنه ـ صلى الله عليه وآله ـ قال :

    « لما أراد الله تعالى أن يخلقنا ، صورنا عمود نور في صلب آدم فكان ذلك النور في جبينه ثم انتقل الى وصية شيث ، وفيما أوصاه ألا يضع هذا النور الإلهي إلاّ في أرحام المطهرات من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولا بها يتناقلها كابر عن كابر فولدنا الأخيار من الرجال والخيّرات المطهرات المهذبات من النساء حتى انتهينا إلى صُلب




    ____________
    =
    كان هذا الصنم ولمن كان ومن نصبه ، ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير كما في الروض الأنف ج1 ـ ص6 : أن أمه أخدمته « مناة » بالتاء المثناة فسمي عد مناة ولكن رآه قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوله عبد مناف فإنه لا شاهد عليه ، والصحيح ما عليه المسعودي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 10 )

    عبد المطلب فجعله نصفين نصف في عبدالله فصار الى آمنة ونصف أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ». (


    ولم يزل هذا الحال كما وصفناه حتى أقبل دور شيخ الأبطح أبي طالب وورده أمير المؤمنين والإمامين السطين سيدي شباب أهل الجنة والأئمة من ولد سيد الشهداء حتى يقف العدد على ناموس الدهر وولي الأمر في كل عصر عجل الله فرجه.
    ههنا يقف اليراع عن تصوير عظمة هذا البيت المنيع ، ويرتج على الكاتب ويعي الشاعر ، فإن حقيقة القداسة بين طرفي النبوة والإمامة التي جمعها هذا البيت لم تدع مسرحا لقائل أو متسعا لواصف لتقاعس القدرة البشرية عن نعت ما هو فوق مستواها ، ولا يمكنها الخبرة بحقائق أنوار عالم الملكوت .
    نعم لها الاضافة في مقدار ما يمكنها من التوصل اليه ولو في الجملة من أنه بيت نبوة وإمامة ، بيت علم ودين ، بيت عز وسؤدد.


    بيت علا سمك الضراح رفعة * فكــان أعـلا شرفا وأمنعا
    أعزّه الله فمـا تهبــط فـي * كعبتــه الأملاك إلا خضعا
    بيت من القــدس وناهيك به * محط أسرار الهدى وموضعا
    فكان مأوى المرتجي والملتجي * فمــا أعز شأنه وأمنعا (9)

    وهذه الصفات الكريمة هي التي أهلت أبا طالب ـ عليه السلام ـ لحمل أعباء الوصاية عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بعد أن تلقاها عن أبيه عبد المطلب الذي كان وصيا من الأوصياء ، وقارئا للكتب السماوية ، كما أخبر أبو طالب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك إذ قال له : كان أبي يقرأ الكتب جميعا ، وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به (10).
    وكان أبو طالب كأبيه « شيبة الحمد » عالما بما جاء به الأنبياء وأخبروا به أممهم من حوادث وملاحم لأنه وصي من الأوصياء ، وأمين على وصايا الأنبياء حتى سلمها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (11)
    ____________
    هذا حاصل أحاديث ذكرها المجلسي في البحار ج6 ـ ص6 وج9 ـ ص8.
    9) من قصيدة للعلامة الحجة السيد محمد حسين الكيشوان رحمه الله .
    10) البحار ج9 ـ ص31.
    11) مرآة العقول ج1 ـ ص362.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 11 )

    وفي ذلك يقول درست بن منصور لأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ :
    أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لا ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلي النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : قلت : دفعها على أنه محجوج به ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لو كان محجوجا به ما دفعها اليه » قلت : فما كان حال أبي طالب ؟ قال : ـ عليه السلام ـ : « أقر بالنبي وبما جاء به حتى مات ». (12)
    وقال شيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ :
    أجمعت الشيعة على أن أبا طالب لم يعبد صنما قط ، وأنه كان من أوصياء ابراهيم ـ عليه السلام ـ ، وحكى الطبرسي إجماع أهل العلم على ذلك ، ووافقه ابن بطريق في كتاب الاستدراك (13)


    وقال الصدوق : كان عبد المطلب ، وأبوطالب من أعرف العلماء ، وأعلمهم بشأن النبي ، وكانا يكتمان ذلك عن الجهال والكفرة (14).



    ومما يشهد على ذلك ، الحديث الصحيح عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « والله ما عبد أبي ، ولا جدي عبد المطلب ، ولا عبد مناف ، ولا هاشم صنما ، وإنما كانوا يعبدون الله ، ويصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به ». (15)



    ويقول أبو الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ : « كان نقش خاتم أبي طالب : رضيت بالله ربا وبابن أخي محمد نبيا وبابني علي وصيا له » (16).


    مضافا إلى أن قريشا لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خصوصا لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن ما حل بهم ارتج الجبل ، وتساقطت
    ____________
    12) البحار ج9 ـ ص29.
    13) المصدر.
    14) إكمال الدين ص102.
    15) المصدر ص104.
    16) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 12 )

    الأصنام ، ففزعوا إلى أبي طالب لأنه مفزع اللاجي وعصمة المستجير ، وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلا الى المولى ـ جل شأنه ـ قائلا : إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة ، والعلوية العالية ، والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة فسكن ما حل بهم . وعرفت قريش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها ، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات وهي لا تعرف حقيقتها (17).
    ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فخصه به دون سائر بنيه وقال :


    وصيت من كنّيتــه بطالـب * عبد مناف (18) وهو ذو تجارب
    با ابن الحبيب أكرم الأقـارب * بابن الذي قد غـاب غيـر آب

    فقال أبو طالب :


    لا توصني بلامزم وواجب * إني سمعت أعجب العجائب
    من كل حبر عالم وكـاتب * بأن بحمد الله قـول الراهب

    فقال عبد المطلب : أنظر يا أبا طالب أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولم يذق شفقة أمه ، أنظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بني كلهم ، وخصصتك به ، فانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي ، هل قبلت وصيتي ؟ قال : نعم قد قبلت ، والله على ذلك شاهد.
    فقال عبد المطلب : مد يدك ، فمد يده وضرب عبد المطلب بيده على يد أبي ـ
    ____________
    17) روضة الواعظين للقتال ص69.
    18) إختلف في إسم أبي طالب على أقوال أربعة : الأول : اسمه شيبة حكاه السيوطي في شرح شواهد المغني ص 135 مصر ، الثاني : اسمه عمران حكاه ابن حجر في الإصابة ج4 ص115 بترجمته ، الثالث : كنيته حكاه الحكام النيسابوري في المستدرك ج3 ص108 ، عن محمد بن إسحاق ، الرابع اسمه عبد مناف نص عليه ابن حبيب في المحبر ص16 والطبري في التاريخ ج6 ص89 ، وابن الاثير في الكامل ج3 ص158 ، وأبو الفدا في المختصر ج1 ص170 ، وحكاه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص84 عن ابن معين ، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341 ، والسيوطي في شرح الشواهد المغني ج1 ص135 ، وابن قتيبة في المعارف ص88 ، وعند ابن حجر في الإصابة : أنه المشهور ، وفي عمدة الطالب ص5 نجف هو الصحيح وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب فإنه قال :


    أوصيك يا عبد مناف بعدي * بواحد بعد أبيـــه فــرد

    وقال أيضا :


    وصيت من كنيته بطالـب * عبد مناف وهو ذو تجارب


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 13 )

    طالب ثم قال عبد المطلب : الآن خفف عليّ الموت ، ولم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أر أحدا أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها (19).
    لم ينص عبدالمطلب عليه بالوصية لمحض أنه شقيق أبيه عبدالله فلقد كان الزبير يشارك أبا طالب في ذلك وإنما هو لكفايته لتلك المرتبة القدسية فقد صاغه المهيمن سبحانه متأهلا لحمل النواميس الإلهية « شديد بأعباء الخلافة كاهله ».
    فاجتمعت فيه القابلية الذاتية والمعدات المفاضة عليه من سلفه الطاهر ومن الأوصياء الماضين وتأكدت بمصاحبة النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ آناء الليل وأطراف النهار فلا يكاد يفارقه آنا ما وبمشهد منه الإرهاصات النبوية والإفاضات الإلهية المكهربة للمواد اللائقة.
    فرح أبو طالب بهذه الخطوة من أبيه العطوف ، وراح يدخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبي الرحمة ، فقام بأمره ، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود ، والعرب ، وقريش ، وكان يؤثره على أهله ونفسه وكيف لا يفعل هذا وهو يشاهد من ابن أخيه ولما يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبة ، ورجاحة أكثر ضحكه الابتسام ، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع ، وإذا وضع له الطعام والشراب لم يتناول منه شيئا إلا قال : باسم الله الأحد ، وإذا فرغ من الطعام حمد الله وأثنى عليه ، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء (20).
    وكان يوما معه بذي المجاز فعطش أبوطالب ، ولم يجد الماء فجاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى صخرة هناك ، فركله برجله فنبع من تحتها الماء العذب (21) ، وزاد على ذلك توفر الطعام في بيته حتى أنه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النبي منه شيئا (22).
    وهذا وحده كاف في الإذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه ـ صلى الله عليه وآله ـ أضف الى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوجه من خديجة :
    « وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل » (23) .

    وكان يقول في وصيته لقريش عند الوفاة :
    ____________
    19) مرآة العقول ج1 ص368.
    20) مناقب ابن شهر آشوب.
    21) السيرة الحلبية ج1 ص139.
    22) المصدر.
    23) المصدر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 14 )

    « يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ، ولا شرفا إلا أدركتموه ، فلكم به على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب وإلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البينة فإن فيها مرضاة للرب ، وقواما للجأش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ؛ فان صلة الرحم منسأة للأجل وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة ؛ فإن فيهما محبة للخاص ومكرمة للعام .
    واني اوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب كأني أنظر الى صعاليك العرب وأهل الوبر الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظموه ، فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ، ودورها خرابا ، وأعظمهم عليه أحوجهم اليه ، وأبعدهم أقربهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها.
    دونكم يا معشر قريش المحافظة على ابن أخيكم وكونوا له ولاة ولحزبه حماة ؛ والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا سعد ، ولا يأخذ بهديه إلا رشد ، ولو كان للنفس مدة ، وللأجل تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهي.










    وأنشد :
    أوصي بنصر النبي الخيـر مشهـده * عليــا ابنـي وشيــخ القوم عباسا
    وحمـزة الأسد الحامــي حقيقتـه * وجعفـرا أن يذودا دونــه الناســا
    كونوا فداء لكم أمي وما ولـــدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا (24)

    ولما جاء العباس إلى أبي طالب يخبره بتألب قريش على معاداته قال له :
    ____________
    24) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب ، واختصر هذه الوصية في تاريخ الخميس ج1 ص339 ، وطراز المجالس للخفاجي ص217 ، وثمرات الأوراق للحموي بهامش المستطرف ج2 ص10 ، وبلوغ الأرب ج1 ص327 ط أول ، وأسنى المطالب لزيني دحلان ص5.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 15 )

    « إن أبي أخبرني أن الرسول على حق ولا يضره ما عليه قريش من المعادات له ، وإن أبي طان يقرأ الكتب جميعا وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركته فآمنت به فمن أدركه فليؤمن به (25) ».


    واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب الإلهية مع أنه كان يقرؤها مثله ، يدلنا على تفننه في تنسيق القياس ، وإقامة البرهان على صحة النبوة وأن الواجب اعتناق شريعته الحقة.
    أما هو نفسه فعلى يقين من أن رسالة ابن أخيه خاتمة الرسالات ،وهو افضل من تقدمه قبل أن يشرق نور النبوة على وجه البسيطة ، ولم تجهل لديه صفات النبي المبعوث ، وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهل العلم من الأحبار حينما أسر إليه بأن ابن أخيه الروح الطيبة والنبي المطهر على لسان التوراة والإنجيل فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشو الخبر ، ثم قال له : إن أبي أخبرني أنه النبي المبعوث وأمر أن أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ولو لم يكن معتقدا صدق الدعوة لما قال لأخيه حمة لما أظهر الإسلام (26) :


    فصبرا أبا يعلى على دين أحمـد * وكـن مظهرا للدين وفقت صابرا
    وحط من أتى بالدين من عند ربه * بصـدق وحق لا تكن حمز كافرا
    فقد سريــي إذ قلت أنك مؤمـن * فكـن لرسول الله في الله ناصرا
    وناد قريشا بالــذي قد أتيتــه * جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا

    وقال رادا على قريش (27) :


    ألم تعلموا أنا وجدنا مـحـمـدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب

    وقال (28) :


    وأمسى ابن عبدالله فيننا مصدّقـا * على سخط من قومنا غير معتب

    وقال (29) :
    ____________
    25) الحجة على الذاهب ص65.
    26) المصدر ص71.
    27) خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261.
    28) الحجة على الذاهب ص45.
    29) شرح النهج الحديدي ج3 ص313.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 16 )


    أمين محب في العبـاد مســوم * بخاتــم رب قاهـر للخواتــم
    يرى الناس برهانـا عليه وهيبة * وما جاهل في فعلـه مثل عالـم
    نبي أتاه الوحــي من ربــه * فمن قال لا ، يقـرع بها سن نادم

    ومما خاطب بها النجاشي :


    تعلم خيـار النــاس أن محمدا * وزير لموسى والمسيح ابن مريم
    أتى بالهدى مثل الذي أتيا بــه * فكــل بأمر الله يهدي ويعصم
    وإنكــم تتلونـه في كتابكــم * بصدق حديث لا حديث المترجم
    فلا تجعلـوا لله نـدا وأسلمــوا * فإن طريـق الحـق ليس بمطلم

    وقال (30) :


    اذهب بني فما عليك غضاضة * اذهب وقر بذاك منك عيونــا
    والله لن يصلوا اليك بجمعهـم * حتى أوسدفي التـراب دفينــا
    ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * وصدقت ثم وكنت قبل أمينــا
    وذكرت دينا لا محالــة أنـه * من خير أديــان البرية دينـا

    وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحدا الريب في إيمان أبي طالب ؟ وهل يجوز على من يقول إنا وجدنا محمدا كموسى نبيا إلا الإعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين ؟ وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله « فأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا » ؟ ، وهل فرق بين أن يقول المسلم : أشهد أن محمدا رسول الله وبين أن يقول (3) :


    وإن كان أحمد قد جاءهم * بصـدق ولم يتهم بالكذب

    أو يعترف الرجل بأن محمدا كموسى وعيسى جاء بالهدى ، والرشاد مثل ما أتيا به ، ثم يحكم عليه بالكفر ؟ ، وهل هناك جملة يعبر بها عن الاسلام اصرح من قول المسلم :


    وذكرت دينا لا محالة أنه * من خير أديان البرية دينا

    ____________
    30) أورد الأبيات الزمخشري في الكشاف ج1 ص448 طع سنة 1308 ، وابن دحلان في السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية ج1 ص97 طبع سنة 1329 ، وأوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص306 باختلاف يسير ، وفي خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261 ، والإصابة ج4 ص116 ، وبلوغ الأرب ج2 ص325 طب سنة 1342 ذكر البيت الثالث والرابع ، وفي السيرة الحلبية ج1 ص313 البيت الثاني ، وفي تاريخ أبي الفدا ج1 ص120 ثلاثة ابيات باختلاف يسير.
    31) شرح النهج لابن أبي الحديد ج3 ص309.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 5:59 am

    كلا ، ولو لم يعرف أبوطالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله ، وهو به خبير ، وجنانه طامن : يا ابن أخي الله أرسلك ؟ قال ؟ « نعم » ، قال أبو طالب : إن للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية ، قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « يا عم ادع تلك الشجرة وقل لها : يقول لك محمد بن عبدالله : اقبلي بإذن الله » فدعاها أبو طالب فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم أمرها بالإنصراف فانصرفت .
    فقال أبوطالب : أشهد أنك صادق ، ثم قال لابنه : « يا علي الزمه . » (32) وفي بعض الأيام رأى عليا يصلي مع النبي فقال له : يا بني ما هذا الذي أنت عليه ؟ ، قال : يا آبة آمنت بالله وبرسوله وصدّقت بما جاء به ودخلت معه واتبعته ، فقال أبوطالب :
    أما أنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه (33).
    وهل يجد الباحث بعد هذا ملتحدا عن الجزم بأن شيخ الأبطح كان معتنقا للدين الحنيف ، ويكافح طواغيت قريش حتى بالصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وان أهمله فريق من المؤرخين رعاية لما هم عليه من حب الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف حنقا على ولده أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، الذي لم يتسن لهم أي غميزة فيه ، فتحاملوا على أمه وأبيه إيذاء له وإكثارا لنظائر من يرمون إكباره ، وإجلاله ممن سبق منهم الكفر ، وحيث لم يسعهم الحط من كرامة النبي والوصي ، عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات ، وستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثارا لما يروقهم إثباته.
    يشهد لذلك ما ذكره بعض الكتاب عند ذكره أسرى بدر فانه قال : وكان من الأسرى عم النبي وعقيل ابن عمه ( أخو علي ) (34).
    فلو كان غرضه تعريف المأسور لكان في تعريف عقيل بأنه ابن عم النبي كفاية كما اكتفى في تعريف العباس به ، ولم يحتج أن يكتب بين قوسين ( أخو علي ) وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين القوسين ، والى أي شيء يرمز بها الكاتب ، ولكن فاته الغرض ، وهيهات الذي أراد ففشل.
    ثم جاء فريق آخر من المؤرخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض
    ____________
    32) الحجة على الذاهب ص25.
    33) تاريخ الطبري ج2 ص214.
    34) تاريخ الأمة العربية للمقدادي ص84 مطبعة الحكومة بغداد سنة 1939م.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 18 )

    المستهدفة ، وأن ما جاؤا به حقائق راهنة فاقتصروا على مروياتهم مما دب ودرج ، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة ومن هنا أهملت حقائق ورويت أباطيل.
    فعزوا إلى أبي طالب قوله : إني لا أحب أن تعلوني أستي (35) ، ثم رووا عنه أنه قال لرسول الله : ما هذا الدين ؟ قال رسول الله :
    « دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به الى العباد ، وأنت أحق من دعوته الى الهدى وأحق من أجابني »


    فقال أبو طالب : إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي ، والله لا يخلص اليك من قريش شيء تكرهه ما حييت (36).
    فحسبوا من هذا الكلام أن أبا طالب ممن يعبد الأوثان ، كيف وهو على التوحيد أدل ، وجوابه هذا من أنفس التورية ، وأبلغ المحاورة ، فإن مراده من قوله لرسول الله عقيب قوله أنت أحق من دعوته : « إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي » . الاعتراف بايمانه وأنه باق على حنيفية إبراهيم الخليل التي هي دين الحق ودينه ودين آبائه . ثم زاد أبوطالب في تطمين النبي بالمدافعة عنه مهما كان باقيا في الدنيا.
    نعم من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواص التورية يحسب أن أبا طالب أراد بقوله : إني لا افارق ديني ـ الخ ، الخضوع للأصنام فصفق طربا واختال مرحا.
    وجاء آخر يعتذر عنه بأن شيخ الأبطح كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش ليتمكن من كلائة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وتمشية دعوته.
    نحن لاننكر أن أبا طالب كان يلاحظ شيئا من ذلك ويروقه مداراة القوم للحصول على غايته الثمينة كي لا يمس كرامة الرسول سوء لكنا لا نصافقهم في كل ما يقولونه من انسلاله عن الدين الحنيف انسلالا باتا ، فإنه خلاف الثابت من سيرته حتى عند رواة تلكم المخزيات ومهملي الحقائق الناصعة حذرا عما لا يلائم خطتهم فلقد كان يراغم الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والإئتمام بالصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ .
    ____________
    35) السيرة الحلبية ج1 ص306.
    36) الطبري ج1 ص213 وابن الأثير ج2 ص21.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 19 )

    وان شعره الطافح بذكر النبوة والتصديق بها سرت به الركبان وكذلك أعماله الناجعة حول دعوى الرسالة .


    ولولا أبو طالب وابنــه * لما مثل الدين شخصا فقاما
    فذاك بمكـة آوى وحامـا * وهذا بيثرب جس الحماما
    تكفل عبد منــاف بأمر * وأودى فكـان علي تماما
    فلله ذا فاتــح للهــدى * ولله ذا للمعـالـي ختامـا
    وما ضر مجـد أبي طالب * عـدو لغى وجهول تعامى

    وخلاصة البحث أن أبا طالب حلقة الوصل بين سلسلة الوصاية عن الرسل الماضين حتى أوصلها إلى النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ وكما تنتهي به الحلقات الغابرة فإن بولده أمير المؤمنين تبتدى سلسلة الخلافة المحمدية ثم تتواصل في بينه الأطهرين حتى تنتهي الى حجة العصر وناموس الدهر الحجة المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
    فبيت أبي طالب بيت ضرب على النبوة سرادقه ، وبني على الوصاية أطرافه ، ونيطت بالدين أطنابه ، وأسدل على العلم سجافه ووطدت على التقوى أوتاده.
    إذا فما ظنك بمن ضمه هذا البيت وتربى فيه فهل يعدوه أن يكون إما داعية إلى الهدى أو مهذبا للبشر أو معلما للنواميس الإلهية أو هاديا إلى سبل السلام أو قائدا إلى الصالح العام.
    نعم لا يجوز أن يكون من حواه هذا البيت إلا كما وصفناه بعد أن كان نصب عينه الأعلام الالهية وملء اذنه الوحي والإلهام ، وحشو فؤاده نكت من عالم الغيوب ومعه التمارين المسعدة والتعاليم المصلحة .
    وقد لبى هتاف الدعوة الالهية زوج شيخ الأبطح التي شهد لها الرسول الأمين بأنها من الطاهرات الطيبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها ، والعجب ممن اغترّ بتمويه المبطلين فدوّن تلك الفرية زعما منه أنها من فضائل سيد الأوصياء وهي : أن فاطمة بنت أسد (37) دخلت بيت الحرام حاملة بعلي بن أبي طالب فأرادت أن تسجد لهبل
    ____________
    37) في نهاية الارب للنويري ج2 ص341 هي بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهي أول هاشمية تزوجت هاشميا ، وعند ابن جرير الطبري في التاريخ ج6 ص89 ، وابن الأثير في الكامل ج3 ص158 ، وأبو الفداء في المختصر ج1 ص170 ، وابن كثير في البداية ج7 ص332 كما في النهاية.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 20 )

    فمنعها علي ـ عليه السلام ـ وهو في بطنها.
    وقد فات المسكين أن في هذه الكرامة التي حسبها طعنا بتلك الذات المبرأة من رجس الجاهلية ودنس الشرك ، وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياء المتكون من النور الآلهي مودعا في وعاء الكفر والجحود.
    كما أنهم أبعدوها كثيرا عن مستوى التعاليم الآلهية ودروس خاتم الأنبياء الملقاة عليها كل صباح ومساء وفيها ما فرضه المهيمن سبحانه على الأمة جمعاء من الايمان بما حبا ولدها الوصي بالولاية على المؤمنين حتى اختص بها دون الأئمة من أبناءه وإن كانوا نورا واحدة ولقد غضب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ على من سماه أمير المؤمنين وقال : « مه لا يصلح هذا الإسم إلا لجدي أمير المؤمنين ».
    فرووا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقف على قبرها وصاح : « ابنك علي لا جعفر ولا عقيل » ولما سئل عنه أجاب : « ان الملك سألها عمن تدين بولايته بعد الرسول فخجلت أن تقول ولدي » (38).
    أمن المعقول أن تكون تلك الذات الطاهرة الحاملة لأشرف الخلق بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعيدة عن تلك التعاليم المقدسة ؟ ، وهل في الدين حياء ، نعم أرادوا أن يزحزحوها عن الصراط السّويّ ولكن فاتهم الغرض وأخطأوا الرمية.
    فإن الصحيح من الآثار ينص على أن النبي لما أنزلها في لحدها ناداها برفيع صوت :
    « يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك من ربك ، فقولي : الله ربي ، ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وإبني إمامي ووليي ، ثم خرج من القبر وأهال عليها التراب ». (39)

    ولعل هذا خاص بها ومن جرى مجراها من الزاكين الطيبين كفاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ فإن الحديث ينص على أنها لما سألها الملكان عن ربها قالت : الله ربي ، قالا : ومن نبيك ؟ قال : أبي ، قالا : ومن وليك ؟ قالت : هذا القائم على شفير قبري
    ____________
    38) خصائص أمير المؤمنين للسيد الرضي وفي طريق الحديث محمد بن جمهور العمى الضعيف بنص النجاشي والكشي وابن الغضائري والعلامة الحلي.
    39) مجالس الصدوق ص189 مجلس51.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 21 )

    علي أبي طالب (40).
    وإلا فلم يعهد في زمان الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعد النبي فإن غاية ما جاء عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا ».
    والخدشة في هذا الحديث واضحة فإنالاعتراف بالرسالة كالإعتراف بالتوحيد متلازمان ، وتلقين الأموات إنما هو لأجل أن يكون العبد الراحل عن هذه الدنيا باقيا على ما هو عليه فيهاحتى في آخر المنازل ، فالإقرار بأحدى الشاهداتين لا ينفك عن الأخرى ، فهذا الحديث الناص على الإقرار بكلمة التوحيد مع السكوت عن الشهادة بالرسالة لنبي الإسلام لا نعرف سنده ليكون شاهدا ودليلا.
    وعلى كل فتخصيص زوج أبي طالب بذلك التلقين كالتكبير عليها أربعين خصائصها لأن التكبير على الأموات خمس.
    وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحط من مقام والدة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أظهر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أمام الأمة ما أعرب عن مكانتها من الدين وأنها بعين فاطر السماء سبحانه حين كفنها بقميصه الذي لا يبلى لتكون مستورة يوم يعرى الخلق ، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عندما حدثها عن أحوال القبر وما يكون فيه من ضغط ابن آدم.
    ولولا التنازل لرغبتها لما كان لاضطجاعه ـ صلى الله عليه وآله ـ معنى فإن المؤمن المعترف بولاية أمير المؤمنين لا تصيبه الضغطة كما في صحيح الأثر فكيف بالوعاء الحامل لمن تكون من النور الأقدس.
    فتحصل أن هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بيت توحيد وايمان ولهدى ورشاد ، وأ، من حواه البيت رجالا ونساء كلهم على دين واحد منذ هتف داعية الهدى ، وصدع بأمر الرسالة غير أنهم بين من جاهر باتباع الدعوة وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.
    وقد لبت هذا الهتاف أم هاني بنت أبي طالب فكانت من السابقات إلى الايمان كما عليه صحيح الأثر وفي بيتها نزل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من المعراج وهو في السنة الثالثة من البعثة وحدّثها بأمره قبل أن يخرج الى الناس ، وكانت مصدقة له غير أنها خشيت تكذيب قريش إياه ، وعليه فلا يعبؤ بما زعم من تخر إسلامها الى عام
    ____________
    40) الإصابة لاب حجر ج2 ص478 بترجمة عروة بن مسعود.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 22 )

    الفتح سنة ثمان من الهجرة .
    وكانت وفاتها أما في أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما في مناقب شهر آشوب ج1 ص110 ، وأما في خلافة معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص620 ، وحينئذ فليست هي المعينة بما في كامل الزيارة لابن قولويه ص96 : وأقبلت إليه بعض عماته تقول : إشهد يا حسين لقد سمعت قائلا يقول :


    وإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقابا من قريــش فذلت


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 23 )


    عقيل

    لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء ، من رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النبي : « إني أحب عقيلا حبين ، حبا له وحبا لحب أبي طالب له (1) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
    إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.
    على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا ، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.
    ____________
    1) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج3 ص576 ، وتذكرة الخواص ص7 ، والسير الحلبية ج1 ص304 ، ونكت الهميان ص200 ، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص78 مجلس 27 سنذكرها في فضل البكاء عليه .
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 24 )

    وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته ، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده ، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.
    ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين ، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ.

    إلى الشام :
    لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص82 أنه بعد شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه .
    على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة ، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.
    فمن ذلك أن معاوية قال له : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقال عقيل :

    « لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلا أن رسول الله ليس فيهم ، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلا



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 25 )

    قارئا ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة » (2).

    وقال له معاوية : إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك ، فقال عقيل :
    « والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل » .(3)


    ثم صاح :
    يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه ، وخشي الله على نفسه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه ، وركب الضلالة واتبع الهوى ، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ، ولم تكدح فيه يمينه ، رزقا أجراه الله على يديه ، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.



    ثم التفت الى معاوية وقال : أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأني بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.


    فأطرق معاوية ثم قال : ما الذي يعذرني من بني هاشم ، وأنشأ :


    أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا * فيأبــوا لدى الإكرام أن يكرموا
    وذا عطفتني رقتــان عليهــم * نأوا حســدا عني فكانوا هُم همُ
    وأعطيتهم صفو الأخــا فكأنني * معـا وعطاياي المباحــة علقم
    واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه * من القــوم إلا الهز بريّ المعمَم
    حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة * وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم


    أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.
    فأجابه عقيل :
    ____________
    2) الدرجات الرفيعة بترجمته.
    3) العقد الفريد ج2 ص134 في باب الأجوبة المسكتة.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 26 )


    غديرك منهـم من يلـوم عليهم * ومن هـو منهـم في المقالة أظلم
    لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة * ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم
    أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة * إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ
    فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه * وخيركم المبسوط والشر فالزموا

    ثم رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم ، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة ، وعقولكم لكاسية ، وحفظكم الأوامر ، وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى ، فكتب اليه عقيل :


    صدقت وقلت حقا غير أنـي * أرى ألا أراك ولا تـرانــي
    ولست أقول سوء في صديقي * ولكنــي أصد إذا جفـانـي

    فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه (4). فقال معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد ؟ فأنشأ يقول :


    وإني امرؤ مني التكرم شيمة * إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

    ثم قال : يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها ، وأظلتك بسرادقاتها ، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.



    فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي ، ثم قال له : لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة (5).
    هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.
    كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما
    ____________
    4) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.
    5) العقد الفريد ج1 ص135.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 27 )

    والاها وذلك بعد حادثة صفين.

    كتاب عقيل
    فإنه كتب :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب : سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت : إلى أين يا أبناء الشائنين ، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره ؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.
    فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما ، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع ، والسلام.

    كتاب أمير المؤمنين
    وكتب اليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه ، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب ، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع عنك ابن أبي ـ


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 28 )

    سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.
    ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه بالعداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه الجهد ، وجروا اليه جيش الأحزاب ، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول ، وسابقتني في الإسلام ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمدلله على كل حال.
    وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها ، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ علىالسماوة حتى قربوا من واقصة وشراف ، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فرّها ربا ، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.
    وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه ، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق ، والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت علىالحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
    وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت ، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد » (6) ولكنه كما قال أخو بني سليم :


    فان تسألينـي كيف أنت فإنني * صبور علي ريب الزمان صليب
    يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة * فيشمت بــاغ أو يسـاه حبيب

    وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة (7) يدلنا على أنه كان مع أخيه
    ____________
    6) الجملة بين قوسين في النهج ج2 ص64.
    7) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج15 ص44 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج1 ص155 ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص45 ، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل ، وفي جمهرة رسائل العرب ج1 ص596.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 29 )

    أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في حياته غير مفارق له ، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة ، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.
    إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده ، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.

    حديث الحديدة :
    أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة ، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة ، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه ، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى ، نزاعة للشوى ، وهو مضطرم بين اوارها.
    فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية ، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل ـ وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة ـ التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم ، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.

    افتراء على عقيل :
    قال الصفدي : لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش ، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب ، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 30 )

    يصلي عليها ، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق (.
    واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين ، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياء ـ عليه السلام ـ بشيء من تلك المفتريات . فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته ، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.
    قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنه قال : مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا ، أن عقيلا ليرمد فيقول : لا تذروني حتى تذروا عليا ، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.
    لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب . كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة ، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة ، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين ، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف ، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.
    إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير ؛ « استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ».
    نعم كان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يقول غير مرة : « ما زلت مظلوما (9)» من دون تلك الزيادة ، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب علىالأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة ، ولا نص من صاحب الشريعة ، ولا فقه ناجع ، ولا إقدام في الحروب ، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم ، وألصقوها بالسيد الكريم ، وما أسرع أن عاد
    ____________
    نكت الهميان ص200.
    9) الشافي للسيد المرتضى ص203.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 31 )

    السهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.

    الخلف عن عقيل :
    الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث : « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح ، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر ، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد ، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.
    إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل ، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.
    ومن هنا كان السجاد ـ عليه السلام ـ يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر ، فقيل له في ذلك ، قال :
    « إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ فأرق لهم (10) ».

    فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.


    وكم أب قد علا بابن ذرى شرف * كمــا علا برسـول الله عدنان

    فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.
    ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين ، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.
    وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة ، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا ، وحفيد
    ____________
    10) كامل الزيارة لابن قولويه ص107.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 32 )

    عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة 334 هـ.
    ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.
    وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور ، له أدب وفضل مات سنة 330 ، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان (11).
    وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة 698 ، وتوفي سنة 769 ، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس (12).
    ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري ، فقيه من فقهاء الامامية ، متبحّر في العلم ، واسع الاطلاع ، قيق النظر ، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وميرزا حبيب الله الرشتي ، سكن النجف ، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر ، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق ، منها كفاية الموحدين في أصول الدين ، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات ، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهر ـ قدس سره ـ ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة ، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة 1321 هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف (13).
    وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة
    ____________
    11) عمدة الطالب.
    12) طبقات القراء ج1 ص428 .
    13) أعيان الشيعة ج11 ص253.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:02 am


    حياة مسلم بن عقيل عليه السلام

    ولادة مسلم عليه السلام :
    لقد أشرق الكون بهذا الميلاد المبارك ، وتأرج فيه بنجره الشّذيّ يوم برز الى عالم الشهود بعد تقلب متطاول ، بين أصلاب طاهرة ، وأرحام زاكية ، غير مدنسة بدرن الكفر ، ولا موصومة بأدناس الجاهلية الأولى في نسب متصل بنسب صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وآله ـ وحسب موروث من « شيخ الأبطح » الآنف ذكر شرفه وشرف بيته الرفيع وبينهما حلقة الوصل مثل عقيل الذي تقدم وصفه وذكر منزلته من العظمة والإيمان والشرف.
    ولقد تلقى عقيل دروسا ضافية من صاحب الدعوة الالهية وأخيه الخليفة على الأمة عند انقضاء أمد الوحي المبين ، وفيها ما يجب على الرجال من اختيار المحل الصالح لحمل تلكم النطف الزاكية وفي جملتها التحذير من منابت السوء المفسر على لسان المشرع الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ بالمرأة الدنيئة الأصل (1) لكون الوراثة حاكمة بطبعها الأوليّ على الفضائل المطلوبة من الولد اللهم إلا مع مزاحمة الكسبيات لها وظهورها عليها كما هو المشاهد من الرجال الذي اتصلوا بالذوات المقدسة فحصل لهم بواسطتها اسمى الخصال الطيبة وفازوا بالرضوان الأكبر.
    ومن المقطوع به أن عقيلا مع حيطته بأنساب العرب ومواقع المآثر والمحازي وايمانه بتلكم الدروس الراقية لم يختر لنطفته إلا محلا لائقا تتعداه كل غميزة وتقترب منه الفضيلة ولم يستهسل أن ينبز عقبه بما لا يلائم نسبه الوضاح وبيتهم المنيع كما كان
    ____________
    1) المقنعة للشيخ المفيد ص79 ، والمجازات النبوية للشريف الرضي ص61 طبع مصر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 34 )

    يقال في كثيرين من أهل عصره وذرياتهم.
    ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزّبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا دون الوسائل الحيوية حتى الماء المباح لعامة الحيوانات ، يريدون بذلك استئصال شأفة النبوة فكتبوا بدمائهم الزاكية اسطرا نورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة ، ويتعرفون منها مناهج موتة العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.
    فظهر مسلم ـ عليه السلام ـ بين هذه وتلك ألقا وضاءا للحق وشخصية بارزة للدين والهدى متأهلا لحمل أعباء النيابة الخاصة عن حجة الوقت ولذلك اختاره لها سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ من بين ذويه وحشده الأطايب.
    ومن هذا الإستنباط يعلم طهارة « أمه » عن كل ما تغمز به النساء وأنها متحلية بالمفاخر وإن لم يعطها التأريخ حقها كما لم يعط حق ولدها المعظم الثابت له.
    نعم للتأريخ والمؤرخين شغل شاغل بذكر أخبار القيان والمغنين وسرد روايات أهل الخلاعة والمعازف عن إثبات أحاديث سروات المجد وقادة الإصلاح من بني هاشم.
    وهل النقمة ههنا على الكتاب أو ظروف التدوين أو السياسات القاسية أنا لا أدري ، ولهذا كله خفى علينا يوم ولادتها وشهرها وسنتها ، وكان من الصعب جدا تحديدها وكلما يقال فهو تقريب واستحسان ولا يغني من الحق شيئا.
    وستقف في البحث المتعلق بأم مسلم على شيء ربما يستكشف المتأمل منه مبدأ الولادة.

    أمه عليه السلام :
    إن غموض التعريف عن أم مسلم بأجلى المظاهر ، أوقع الباحث في حيرة السؤال عن اقتران عقيل منها ، هل كان بالعقد أم بملك اليمين ، وأنها حرة أم جارية ؟ ، والعتب في ذلك على المؤرخين الذين أهملوا الحقائق مع تحفظهم على أمور تافهة لايقام لها وزن ، وان من الجدارة التعريف بنواحي هذا الرجل العظيم الذي دخل الكوفة وحده بلا عدة ولا عدد ، فدوّى أرجاءها بصرخته الحسينية في وجه المنكر ، وأقلق فكر الممثل للزعامة الأموية في الشام ولعل من هذا الإغفال يستطيع الباعث الجزم بأن ما يلم « بابن عقيل » كان على أبعد حد من الفضائل والفواضل سواء من ناحية أمه وأبيه أو من بيته


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 35 )

    الرفيع فانه لو كان هناك طريق للغمز فيه ولو من جهة تأريخ امه لتذرع به المنحرفون عنه وعن سلفه الطاهر كما هو ديدنهم فيمن ضمهم هذا البيت أو انضوى إلى رأيتهم ومشى على ضوء تعاليمهم.
    وليس للمؤرخين إلا نصان أحدهما بعيد عن الواقع كما ستعرف ، والآخر على ما فيه من غموض وإجمال يمكن للمتأمل فيه ، وفيما كتب عن أصل النّبط الإذعان بأن « أم مسلم » عربية حرة ، ولعل ترك ابن زياد التعرض لها في ما جرى بينه وبين مسلم من المحاورات يشهد له ، فإنه كان بصدد اسقاط مسلم عن أعين الناس فنسب له أشياء يقطع بأنه لم يأت بها أصلا فلو كانت أمه جارية لنبزه بها كما فعل هشام بن عبد الملك مع زيد الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ إذ قال له : زعمت أنك تطلب الخلافة ولست هناك وأنت ابن أمة ، فقال له زيد : إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم إسماعيل أمة فلم يمنعه أن كان نبيا وأبا لخاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وآله ـ .
    وهذا النص الأخير يرويه ابن قتيبة فيقول : كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا (2) ويقول بعض المؤرخين : أن النبط كانوا في جبل شمر (3) في أواسط بلاد العرب ثم نزحوا الى العراق لما فيه من الخصب والرخاء (4) فأقاموا في سواد العراق (5) أو في خصوص البطائح بين العراقين (6) البصرة والكوفة.
    ولم ينكر أحد ممن كتب عنهم أن لغة النبط عربية كأسماء ملوكهم البالغين ثمانية عشر ، وفيهم امرأتان في القرن السابع قبل الميلاد (7) ، نعم يرتئي المسعودي أنهم من الكلدانيين المجاورين مع الفرس سكان فارس والأهواز وعاصمتهم « كلواذي » ( وبعد تغلب الفرس عليهم تفرقوا (9) ويوافقه على ذلك بعض المستشرقين الواقفين على النقوش من
    ____________
    2) المعارف ص88.
    3) يعرف بجبل أجا وسلمى منزل لطي وقع ذكره في كلام الطرماح لسيد الشهداء أنظر ما كتبناه في مقتل الحسين ، وفي أواخر القرن الثالث عشر والرابع عشر كان منزلا لآل رشيد حتى تغلب عليهم عبد العزيز آل سعود.
    4) جرجي زيدان في العرب قبل الاسلام ج1 ص78.
    5) تاج العروس للزبيدي ج5 ص229.
    6) القاموس للفيروزآبادي بمادة نبط.
    7) العرب قبل الاسلام ص78.
    في القاموس بلدة في أسفل بغداد وفي معجم البلدان ج7 ص276 تبعد عن بغداد فرسخا للمنحدر.
    9) التنبيه والاشراف للمسعودي ص68.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 36 )

    آثارهم ويفيد بأن لهم في ذلك التأريخ دولة في العراق متسعة الأطراف حتى شملت معظم جزيرة العرب واستوزروا الوزراء وضربوا النقود بأسماء ملوكهم ولهم قوانين (10).
    وعلى هذا فليس مبتعدا عن الواقع من يرتئي أن عقيلا خطب لنفسه من بعض عشائر النبطيين الذين يجمعهم واياه الوقوف بتلك المشاعر المعظمة التي حث الله تعالى العباد إليها ذللا ، أو الواردين للتجارة في مكة ، أو الزائرين مرقد الرسول الأمين الذي استضاء العالم بنوره المتألق.
    أما النص الأول فقول أبي الفرج اسم أمه « علية » اشتراها عقيل من الشام (11) ولذلك حديث لاتخفى تفكك أطرافه على من أعطاه حق النظر يقول ابن أبي الحديد في الرواية المرسلة عن المدائني : ان معاوية قال لعقيل : هل لك من حاجة فأقضيها لك ؟ قال : نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين الفا ، فأحب معاوية أن يمازحه فقال : ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى ؟ تجتزي بجارية قيمتها خمسون درهما ، قال : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما اذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف ، فضحك معاوية وقال : مازحناك يا أبا يزيد ، وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مسلما.
    فلما أتت على مسلم ثمان عشرة سنة وقدمات عقيل أبوه قال لمعاوية : يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة ، وإني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن ، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه.
    فبلغ ذلك الحسين ـ عليه السلام ـ فكتب الى معاوية : أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا.
    فبعث معاوية على مسلم فأخبره بذلك وأقرأه كتاب الحسين وقال : اردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت مالا ما لاتملك فقال مسلم : أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا ، فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه وقال : يا بني هذا والله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك.
    ثم كتب الى الحسين ـ عليه السلام ـ اني قد رددت عليكم الأرض وسوّغت
    ____________
    10) العرب قبل الاسلام ص79.
    11) مقاتل الطالبيين.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 37 )

    مسلما ما أخذ ، فقال الحسين ـ عليه السلام ـ : أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما (12).
    من الصعب جدا الإستناد إلى هذه الرواية لأسباب عديدة نأتي على المهم منها :

    الاول : أنها منقطعة الاسناد وطرح رجال الحديث مما يحظ من قيمته لما فيه من الجهالة بمعرفة أحوال أولئك المتروكين والتدليس الشائن.

    الثاني : أن المدائني لا يوثق بأحاديثه مهما تكثرت في الجوامع بعد ما ضعفه ابن عدي في الكامل (13) ويؤيده أنه أموي النزعة من جهة ولائه لآل عبد شمس والولاء كالتربية حاكم على النفوس والعقائد فهو ممن يحب للبيت الأموي التحلي بالصفات الكريمة لتهوى لهم الأفئدة وتخضع لهم الأعناق ويكونوا في صف من طهرهم الذكر المجيد بقوله « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » كما أثبت سبحانه لهم اشرف الخصال المحبوبة له إذ يقول : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ».

    والسند في ولائه لهذا البيت نص ياقوت فإنه قال : كان علي بن عبدالله ابن أبي سيف البصري المدائني البغدادي مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف (14). ويقول ابن حجر أنه مولى عبد الرحمن بن سمرة (15) وعدم موافقة ولادة المدائني التي هي في سنة 135 هـ لوفاة عبدالرحمن بن سمرة الواقعة في سنة 50 هـ لا يبعد هذا الولاء بعد ما ينص ابن كثير على أن لعبد الرحمن أولادا كثيرين (16) ويسمى ابن حجر بعضهم عبيدالله وأنه تغلب على البصرة في فتنة ابن الأشعث (17) فاطلاق الولاء لأبيهم عبدالرحمن أو لجدهم سمرة بملاحظة أولاده لاضير فيه.
    وإذا أفهمتنا الجوامع أن عبدالرحمن من « الشجرة » التي أنتجت معاوية وكان
    ____________
    12) شرح النهج الحديدي ج3 ص82 مصر.
    13) لسان الميزان لابن حجر ج4 ص253.
    14) معجم الادباء ج14 ص124.
    15) لسان الميزان ج4 ص253.
    16) البداية والنهاية ج8 ص47 حوادث سنة 50.
    17) الإصابة ج2 ص401 بترجمة عبدالرحمن.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 38 )

    من عماله على سجستان وغزالة خراسان (18) وبلخ وكابل (19) وفتح الرخج وبست (20) وضح لنا أنه يسير على أثره وأنه حائد عن كل من ناوأ معاوية وهذه قضايا قياساتها معها.
    ولاريب أن الموالي يرثون هذه النزعة كالأنساب ، اللهم إلا أن يكبح هذا الجماح الخضوع لقانون الاسلام فيقف عند حدوده ، ولكن أين هذا من « المدائني » المكثر من خلق الأحاديث الرافعة للبيت الأموي ، الواضعة من قدر رجالات بيت الوحي والنبوة ، وانها لشنشنة مضى عليها الأولون نعرفها من منافسة عبد شمس أخاه هاشما مطعم الطير والوحوش ومنافسة حرب بن أمية عبدالمطلب الذي كفأ عليه إناءه واستعبده عشر سنين (21) ومنافسة أبي سفيان للرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي من عليه يوم الفتح وأطلق له ، جاهد ونافس ابن آكلة الأكباد أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الذي اصطفاه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم المؤاخاة بالأخوة ومنحه الخلافة الإلهية إذ قال له : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي. »

    الثالث : أن المتأمل في هذه المحاورة الواقعة بين عقيل ومعاوية في أمر الجارية يظهر له مغزى المدائني فانه أراد أن يسجل صحيفة من حلم معاوية واناته وكرمه مع المس في الذوات القدسية من آل الرسول الأطهر وقد فاته أن المستقبل يكشف عن واياه.
    قال في تلك المحاورة :
    « ولما أتت على مسلم بن عقيل ثمان عشرة سنة وقد مات أبوه عقيل قال لمعاوية : ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة الف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن ، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه ».
    وفي هذه الجملة خلل واضح فإنه أثبت بيع مسلم الأرض وعمره ثمان عشرة سنة وأبوه ميت ، وعلى ما يقوله ابن حجر أن عقيلا مات سنة ستين وقيل بعدها (22) يكون
    ____________
    18) لسان الميزان ج4 ص190.
    19) تاريخ اليعقوبي ج2 ص193 طبع النجف.
    20) ابن الأثير ج3 ص174.
    21) شرح النهج الحديدي ج3 ص466.
    22) تقريب التهذيب ص3666 لكنهؤ ، والإصابة ج2 ص494.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 39 )

    عمر مسلم ـ عليه السلام ـ ثمان عشرة سنة عند شهادته في سنة ستين ، وهذا لا يتفق مع ما أثبته المؤرخون من تزويجه بثلاث نساء أو أكثر وأن له أولادا خمسة وبنتا ، فإنه وإن لم يكن من المحال في هذه المدة القصيرة التي هي عبارة عن ثلاث سنين بعد بلوغه أن يتزوج من ثلاث نساء ويستولد هذا العدد لكن العادة المطردة تأباه.
    ثم هناك شيء آخر وهو أن كلا من عقيل ومسلم ومعاوية ماتوا في ستين : استشهد مسلم ـ عليه السلام ـ في ذي الحجة ، وهلك معاوية في رجب ، وموت عقيل لم يتعين قبل رجب أو فيه أو بعده فعلى الأخيرين لاتتم دعوى سفر مسلم الى الشام وبيعه الأرض ، وعلى الأول أعني موته قبل رجب المتردد بين أن يكون في المحرم أو ما بينه وبين رجب ، فالعقل وإن لم يمنع صدور البيع في هذا الزمن إلا أن من البعيد جدا أن يشد مسلم ـ عليه السلام ـ الرحال من المدينة إلى الشّام ويتحمل وعثاء السفر لبيع الأرض من معاوية بالمقدار الذي دفعه اليه الرجل المدني كما يفيده قول لمعاوية : « ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة ألف وأحببت أن أبيعك إياها ».
    فان كل أحد يعد اتخاذ هذه الطريقة سفها وحاشا « داعية السبط » أن يرتكب خطة لا يصادق عليها العقل ويكون مرمى لسهام اللوم إلا أن يكون قد تزلف الى معاوية ببيعه الأرض ، والشمم الهاشمي الذي انحنت عليه أضالعه يأباه له كيف ، وهو يشاهد دماءهم الطاهرة ، ودماء من شايعهم تقطر من سيفه وأنديتهم تلهج بانحرافه عن خطة سلفه الطيب ، وغدره بالإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تدرسه ناشئة هذا البيت كل يوم.
    والتحيل لاستخلاص أموالهم من يد معاوية كما يراه البعض لا يتوقف على هذه الطريقة المشوهة لبيتهم المنيع ، ومقامهم الرفيع مع أنهم بعيدون عن أمثالهم لأن نفوسهم الزاكية تكبر بهم عما فيه الضعة والخسة ولو عند العامة . هذا اذا كان موت عقيل في سنة ستين وأما اذا كان بعدها كما هو القول المحكى في نص ابن حجر كما عرفت ، فالكذب في هذا البيع واضح ، والمسافة للتصحيح بعيدة لأنه عليه يكون بيع مسلم الأرض بعد موت أبيه كما في الرواية ، ومعاوية بين أطباق الثرى وقد فاز مسلم بالشهادة يومئذ.
    ولو ذهبنا الى رأي الصفدي وابن كثير من تعيين وفاة عقيل في سنة خمسين (23)
    ____________
    23) نكت الهميان للصفدي ص201 ، والبداية لابن كثير ج8 ص47.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 40 )

    يكون لمسلم ـ عليه السلام ـ عند شهادته في سنة ستين ثمان وعشرون سنة ، وتكون ولادته سنة اثنين وثلاثين قبل واقعة صفين الكائنة في سنة 37 بخمس سنين ، وهذا وإن التأم مع ذلك العدد من أولاده لكن لا يلتئم مع ما ذكره ابن شهر آشوب الحافظ الثبت الثقة بنص الفريقين من الشيعة والسنة (24).
    فإنه يقول : جعل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على ميمنته في صفين الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى الميسرة محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال (25).
    ومن المعلوم أن من يجعله أميرالمؤمنين في صف أولاد عمّيه البالغين نحوا من خمس وثلاثني سنة لابد وأن يقاربهم في السن كما قرن بين ابن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهما متقاربان في السن فان محمد بن الحنفية ولد سنة 16 (26) وله يوم صفي احدى وعشرون سنة ومحمد بن أبي بكر ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة حين توجه رسول الله للحج وقتل سنة 38 وله يوم صفين 27 سنة (27).
    وحينئذ لا أقل أن يقدر عمر مسلم بن عقيل بالثلاثين أو الثمان وعشرين وتكون ولادته أما سنة سبع أو تسع وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة وعلى هذا التقدير في ولادته أين ولاية معاوية في الشام وأين مسير عقيل اليه ، بل أين إسلام معاوية فإنه أسلم بعد سنة تسع قبل وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بأشهر.
    وإذا أخذنا بنص الواقدي كانت المسافة أبعد ، قال : لما دخل المسلمون مدينة « البهنسا » بعد حصار طويل دخل مسلم بن عقيل في جملة الهاشميين وهو يقول :
    ____________
    24) انظر ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي ص77 ، ولسان الميزان لابن حجر ج5 ص310 ، وطبقات المفسرين لشمس الدين محمد بن علي المالكي ، والبلغة للفيروز آبادي ، والوافي بالوفيات للصفدي ، ومن علماء الشيعة أثنى عليه العلامة الحلي في الخلاصة ، وميرزا محمد في منهج المقال ، أبوعلي الحائري في منتهى المقال ، والتفريشي في نقد الرجال ، والأغا البهباني في التعليقة ، والحر العاملي في أمل الآمل ، والسيد في روضات الجنات.
    25) المناقب ج2 ص260.
    26) أنظر كتاب قمر بني هاشم ص103.
    27) ما يؤكد حضوره في صفين ما رواه نصر في كتاب صفّين ص330 : إن منادي أهل الشام نادى : إن معنا الطيب بن الطيب عبدالله بن عمر . فقال عمار بن ياسر : بل هو الخبيت ، ثم نادى منادي أهل العراق : ألا ان معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر ، فنادى أهل الشام : بل هو الخبيث بن الطيب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 41 )


    ضنـا في الحرب والسهر الطويل * وأقلقنــي التسهـد والعويــل
    فواثـارات جعفـر مــع علـي * وما أبــدى جوابك يـا عقيـل
    سأقتــل بالمهنـد كــل كلـب * عسى في الحرب أن يشفى الغليل

    وكان فتح البهنسا في أيام عمر بن الخطاب (28).
    فان من يخرج في صف المجاهدين أيام ابن الخطاب لابد وأن يبلغ على الأقل عشرين سنة وحينئذ تكون ولادته في أوائل الهجرة وكان معاوية يومئذ راسبا في بحر الشرك والضلال عابدا للأوثان.
    ثم إن رجلا كمسلم يراه عمه أمير المؤمنين ـ عليه السلام جديرا بقيادة الجيش يوم صفين فيجعله على الميمنة في صف ولديه الإمامين السبطين ـ عليهما السلام ـ وابن أخيه عبدالله بن جعفر ، ويجده سيد الشهداء قابلا لأهلية الولاية على أعظم حاضرة في العراق « الكوفة » فيحبوه بالنيابة الخاصة في الدينيات والمدنيات.
    لابد وأن يكون أعظم رجل في العقل والدين والأخلاق حتى لايقع الغمز والطعن فيمن يمثل موقف الإمامة بأنه ارتكب دنيّة أو جاء برذيلة أو فعل محرما أو بدت منه رعونة ، ولو في أمس الدابر فينتكث فتله وتتلاشى مقدرته.
    على أن تلكم الأحوال لو كان من الجائز صدورها منه في الماضي لجاز عودها إليه أيام ولايته فينتقض الغرض من إرساله مهذبا ومؤدبا وقامعا للريب والشبهات وزاجرا عما يأباه الدين والإنسانية .
    فالإمام أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ لم يشرف أحدا بالولاية إلا وهو يعلم بأنه يمضي في أمره كالحديدة المحماة ، وإنا لا نشك في أن سيد الشهداء لم يرسل مسلما واليا من قبله ، ويزيّنه بتلك الرتبة العظيمة ثم يشفع ذلك بتشريف الأخوة له التي هي أخوّة العلم والدين ، وأنه ثقته من أهل بيته إلا وهو يعلم بأنه في كل أدوار حياته منذ نشأته إلى حين تأهّله لهذه الزعامة الكبرى رجل العلم والتّقى ، رجل العقل والسياسة ، رجل الأخلاق والإيمان.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 42 )

    وهناك شيء أغرب من هذا وهو نسبة المدائني كتاب « أبي الضيم » الى معاوية لما بلغه الإعفاء عن الأرض والمال فقال في كتابه : « أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما » وكل أحد تتجلى له هذه الأكذوبة لا تحتاج إلى تدليل لوضوح شهامة أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ وعدم رضوخه للدّنيّة في قول أو فعل ، ومتى أعترف سيد شباب أهل الجنة لآل أبي سفيان بمكارم الأخلاق من يوم منافسة جدهم عبد شمس لأخيه هاشم الى يوم مناوأة معاوية لأمير المؤمنين ، وأي مأثرة غريزية حفظت لهذا البيت غير طفائف تخلّقوا بها وقد ظهر أضدادها على فلتات ألسنتهم ، أليس معاوية هو القائل ليزيد : عليك بالصفح فإن أمكنت الفرصة عليك بالسيف (29).
    ولم يزل أبو عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ يصارح بما أودعه المهيمن جل شأنه فيه من الأنفة وعدم الخضوع للدنايا في مواطن كثيرة ، وان كلمته الذهبية في آخر يومه تفيدنا فقها بالفطرة الموهوبة له من المولى سبحانه فإنه قال يوم الطف : « ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام » (30).




    وان عمدة ما يفت في عضد هذه الأكذوبة ويتدهور بها الى هوة البطلان هذه الكلمة التي لا يهيج بها هاشمي ذو شمم ، نعم يأبى للهاشمي إباؤه وشهامته يأبى له حفاظه ووجدانه بل يأبى لأي مؤمن إيمانه وعلمه أن يعترف لابن آكلة الأكباد بتلك المأثرة البالغة حدها ، وهو يلعم أن ابن هند المقعي على إنقاض الخلافة الإسلامية خلوا من أي حنكة ، وإنما أدعم باطله المحض بالتحلم والمحاباة والتزلف يوهم بها الرعرعة من الناس بأن هذه الاناة هي الكافلة لأهلية الخلافة.
    والإمام الشهيد العارف بهذه الزخارف مضافا الى نفسيته القدسية وإبائه العلوي جد عليم بأنه إن فاهَ بمثل تلك الكلمة التي نسبها إليه المدائني اتخذها الناس حجة دامغة خصوصا مع مشاهدتهم وفر معاوية وورائهم دسائسه ومعهم سماسرة الشهوات فيكون الإمام ـ عليه السلام ـ مغريا بهم الى الهوان ومقرا لهم على الضلال
    ____________
    29) نهاية الأرب ج6 ص50.
    51) اللهوف للشريف النقيب ابن طاووس.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 43 )

    والباطل وحاشا « إمام الحق » أن يرتكب ما فيه إغراء للناس وهو مقيض لإنقاذ البشر من ورطة الجهل المردي.
    وأني لا أظن بعد هذا البيان الضافي يبقى الواقف على كلمة المدائني « أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما » مرتابا في افتعال نسبتها إلى سيد الحفاظ والحمية والشهامة سيد الغيارى على المبادئ الصحيحة سيد شباب أهل الجنة ـ عليه السلام ـ.

    نشأته عليه السلام :
    لقد عرفت فيما قدمناه من صفة بيت أبي طالب ومبلغ رجالاته من العلم والمعارف الإلهية وأنهم على الأوضاع والغرر اللائحة في أنسابهم واحسابهم لا تعدوهم الفضائل العصامية من علم وحكمة وأخلاق وبلاغة وأدب وشجاعة وفروسية إلى مآثر جمة ازدانت بسروات المجد من بني هشام ، وأن كلام منهم أمة واحدة في المكارم جمعاء.
    وإن من قضاء الطبيعة وناموس البيئة أنهم يمرنون وليدهم ويربون الناشئ منهم على ما تدفقت به أوعيتهم ، فلا يدرج الطفل إلا والحنكة ملء إهابه ، ولا يشب الصغير إلا وهو محتو لفضيلة المشايخ ، واذا التقيت بالرجل هكذا بين فواضل وفضائل ، ومآثر ومفاخر ، ولا سيما ان من جبلة رجالات البيت تغذية ناشئهم بما عندهم من آلاء وتحنيكه بنمير مكارمهم وإروائه بزلال من حكمهم البالغة ، وعظاتهم الشافية ، وتعاليمهم الراقية ، فقضية قانون التربية الصحيحة أن يكون الولد إنسانا كاملا.
    نعم ، هكذا أرباب الفضائل من آل أبي طالب لا يروقهم في صغيرهم إلا ما يروقهم في الأكابر ، ولا يرضيهم ممن يمت بهم إلا أن يزدان به منتدى العلم ودست الإمارة ، ويبتلج به صهوة الخيل ومنبر الخطابة ، وأن يسير مع الركب ذكره ومع الريح نشره لكي يقتدى به في المآثر ، ويقتص أثره في الأخلاق.
    وهذا الذي ذكرناه إنما هو مرحلة الإقتضاء التربوي ، ويختص بما اذا صادق قابلية المحلّ ، وعدم المزاحمة بموانع خارجية تسلب الأثر من كل هاتيك الموجبات من بيئة وبيئة أو مجالس سوء أو شره ثابت ، فإن هذه الأمور تستوجب التخلف عن ذلك الإقتضاء كما نسب إلى شذاذ من العلويين ، فإنه على فرض صحة النقل لا يصار إليها إلا في الموارد المفيدة للعلم بخروج الناشئ عن ذلك الناموس.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 44 )

    وأما داعية الحسين ـ عليه السلام ـ وسفيره الى العراق فكانت لياقته الذاتية ، وتأهله للفضائل ، وتأثره بتلك التربية الصحيحة ، ونشوؤه في ذلك البيت الممنع ، وتخرجه من كلية الخلافة الإلهية قاضية بسيره مع ضوء التعاليم المقدسة ، فأينما يتوجه إلى ناحية من نواحي هذا البيت لا يقع نظره إلا إلى أستاذ في العلم أو مقتدى في الأخلاق أو زعيم في الدين أو بطل في الشجاعة أو إمام في البلاغة أو مقنن في السياسة الآلهية.
    فكانت نفس مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ تهش الى نيل مداهم منذ نعومة الأظفار كما هو طبع المتربى بهذا البيت ، ففي كل حين له نزوع الى مشاكلة كبرائهم ، وهذه قاعدة مطردة ، فإنك تجد ابن العالم يأنف عن أن يعد في أبناء العامة ، وابن الملك يكبر نفسه إلا عن خلائق والده ، وولد الزعيم يترفّع عن مشاكلة رعاياه ، فكل منهم يرمي الى ما يرفعه عن غرائز الطبقات الواطئة.
    إذا فما ظنك بمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ الذي هو أول من وقع بصره عليه عمه أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا (31) ـ صلوات الله عليهما ـ ، ورجالات السؤدد والخطر من آل عبدالمطلب وسمع أخبار الغابرين من أهل بيته في المفاخر والمآثر ، فهل يمكن أن يكون له هوى إلا مع الفضيلة أو نزوعا إلا الى المحامد ؟ نعم نشأ مسلم مع العلم ، والتقوى والبطولة ، والهدى ، والحزم ، والحجى ، والرشد كما شاء الله سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته.
    ولقد كان من أهم ما يتلقاه مسلم ـ عليه السلام ـ من أكابر قومه مناوأة البيت الأموي أضداد الفضيلة ، وأعداء الدين ، وحضنة الجاهلية الأولي ، وناشري ألوية الوثنية ، والدعاة الى كل رذيلة بأعمالهم ، وأقوالهم ، ولهذه كانت تعد تلك المباينة من الهاشميين لهم من أسمى مناقبهم الحال كان « داعية السبط الشهيد ـ عليه السلام ـ » وارثا لهذه الظاهرة بأتم ما لها من المعنى.
    ومما لا يستسهل العقل قبوله أن يكون ابن عقيل ـ عليه السلام ـ متزلفا الى واحد ممن ناوأ آباءه الأطائب أو مجاملا له فيجر الرذيلة الى قومه وتفوته الشهامة
    ____________
    31) هذا حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ رواه علي بن عيسى الأربلي من أعيان القرن السابع في كشف الغمة ، ومراد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من هذه الكلمة الثمينة أن الإمامة منصب الهي لا نزول عنهما مع القعود عن الحرب أو النهوض للجهاد والقاعد هو الإمام المجتبى ، والقائم سيد الشهداء ، والتثنية في الفعلين للتغليب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 45 )

    الهاشمية والإباء الموروث له والشمم المتأصل كيف وانه :


    درة تـاج الفضـل والكرامـة * قـرة عيـن المجـد والشهامة
    أول رافع لرايــة الهــدى * خص بفضل السبق بين الشهداء
    كفاه فضلا شـرف الرسالــة * عن معدن العـزة والجلالة (32)

    ____________
    32) لشيخنا الحجة آية الله الشيخ محمد حسين الإصفهاني قدس الله تربته.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:04 am

    المؤامرات في الكوفة

    ان سياسة معاوية القاسية من جراء نقض عهده للإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تركت الشيعة ترزح تحت نير الإضطهاد ، فأوصال تقطع ، وأعين تسمل ، وبمشهد منهم أرجل مفصولة ، وعلى المشانق أنفس مزهقة ، وفي أعماق السجون أعناق مغلولة ، وبأرجاء الفلوات أناس مشردون ، وعلى أطراف الرماح أرؤس مشالة يوم كان ابن سمية عارفا بهم منذ العهد العلوي فتتبعهم تحت كل حجر ومدر ، وتحراهم في كل مغارة ، فنكل بهم ، ونال منهم ، وأوقع فيهم ، وهو القائل على منبر البصرة :
    « إني أقسم بالله لآخذن المقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم » (1)
    وقد وصف هذا الحال أبو جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ فقال : « إنا أهل البيت لم نزل نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون موضعا يتقربون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمالهم في كل بلدة بالأحاديث المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله ، ولم نفعله ليبغضونا الى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن ـ عليه السلام ـ فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكّر بحبنا والانقطاع إلينا يسجن ، وينهب ماله






    ____________
    1) تاريخ الطبري ج6 ص125.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 48 )

    وتهدم داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمن عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ـ عليه السلام ـ ثم جاء بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علي ـ عليه السلام ـ وحتى صار الرجل الذي يعمل بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله شيئا منها ولا كانت ولا وقع وهو يحسب انها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بكذب ولا قلة ورع » (2).





    وفي هذا الحديث الشريف دلالة واضحة على ما نال الشيعة في تلك الأيام المظلمة من الإضطهاد والجور ، ومع أي إمام ينهضون مع الزكي المجتبى ـ عليه السلام ـ وقد قيّده الأمر الربوي بالتسليم لمجاري المحتوم كما قيّد أباه أمير المؤمنين خمساً وعشرين سنة.
    على أن من أخلص له بالمفادات فئة قليلة لا تقاوم من حف بهم من أهل النفاق الذين أضمروا الغدر وضمنوا لمعاوية تسليم الحسن ـ عليه السلام ـ إن شمر للحرب ، أو مع الحسين ـ عليه السلام ـ وهو لا يرى من تكليفه إلا الخضوع لما سلم له إمام الوقت وحجة الزمن بالنص من جده وأبيه ـ صلوات الله عليهم ـ .
    حتى أن حجر بن عدي دخل على الحسين ـ عليه السلام ـ مثيرا لنخوته ومحفزا له على القيام في وجه عدوهماللدود وفيما قال له : لقد اشتريتم العز بالذل ، وقبلتم القليل ، وتركتم الكثير أطعنا اليوم وعصينا الدهر ، دع الحسن وما رأى من الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وولّني وصاحبي عبيدة ابن عمر والمقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف.
    فأفاض عليه « ريحانه الرسول » من معارفه القدسية ما فيه حياة القلوب واجتماع نظام الأمة ، وذلك أن البيعة والعهد اذا صدرا من « إمام الحق » الذي لا يعمل عملا إلا على حسب ما يراه من المصلحة الواقعية التي أدركها بفضل منصبه الإلهي ، فلا يجوز له نقض ما أبرمه من العهد لما فيه من الغدر والخيانة الممقوتة فقال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ :
    ____________
    2) شرح النهج ج3 ص15.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 49 )

    « إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا » (3).

    وهذه المسألة التي أشار اليها سيد الشهداء ، وإن لم تلزم المصافق بها واقعا لأن الذي أعطوه الميثاق غاشم لا تحل مصافقته ، وقد قال الرسول الأقدس ـ صلى الله عليه وآله ـ : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » (4)


    ومن المقطوع به أنه لايريد من المنبر تلك الأعواد المصنوعة من خشب وكان يجلس عليها للإرشاد والهداية وإنما يريد منبر الدعوة الآلهية ، فيكون غرض النبي الإيعاز إلى الملأ الديني الواعي لكلمته الثمينة بأن معاوية الداعي باسم الخلافة كافر بما أنزل من الوحي على الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ بتعيين من أقامهم المولى سبحانه أمناء على شرعه القويم ، وكافر بقول النبي الذي لم يزل يجاهر مرة بعد أخرى بأسماء من يلي الخلافة من بعده وهم الإثنا عشر من ذريته المعصومين ، والراد لما أنزل على الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قولا أو فعلا من الجاحدين.
    ولم تخف هذه الأحوال على معاوية ولا ممن شاهد النبي وسمع حديثه أو كان قريب العهد بزمن تلك النصوص ولو صدقت الأوهام بأنه كاتب النبي اتسع الخرق عليه.
    وحيث أن سيد الشهداء لم تسعه المصارحة بما وجب عليهم في الصحيفة الخاصة بالإمام الزكي ، وكان فيها أن يسالم خاضعا للقضاء المحتوم ، وقد أشار النبي إلى هذه المسألة بقوله : « إبناي هذان إمامان إن قاما وإن قعدا »


    وأكثر العقول لا تتحمل هذه الأسرار الدقيقة كما قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : « حديثنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن الله قلبه بالايمان. »


    تلطف أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ ببيان أقرب الى الأذهان وتتحمله العقول
    ____________
    3) الدينوري في الأخبار الطوال ص222.
    4) صفين لنصر بن مزاحم ص248 مصر ، وذكر السيد محمد بن عقيل في « النصائح الكافية » ص35 بمبئي أن ابن عدي أخرجه عن أبي سعيد والعقيلي عن الحسن ، وروي عن الصادق عن أبيه عن جابر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 50 )

    فقال : « إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا. »
    وهناك دقيقة أخرى كانت ملحوظة للإمام الشهيد أفرغها بهذه الكلمة الموجزة وهي أن الانسان اذا عاهد آخر لا يجوز له نقض عهده ولو كان مشركا ولذا وردت الأخبار وفقا للآية الكريمة : « وان أحد المشركين استجارك فأجره » فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم ولو كان عبدا أو إمرأة » وفسره الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر المشركين فأشرف رجل منهم وقال اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.
    وحينئذ يقول أبو عبدالله : ان هذه المسألة التي أعطيناها معاوية على ما فيها من ظلم وغشم بعد أن صدرت منا لا يصح نقضها ، إذا فكيف بالبيعة الصادرة لامام الحق المنصوب من قبل الله سبحانه فانها أولى وأجدر بالإلزام وعدم النقض ، وان لا تتباطأ الأمة عن القيام بها ، وهذا من سيد الشهداء درس راقي وفقه شامل لو كانت هناك آذان صاغية ، وقلوب واعية ونفوس زاكية.
    ومن هذا الباب ما جرى للحسين مع علي بن بشير الهمداني وسفيان بن أبي ليلى الهمداني النهدي ، والمسيب بن نجبة ، وعبد الله بن الوراك وسراح بن مالك الخثعمي ، فإنهم دخلوا عليه ، وخبروه بما رد به عليهم أبو محمد ـ عليه السلام ـ واستنهضوا الحسين لمقارعة ابن هند.
    فقال لهم الحسين : « صدق أبو محمد ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الإنسان حيا ». (5)


    فأبو عبدالله أرجأ هذه النهضة لسد باب المنكر إلى الوقت المعلوم لديهم من جدهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قام بها سيد شباب أهل الجنة يوم جاء ذلك الوقت فدوّى العالم بصرخته الأحمدية ، وعرّفت الأجيال المتعاقبة مخازي ابن هند ، ويزيد ، ومن لاث بهم من جراثيم الفتن ، فتوقدت العزائم واحتدمت النفوس من أناس حتى أجهزت على حياتهم ، ودمرت ملكهم وعرفت الأمة مبلغ أولئك المتسنّمين منبر النبوة من الشقاء ، ومبلغ من ناوأهم من أهل البيت من الحق والسعادة.
    وغير خاف أن هذا التذمر من رجالات الشيعة ، ومجابهتهم الإمام الزكي بتلك
    ____________
    5) الأخبار الطوال ص222.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 51 )

    الكلمات المقذعة لايحط من مقدار اعتقادهم بإمامته ، وإنما صدر منهم ذلك لأن علائقهم الدينية ، والودية كانت مقصورة على جمال الحق القائم بمجالي الكتاب ، والسنة الوضيئة ، ومحيا حجة الزمن الأبهج ، وحيت أحسوا بما يرام بالدين من الصدع ، وبإمام الوقت من الإضطهاد ، وبالمؤمنين من استئصال الشأفة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وأظلمت الدنيا في أعينهم ، ولم يكن يحوون من سعة العلم بالحقائق والعواقب ما يخفف تلك الوطأة ، ويخمد فورة أنفسهم الملتهبة من تحكم الضلال بالأمة ، واسترداد الجاهلية الأولى ، فهنالك انتأت المشاعر عن النفوس ، فواجهوا الامام بما عرفت ولهجوا بما لهجوا به وهم غير خارجين عن طاعة ،ولا متضعضعين في عقيدة.
    ولا ريب أن مقادير الرجال متباينة وقابليتهم لتحمل الأسرار متفوتة ولم تكن أسرار الأئمة يتحملها كل أحد ، ولذا كان سيد الشهداء يفيض من علمه المخزون على كل من طلب منه التريّث عن السفر الى العراق بما يسعه ظرفه وتتحمله قابليته ، ولم تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره.
    وهذا الذي ذكرناه هو الأساس في اجتماع رجالات الشيعة ، وعقد أندية المؤامرة لحل أغلال الإستعباد عن أعناقهم باستدعاء أبي الضيم ـ عليه السلام ـ لعاصمة الخلافة العلوية لقمع أشواك الظلم المتكدسة في طريق الشريعة ، وقمع جراثيم الفساد الوبيئة ليتم الفتح المبين ، ويستضيء العالم بألق المبادئ الصحيحة والأنظمة الربوبية التي لاقى المشرع الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ المتاعب في نشرها.
    وان الوقت الذي أرجأ أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ النهضة فيه حيث كان يقول لأولئك الخلّص من الشيعة : « ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الانسان حيا » يعني معاوية ، هو يوم نهضته بمشهد الطف.
    فكان اجتماع الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي لأنه وجه وجوههم جليل في قومه لا يفتات رأيه ومساعيه في أيام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الثلاثة مشكورة ، فذكروا هلاك معاوية وما لاقته الشيعة في أيامه وأشد منها عهده « ليزيد » الذي وصفه زياد بن أبيه لعبيد بن كعب النمري : بأنه صاحب رسله وتهاون بالدين ، وقد أولع بالصيد ، وأن أمر الإسلام وضمانه عظيم ، فلا يصلح يزيد للخلافة ثم قال له : ألق معاوية وأد هذا عني وخبره بفعلات يزيد وتهاونه بالدين (6).
    ____________
    6) تاريخ الطبري ج6 ص169 وكان ذلك على اثر كتاب معاوية لزياد يطلب منه أخذ البيعة لولده
    =


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 52 )

    وقد اعترف بذلك ابن مرجانة حين كتب إليه يزيد أن يسير لحرب ابن الزبير فقال لمن حضر عنده : لا والله لا أجمعها للفساق الفاجر أقتل ابن بنت رسول الله وأهدم الكعبة (7).
    ووصف السبط الشهيد حال زيد في كتابه لمعاوية وفيما قال له : « لقد دل يزيد من نفسه علىموقع رايه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب ، والحمام السبق ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده ناصرا ، ودع ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله تعالى بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ( ».





    وبهذا البيان تلطف سيد الشهداء بالنصح الشافي لدحض الضلال لكنه لم يجد أذنا صاغية ، ولا قلبا واعيا، فأخذت بوارق الإرهاب وبواعث الطمع من معاوية يسدّان طريق الحق.
    فلما هلك معاوية استنشق الكوفيون روح الأمن وأبصروا بصيصا من نور الإمامة فعزموا على أن يكتبوا الى الحسين ـ عليه السلام ـ بالمصير الى عاصمة أبيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ليفتح لهم باب السجن المظلم.
    فقام سليمان بن صُرد الخُزاعي خطيبا حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أن معاوية قد هلك ، وإن حسينا قد تقبض علىالقوم ببيعته وقد خرج الىمكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه ».



    فقالوا بأجمعهم : إنا نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه.
    ____________
    =
    يزيد من الكوفيين.
    7) تاريخ الطبري ج7 ص6.
    الإمامة والسياسة ج1 ص154.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 53 )


    كتبهم للحسين عليه السلام :

    ثم كتبوا إلى الحسين ـ عليه السلام ـ :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    للحسين بن علي ـ عليه السلام ـ من سليمان بن صُرَد ، والمسيب بن نَجَبة ورَفاعة بن شداد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة : سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد الذي انتز على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها ، وتأمر عليها بغير رضي منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود إنا ليس لنا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق.
    والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولانخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنشاء الله.
    ثم سرحوا الكتاب مع عبدالله بن مِسمَع الهمداني وعبدالله بن وأل وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان .
    وبعد يومين كتبوا له مائة وخمسين كتابا من الرجل والإثنين والثلاثة والأربعة وسرحوا ذلك مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبد الله بن شداد الأزدي وعمارة بن عبدالله السلولي.
    وبعد يومين آخرين كتبوا اليه مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 54 )

    الحنفي ، ونصه :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    للحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فحيّهلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل العجل ، والسلام.
    ثم كتب شَبَث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار فاذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ، والسلام (1).
    وأخذت الرسل من أهل الكوفة تتوارد عليه بكتبهم حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب (2) والحسين ـ عليه السلام ـ متريّث عن الجواب حتى اذا تابع هتافهم بكتبهم التي ملأت خرجين (3) لم يسعه السكوت فكتب إليهم أجمع صورة واحدة :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فإن هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ، وكانت مقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى.
    وأنا باعث اليكم بأخي ، وابن عمي ، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ إنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم عليكم وشيكا إنشاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله تعالى ، والسلام (4).
    لم يخف على الإمام الشهيد نيات القوم ، ولا ما يقع منهم من التخاذل والتباعد
    ____________
    1) هذه الكتب ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد.
    2) اللهوف للسيد ابن طاووس ص19 صيدا.
    3) الأخبار الطوال ص231.
    4) نص على هذا الكتاب الشيخ المفيد في الإرشاد ، والفتال في روضة الواعظين ص149 ، والطبري في التاريخ ج6 ص197 ، وابن الأثير في الكامل ج4 ص8.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 55 )

    عن نصرة الحق حينما تستعر الحرب ، ويتجمع الدهر للوثوب على فئة المجد ، وعصبة الخطر من الهاشميين ، والصفوة من أصحابهم ، وكيف يخفى عليه غدرهم وعدم وفائهم بالوعد وهو يشاهد كل ذلك بواسع علم الإمامة ، والتجارب الصحيحة مما جرى منهم مع الوصي ، وأخيه المجتبى ـ صلوات الله عليهم ـ والأخبار النبوية والعلوية بما يقع من الملحمة الكبرى التي أتت على النفوس الطاهرة وأعقبت الفتح المبين بنهضة رجالات الدين في وجه المنكر والضلال حتى دمّرت مُلك الأمويين واستأصلت شأفتهم من جديد الأرض فأصبحوا عبرة لمن يتجبّر في هذه الدنيا الزائلة.
    فكان أبي الضيم ـ عليه السلام ـ على علم ويقين ممايجري منهم معه لكنه أراد إتمام الحجة على أولئك الغدرة فأجاب سؤلهم ولبّى طلبتهم بعد التوكيد عليهم بكثرة الكتب والرسل منهم كي لا تكون الحجة لضعفاء العباد على إمام منصوب من قبل الله سبحانه لارشاد الخلق وايقاظهم من رقدة الجهل المردي.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 56 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 57 )


    ولاية مسلم عليه السلام

    غير خاف أن تمثيل نفسية الإنسان الكامل بأوضح مجاليها إنما هو ببث أفكاره الناضجة والإشادة بنواياه الحسنة ، وهي الغاية الفذة من ارسال الرسول سواء في ذلك أن يكون القصد به نشر أخلاق مرضية تتهذب بها النفوس ، أو تعليم علوم ناجعة تتكهرب بها العقول ، أو إقامة عدل ترتاح به الأمم أو الدعوة إلى دين تعتنقه الأقوام ، أو توطيد سياسة تهش غليها الأمة فلا ندحة للمرسل إلا أن يبعث لأي من هذه الغايات الكريمة من هو المثل الأعلى فيها من بين لفيفه وحاشيته فيكون نبوع الرسول مجلبة لرغبات الأمة الموصلة الى مرضات ذلك المصلح ووقوفه على غايته من الإرسال.
    ويجب حينئذ أن يكون ذلك الرسول حكيما في عمله بليغا في منطقه ليضع الأشياء في مواضعها ، ويكون قوله على وفق رأيه السديد ولا تفوته مقتضيات الأحوال فيكون أدعى لنشور الدعوة وأنم عن عبقرية المرسل.


    إذا كنت في حاجة مرسلا * فأرسل حكيما ولا توصه

    وإنا لنكتفي عن استعراض الشروط الواجبة في السفير والكلمات التي تنم عما يراد منه بذكر ما اتفق عليه أرباب الحديث والتفسير فيمن أرسل مبلغا لأوائل « برائة » فإن التأمل في هذه الحادثة توقف النبيل على ما يراد من السفير وتلم بالشرائط كلها.
    والقصة في ذلك أن جبرئيل هبط على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أول ذي الحجة سنة تسع من الهجرة (1) بالآيات من أول برائة ليقرأها على قريش في الموسم فأرسل
    ____________
    1) مصباح الكفعمي ص272 بمبئي ، والإقبال لابن طاووس ص533 إيران.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 58 )

    رسول الله أبابكر بها ليقرأها في منى على قريش ، فلما كان على مراحل من المدينة هبط جبرئيل يأمر النبي أن لا يؤديها إلا هو أو رجل منه (2) ولما رجع أبوبكر يبكي قال له ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لا عليك وكيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار » (3)».
    ما أبلغ هذا التركيب وما أبدع هذا الحوار ، وأن لهذه الكناية قيمة راقية في سوق البلاغة فلقد أشار رسول الله بكلمته الذهبية الى معرفته بضعفه يوم كان معه في الغار ، وأنه لا طاقة له على ملاقاة المشركين من طواغيت قريش فكيف يكون حينئذ مبلغا عنه ومحذرا أولئك الطعاة وقد يجره الخوف والضعف الى الوهن في قدس الرسول الأمين.
    واعتذار الخطيب الشربيني في « السراج المنير » في تفسير الآية بحمل فعل النبي على مقتضى قواعد العرب من أن الرئيس اذا أراد أن يحكم عهدا بينه وبين أحد فأما أن يحضر بنفسه ، وأما أن يبعث أحد أقاربه ، متفكك البرهان باطل القياس فإن تلك القاعدة التي تخيلها لو كانت معروفة لما تخطاها النبي الأعظم في أول الأمر ، ولما خاف أبو بكر من نزول شيء في حقه حتى بكى لذلك بل كان يعتقد أن الأمر جرى على أساس معروف بين العرب وأجدر بنبي العظمة أن لا يعدوه.
    ولكن المتأمل في الحديث الحامل لهذه الحادثة يعرف منه بجبلاء منزلة كبرى لعلي أمير المؤمنين وامتيازه على غيره من المهاجرين والأنصار حتى أقرباء النبي وخاصته الذين هم بحضرته وليست تلكالمنزلة إلا النيابة العامة والمرجعية لما تحتاج إليه الأمة ، وقد أشار إلى هذا التنزيل بقول جبرئيل للنبي « أو رجل منك » فإن تلك الذات المكونة من جوهر القداسة والممتزجة بالعلم الإلهي أليق في تمثيل مقام النبوة فيما يرد عليها من المسائل التي لا يعرفها إلا من استمد من اللوح المحفوظ ، وأما غيره فحيث لم ينتهل قطرة من ذلك البحر المتموج بالحكم والأسرار فالخطأ والزلة اليه أقرب من حبل
    ____________
    2) حديث عزل أبي بكر وإرسال أمير المؤمنين مكانه في تفسير الطبري ، والدر المنثور للسيوطي ج3 ص209 ، والكشاف ج2 ص138 ، ومسند أحمد ج1 ص3 وص151 وج3 ص283 ، ومستدرك الحاكم ج2 ص331 ولم يتعقبه الذهبي في التلخيص ، وكنز العمال ج1 ص247 ، وخصائص النسائي ص20 ، والرياض النظرة ج2 ص173 ، وتاريخ الطبري ج3 ص154 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص111 ، وتاريخ الخميس ج2 ص156 ، والروض الآنف ج2 ص328.
    3) الإقبال لابن طاووس ص534 وص536.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 59 )

    الوريد حينما تعرض عليه الأسئلة وتلقى أمامه الشبهات فعندها يعود الفشل على ذلك النبي المعصوم من كل عيب ونقصان لكون الرسول دليل عقل المرسل.
    نعم للخطيب أن يقول : إن كان الحال على ما وصف فلماذا لم يبعث النبي عليا من أول الأمر ؟ فيقال له : إن النبي لاحظ في ذلك نكتة مهمة وهي تعريف الناس بأن الباعث له على إرسال أمير المؤمنين الوحي الإلهي الذي لابد من إنفاذه ولو تقدم إلى علي ـ عليه السلام ـ في أول الأمر وأمره بالمسير بالآيات لكثرت القالة ممن خالطهم الريب والشك بأن القرب والرحم حرّكاه على تقديمه وتمييزه على غيره والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أجل من أن يعمل عملا يكون لضعفاء قومه الحجة عليه.
    إذا وضح هذا فهلم معي إلى من كان مرسلا الى حاضرة كبرى « الكوفة » ليهتف بالغايات جمعاء المطلوبة من الإمام المعصومين ، وكان مبعوثا من إمام عدل وهدى وموئل حكمة وحجى ، معصوم من الخطأ مفطوم من الزلل « كمسلم بن عقيل » الذي حظي بالنيابة الخاصة من إمام وقته سبط نبي الهدى لينشر في الملأ العراقي مبادئ الدين القويم ويوقفهم على أمره الحكيم ، ويقيم الحلال والحرام ويزيح الشبه والأوهام ، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظمة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن ، كل ذلك بعد أن يدير فيهم الشؤون الإدارية والعسكرية لتوطيد السلام وكلاءة الأمن العام.
    واذا كان اللازم على الإمام أن يلحظ هذهالمهمات كان الواجب أن ينتخب لها كفؤا يرتصيه من وجهة العلم والدين ومن وجهة التقوى والورع ومن وجهة الفكرة والنظر ومن وجهة السياسة والكياسة.
    واذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يرفق من يرسله الى جهة من الجهات بكتاب يلم بتفاصيل الأحكام الدينية والمدنية فيقول في كتابه لعمرو بن حزم الأنصاري لما ولاه اليمن :


    بسم الله الرحمن الرحيم

    هذا بيان من الله ورسوله « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » عقد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يأمره بتقوى الله في أمره كله « ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وآمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ويفقّههم في الدين ، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم وبالذي عليهم ، ويلين للناس


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 60 )

    بالحق ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله عز وجل كره الظلم ونهى عنه وقال : « ألا لعنة الله على الظالمين » ويبشر الناس بالجنة وبعملها وينذر بالنار وبعملها ، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته وما أمر الله به في الحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة ، وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب صغير إلا أن يكون ثوبا واحدا يثني طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يجتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه الى السماء ، وينهى أن لا يقص أحد شعر رأسه اذا عفا في قفاه ، وينهى اذا كان بين الناس هيج عن الدعاء الى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم الى الله وحده لا شريك له ومن لم يدع الى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم الى الله وحده لا شريك له.
    ويأمر الناس باسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم الى المرافق ، ويمسحون برؤوسهم كما أمر الله عز وجل وأرجلهم إلى الكعبين ، وآمره بالصلاة لوقتها واتمام الركوع والخشوع ، ويغلس بالفجر ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يُقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل (4).
    ويأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح اليها ، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وما سقت السماء وعلى ماسقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياة ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعه جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله التي افترض الله عز وجل على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له.
    ومن أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خاصا من نفسه ودان بدين الإسلام
    ____________
    4) التفرقة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء محمولة على الفضيلة بعد ورود الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته بصحة الجمع بينهما في غير سفر ولا ضرورة ، رواه البيهقي في السنن ج3 ص166 من طرق أربعة ، وفي مسند أحمد ج1 ص354. قيل لابن عباس : لم جمع رسو الله بين الصلاتين ؟ قال : كي لا يحرج على أمته ، وفي المبسوط لشمس الدين السرخسي ج1 ص149 نقل عن أحمد بن حنبل جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في الحضر من غير عذر ، وروى عن ابن عباس أن رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر وأجمع علماء الامامية على جواز الجمع بينهما ولو لغير عذر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 61 )

    فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها ، وعلى كل حالم ذكرا وانثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته (5).
    هكذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع عماله وولاته ولكنه لما أرسل أمير المؤمنين الى اليمن بعد صلح أهل نجران لم يرفقه بمثل هذا الكتاب لعلمه بوقوفه على الأحكام وخبرته بالشؤون التي تدير الأمة وهو باب مدينة علم الرسول ، وأقضى الأمة وأفقهها.
    كما أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عند ما يرسل واليا من قبله يشرح له الامور الواجبة على الوالي القيام بها كما فعل مع الأشتر ومحمد بن أبي بكر وغيرهما.
    إذا فحسب مسلم بن عقيل من العظم أن يكون في نظر الإمام الشهيد كعمه الوصي عند النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ واقفا على الدروس الإلهية والمعارف القدسية بصيرا بوجوه المحاججة والنظر ، خبيرا بمداراة الخاصة والعامة ، رابط الجأش عند مستن النزال ، لم ترعه الهزاهز ولم توقفه المشكلات عن كشفها ، بحبلي البرهان ولم يثنه اشح عن بذل النائل في محله اللائق ، ولم تأخذه في الله لومة لائم في إحقاق الحق وفصل الخصومات والإنتصاف للمظلومين .
    فأبو عبدالله لم يرسل مسلما إلى العراق واليا من قبله إلا وهو يعلم أنه من فقهاء بيته الهاشمي وعلماء أسرته وأتقياء فئته وساسة ذويه ومن ذوي الحنكة واللياقة من قومه ، وإنه لحري بإقامة الأمت والعوج وتثقيف الأود وتهذيب الأمة وإصلاح الفاسد ودحض الأباطيل فلا يحتاج إلى شرح ما يجب عليه من الأعمال لعقله الوافر وعلمه الغرير وسياسته الحكيمة وتحرية المصالح العامة.
    ومن هنا اقتصر الإمام الشهيد في صك الولاية على تعريف أهل الكوفة بأن مسلما أخوه وثقته والمفضل عنده من أهل بيته (6).
    ولا يرتاب الواقف على هذا الصك في أن الحسين ـ عليه السلام ـ لا يريد من
    ____________
    5) تاريخ الطبري ج3 ص157 وصبح الأعشى ج10 ص9 وفتوح البلاذري ص77 وسيرة ابن هشام ج2 ص384.
    6) المنتخب للشيخ الجليل الطريحي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 62 )

    الوثاقة التي حازها « مسلم » إلا تلكم الغايات الكريمة التي ألمعنا اليها وقيامه بشؤون الولاية العامة واحتوائه على مجامع الفضيلة ، ثم تلك الأخوة التي شرفه بها سيد الشهداء لا تعدو أن تكون أخوة شرف ووداد ، أخوة علم ودين أخوة سؤدد وخطر ، وأي ابن انثى يرتضيه « إمام الحق » أخاله من بين المسلمين إلا أن يكون ذلك الإنسان الكامل الذي لا يدرك شأو مجده ولا يبلغ أحد مدى عظمته ـ صلى الله عليه وعلى آبائه ـ.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:07 am

    سفر مسلم إلى العراق

    تقيض مسلم ـ عليه السلام ـ لما ندبه اليه أبو عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ من حمل أعباء النيابة الخاصة ومعه صك الولاية أو الشرف الوضاح والسؤدد الخالد فخرج من مكة للنصف من شهر رمضان (1) على طريق المدينة وإذ وصلها صلى في مسجد الرسول وزار بقعته المقدسة (2) ووذعه الوداع الأخير ، وجدد هنا لك المواثيق المؤكدة على ما انطوت عليه أضالعه من التضحية والمفادات دون إحدى الحسنيين الحياة السعيدة أوالخلود بالذكر المؤبد بمرضاة رب العالمين ، ثم ودّع أهله وسافر إلى العراق ومعه قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبدالله السلوي وعبدالرحمن بن عبدالله الأزدي (3) مع دليلين استأجرهما من قيس يدلانه على الطريق (4).
    ولم يأخذ الطريق الجدد إلا وألق الحق معه ولم يهبط الى واد إلا وعبق الصدق يصحبه ومزيج نفسه شهامة من قومه وبسالة من عمه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وعزيمة ممن شرفه بالولاية والنيابة عنه سيد الشهداء ، وأنه لايرى الموت دون الحق إلا سعادة والحياة مع الضالمين إلا برما.
    وبينا هو يسير الى قصده الأسنى إذ ضل الدليلان عن الطريق فتاهوا في البر
    ____________
    1) مروج الذهب ج2 ص6| شرح الشريشي على مقامات الحريري ج1 ص192.
    2) تاريخ الطبري ج6 ص198.
    3) كامل ابن الاثير ج4 ص9 ، والأخبار الطوال ص231.
    4) الإرشاد للشيخ المفيد.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 64 )

    واشتد بهم الحر والعطش ولم يستطع الدليلان حراكا ولكن بأن لهما سنن الطريق فقالا لمسلم عليك بهذا السمت فالزمه لعلك تنجو ، وحيث أنه لم يسعه حملهما للتوصل الى النجاة لأنهما على وشك الهلاك وغاية ما وضح للدليلين العلائم المفضية الى الطريق لا الطريق نفسه ، ولم تكن المسافة بينهم وبين الماء معلومة وليس لهما طاقة على الركوب بأنفسهما ولا مردفين مع آخر وبقاء مسلم ـ عليه السلام ـ معهما إلى منتهى الأمر يفضي الى هلاكه ومن معه فكان الواجب المؤكد التحفظ على النفوس المحترمة بالمسير لادراك الماء فلذلك تركهما في المكان (5).
    ومضى على الوصف ومات الدليلان عطشا وأفضى مسلم إلىالماء فأقام به وهذا الموضع (6) يعرف بالمضيق من بطن الخبت (7).
    وكتب الى الحسين ـ عليه السلام ـ مع رسول استأجره من أهل هذا الموضع يعرفه خبر الدليلين وأنه ينتظر أمره.
    وهنا نستفيد منزلة عالية لمسلم في التقوى والورع في أمر الدين وأنه لا يتخطى رأي حجة الوقت في حله ومرتحله وإنما كتب الى إمامه بهذه الحادثة لأنه احتمل أن يكون هذا الحادث يغير رأي الإمام فتوقف عن المسير ليرى ما عنده ويكون على بصيرة في إنفاذ أمره.
    ولما قرأ السبط الشهيد كتاب مسلم أمره بالمسير الى مقصده تعريفا بأن هذه الأحوال لا تغير ما عزم عليه من إجابة طلب الكوفيين وقد ملاؤ الأجواء هتافا بأنهم لا إمام لهم غيره ينتظرونه ليقيم ودهم فلو لم يجبهم تكون لهم الحجة عليه يوم نصب الموازين والإمام المنصوب من قبل الله تعالى لا يعمل عملا يسبب اللوم عليه.
    ____________
    5) استنبطنا ذلك مما يحمله مسلم من القدسية التي تمنعه من ترك الأولى فضلا عما يراد من الدين بل ما تقتضيه الإنسانية.
    6) الأخبار الطوال ص232.
    7) في الطبري ج6 ص198 ، وابن الأثير ج4 ص9 الخبيت بالخاء المعجمة والباء الموحدة ثم المثناة من تحت وبعدها المثناة من فوق ، وفي إرشاد الشيخ المفيد الخبت بالخاء المعجمة ثم الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ، وفي نص الأخبار الطوال ص 232 الحربث بالحاء والراء المهملتين ثم الباء الموحدة وبعدها ثاء مثلثة وهو غير مراد قطعا لأن الحربث كما في تاج العروس ومعجم البلدان نبت طيب ، وأما ما في الإرشاد فيمكن إرادته لأنه في تاج العروس ج1 ص614 ذكر من معانيه المتسع من الأرض والوادي العميق الوطيء ينبت العضاة وقرية لزبيد في البر مشهورة وماء لكلب كما أن الأول يمكن ارادته لأن الخبيت كما في معجم البلدان والمعجم مما استعجم للبكري ماء لبني عبس وأشجع يقع في العالية وهي الحجار وفي المستعجم أنه موضع على بريدين من المدينة.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 65 )


    مسلم لا يتطير

    تمهيد :
    جاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ حاملا لواء الدعوة الآلهية ، وفيها بث روح النشاط في معتنقيها الى كل معروف من راجح في الشريعة ، أو مباح تداولته العقلاء في التوصل الى مقاصدهم لئلا يربكهم العطل ، فيتقهقروا عن الرقيّ ، ويعوزهم الحصول على الثروة ، ويضيق نطاق المملكة عن التوسع ، ويعروا ملكهم عن الأبهة ، ويقصروا عن نيل الغايات يستنتج ذلك من الأحاديث النبوية ، وكلمات الأئمة ، من خلفائه الواردة في الحث على التجارة والزراعة والصدقة ونحوها وإليك يسرا منها لتعرف الغاية المرموقة للشريعة المطهرة.
    فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : « تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في الغنم ، وان من بات ليلته كالا من طلب الحلال بات مغفورا له »



    وقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « تعرّضوا للتجارة فان فيها غنى لكم عما في أيدي الناس وان الله يحب المحترف الأمين ، فهذا داود ـ عليه السلام ـ أوحى اليه الله تعالى : انك نعم العبد إلا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك ، فبكى داود ـ عليه السلام ـ أربعين صباحا حتى أوحى الله تعالى اليه أني ألنت لك الحديد فاعمل منه ، فكان يعمل بيده كل يوم درعا يبيعه






    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 66 )

    بالف درهم فعمل ثلثمائة وستين درعا باعها بثلثمائة وسبين ألفا واستغنى بها عن بيت المال. »

    ورأى محمد بن المكندر أبا جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ خارجا إلى بعض نواحي المدينة في وقت حار وهو يتصبب عرقا فقال له : إنك من أشياخ المدينة تخرج على مثل هذا الحال لطلب الدنيا أرأيت لو جاءك أجلك وأنت على هذا الحال ؟ ، فقال ـ عليه السلام ـ : « إني لا أخاف أن يجيئني أجلي على هذا الحال وأنا في طاعة الله أكف بها لنفسي وعيالي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. »



    ورأى ابو عبدالله الصادق ـ عليه السلام ـ المعلى بن خنيس متأخرا عن السوق فقال له : « اغدو الى عزك فإن رسول الله قال : ملعون ملعون من ألقى كله على الناس. »


    وقال ابو الحسن موسى ـ عليه السلام ـ : « من طلب الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله (1) ».


    وقالو ـ عليهم السلام ـ في الصدقة : « إنها تذهب نحس ذلك اليوم وان الله يدفع بالبكور شر ما ينزل من السماء الى الأرض في ذلك اليوم وان يد المعطي أحد الأيدي الثلاثة التي يقول فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : يد الله العليا ، ويد المعطي تليها ، ويد السائل السفلى فاعط الفضل ولا تعجز نفسك (2) ».




    وفي الزراعة يقول الصادق ـ عليه السلام ـ : « والله ما عمل أحد عملا أحل ولا أطيب من الزراعة والغرس فإن الزراعة الكيمياء الأكبر ولقد جعل الله أرزاق أنبيائه في الزراعة والضرع إلا ادريس كان خياطا وأمر سبحانه وتعالى آدم


    ____________
    1) هذه الأحاديث ذكرها الحر العاملي في الوسائل ج2 ص527 و529 و531 طبع عين الدولة.
    2) النصوص 47.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 67 )

    ـ عليه السلام ـ أن يحرث بيده ليأكل من كدّه (3) ».

    وهذه آثار كافية في التعريف بما عليه الشريعة من الحث المتأكد للدؤوب على الأعمال والنشاط في أمر الدنيا للعون على الآخرة والتكفف عما في أيدي الناس وكفاية ما أهمهم من أمر العيال وأن التواني عن العمل مبغوض للشارع المقدس لاستلزامه محاذير لا تتفق مع ما يراد من البشر في التوجه نحو الخالق جل شأنه القابض على أزمّة القضاء والقدر وأن الواقف على مباحث علمي الأخلاق والفقه يجد الكثير من الشواهد على هذه الدعوى ومنها منفيات جاءت بها الملة الحنيفية اكتسحت ما تداوله الجاهليون مما يضرب على يد النشيط ويوقف سير البشر عن بلوغ الغايات.
    كالتأثير بمجاري النّجوم وسعود الأيام ونحوسها وإن كنا لا ننكر أن المشيئة الإلهية جعلت للأوقات الخاصة والآيات الكونية كالكسوف والخسوف والزلزلة وظهور المذنبات وتغيير الهواء دخلا في نزول البلاء الذي قدره والخير الذي أمضاه لكن لاعلى نحو العلة التامة كعلية النار للإحراق بحيث لا يمكن التخلف عند حدوثها ، وإنما تلك الحوادث من المقتضيات التي يرتفع أثرها ببعض الأسباب المقارنة لها.
    ومن هنا نرى المشرع الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر أمته بالفزع الى الله تعالى بالصلاة والدعاء والاستغفار ونحوها مما فيه الزلفى للمهيمن جل شأنه عند حدوث الأشياء المخيفة ولا مانع عقلا من أن يودع المولى سبحانه وتعالى في مجاري الكواكب والأوقات الخاصة جهة اقتضاء لنزول بائه ، ويجعل بمقتضى لطفه وحنانه وكرمه على عباده أسبابا آخر تسلب آثر تلك المقتضيات إن وقعت مقارنة لها.
    وقد جاءت الشريعة بكثير من هذه الأسباب الرافعة لتأثير المقتضيات كصلة الأرحام الموجبة لنمو العدد من العمر والمال والولد وكالصدقة والتوكل على الله والإستغفار المذهب لنحس اليوم وشر ما ينزل من السماء.
    ومن هذا الباب ما جاء : أن الرؤيا على ما عبّرت ولا تقصوها إلا على من يعقل (4) ولا يحدث بها إلا حبيب أو لبيب (5) فالحبيب يردعه حبه عن أن يسيء الى حبيبه بالتعبير السيء واللبيب يردعه اللب والعقل عن اساءة أخيه في الدين ، والغاية منه رفع المساءة
    ____________
    3) المصدر ص649.
    4) البحار ج14 ص436.
    5) المجازات النبوية للشريف الرضي ص251 مصر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 68 )

    عن النفوس الباعثة على التأخر في العمل وتوليد روح الإقدام فيها بكسح العرقلة أمام مسعاه.
    وليس الغرض أن تعبير الرؤيا بالحسن مما يغير القدر الجاري بل القضاء يكون على مجراه حتى مع حسن التعبير إذ ليس في نفس الرؤيا دليل قطعيّ على دفع القدر المحتوم فيما اذا كان التعبير حسنا بل الغاية أن الانسان مع حسن التعبير لا يتأخر عن العمل بخلاف التعبير السيّء فانه يوجب الفتور والتأخر عن الحركة وربما يؤدي الى الشرك.
    ومما اكدت الشرعية نفيه « الطيرة » فانها اكتسحت ببيانها الاوفى ما اعتاده الجاهليون مما يردع العامل عن قصده ولا يتاح له الحصول على غاياته وأوضحت مضار هاتيك العرقلة أمام مسير الأمة . فالمسلم المستنير بالتعاليم الربوبية لا يكترث بالأقرن والأعضب والبارح (6).
    والى هذه التافهات من عادات الجاهلية يشير الكميت الأسدي بقوله :


    ولا أنا ممن يزجر الطير همه * أصاح غراب أم تعرض ثعلب
    ولا السانحات البارحات عشية * أمر سليم القرن أم مر أعضب

    وهذه العقيدة الراسخة في نفسه استفادها من تعاليم أئمته من آل الرسول ـ عليهم السلام ـ الدعاة الى شرع جدهم الذي لم يزل يهتف غير مرة بأن الطيرة مرفوعة عن هذه الأمة (7) وأنها من الشرك وما منا من يتطير ( ومن استقسم أو تكهن أو تطير طيرة تردة عن سفره لم ينظر الى الدرجات العلى يوم القيامة (9) وأن من أرجعته الطيرة من حاجة فقد أشرك (10) فاذا تطيرت فامض (11).
    وكتب بعض البغداديين الى أبي الحسن عليه السلام ـ يسأله عن الخروج يوم الأربعاء ، فقال :
    ____________
    6) في تاج العروس ج2 ص123 : البارح ما مر من الطير من يمينك الى يسارك ، والسانح عكسه ، والأول يتطير منه دون الثاني ، وفيه ج1 ص387 : الأعضب مكسور القرن والأقرن صحيحة.
    7) الخصال للصدوق في باب التسعة.
    نهاية ابن الأثير ج3 ص58 ، وشرح النهج الحديديّ ج4 ص430.
    9) محاضرات الراغب ج1 ص67.
    10) مفتاح دار السعادة ج2 ص274.
    11) محاضرات الراغب ج1 ص68.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 69 )

    « من خرج يوم الأربعاء خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وقضى الله حاجته » (12).

    ولما سمعت أم كلثوم أباها أمير المؤمنين يقول : « صوائح تتبعها نوائح » قالت : يا أبة تتطير ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به ولكن قول جرى على لساني (13). »


    ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل المالئين عن صراط الشريعة المنحرفين عن التعاليم المقدسة فانهم قالوا لرُسلهم : « إنا تطيرنا بكم لئن تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون » وفي الحكاية عن قوم صالح : « قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله » ، وفي الحكاية عن قوم فرعون : «فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا انما طائرهم عند الله » ، وفي الحكاية عن أعداء رسول الله : « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ».
    فالطائر سواء فسر بالبلاء المنزل عليهم أو العمل المسبب لنزول البلاء تكون نسبته الى الله تعالى باعتبار أنه المجازي لهم على أعمالهم القبيحة ، ونسبته اليهم باعتبار تسبيبهم لنزول البلاء بالجحود والطغيان على المولى الحكيم جل شأنه وتكذيب الرسل بما جاوأ به من عند ربهم وأنذروا أممهم الذي هو سبب لتقدير قضاء الله وحلول بلائه ونقمته.
    وعلى كل حال فالشريعة المطهرة ردعت عن كل ما يعرقل البشر عن الفوز والنجاح والمضي في الأعمال وبلوع الغايات ، وان التطير بتلك الأمور المعروفة عند العرب فمع اعتقاد أن لها التأثير في الخير والشر فهو شرك كما في الحديث ، ومع عدم الإعتقاد بها فمن الخطأ الواضح التأخير عن الأعمال عند عروضها وان أشد الناس خوفا وأضيقهم صدرا وأحزنهم قلبا كثير الإحتراز لما لا يضره ولا ينفعه ، وكم شخص حرم بذلك نفسه من الرزق بتأخره عن الأعمال لمجرد سماع أو رؤية ما يسوؤه.
    وقد أوضح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لامتّه فساد الطّيرة ليعلموا أن الله تعالى
    ____________
    12) من لايحضره الفقيه للصدوق ص168.
    13) المستدرك للنوري ج2 ص27.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 70 )

    لم يجعلها سببا لما يخافونه لتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم الى وحدانية الباري عز شأنه فيترسلون في أعمالهم ولا يحذرون من وخامة العاقبة فلا ينبغي للانسان التوقف في أعماله متكلا على هذه الأمور التي لا يقام لها وزن في جنب الإرادة الإلهية.
    ثم من لطف الشارع بالأمة جعل لهم أسبابا يكون قيامهم بها منجاة من وخامة ما يتطيرون منه فأرشدهم إلى أن التوكل علىالله يذهب ما يخاف من الطيرة (14) ، والصدقة تدفع الأضرار الموهومة (15) ، والدعاء عند السفر منجاة من الشر كما قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عند خروجه إلى النهروان : « اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا ضير الا ضيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك (16) ».


    أو كما قال موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ : « اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فاعصمني من ذلك (17) ».


    وكما صدر من الشارع نفي الطيرة أخبر عن حسن الفأل بالأسماء الحسنة ، والسر فيه أن التفأل يوجب النشاط في العمل والمضي في المقصد وهو الذي يريده المولى سبحانه من العباد.
    فالتطيّر بما أنه تشاؤم من المرئي أو المسموع يكون قاطعا للعبد عن مقام « إياك نستعين » وفاتحا على نفسه باب الخوف بغير الله ومن هنا أطلق عليه الشرك وتبرّأ منه النبي وأهل بيته فقالوا : « ما منا من يتطير. »
    وأما الفأل فيحث أنه من الأشياء السارة للقلوب المؤيدة للآمال ، الفاتحة باب الرجاء المسكنة للخوف ، الرابطة للجأش الباعثة على الإستعانة بالله والتوكل عليه ، المفضية بصاحبها الىالطاعة والتوحيد حرّض عليه النبي وأحبه فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لا طيرة وخيرها الفأل ».

    ____________
    14) الوسائل ج2 ص180 عين الدولة.
    15) المصدر ص182.
    16) أمالي الصدوق.
    17) من لا يحضره الفقيه ص168 ، وشرح النهج الحديدي ج4 ص431.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 71 )

    وفي لفظ آخر : « ويعجبني الفأل الصالح (18) » .


    وفي حديث بريدة : « كان النبي لا يتطير وإنما يحب الفأل (19) استقبلته في سبعين من أسلم فقال لي : ما اسمك ؟ قلت : بريدة ، فسر وجهه وقال : برد أمرنا وصلح ، وممن ؟ قلت : من أسلم ، قال : سلمنا ، ثم ممن ؟ قلت : من بني سهم ، قال : خرج سهمنا (20) ».




    وليس في حديث اللقحة التي أمر بحلبها فقام رجلان ليحلباها وكان اسم أحدهما مُرة والآخر حرب فأمرهما بالجلوس حتى اذا قام ثالث اسمه يعيش أمره بالحلب (21) ، ما يشهد للتطير فإنه من المحال على النبي أن ينهى عن شيء ثم يرتكبه وإنما صدر منه هذا تأكيدا لما نهى عنه من التسمية بمثل حرب ومرة وجمرة وأمثالها فأتبع قوله الفعل تعليما للمسلمين بالمضي على أمره مطمئنين غير هيابين.
    ومما يؤكده ما في بعض الأحاديث من زيادة قول عمر : أتكلم يا رسول الله أم أصمت ؟ فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : بل أصمت وأنا أخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ؟ وليس بذلك فإنه لا طيرة إلا طيره ولا خير إلا خيره ولكن أحب الفأل الحسن (22).



    والنكتة في نهي النبي عن التسمية بالأسماء القبيحة حتى غير بعض الأسماء الى ما هو أحسن كتغيير الحباب بن المنذر الى عبدالرحمن ، وشهاب الى هشام ، وحرب الى سلم ، وأبي مرة الى أبي حلوة ، وبني مغوية الى بني مرشدة (23) ، هو إرشاد الأمة الى أن البقاء على مذاهب سلفهم من التسمية بتلك الأسماء ربما يؤدي الى حزن بعضهم من
    ____________
    18) البخاري ج4 ص14 ومسلم ج2 ص260.
    19) مسند أحمد ج5 ص347.
    20) الاستيعاب بترجمة بريدة.
    21) موطأ مالك ج3 ص140 مصر.
    22) مفتاح دار السعادة ج2 ص262.
    23) المصدر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 72 )

    بعض عند المصاحبة والملاقات لكون الطيرة من الغرائز الكامنة في النفوس فقد يعبر الإنسان تعبير السوء من اشتقاق الاسم فيفارق صديقه وأخاه في السفر والمعاملات والشركات فتنحل عرى الإجتماع وتفكك الوحدة والتضامن ، فكان من لطف الشارع على الأمة ورأفته بهم أن عرفهم بأن لايقيموا على حال يتنفر منها لغير عذر ولا فائدة تعود في الدين والدنيا فإنه جاء حاملا لواء الوحدة والإجتماع والتراحم وادخال المسرات على المؤمنين.
    ولذا كان يأمر بالغسل والطيب يوم الجمعة ويمنع آكل الثوم من ادخال المسجد لما فيه من الإستكراء الموجب للتنفر والفرقة الرافعة للحنان والعطف.
    وأما عدوله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن الجبلين في طريقه الى « بدر » وكان أهل أحدهما بنو النار والآخر بنو محرق فليس للتطير لأنه كان على حال أحوج فيها الى الاجتماع والتضامن من التفرق وغرائز الناس على حالها من الإنقباض عن الأسماء القبيحة فأراد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مماشاتهم في هذا الحال كي لا يتفرق جيشه تطيرا من اسم الجبلين وأهلهما.
    هذا على فرض صحةالحديث وإلا فالمجال واسع في حساب أولئك الرجال من حيث الإعتماد على مروياتهم.
    وسؤال الحسين ـ عليه السلام ـ عن اسم الأرض ولما أخبر بأنها كربلاء قال : « كرب وبلاء » لم يكن من التطير في شيء فإن المتطير لم يعلم ما يرد عليه وإنما يستكشف ذلك من تلك الأشياء المعروفة عند العرب إنها سبب لورود الشر ، وسيد الشهداء كان على يقين مما ينزل به في أرض الطف من قضاء الله تعالى فهو عالم بالكرب الذي يحل به وبأهل بيته.
    كما أنه ـ عليه السلام ـ لم يكن جاهلا باسم الأرض ، كيف والامام عندنا معاشر الإمامية عالم بما يجري في الكون من حوادث وملاحم ، ويعرف ما أودع الله في الأشياء من أسرار ومزايا إقدارا من مبدع السموات والأرضين ـ جلت عظمته ـ فإنه سبحانه أودع في الأئمة الطاهرين قوة قدسية نورية بواسطتها كانوا يتمكنون من استكشاف الأشياء ، ويقفون على أنساب الناس ، وما تكنّه الصدور ، وما يدّخرون ، ويعرفون لغات الحيوانات ، واذا جاز في سليمان ـ عليه السلام ـ أن يعرف منطق الطير كما قال تعالى : « وعلّمنا منطق الطير » ففيمن تكوّن من نور النبي الذي هو أكمل


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 73 )

    الكائنات أولى وأجدر ، وهذه القوة عبّر عنها في الآثار بعمود نور يرفع للإمام ـ عليه السلام ـ عند الولادة يرى به أعمال العباد وما كان ويكون.
    فسؤال الحسين ـ عليه السلام ـ عن اسم الأرض التي منعوا من اجتيازها (24) أو أن الله أوقف الجواد فلم ينبعث (25) كما أوقف ناقة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عند الحديبية فلم تنبعث حتى هبط جبرئيل يأمره بالنزول في هذا الموضع والصلح مع قريش (26) ، لأجل أن يعترف أصحابه بتلك الأرض التي هي محل التضحية الموعودين بها باخبار النبي والوصي ـ صلى الله عليهما وآلهما ـ لتطمئن القلوب وتمتاز الرجال وتثبت العزائم وتصدق المفادات.
    وهذا باب من الأسئلة معروف عند علماء البلاغة يعرف بتجاهل العارف أو سوق المعلوم مساق المجهول ، واذا كان فاطر الأشياء الذي لا يعادر علمه صغيرا ولا كبيرا يقول لموسى ـ عليه السلام ـ : « وما تلك بيمينك يا موسى » ، ويقول سبحانه لعيسى ـ عليه السلام ـ : « أأنت قلت للناس اتخذوني وامي الهين » لضرب من المصلحة ، فالإمام المنصوب من قبله أمينا على شرعه ودليلا لعباده لا تخفى عليه المصالح.
    وهذا كسؤال النبي عن اسم الجبلين واسم الرجلين اللذين قاما للب اللقحة ، ألم يكن النبي الأعظم المتكون من النور الأقدس عالما بذلك ؟ وإنما النكتة ما أشرنا إليها .
    لقد ورد عن الشارع أحاديث ربما يستظهر منها غير المتأمل في أسرارهم إثبات الطيرة مثل ما ورد : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : « لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة : المرأة والفرس والدار (27) ».


    وهذا في الحقيقة إخبار عما تعلقت به إرادة المولى جل شأنه بعدم السعادة في هذه الأشياء لمن اقترن بها ، وصاحبها نظير خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة فبعض الأشخاص يتلذذ بها ، وبعض يلحقه الضرر منها كما أودع تعالى شأنه في بعض الأحجار
    ____________
    24) كامل ابن الأثير ج4 ص21.
    25) المنتخب للشيخ الجليل الطريحي.
    26) ابن الأثير ج2 ص76.
    27) صحيح مسلم ج2 ص261.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 74 )

    خواص من خير أو شر تلحق من يحملها.
    ومن هذا القبيل المرأة والفرس والدار ، فإن الله تعالى قضى بسعادة من قارنها كما قضى بنحوسه جريا لناموس المصالح والمفاسد في الأشياء ، فأين هذا الطيرة التي يحكم فيها بنحوس الشيء وإن لم يجعله الله كذلك.
    والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث لم يسعه المصارحة بهذه الأسرار لبعد العقول عنها أجمل البيان ثم نصب قرينة على المراد باقتران هذه الثلاثة بنفي الطيرة في كلام واحد وإلا فلا يعقل منه ـ صلى الله عليه وآله ـ أن ينفي الطيرة ثم يفرضها في كلام واحد فيقول : لا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة ـ الخ.
    على أنه ورد في أحاديث آل الرسول ـ عليهم السلام ـ ما يفسر ذلك الشؤم المخبر عنه ؛ ففي حديث الصادق ـ عليه السلام ـ : « شؤم المرأة كثرة مهرها ، وعقوق زوجها ، وأما الدابة فمنعها ظهرها وجماحها ، وأما الدار فضيق ساحتها وشر جيرانها وكثرة عيوبها ، ومن بركة المرأة خفة مؤنتها ويسر ولادتها (28) »



    وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين : ـ عليه السلام ـ : « العيش في ثلاثة : دار قوراء وجارية حسناء وفرس قباء » (29).


    ونفي العدوى في هذا الحديث لا ينافي ما ورد أن الرجل يصيب إبله الجرب فيوردها على إبل صحيحة ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لا توردن ذا عاهة على مصح ».


    فإن الغرض من النهي التحرز عن إيذاء المؤمن بادخال الإبل الجرب على الصحيحة لاعتقاده أن ذلك مؤثر في العدوى فيتسبب منه التنفر من هذا الفاعل ، والمذمة له وقد جاءت الشريعة بالتعاضد والالفة بين المسلمين . فقوله : « لا توردن ذا عاهة » ليس العدوى اذ قد يكون في الحيوان الوارد عليه المريض مناعة تضاد ميكروب الجرب فلا يصاب بذلك الداء ، ومن هنا قال الشريف المرتضى : إنا نجد كثيرا ممن يخالط الجربى فلا يجرب ويخالط الصحيح ذا عاهة فلا يصيبه من دائه شيء فنهي النبي لم يكن
    ____________
    28) معاني الأخبار للصدوق ص49.
    29) الخصال الصدوق ج1 ص62.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 75 )

    للملازمة الواقعية في التأثير .
    كما أن أمره ـ صلى الله عليه وآله ـ بالفرار عن المجذوم في قوله : « فر من المجذوم فرارك من الأسد » (30) لا دلالة فيه على العدوى بحيث تكون مقاربة المجذوم علة تامة للتأثر لإمكان وجود المناعة الرافعة للإنفعال ، بل الغرض من الأمر بالفرار الإيعاز الى استقذاره ، ونتن ريحه ، والتنفر منه وربما يسبب ذلك تعبيره والإزدراء عليه ، فينكسر ذلك المبتلي بقضاء اله ، والمولى الحكيم لا يريد من العباد إلا التراحم والعطف فيما بينهم.
    وامتناع النبي من إدخال المجذوم عليه للبيعة (31) لا دلالة فيه على العدوى وإلا فقد ورد الحديث أنه أخذ بيد مجذوم ووضعها في القصعة وقال : « كل ثقة بالله و توكلا عليه » (32).
    كما أن السجاد ـ عليه السلام ـ السائر على ضوء جده وأبيه لم يمتنع من الأكل مع المجذومين ؛ ففي الحديث أنه ـ عليه السلام ـ مر على مجذومين يأكلون فدعوه الى الأكل معهم فقال عليه السلام : « لولا إني صائم لفعلت » فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع ثم دعاهم فأكلوا وأكل معهم (33).
    فلو كانت مقاربة المجذومين علة تامة للعدوى لما فعل الإمام ـ عليه السلام ـ ولكنه بيّن للواقفين على فعله معهم ممن حضر ومن الأجيال المتتابعة أن الإتصال بذوي العاهات قد لا يؤثر في انفعال الأجسام الصحيحة لوجود القوة المانعة منه أو للتوكل على الله والثقة بأنه سبحانه مورد البلاء حسب المقتضيات.
    ____________
    30) امالي السيد المرتضى ج4 ص111 ، ومختلف الحديث لابن قتيبة ص123 ، وسفينة البحار ج1 ص148 عن أمالي الصدوق ، والهيئة والإسلام للشهرستاني ج1 ص27 بغداد ، وصحيح البخاري ج4 ص8 كتاب الطب ، ومفتاح دار السعادة ج2 ص287.
    31) مختلف الحديث ص123.
    32) مفتاح دار السعادة ج2 ص287.
    33) البحار للمجلسي ج11 ص117 عن الكافي.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:10 am


    مسلم يتفأل

    لقد طال البحث في هذا الموضوع ، والكلمة الفاصلة أن أحاديث نفي الطيرة وأمثالها أنما وردت لاكتساح عادات الجاهلية مما يوقف الانسان عن المضي في أعماله متكلا على هذه الأمور التي لا تأثير لها في جنب الإرادة الإلهية والقضاء الربوي ، ومن أجل هذا ذكر أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أسبابا توجب الإنحراف عن تلك العقائد وتلزم بالمضي في الأعمال لئلا تقع الأمة في الضلال المردي والفشل الذي يفت في عضد الجامعة.
    إذا فما حدث به ابن جرير الطبري من تطير مسلم ـ عليه السلام ـ لما مات الدليلان عطشا (1) لا واقع له ؛ فإن من يقرء سيرة مسلم ـ عليه السلام ـ يعرف أنه ذلك الرجل العظيم السائر على نصوص القانون الإلهي المستنير بما جاء به حامل الدعوة مشرفهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من المعارف ومكارم الأخلاق ، واذا كان مسلم لم يتباعد عما رواه سيد الوصيين ـ عليه السلام ـ من حديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « الإسلام قيد الفتك » فلم يفتك بابن زياد وهو الغشوم اللدود المفرق لأمة محمد الحائد بها عن الصراط السّوي ، فكيف يتأخر عما أفادته الأحاديث الكثيرة من نفي الطيرة التي لم تزل أنديتهم تلهج بها صباحا ومساء ، وهم المقيضون لما يراد من العباد من أعمال الخير وتبعيدهم عن خطة الخسف والهوان . فهل والحالة هذه يجوز العلم والوجدان نسبة التطير
    ____________
    1) تاريخ الطبري ج6 ص198.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 78 )

    الى رسول الحسين ـ عليه السلام ـ وخليفته في حاضرة الكوفة ليكون مرشدا ومهذبا ورادعا للأمة عما لا يتفق مع قدس الشريعة.
    ولئن غاضينا ابن جرير على عدم معرفته بما حواه هذا البيت المنيع من رجالات الإصلاح ، فلسنا نسالمه على هذه البادرة التي نسبها الى مسلم الذي لم يعرف منزلته ، ولا مقدار عمله وما يتوخاه من أسمى الغايات ، وقد فاته أن الرواة أرادوا شيئا كشف المستقبل عن تفكك قياسه.
    نعم كان مسلم ـ عليه السلام ـ يتفأل كما كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأبناؤه الهداة يتفألون وذلك لما ارتحل من ذلك الماء أشرف على رجل يرمي ظبياً فصرعه فسره وتفأل بقتل عدوه (2).
    ولئن فرح ابن زياد بالغلبة على رسول الحسين ـ عليه السلام ـ ، فقد « أخطأ الحفرة » ، فإن الظافر هو ابن عقيل كما تفأل ، إذ ليس الفتح إلا ما يترتب على تلك النهضة من تعريف الأمة نوايا اولئك المتأمرين عليها بالقهر والغلبة وقد أخذت الأمة بسبب ذلك القيام في وجه المنكر تتلو في كل زمان مخازي زياد وابنه ومن مكنهم من رقاب المسلمين وابنه ولئن سرّ ابن زياد الفتح العاجل فلقد أعقبه ندما ولات حين مندم يوم كثر اللوم عليه حتى من أهله وخاصته.
    فإن أخاه عثمان قال له : وددت أن في أنف كل رجل من بني زياد خزي أمة ، وأنك تقتل حسينا ، فلم ينكر عليه عبيدالله. (3) وقالت له أمه مرجانه : ماذا صنعت مع الحسين ، وماذا فعلت ؟ ، فلم يجبها بشيء (4) وبماذا يجيبها وللهتاف بخطأه وزلته دويّ في آذانه ؟ وأكد ذلك ما شاهده من النار الخارجة من بعض نواحي القصر قاصدة سريره فولّى هاربا منها الى بعض بيوت القصر ، وعند ذلك تكلم الرأس الأزهر بصوت جهوري سمعه ابن زياد وبعض من حضر : « الى أين تهرب يا ملعون فإن لم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك »


    ولم يسكت الرأس حتى ذهبت النار ، وأدهش من في القصر لهذا الحادث
    ____________
    2) إرشاد المفيد.
    3) تاريخ الطبري ج6 ص268.
    4) المصدر ج7 ص6.
    5) المنتخب للشيخ الجليل الطريحي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 79 )

    الذي لم يشاهد مثله (6).

    افتراء على الحسين عليه السلام
    لقد تجلى مما ذكرناه من رفع الطيرة في الشريعة الإفتراء على ابن عقيل في كتابه إلى الحسين ـ عليه السلام ـ : إني تطيرت من هذا الوجه فإن رأيت أن تعفيني وتبعث غيري ، فيكتب اليه الحسين : أما بعد فقد خشيت ألا يكون حملك على هذا إلا الجبن فامض لوجهك الذي وجهتك له (7).
    فان المتأمل في صلك الولاية الذي كتبه سيد الشهداء لمسلم بن عقيل لايفوته الإذعان بما يحمله من الثبات والطمأنينة ورباطة الجأش ، وإنه لايهاب الموت ، وهل يعدو بآل أبي طالب إلا القتل الذي لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة ، ولو كان مسلم هياباً في الحروب لما أقدم سيد الشهداء على تشريفه بالنيابة الخاصة عنه التي يلزمها كل ذلك.
    فتلك الجملة التي جاء بها الرواة وسجّلها ابن جرير للحط من مقام ابن عقيل الرفيع متفككة الأطراف ، واضحة الخلل . كيف ؟ وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لايعبأون بالطيرة ولايقيمون لها وزنا.
    وليس العجب من ابن جرير إذا سجلها ليشوه بها مقام شهيد الكوفة كما هي عادته في رجالات هذا البيت ولكن العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق حتى سجلها في كتابه مع أنه لم يزل يلهج بالطعن في أمثالها ويحكم بأنها من وضع آل الزبير ومن حذا حذوهم !
    ____________
    6) شرح قصيدة أبي فراس ص149 إيران.
    7) تاريخ الطبري ج6 ص198.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 80 )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 81 )


    في بيت المختار الثقفي

    لم تكن زعامة الكوفة ولا التلفع بالمكارم العظيمة ولا الإعتصمام بالقبيلة قصرا على المختار بن أبي عبيد الثقفي يومئذ ، فإن في « حاضرة الكوفة » رجالات يكافئون « أبا اسحاق » في العظمة والنفوذ إن لم نقل بأنهم ينيفون عليه ، وإنما وقع اختيار مسلم ـ عليه السلام ـ على المختار حيث عرفه منذ نعومة أظفاره من خاصه البيت العلوي وممن أخلص للعلويين بالمفادات.
    وذلك يوم جاء به أبوه إلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فأجلسه على فخذه وهو صبي وقال له وهو يمسح على رأسه : « يا كيّس يا كيّس » (1) ، فكانت هذه الكلمة من سيد الوصيين العالم بما كان ويكون درسا بليغا للواقف عليها تفيده فقها بما يظهر على يد المختار من مظاهر السداد ، وأفعال ذوي الحجى من الأخذ بحقهم ، وطلب تراتهم مشفوعا ذلك بالجزم والكيس ، وان هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من مختبئات المستقبل نعرف من تدوين العلماء لها وتحمل روايتها الاهتمام بها ، وأنها اشربت رمز المستقبل وألمعت الى الحوادث التي يقوم بها ، وكشفت حاشية من الستر المرخى على ذلك الستر المصون.
    وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ويحدث بها نفسه ، والأحاديث التي أوردها الشيخ الجليل ابن نما الحلي من أعيان القرن السادس في رسالته « أخذ الثار »
    ____________
    1) رجال الكشي ص84.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 82 )

    تدلنا بكل وضوح على اعتقاد المختار بمغزى تلك الكلمة الغالية التي فاه بها باب مدينة علم الرسول.
    ومن تلك الأحاديث :
    (أ) ان المختار لقي معبد الجدلي فقال له : يا معبد أن أهل الكتب ذكروا أنهم يجدون رجلا من ثقيف يقتل الجبارين وينصر المظلومين ويأخذ بثأر المستضعفين ، ووصفوا صفته فلم يذكروا صفة إلا وهي فيّ غير خصلتين أنه شاب وقد جاوز الستين ، وأنه رديّ البصر وأنا أبصر من عقاب ، فقال له معبد : أما السن فإن الستين والسبعين عند أهل ذلك الزمان شاب وأما بصرك فما تدري ما يحدث الله فيه ولعله يكل.
    فقال المختار : عسى أن يكون ذلك إن شاء الله.

    (ب) إن ابن زياد حبس المختار وميثم التمار وعبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب الملقب « ببه » فطلب عبدالله حديدة يزيل بها بدنه وقال : لا آمن من ابن زياد القتل ، فأكون قد ألقيت ما على بدني من الشعر . فقال المختار : لا يقتلك ، ولا يقتلني ، ولا يأتي عليك إلا القليل . فتلى البصرة وميثم التمار يسمعها فقال للمختار ؛ وأنت تخرج ثائرا بدم الحسين ـ عليه السلام ـ فتقتل هذا الذي يريد قتلنا وتطأ بقدميك على وجنتيه ، فكان الأمر كما قالا ؛ ولّي عبدالله البصرة وخرج المختار طالبا بثأر الحسين (2).

    (ج) سائر المختار المغيرة بن شعبة أيام ولايته الكوفة من قبل معاوية فمر بالسوق فالتفت المغيرة الى المختار يقول : يا لها من غارة ويا له جمعا إني لأعلم كلمة لو نعق لها ناعق لاتبعوه ولا سيما الأعاجم الذين اذا ألقي اليهم الشيء قبلوه ، فقال له المختار : وما هي يا عم ؟ قال المغيرة : يستأدون بآل محمد ، فأغضى عليها المختار (3).
    لم تزل هذه الكلمة تتردد في نفس المختار حتى أصاب لها موقعا فانه بعد ان قتل سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ أخذ ينشر فضل آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ويتوجع لما أصابهم ، وكان على يقين من تحقق تلك البشائر معتقدا أن المولى سبحانه وتعالى سيولّيه تلك المكرمة مؤيدا بالنصر عندما يرفرف على رأسه طائر الظفر ويخفق أمامه علم الفتح.
    ____________
    2) رسالة أخذ الثأر ، وشرح النهج الحديدي ج1 ص110.
    3) أنساب الأشراف ج5 ص223 طبع ليدن.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 83 )

    هذا هو السبب الوحيد في اختيار مسلم النزول في دار المختار (4) عند ما ورد الكوفة لخمس خلون من شوال (5) وقيل : نزل على مسلم بن عوسجة الأسدي (6) وكان دار المختار تدعى دار سلام بن المسيب (7).
    ولم يكن انتقاله الى دار هاني بن عروة لموجدة وجدها عليه ، وإنما كان ذلك بعد خطبة ابن زياد بعد دخوله الكوفة ، ووقوع الهرج في المصر خشية من بادرة ابن مرجانة ، فارتأى مسلم أن يستبدل بمحله لعله أمنع فان هانيا كان شيخ مراد ومذحج ، وزعيمها المقدم لا يفتات رأيه ، ولا يعصى أمره ، على أنه كان من الرجال المخلصين لآل الرسول ـ عليهم السلام ـ باشر الحروب معهم وحنكته التجارب ، ولكن قاتل الله الخذلان وأبعد الله الكوفيين عن الخير
    ____________
    4) إعلام الورى للطبرسي ص132.
    5) مروج الذهب ج2 ص86 ، وشرح الشريشي على مقامات الحريري ج1 ص192.
    6) البداية لابن كثير ج8 ص152.
    7) روضة الواعظين للفتال ص148.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 84 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 85 )


    البيعة

    لما حل مسلم ـ عليه السلام ـ ضيفا على المختار الثقفي انثال عليه أهل الكوفة ، ولاث به حماة المصر ، وازدلف اليه كماته زرافات ووحدانا يهتفون بالترحيب بداعية حجة الزمن ، فقرأ عليهم كتاب الحسين ـ عليه السلام ـ وعرفهم أنه مجيبهم الى ما يريدون إن لزموا العهد وتدرّعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم . وهل كان هذا الهتاف بالترحيب ، والفرح بالامنية عن طمأنينة ، وعقد الضمائر على التفاني في النصرة حتى يغلب الله على أمره أو أنه كان مصحوبا بنفاق تكنّية الصدور بين الأضالع غدر كمينقد عرف به القوم في تطوراتهم وميولهم الى جهات متعاكسة ؟
    وأن موقف عابس بن شبيب الشاكري وصحبه المخلصين بالولاء للعترة الطاهرة يكشف عن نفسية هؤلاء الجمع المتراكم ، ويفسر لنا هذه المشكلة والحيرة ، ويعطينا درسا ضافيا عن نوايا القوم وعاداتهم ، وأن هؤلاء الشيعة كانوا على شك من عزائمهم ان لم نقل بأنهم على يقين من غدرهم ومتابعتهم الأهواء غير أنهم لم يرقهم المكاشفة لئلا يعود ذلك فتا في عضد البيعة ومثيرا للاحن ، ومحتدما للبغضاء فأجملوا القول ، وهم ينتظرون نواجم العاقبة.
    فيقول عابس لمسلم : « إني لا أخسرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم ، والله إني أحدثك عما أنا موطن عليه نفسي ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ، ولأقاتلن معكم عدوكم ، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلا ما عند الله ».





    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 86 )

    وقال حبيب بن مظاهر : « رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه ».


    وقال سعيد الحنفي مثل قولهما (1).
    وقد ثبت هؤلاء الأطهار في الدفاع عن آل نبيهم حفظا للعهد وأداء لأجر الرسالة فأعلنوا بما انطوت عليه جوانحهم من صدق المفادات والإخلاص في النهضة ، وما غيّروا وما بدّلوا ، ومما يؤكد ما أشار إليه عابس وصحبه حديث علي بن الحجاج قال : سألت محمد بن بشير الهمداني هل كان منك قول أنت ؟ فقال له : إني كنت أحب أن يعز أصحابي بالظفر وما كنت لأحب أن أقتل وكرهت أن أكذب (2).
    فإن قوله : « وكرهت أن أكذب » شهادة صدق على خداع القوم وكذبهم في ذلك الهتاف بالترحيب ومد الأكف للبيعة.
    أما البيعة التي أخذها مسلم من الكوفيين فهي على حد البيعة التي أخذها رسول الله من الأوس والخزرج في العقبة الثانية (3) وفي يوم الفتح وأخذها من المسلمين يوم الغدير وأخذها أمير المؤمنين يوم بويع وأخذها الحسن من أهل الكوفة بعد شهادة أبيه الوصي فإنها في كل ذلك عبارة عن الدعوة الى كتاب الله وسنة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين ، وقسمة الفيء بين المسلمين بالسويّة ، ورد المظالم الى أهلها ، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة والبغضاء وجهل حقهم والمسالمة لمن سالموا والحرب لمن حاربوا من دون رد لقولهم ، ولا تخطئة لفعلهم ولا تفنيد لرأيهم .
    وإن المؤرخين وان أغفلوا نص البيعة التي أخذها مسلم ـ عليه السلام ـ من الكوفيين كما أغفلوا الكثير من آثار أهل البيت التي تستفيد الأمة منها تعاليم راقية في
    ____________
    1) الطبري ج6 ص199.
    2) المصدر.
    3) السيرة الحلبية ج2 ص17 وذكر أنهم خمس وسبعون رجلا فقال لهم رسول الله : أخرجوا لي اثني عشر نقيبا كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا يكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مرم وأنا كفيل على من معي من المهاجرين فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهنا كلام للعباس بن عبدالمطلب في المحافظة على رسول الله ينم عن عقيدته الراسخة بالتوحيد والإيمان منذ البعثة فلا يعبأ بما ذكره المؤرخون من إسلامه بعد بدر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 87 )

    التهذيب والإصلاح لكنا نقطع بأن داعية « إمام الحق » لم يتخط طريقة النبي وخلفائه المعصومين المقيضين لإرشاد البشر بما يجب عليهم من أمر الدين والدنيا ، وأنهم كانوا في أخذ البيعة على هذا النهج.
    وبعد أن فرغ من التعريف بأمر البيعة الذي يراد منهم ، تداك الناس يمسحون أيديهم على يده يهتفون بالرضا والتسليم كما فعل الأنصار مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ليلة العقبة ، وقريش يوم الفتح ، والمسلمون يوم الغدير ، وأهل المدينة يوم بويع أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، وأهل الكوفة مع السبط الزكي ـ عليه السلام ، فإن هذا هو المعروف فيمن يبايع يمسحون أيديهم على يده . نعم في بيعة النساء يوم الفتح جيء باناء فيه ماء وغمس النبي يده في الماء ، وكل امرأة تأتي للبيعة تغمس يدها في ذلك الماء.
    فبلغ عدد من بايع مسلما ـ عليه السلام ـ ثمانية عشر ألفا أو خمسة وعشرين ألفا (4) وفي حديث الشعبي أنهم أربعون ألفا (5) ، وسرعان ما انقلبوا على أعقابهم فخسروا شرف الدنيا كما عداهم الفوز في الدين وخلدوها صحيفة سوداء يتلوها الملوان ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

    كتاب مسلم الى الحسين عليه السلام
    لما أحصى ديوان مسلم ذلك العدد الكثير من المبايعين كتب الى الحسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وقيس بن مسهر الصيداوي يخبرة باجتماعهم على رأيه وطاعته وانتظارهم لقدومه وفيه يقول : « الرائد لايكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ».


    وكان هذا قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين يوما (26) وانضم اليه كتاب أهل الكوفة فيه : عجل القدوم يا ابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر (7).
    ____________
    4) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص210.
    5) مثير الأحزان لابن نما ص11.
    6) الطبري ج6 ص224.
    7) البحار ج10 ص185.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 88 )


    خطبة النعمان

    لما بلغ النعمان بن بشير الأنصاري وهو والي الكوفة من قبل يزيد اجتماع الكوفيين على مسلم ـ عليه السلام ـ وبيعتهم له ، رقى المنبر وقال : اتقوا الله عباد الله ، ولا تسارعوا الى الفتنة والفرقة ، فإن فيها يهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ، وإني لم أقاتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب عليّ ، ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ، ولا آخذ بالقرف ، ولا الظنة ، ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولولم يكن لي منكم ناصرا ما اني أرجو أن يكون من يعرف الحق أكثر ممن يريده الباطل.
    فأنكر عليه جماعة ممن له رأي مع بني أمية حتى قال له عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي وكان مخالفا لبني أمية : ان هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين ، ولا يصلح ما ترى إلا الغشم.
    فرد عليه النعمان : بأني أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله (1).
    ان هذا الوالي لم يرد بكلمته « خالفتم إمامكم ونكثتم بيعتكم » إلا التمويه على العامة بصورة خلابة يذكر فيها البيعة ليزيد ، وإنه إمام لا تجوز مخالفته ، وإلا فهو جد عليم بأن ما رماه من القول لاصلة له بالحقيقة لولا تأليفه البسطاء واغرائه الضعفاء المتحرين
    ____________
    1) الطبري ج6 ص199.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 90 )

    عيشة راضية مع أي مسيطر ، أليس هو القائل : أن ابن بنت رسول الله أحب الينا من ابن بجدل (2).
    ثم هب انا غاضيناه في نزعته الاموي ، ورأيه العثماني المباين لكل علوي في المبدأ ، فلسنا نسأله على كلمته هذه المنهالة من شتى نواحيها أيحسب أنه يدلي بحجة قوية ويذكر بيعة صحيحة لامام عدل لا تجوز مخالفته.
    ألا مسائل هذا الرجل ، متى انعقدت هذه البيعة أيرضا من أهل الحل والعقد أم بكراهية من الناس ، حين أحاط بهم الإرهاب من ناحية والطمع من ناحية أخرى والسيف المزهق لنفوسهم على رؤوسهم ، وآخرون انثالوا عليه وحقائبهم مملوة من وفره وأطراف المفاوز تقل كل فار بدينه وهناك صدور واغرة ، وفي زوايا الأندية ألسنة تلهج باستعظام الواقعة ووخامة العاقبة .
    وكان عبدالرحمن بن ابي بكر يجاهر بأنها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل مكانه (3) والأحنف يذكر معاوية بالشروط التي أعطاها الحسن وكان فيها أن لا يقدم على الحسنين أحدا مع مالهما من الفضل وأهل الكوفة لم يبغضوهما منذ أحبوهما والقلوب التي أبغضوه بها بين جوانحهم (4).
    لكن معاوية لم يعبأ بكل نصيحة أسديت إليه من عماله والكبراء الملتفين حوله وأخذ يبذل الاموال لتمهيد البيعة لولده يزيد حتى تمكن مما أراد بالوعد والوعيد.
    ثم نقول لهذا الوالي : متى رضيت العامة والخاصة بالبيعة « لابن هند » ؟ حتى ترضخ لمن بعده لولا سماسرة الأهواء ومتبعي الشهوات ، ومن ذا الذي يقصده الوالي المستغشم للملأ حوله من هذا الإمام الذي لا تجوز مخالفته ، ولا تحل نكث بيعته ؟ أهو بن ميسون المعروف ببوائقه ومخاريقه المستهتر الماجن ؟ وهي يعرّف مجهولا أو ينوّه بمن لا تعرفه الأمة لئن نسي النعمان بوائق يزيد فلم تنسه المواخير والقيان ولم تغفل عنه المعازف والدنان ولم تله عنه المعرة والفجووز والعود والقرود.
    ليس بغريب من النعمان اذا جاهر ببيعة يزيد بعد أن كان متأثرا بنفسية أبيه « بشير » الذي لم تشرق عليه أنوار الولاية فأخذ يتردد الجمل في الطاحونة ، وصم
    ____________
    2) الامامة والسياسة ج2 ص3.
    3) ابن الأثير ج3 ص199.
    4) الإمامة والسياسة ج1 ص141.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 91 )

    سمعه عن النداء الإلهي يوم الغدير وغيره بنصب الوصي ـ عليه السلام ـ علما يُهتدى به الىالطريق اللاحب فكان السابق الى بيعة ابي بكر يوم السقيفة ولم يبارح تلك الأندية الى أن قتل في وقعة « عين التمر » مع خالد بن الوليد.
    فمشى ولده النعمان على ذلك الأثر وجرته المطامع الى مهوى سحيق وكان أبغض شيء عليه أهل الكوفة لرأيهم في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وميلهم الى آل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.
    ومن هنا لم يمتثل أمر معاوية في زيادة اعطيات الكوفيين عشرة دنانير وكلما راجعوه في ذلك أبى (5).
    ولرأيه العثماني ونزعته الأموية أرسلته نائلة بقميص عثمان الى معاوية بالشام ليؤلب الناس على ابن عم النبي ووصية المقدم (6) وشهد مع معاوية صفين ولم يكن من الأنصار وغيره (7) وولاه معاوية على الكوفة ( وأقره يزيد عليها وبعد ولاية ابن زياد عليها ولاه حمص ، ولما ثار أهل المدينة على عامله بعد وقعة الحسين ـ عليه السلام ـ أرسله يزيد الى المدينة ليهده أهلها (9).
    ومع هذا كله فإنه يعلم أن معاوية وابنه لم يستحقا من الخلافة موطأ قدم لخلوهما من كل فضيلة تؤهلهما لإمره المسلمين ولم يخف عليه فضل « أبي الريحانتين » . كيف وهتاف النبي وإصحاره بما له من الخصال الحميدة ملأ مسامعه لولا حكم الهوى وحب الدنيا والتقلب في الولايات.
    ____________
    5) الأغاني ج14 ص115.
    6) المحبر لابن حبيب النسابة ص292 طبع حيدرآباد الدكن.
    7) صفين لنصر بن مزاحم ص506 وص510 مصر.
    كامل ابن الأثير ج3 ص204 حوادث سنة 59.
    9) تاريخ الطبري ج7 ص4.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:12 am

    ولاية ابن زياد

    لما حل مسلم بن عقيل في الكوفة وبايعه الناس ساء ذلك من كان له هوى في بني أمية فكتب عبدالله بن مسلم الحضرمي وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص الى يزيد :
    أما بعد فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضيف أو يتضعّف.
    ولما اجتمعت عند يزيد كتبهم استشار « سرجون » مولى أبيه فيمن يوليه فاشار عليه بعبيد الله بن زياد ، فكتب اليه يزيد : « أما بعد فإن شيعتي بالكوفة كتبوا إليّ بأن مسلم بن عقيل يجمّع الجموع لشقّ عصا المسلمين فَسِر حين تقرأ كتابي الى الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام. »
    فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالكتاب الى عبيدالله بالبصرة ، ولما قرأه تجهّز للمسير الى الكوفة من الغد.
    ثم خطب أهل البصرة قائلا :
    ان أميرالمؤمنين يزيد ولاني الكوفة وأنا غاد اليها الغداة فوالله إني ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنئان وإني لنكل لمن عاداني وسم لمن حاربني انصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة قد استخلف عليكم عثمان ابن زياد بن أبي سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لاقتلته وعريفه ووليّه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 94 )

    مشاق ، أنا ابن زياد اشبهته من بين وطأ الحصى ولم يتنزعني شبه خال ولا ابن عم.
    وسافر من البصرة الى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته (1) والمنذر بن الجارود العبدي وعبدالله بن الحارث بن نوفل في خمسمائة انتخبهم من أهل البصرة فجدّ في السير وكان لا يلوي على أحد يسقط في الطريق مخافة أن يسبقه الحسين الى الكوفة حتى أن شريك بن الأعور سقط وسقط عبدالله بن الحارث ومعه أناس رجاء أن يلوي عليهم ابن زياد فلم يلتفت اليهم.
    ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران فقال له زياد : ان أمسكت على هذا الحال فتنظر القصر فلك مائة ألف . قال : لا والله لا استطيع ، فنزل عبيدالله وأخرج ثيابا من مقطعات اليمن ولبس عمامة سوداء وتلثم موهما أنه الحسين وانحدر وحده ودخل الكوفة مما يلي النجف (2).
    وكلما مر بالمحارس ورأوا تلك البزة ظنوا أنه ابن رسول الله فيهتفون بصوت عال : مرحبا بابن رسول الله وهو لا يكلمهم ، وخرج إليه أناس من بيوتهم متباشرين ظنا أنه الحسين فرأى من تباشرهم بالحسين ماساءه ، وانتهى الى باب القصر وقد أغلقه النعمان بن بشير فأشرف من أعلا القصر يقول : ما أنا بمؤد اليك أمانتي يا ابن رسول الله ، ومالي في قتالك من أرب . فغضب ابن زياد منه وقال له : افتح لاتحت فقد طال ليلك ، وسمعه من كان خلفه فرجع الى الناس يقول : أنه ابن مرجانة ورب الكعبة (3) فتقهقر الناس الى منازلهم خوفا من سطوة ابن زياد وأخذ الرجل يحدّث جليسه بالشر المقبل من جرّاء هذا الطاغي.

    خطبة ابن زياد :
    وعند الصباح جمع الناس عنده فقال في خطبته :
    ان أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بانصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان الى سامعكم ومطيعكم ، وسوطي على من ترك
    ____________
    1) الطبري ج6 ص200.
    2) مثير الأحزان لابن نما ص14.
    3) تاريخ الطبري ج6 ص201.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 95 )

    أمري وخالف عهدي ، وليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ لا الوعيد (4) فأبلغوا هذا الرجى الهاشمي مقالتي وليتق غضبي (5).
    ثم أمر العرفاء بكتابة أسماء من وافق ابن عقيل ، ومن لم يفعل ولا يضمن خروج أحد تحت عرافته فهو حلال الدم ويصلب على باب داره وتلغى عرافته من العطاء (6) أو يسيّر الى الزارة وضع في عمان (7) وإليها نفى ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي فإنه يوم الطف كان مع الحسين ولما فنيت نباله أخذ يقاتل بسيفه فناداه بعض عشيرته : أنت آمن أخرج إلينا ، فخرج اليهم فلما قدم عمر بن سعد بالأسارى الى الكوفة وأخبر ابن زياد خبره سيّره الى الزارة (.
    ____________
    4) إرشاد المفيد.
    5) نفس المهموم ص49.
    6) الإرشاد.
    7) ابن الأثير ج4 ص10.
    الطبري ج6 ص261.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 96 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 97 )


    موقف الكوفيين

    مهما عزب عن الباحث شيء من نفسيات الأمم لغموض فيها أو لحواجز لم تكشف بعد ، فإنه غير خاف عليه غرائز الكوفيين ، وإنهم في ظعنهم وإقامتهم ونصرتهم ، وخذلانهم ، ونهضتهم ، وقعودهم ، كالريشة في مهبّ الريح تتلاعب بهم أهواء متضاربة ونزعات وقتية . والذي ينتجه التفكير الصحيح في أمرهم أن القوم لا تحركهم غاية مرموقة ولا مبدأ ثابت شأن الرعاع من الناس الذين يحدوهم الجشع طورا والشهوة أخرى فرضيخة موهومة من هذا تسوقهم ، ولماظة عيش من آخر تأخذ باكظامهم ، وبالرغم من ذلك الهلع المردي أنهم ينكفؤن عنهما « بخفي حنين » فلا دين يحمد ولا دنيا يتهنّأ بها.
    على هذا جروا في عاداتهم وضرائبهم منذ مصّرت هذه الحاضرة وأخص من أيامها العهد العلوي وأيام الإمام المجتبى الحسن ، ودور سيد الشهداء ، واعطف النظرة بعد هذا إلى نهضة التوابين وأيام المختار وأيام العلويين كزيد الشهيد ونظرائه الذين غرّوهم فأغرّوهم بالقيام ثم انثالوا عنهم.
    هذه شناشن القوم لم يفتأوا يسيرون عليها منذ الأول إلى أن دمّرت وعاد أمر الكوفة كحديث أمس الدابر ، وعجيب ممن يذهب إلى أن الكوفة علوية إذا فمن ذا الذي استأصل شأفة العلويين ، وقتل كل ترابي في النسب أو في المذهب ، وهل كان في جيش ابن سعد في مشهد يوم الطف غير كوفي يعرف ؟ وقد بلغوا ثلاثين الفا أو يزيدون . ألم يكاتبوا الحسين يستقدمونه اليهم حتى إذا حل بين أظهرهم انتكثوا عليه تحت راية ابن مرجانة الى هنات كثيرة سوّدوا بها صحائفهم ؟


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 98 )


    أتت كتبهم في طيّهـن كتـائـب * ومـا رقمـت إلا بســم الأراقم
    أن اقدم إلينا يا ابن أكرم من مشى * على قدم من عربهــا والأعاجم

    هكذا عرفت مقادير القوم من الثبات ومبالغهم من السداد وكميّاتهم من الاستقامة ، هب أن القوم لايهمهم دين ، ولا تردعهم تقوى ، ولا يتأثرون بجاذب الحق ، وإنما هم سماسرة الأطماع يتحرّون المعيشة تحت أي راية لمحق أو مبطل ، فيخدمون كل ناعق شأن النفوس الضعيفة والطبائع المسفة مع الضعة ، فهلا كان الشرف الإنساني يقودهم إلى اتباع أشرف الفريقين نسباً وأرفعهم شأنا وأعزهم حمى وأنداهم يدا وأرجحهم حجى وأكرمهم جدودا وأزكاهم نفوسا وأطهرهم ذيولا وارساهم قدما عند مستّن النزال واشتباك الرماح فيستبدلون الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل ؟
    ولو كان في الكوفة يومئذ رجل شريف غير أسرة قليلة ضمّتهم أعماق السجون وضربت على أيدي آخرين القسوة الأموية لما بغوا عن آل الله بدلا ، ولما وجدوا عنهم حولا لكنهم أبوا كما هو لازم جبلتهم إلا أن يتسيطر عليهم ابن آكلة الأكباد « يزيد الفجور » ، ويتولى أمرهم مثل « ابن مرجانة » ولم يرقهم سبط نبي الهدى ، وابن سيد الأوصياء وفلذة كبد البتول الزهراء سيد شباب أهل الجنة.
    واي زنة تجمع بين سليل الهدى وبين عصارة المخازي والمنكرات وأي مقياس يؤلف بينهما ؟
    وهل تقام للقوم حجة يعذرون بها عندما يوقفون للمحاكمة ؟ وقد دخل ابن مرجانة عليهم وحده بلا عدة ولا عدد ، ولم يملك من الكوفة إلا موطأ قدمه وليس معه ثان يسدد خطاه ، ولذ تزّيا بزيّ سيد الشهداء وتلثّم كي لا يعرف فيقتل ، ولك من رآه حسبه « أبي الضيم » فيسلمون على ابن الرسول ، ولو علموا أنه ابن مرجانة لنالوا منه ، ولتهم علموا ، وليتها كانت القاضية ، فكان من أوسع الأمور البطش به أو اعتقاله لكنهم لم يفعلوا.
    ولما دخل القصر لاث به أناس يعدون بالأنامل وكان الفتك بهم لاخماد الفتنة أهون شيء للكوفيين فإنه ومن معه في القصر مقطوعون عن المدد والذين بايعوا مسلما يزيدون على خمس وعشرين الفا.
    أيعذر هذا الجمع المتراكم في تفكّكهم وتفرّقهم ونكثهم البيعة التي أعطوها برغبة واختيار لمجرد تهديد الدعي ابن الدعي بجيوش الشام ، وهل كان في الشام جيش


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 99 )

    عتيد يساق إلى العراق والحالة الأموية قلقلة ، وصفوهم متعكر بهلاك « ابن هند » وعدم الجدارة في ولي عهده فكان جو المملكة الأموية قائما ، ومراجل الأحقاد تغلي على بني عبد شمس ، فمن متخافت برفض يزيد الى مهامس بلغنه ، الى متجاهر بمناوأته ومظاهر عداء الناس تنجم وتخبو.
    وفي كل من المدن والرساتيق مؤامرة حول الخلافة المنبوذة ، فهل كان ابن ميسون والحالة هذه يقدر أن يؤلّب جيشا الكفاءة لتدمير العراق ؟
    هب أنه كان يتسنّى له شيء من ذلك ، فهل يتصور وصول الجيش إلى العراق قبل أن يُمزّق ابن زياد في قصره تمزيقا لو كانت النفوس متحقّزة للحق ناهضة للدفاع عن الدين القويم ؟
    ثم أي وقت يصل ذلك الجيش الموهوم الى العراق وفي وسع العراقيين عندئذ استلام الأمر للحسين ـ عليه السلام ـ قبله ، ولديهم مقانب وكتائب ممن بايع مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ ؟ ولو أنهم فعلوا ذلك ، ووثبوا في وجه ابن زياد لازدلف إليهم من كان ينتظر العواقب ، ويتحفّز للفتح والظفر ، وهناك من رواد المطامع أكثر فعندها يسوقون إلى عدوهم الألدّ جيشا لهاما فينتكث عليه الأمر وتنقلب الدائرة ويتم الأمر لداعية الحسين ـ عليه السلام ـ .
    فهل في القوم من يعرف شيئا من هذا أو أنهم طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون ، كيف فاتتهم هذه القضايا الطبيعية وراعتهم الأوهام وكلهم قد مارسوا الحرب وتعاورت عليهم السياسات عادلة وجائرة ؟
    وهب أنه لم يكن معهم من قوة النفس وثبات الإيمان ما يكبح ذلك الجماح أو يدحر تلكم الشهوات فينصروا الإمام العادل ـ عليه السلام ـ أفلا كان في وسعهم التواني والتخاذل عن قتله ، والتألّب كما كانوا يفعلونه مع أمير المؤمنين بعد منصرفه من صفين وقد عزم على النهضة الهامرة لملك ابن هند فكانوا يتفرقون عنه من هنا وهنا حتى وقف ـ عليه السلام ـ فيهم وقال : « فيا عجبا والله يميت القلب ، ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتقرّفكم عن حقكم ، وددت إني لم أعرفكم معرفة جرت ندما ، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدري غيظا ، أفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش : إن ابن أبي طالب





    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 100 )

    رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني ، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أناذا ذرّفت على الستين (1) ».



    ولعمر الحق لو لم تجد بنو أمية أنصارا منهم لما تسنى لهم إبادة العترة الطاهرة . فتألبوا على آل الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ ووثبوا عليهم وثبة الأعداء الألدّاء ، وفي مطاوي نياتهم أن لا يدعوا لهم نافخ ضرمة كأنهم قوم من الترك أو الديلم ، وكأن لم يكن لهم من الدين موطأ قدم فاستباحوا قتل الأطفال ، ولو نالوا من اشهامة نصيبا لما استباحوا سبي النساء من بلد الى آخر وهن عقائل الوحي وحرائر النبوة ، ولو كانوا يملكون شيئا من النخوة العربية لما استسهلوا تلكم المخازي التي تندى منها جبهة الإنسانية وتبرّأ منها العاطفة البشرية ، لكنهم نبذوا الإسلام بما ارتكبوا ، نبذوا دين العطف والغيرة ، نبذتهم العروبة ، نبذتهم العادات والتقاليد ، فأهون بهم منبوذين لا يردّهم شيء الى المجد العربي ولا الشرف القومي ولا الفخر الديني ، ولا أبعد الله غيرهم يوم كاتبوا الحسين واستنهضوه كاتبوا عدوّه فاغروه به ، ألا لعنة الله على القوم الضالمين
    ____________
    1) نهج البلاغة ج1 ص77.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 101 )


    ابن سعد مع يزيد

    لامناص من الخضوع لناموس الوراثة الحاكم في الجملة بأن لنفسيات الآباء تأثيرا في الأبناء أما بتسريها إليهم مع الطبيعة المشتركة بين الفريقين أو بتمرين مما يترشح من أواني سلفهم المفعمة بالفضائل أو الرذائل من مفعولات تلكم الغرائز ، وبطبع الحال أن الناشئ يتخذ النواجم من ضرائب سلفه سنة متبعة ، اللهم إلا أن يكبح ذلك الجماح ما تتأثر به الأبناء بواسطة الكسبيات ، وهذا على خلاف ذلك الناموس.
    وعلى هذا فهلم معي الى عمر بن سعد الذي لم يعرف من أبيه غير المناوأة لأهل هذا البيت ـ عليهم السلام ـ والحسد لهم ، وكان أخف ما نجم من بغضاء سعد بن ابي وقاص قعوده عن نصرة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يوم الجمل وهو الإمام المفروض طاعته بعد اجتماع الأمة عليه ، وقالوا له لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ، ولا نجد أحدا يقوم بها غيرك ، وهو ممتنع عليهم أشد الامتناع حتى تداكوا عليه لا يرون أحدا صالحا سواه ، فلما رأى حرصهم عليها بسط يده للبيعة فتمت بيعة المهاجرين والأنصار ولم تكن بيعته مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة كبيعة أبي بكر وإمامة عمر الثابتة بأبي بكر وحده وتمت البيعة لعثمان في الحقيقة بان عوف.
    ولما عاتبه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ تظاهر سعد بالشك في الجهاد معه وقال : إني أكره الخروج في هذا الحرب فاصيب مؤمنا فان أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك (1).
    ____________
    1) الجمل للشيخ المفيد 29 طبع النجف ثاني.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 102 )

    وهذا أعجب شيء منه وقد شاهد من فضل « أبي الريحانتين » الكثير وسمع من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حقه أكثر ، ألم يكن هو القائل : « إني سمعت رسول الله يقول لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2) إلا أنه لا نبي بعدي » ثم وضع إصبعيه على أذنيه وقال « أنى سمعته يقول ذلك وإلا استكّتا ؟ » (3)
    ولما قال له معاوية : ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال : « أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فلن أسبّه ؛ سمعت رسول الله يقول وقد خلّفه في بعض المغازي فقال له علي : يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي » وسمعته يقول يوم خيبر : لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع اليه الراية ففتح الله عليه ؛ ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم » فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال : اللهم هؤلاء أهلي ».(4)








    ولما عاتبه معاوية على ترك القتال معه في صفين قال له : « أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله :« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » ؟ فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال سعد : سمعه : فلان وفلان وأم سلمة . قال معاوية : لو كنت سمعت هذا لما قاتلته (5) ».
    ولا شك فيما لأمير المؤمنين من السوابق والفضائل والمواقف والتأهل للخلافة كما لاريب في ثبوت البيعة له باختيار الأمة ، وأن الخارج على الامام العادل باغ يجب قتله ، وقد اعترف أبو بكر الجصاص المتوفى سنة 370 بأن عليا ـ عليه السلام ـ كان محقا
    ____________
    2) صحيح البخاري ج2 ص259.
    3) صحيح مسلم ج2 ص323.
    4) الاصابة لابن حجر ج2 ص509.
    5) شرح النهج لابن ابي الحديد ج1 ص201.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 103 )

    في قتاله الفئة الباغية ولم يخالف فيه أحد (6).
    وقال أبوبكر ابن العربي الأندلسي المتوفى سنة 546 : « إن عليا كان إماما لأنهم اجتمعوا عليه ولم يمكنه ترك الناس لأنه كان أحق الناس بالبيعة فقبلها حوطة على الأمة ، وأن لاتسفك دماؤها بالتهارج ويتخرّق الأمر ، وربما تغير الدين ، وانقض عمود الإسلام ، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم علي : « ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا اليه » وكان علي أسدّهم رأيا وأصوب قولا لأنه لو تعاطى القود لتعصّبت لهم قبائلهم فتكونحربا ثالثة فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامة ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء ، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك الى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.
    وحينئذ فكل من خرج على علي ـ عليه السلام ـ باغ وقتال الباغي واجب حتى يفيء الىالحق وينقاد الى الصلح ، وأن قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة ، وأهل الجمل والنهروانالذين خلعوا بيعته حق ، وكان حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا ، فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بُغاة فتناولهم قوله تعالى : « فقاتلوا التي نبغي حتى تفيء الى أمر الله ».
    ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقاص بعدم مشاركة له في قتال علي ـ عليه السلام ـ فردّ عليه سعد : بأني ندمت على تأخري عن قتال الفئة الباغية يعني بها معاوية ومن تابعه (7). »
    وحكى الآلوسي عن الحاكم والبيهقي أن عبدالله بن عمر يقول : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت من نفسي من هذه الآية « فقاتلوا التي تبغى ـ الآية » . حيث أني لم أقاتل الفئة الباغية يعني معاوية ومن معه من الباغين على علي ـ عليه السلام ـ » ، ولم يتعقبه آلوسي بشيء وزاد بتصريح بعض الحنابلة بوجوب قتال الباغين احتجاجا بأن عليا اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد فهو إذا أفضل من الجهاد (.
    وما أدري بماذا يعتذر سعد مع ذلك التصريح منه لمعاوية بأنه باغ ولم ينهض مع
    ____________
    6) أحكام القرآن ج3 ص492.
    7) أحكام القرآن ج2 ص224.
    تفسير روح المعاني ج26 ص151.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 104 )

    خليفة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لجهاد من يبغي في دين الله عوجا ، وكيف تفوّه بطلب السيف العارف بالمؤمن من الكافر ولم يطلبه من « الشيخين » في قتالهم أهل الردة وكان موافقا لهما على ذلك مع أن أهل الردة لم يمتنعوا من أداء الزكاة إلا بشبهة الدفع لمن أقامه النبي خليفة على المسلمين يوم الغدير ، ولم يخلعوا يدا عن طاعة ، ولا فارقوا جماعة المسلمين ، لولا أن قتالهم أمر دبّر بليل.
    فأين كانت جلبة سعد وضوضاء أسامة وتزفّر ابن عمر من قتل علي ـ عليه السلام ـ لأهل الجمل أيام تفريط خالد في أولئك المسلمين الذين لم يتركوا الشهادتين حتى آخر نفس لفظوه ، وكما كان لأصحاب الجمل عند هؤلاء عذر في الخروج على سيد الوصيين يكون لأولئك الذين اطلقت عليهم الردة عذر في الامتناع عن أداء الزكاة ، أهل كان الحكم بقتال المرتدّين مقصورا على خصوص من خالف « أبابكر » أم هو عام لكل من تمت له البيعة ؟
    نعم الحسد من جهة وعدم الرضوخ الى الحق منجهة أخرى لم يدعا لسعد وأمثاله طريقا في الخضوع لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ؛ « وإنما متسافل الدرجات يحسد من علا ».
    لقد كان سعد ممن يشمخ أنفه بالفخفخة الباطلة والمجلد الكاذب ويرى نفسه في أشراف الصحابة ، وإذا قايسها مع أخي الرسول وجده أطهر منه نسبا وأعلا حسبا وأغزر علما وأثبت في المواقف وأشجع في الهزاهز وأقوى حجة وأشرف نفسا الى أن تنتهي حلقات الفضل ولأمير المؤمنين بقايا غير محصورة ينبوعها الحساب.
    فكان في رضوخه لأبي الحسن ـ عليه السلام ـ خضوع الى هاتيك المآثر وظهور لنقصه فيها ، ولطموح نفسه إلى التّعالي ، ولم يكن عنده من التقوى ما يكبح عامل الكبرياء ليستهل البخوع للمجد العلوي ، وان أضر ذلك بدينه وأراده في آخره ؛ فإن العصبية أعشت بصره ، والنخوة الجاهلية تحكمت بين أحشائه ، والحسد المحتدم بصدره ألقاه في مدحرة الهلكة وحفزه الى مكامن البغضاء ، وان تستر بظواهر الاسلام وتعاليمه .
    يشهد لذلك سؤاله أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لما سمعه يقول في خطابه : « سلوني قبل أن تفقدوني فوالله ما تسألوني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلا أنبأتكم به. »
    فقام إليه سعد وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من





    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 105 )

    شعره ، فقال ـ عليه السلام ـ : « لقد سألتني عن مسألة حدّثني عنها خليلي رسول الله أنك ستسألني عنها ، وما في لحيتك ورأسك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ولدي الحسين » ، وعمر يدرج بين يدي أبيه (9).



    وهذا منه سؤال مستهزء لا مستفهم ظن في ذلك أن يفحم الإمام لأن الجواب الحقيقي يعوزه البرهان ؛ فإن أمير المؤمنين لوعيّن عددا فأي أحد يمكنه عد الشعرات ولا يرمى بالخطأ ، وحيث وضح لأبي الحسن ـ عليه السلام ـ الواقف على ضمائر العباد ما أضمره سعد عدل الى ما في خزي لذلك المتعنّت اللدود ، وقد بقي وصمة عليه الى آخر الأبد فحكى له حديث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ.
    فهذا الذي عرفناه من نفسيات سعد وبوائقه يسير من كثير ولو أردنا الإستقصاء لأريناك غرائب.
    إذا فليس من البدع إذا قام ابنه عمر بهاتيك المظاهر الذميمة فؤاد الحق ونصر الباطل وأجهز على بقايا الرسالة وشظابا النبوة الى مخازي لا تحصى مع القسوة التي يمجها الطبع البشريّ ، وتتذمر منها الانسانية فأعقبها سبة خالدة ، وشية من العار سجلها له الدهر منذ خيانته مسلم بن عقيل الى مشهد الطف الى ما بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
    وإلى هذا القضايا الطبيعية كان يوعز أمير المؤمنين بعلمه المستقى من بحر النبوة فيقول : « إن بيتك لسخلا يقتل ابني الحسين. »
    وإذا كان سعد يستهزئ بسيد الوصيين فلقد استهزأ ابنه عمر بسيد شباب أهل الجنة يوم اجتمع به قبل اشتباك الحرب وقال له : « أي عمر أتقاتلني ؟ أما تتقى الله الذي اليه معاد فأنا ابن من علمت ؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب الى الله تعالى ؟ »



    فاعتذر ابن سعد بمعاذير لاترضى الخالق تعالى قال : ( أولا ) أخاف أن تهدم داري ، قال الحسين : أنا أبنيها لك ، و( ثانيا ) أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، قال ـ عليه السلام ـ أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز (10) ، ويروى أنه قال له : أعطيك
    ____________
    9) كامل الزيارة لابن قولويه من أعيان القرن الثالث ص74.
    10) مقتل العوالم ص78.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 106 )

    البغيبغة وكانت عين عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع فيها معاوية الف الف دينار فلم يبعها منه (11) و( ثالثا ) أخاف من ابن زياد أن يقتل أولادي.
    ولما أيس منه أو عبدالله قام من عنده وهو يقول : « ما لك ذبحك الله على فراشك عاجا ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا اليسير. »



    فقال ابن سعد مستهزئ :
    « في الشعير كفاية (12) ».


    إن المواعظ لا تفيد بمعشــر * صموا عن النبأ العظيم كما عمُوا

    إنك يا سيد الشهداء أبصر بهذا الطاغي ، وإنه يعشو عن الحق لدناءة حسبه ، وضؤولة مروءته ، وضعف دينه ، وبعده عن الصرط السّويّ ، وانغماره في الشهوات لكنك ابن من تحمّل الأذى ، ولاقى المتاعب في سبيل إنقاذ الأمة وانتشالها من موج الضلال فلم ترد بتلك النصائح وادلاء الحجج وضرب الأمثال إلا إتمام الحجة ، ولم تبق له مسرحا يلتوي اليه ، ولا منتكصا يتحرج منه حتى أتممت عليه كلمة العذاب ، وقطعت عنه المعاذير يوم تنشر الصحف وتنصب الموازين.
    واذا كان أبوه سعد لم يستضئ بنور النبوة ولا استفاد من تعاليمه ما يقرّبه الى الحق فيتباعد عن وصي النبي مع ما يعلمه من الحق الثابت له ، فجدير بابنه اذا بات ليلته مفكرا في النصائح التي القيت اليه ممن يمحضه الود ولا يرديه في باطل ، فجار عن الطريق الواضح واختار الدنيا على الآخرة ، فإن « الشجرة المرة لا تنبت إلا مرا » والذي خبث لايخرج إلا نكدا وهل ترجى الهداية منه بعد قوله (13) :


    أأترك مُلك الريّ والري رغبتي * أم أرجع مذمومـا بقتـل حسين
    وفي قتله النار التي ليس دونها * حجاب وملك الـري قرة عيـن

    وبعد هذا فهل يعجب القارئ ويستغرب من كتابة عمر بن سعد الى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل ، واجتماع الناس عليه ، وتوقف النعمان بن بشير عن محاربته (14) وكان محرّضا له على تدارك الأمر لئلا ينتكث فتله
    ____________
    11) تظلم الزهراء ص103.
    12) تهذيب الأسماء واللغاة للنووي بترجمة عمر بن سعد.
    13) ابن الأثير ج4 ص22.
    14) الطبري ج6 ص199.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 107 )

    ولقد تحققت فيه كلمة سيد الشهداء : « لاتأكل من بر العراق إلا يسيرا » فإنه رجع من كربلاء صفر الكف خالي الوطاب من الزلفى ، وهل أحد أخسر صفقة منه حين دعاه ابن زياد ، وطلب منه العهد بولاية الري فاعتذر بضياعه فلم يقبل منه ، وألحّ عليه قال : إني تركته يُقرأ على عجائز قريش اعتذارا منهن : أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعدالكنت قد أديت حقه . (15) وبقى في الكوفة خاسرا ربح السلطان والفوز بجوار المصطفى حتى قتله المختار شر قتلة في ذي الحجة سنة ست وستين ومعه ابنه حفص (16) ولعذاب الله أشد.

    لفت نظر :
    تقدم في حديث ابن قولويه أن سعد بن ابي وقاص اعترض على أميرالمؤمنين لما قال : « سلوني ـ الخ » ، ورواه الصدوق في الأمالي ص81 مجلس 28 ، والإستبعاد بأن سعدا لم يرد الكوفة موقوف على أن يكون هذا الخطاب بالكوفة ولم تقم قرينة على أمير المؤمنين لم يقل : « سلوني » إلا في الكوفة إذ من المحتمل أن يكون ذلك الإعتراض بعد خطبته ـ عليه السلام ـ بالمدينة اما في أيام خلافته أو في أيام خلافة من تقدمه ويؤيد تكرر هذا القول منه ـ عليه السلام ـ حديث عباية الأسدي : كان أمير المؤمنين علي كثيرا ما يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ـ الخ (17).
    ولعل حديث ابن قولويه : وكان عمر يدرج بين يديه ، يؤكد هذا الإحتمال أعني وقوع الخطاب والإعتراض في المدينة ، فإنه على هذا يكون عمر صغيرا ، حتى على القوم بولادته أيام النبي ، واحتمال بعض العلماء أن تعيين الأب والإبن في حديث ابن قولويه والصدوق من الراوي للمغروسية في الأذهان بأن عمر بن سعد قاتل الحسين ، فعيّن الأب والإبن باجتهاده وحسبه الآخر رواية فدوّنها ورواها ، مبني على حصر الخطاب في الكوفة وليس له شاهد في الحديث والتاريخ.
    ومما يشهد لتعدد الواقعة ما يروى أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض على أمير المؤمنين لما سمعه يقول : سلوني ـ الخ ، فأخبره ـ عليه السلام بأن في
    ____________
    15) المصدر ص268.
    16) تاريخ أبي الفدا ج1 ض195.
    17) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص37.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 108 )

    بيته سخلا يقتل الحسين وكان ابنه الحصين طفلا صغيرا يرضع اللبن وعاش الى أن صار على شرطة عبيدالله بن زياد ، وأخرجه الى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين يتوعّده إن أخّر (18).
    وهناك رواية ثالثة تشهد بأن المعترض هو أنس النخعي فقال ـ عليه السلام ـ : وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله وكان ابنه سنان قاتل الحسين ، وهو يومئذ طفل يحبو (19).
    وهذه الروايات الحاكية لتعدد المعترض تدل على تعدد الخطاب من أمير المؤمنين فليس من البعيد أن يكون سعد في جملة هؤلاء.
    وكيف كان فقد جاء في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج5 ص113 ، وتذكرة الخواص ص141 ، وابن الأثير في الكامل ج4 ص94 ومثير الأحزان لابن نما ص25 : أن أمير المؤمنين لقى عمر بن سعد وقال : كيف بك يا ابن سعد اذا قمت مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار ؟


    ويزيد ابن الأثير : أن عبدالله بن شريك يقول : أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود اذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله .
    وكان عمر يقول للحسين : يزعم السفهاء إني أقتلك فقال الحسين : ليسوا بسفهاء (20).
    وكانت ولادة عمر أما في أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما ارتأه ابن عساكر لرواية ابن اسحاق أن أباه سعدا أرسل الىالجزيرة جيشا كان معهم ولده عمر وذلك في سنة 19 ، واختار ابن معين أن عمر بن سعد كان غلاما حدث السن سنة موت عمر بن الخطاب لحديث سيف أن سعدا تزوج يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة أيام الردة فولدت له عمر (21) ، وفي الرياض النظرة امّه بنت قيس بن معديكرب.
    ____________
    18) نهج البلاغة ج2 ص508.
    19) شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص208.
    20) تهذيب التهذيب ج7 ص451.
    21) الإصابة ج3 ص184.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:15 am

    في بيت هاني

    كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي (1) من أشراف الكوفة (2) ، وقرائها (3) ، وله منزلة في المصر ، ولبيته في العشيرة منعة ، (4) وله الزعامة الكبرى في مراد ، يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفا (5) ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آدابا ، (6) وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاء حسنا (7) وفي يوم الجمل كان يرتجز :


    يا لك حرب حشّها جمالها * قائدة ينقصــها ضلالها
    هذا علي حوله أقيالها (

    وأدرك النبي (9) وله يوم قتله بضع وتسعون سنة (10).
    ____________
    1) الاصابة بترجمة عروة المرادي.
    2) الأخبار الطوال ص235.
    3) الأغاني ج14 ص95.
    4) الطبري ج6 ص213.
    5) مروج الذهب ج2 ص89.
    6) تاريخ ابن عساكر.
    7) ذخيرة الدارين ص278.
    مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص614.
    9) الإصابة بترجمة هاني.
    10) الإصابة لابن حجر بترجمته.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 110 )

    ولسيدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في « رجاله » وقد أغرق نزعا في إثبات جلالته والدفاع عنه ، والجواب عما قيل فيه ، وتابعه على رأيه السديد السيد المحقق الأعرجي في « عدة الرجال » وكل من تعرض له من علماء الرجال ، ذكره مترحما ومترضيا عليه ، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبدالله المامقاني في « تنقيح المقال » بترجمته في مدحه والثناء عليه ، ووافقه المحقق الشيخ عباس القمي في نفس المهموم ص62.
    وذكر محمد بن المشهدي من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده ، وفيها وصفه « بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ » والشهادة بأنه قتل مظلوما وأنه لقسا لله تعالى وهو راض عنه بما فعل ونصح ، وأنه بلغ درجة الشهداء السعداء بما نصح لله تعالى ولرسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ مجتهدا وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته ثم الترحم عليه ».
    ثم ذكرا بعد الزيارة صلوتها ودعاء الوداع ، وزاد ابن المشهدي « تقبيل القبر ».
    وحيث أنهما ذكرا في مزاريهما أن ما أودعاه في كتابيهما على الوجة الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّي لنا أن هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة ، وجلالة هذين العلمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص حتى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلا لتسرّب الى نقلهما شبة البدعة في الدين ، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها . إذا ففي قولهما الحجة البالغة.
    ولو سلمنا عدم الورود فلا أقل من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة من تقدم من علماء الرجال من أن الرجل متحلي بتلكم الفضائل ، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الأصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم كما أن وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن اليه ويستشهد به.
    ثم يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحم سيد الشهداء عليه فإنه ـ عليه السلام ـ لما نزل « الثعلبية » ممسيا أخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق قال ـ عليه السلام ـ : « إنا لله وإنا إليه


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 111 )

    راجعون رحمة الله عليهما » ردد ذلك مرارا (11).
    واذا كان ترحم الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال ومقادير أعمالهم على شخص يعد تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته ، وأنه مضى محمود الطريقة متبعا للحنيفية البيضاء فأي رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر المثبت له في صك الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الأمور وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحم على ابن عمه وداعيته.
    ان هذا الترحم من أبي عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ وشهادة أولئك الأعلام تنم عن أن « ابن عروة » كان على أرفع منصّة من الإيمان ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة ، وأن ما قام به من إتمام البيعة لمسلم ـ عليه السلام ـ في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيد النبيين وخاتم الرُسل أجمع.
    ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتى أودي به شهيدا في سبيل نصرة ابن عم رسول الله ، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون.
    ومن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيما في رجال آية الله لسيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه. وهناك تعرف أن ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة « ليزيد » من الأقاصيص التي لانعرف سندها ولامن جاء بها ، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتى آخر نفس لفظه ، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم.
    وكان السبب في انتقال مسلم الى داره أنه لما بلغه خطبة ابن زياد ووعيده ، وظهر له حال الناس ، وفرقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة فخرج من دار المختار بعد العتمة الى هذا الزعيم الكبير لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة ، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة ، فلاقاه هاني بكل ترحيب ، وعلم أن تشريف ابن عقيل محله يعود عليه بأسمى السعادتين اما حياة
    ____________
    11) الطبري ج6 ص225.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 112 )

    مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.
    وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ـ الخ.
    ونزل مع مسلم في دار هاني شريك (12) بن عبدالله (13) الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة علي ـ عليه السلام ـ بالبصرة جليل القدر من أصحابنا (14) شهد معه صفين ، وقاتل مع عمار بن ياسر (15) ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان (16) وكانت له مواصلة مع هاني.
    ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان ، وان المال مهما تكثر من معاوية لايغويه ، فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك ؟
    فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب ، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر ، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أميرالمؤمنين ، وخرج منه يقول (17) :


    أيشتمُني معاوية بن حـرب * وسيفي صـارم ومعي لساني
    وحولي من بني يزين ليوث * ضراغمـة تهش الى الطعان
    يعير بالدمامة مـن سفــاه * وربّـات الخدور من الغواني
    ذوات الحسن والرئبال جُهم * شتيـم وجهـه ماضي الجنان

    مسلم لا يغدر :
    الفتك من الغدر ولا يوصم به مؤمن يعرف أن شريعة الإسلام جاءت لتحلية
    ____________
    12) الإصابة بترجمة هاني.
    13) أنساب الاشراف للبلاذري ج4 قسم ثاني.
    14) مثير الأحزان لابن نما ص14.
    15) تاريخ الطبري ج6 ص203.
    16) النجوم الزاهرة لابن تغربردي ج1 ص143 وابن الأثير ج3 ص206 والأغاني ج17 ص70.
    17) ربيع الأبرار للزمخشري في باب الأجوبة المسكتة.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 113 )

    النفوس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ولم يرد الشارع لمن اعتنق دينه القويم إلا أن يكونوا في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية فيسلكوا سبل السلام في أعراق طاهرة ومآز عفة ، وقلوب نزيهة ، وجوارح مؤدبة بآداب الله تعالى ، وجوانح ممرّتة بالقداسة.
    وجاء في وصية رسول الله لأمير المؤمنين : « إياك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته فإن الله جعل عهده وذمته أمانا أمضاه بين العباد برحمته والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته (18) فان كل غادر يأتي يوم القيامة مائلا شدقه (19) وله لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان (20) ».




    وقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنة أوفى منه وما يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيّسا ، ونسبهم أهل الجهل الى حُسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله . قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين (21) ».




    وقال على منبر الكوفة : « ايها الناس لولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس ألا ان لكل غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ألا وان الغدر والفجوز والخيانة في النار (22) ».



    والغدر لايأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة لأنه ينم عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالات بالنواميس الدينية والبخس لحقوق المسلمين ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الإلفة واحتدام البغضاء . وان الشريعة المطهرة حاولت ببيانها
    ____________
    18) دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري.
    19) الوسائل ج2 ض425 عين الدولة.
    20) نهاية الارب للنويري ج3 ص371.
    21) شرح النهج ج1 ص216.
    22) الوسائل ج2 ص245.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 114 )

    الأوفى بث روح التحابب بين الجامعة البشرية . والغادر يبغضه كل من مسه غدره وكل من عرف شيئا من ذلك ، وكلما اتسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدت عوامله.
    ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا : أعرق العرب في الغدر آل الأشعث فان عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان ، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان ، فإنه عقد بينهم وبينه عهدا فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبابكر وفضحوه ، وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم وأسروه ففدى بمائتي فلوس فأدّى مائة وعجز عن البقية ، ولما أسلم أهدره الاسلام ، وغدر قيس ابو الأشعث ببني مراد فإنه كان بينه وبينهم عهد الى أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة قالوا له : لم ينته الأجل فكان جوابه أنه لا يحل لي القتال يوم السبت لأنه يهودي فقتلوه وهزموا جيشه ، وغدر معديكرب أبوقيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد فقتلوه وشقوا بطنه وملأوه حصى وقالوا : اشبع لاشبعت يا ابن بغايا ضريه (23).
    فالغدر ضامن العثرة ، قاطع ليد النصرة ، والغالب بالغدر مغلول ولا عذر لغادر ، وفي ذلك يقول الشاعر (24) :


    أخلق بمن رضي الخيانة شيمة * ألا يُــرى إلا صريـع حوادث
    ما زالت الأرزاء تُلحق بؤسها * أبداً بغادر زمّــة أو ناكــث

    وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ليتجنبه الناس (25).
    وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندما ، وجرت له الخزي حين تبرأ النبي من فعلته وغدرته وذلك أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أرسله هم داعيا لا مقاتلا وكانت بينه وبينهم إحنة فإنهم في الجاهلية قتلوا عمه الفاكهة ، فلما نزل على ماء لهم أخذوا السلام فرقا منه فصاح بهم : ضعفوا السلاح فإن الناس أسلموا فلما وضعوا السلاح آمنين
    ____________
    23) المحبر لابن حبيب النسابة ص244 ، وشرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201 ، ونهاية الأرب للنويري ج3 ص373.
    24) نهاية الأرب للنويري ج3 ص372.
    25) شرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 115 )

    من غدر المسلم أمر جماعته فكتفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فلما بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلا الى الله تعالى : « اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد »


    ثم أرسل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتى ميلغة الكلب (26).
    على أن الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأغراض المحترمة شرعا حرمة فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض ، وكله نقض لغرض المولى سبحانه ، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ليقيموا عمد الحق ، ويرفعوا راية الهدى ، ويتم بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم . وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والإغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه.
    وهذا في امراء المسلمين وولاة أمرهم أشد من غيرهم لكونهم مرقومون في النفسيات الحميدة قبل أفراد الرعية ، وأن الامم تحتج بملكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم ، ويكون ما يتصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة فإذا تخلوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني ، فالواجب على أمير المسلمين ووالى شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت ، ويقاسي النكبات وان تراكمت ، ولا يغدر ولا يفتك ليكون ذكره بريئا من كل وصمة.
    على أن ولاة الأمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اسوة لمن يأتي بعدهم . فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، ومساعيهم المشكورة فاللازم على الوالي أن يرتكب خطة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق اليها.
    واذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد.
    وذلك أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض
    ____________
    26) صحيح البخاري ج3 ص47 في كتاب المغازي ، والإستيعاب بترجمة خالد ، وتاريخ الطبري ج3 ص123 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص97 حوادث سنة 8.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 116 )

    أرسل إليه ابن زياد اني عائد لك فاخذ شريك يحرّض مسلم بنعقيل على الفتك بابن زياد وقال له : ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة معا العافية (27).
    وبينا هم على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيدالله فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه ، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلما :


    ما الانتظار بسلمـي لا تحيوهـا * حيوا سليمى وحيوا من يحيهـا
    هل شربة عذبة أسقى على ظماء * ولـو تلفت وكانت منيتـي فيها
    وإن تخشّيت من سلمى مراقبـة * فلست تأمن يوما مـن دواهيهـا

    وما زال يكرّره (28) وعينه رامقة الى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع إسقونيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيدالله إلى هاني وقال : إن ابن عمك يخلط في علته ؟ فقال هاني : ان شريكا يهجر منذ وقع في علته وإنه ليتكلم بما لا يعلم (29) فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك : ما منعك منه ؟ قال ـ عليه السلام ـ : منعني خلتان الأولى حديث عليّ ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن (30) والثانية امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي ، فقال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه (31).
    ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيام وما فصلى عليه ابن زياد ، ودفن
    ____________
    27) مثير الاحزان ص14.
    28) رياض المصائب ص60.
    29) ابن نما ص14.
    30) الطبري ج6 ص204 ، وابن الأثير ج4 ص11 ، والأخبار الطوال ص236 ـ وهذا الحديث تكرر ذكره في الجوامع ، رواه أحمد بن حنبل في المسند ج1 ص166 ، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد ج1 ص57 ، والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص123 ، وكنوز الحقائق بهامشه ج1 ص95 ، ونص عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب ج2 ص318 ، والبحار في معاجز الصادق ج11 ، وفي وقائع الأيام عن الشهاب في الحكم والآداب.
    31) مثير الأحزان لابن نما ص14.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 117 )

    « بالثوية » (32).
    ولما وضح لابن زياد أن شريكا يحرض على قتله قال : والله لا أصلى على جنازة عراقي أبدا ، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكا (33).
    إن القارئ جد عليم بأن الأمة اذا بلغها عن ممثل سيد الشهداء « مسلم بن عقيل » بأنه آثر انتكاث الأمر عليه ، وقدم تضحيته على الفتك بان مرجانة فلم يقدم على اغتياله والغدر به تكريما لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها ، فلا يقال رسول الحسين وداعيته الى مناهج الرشاد باغت صاحبه في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ولكنه ـ عليه السلام ـ ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك تعليما للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقا لاحبا للفوز بالرضوان ، فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة ، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.
    فالأمة اذا بلغها أن هذا الداعي الى الحق ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر ، وذهب ضحية السؤدد والخطر ، ضحية المجد والكرامة ، كان هذا دليلا للتأسّي به ؛ فإن للشيعة نفوسا نزّاعة الى اقتصاص أثر أهل البيت والإستنارة بضوء تعاليمهم ، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم.
    فمسلم ـ عليه السلام ـ كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروسا أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطف إباء ونخوة وحمية دون القويم.
    فهذه الكلمة « الإيمان قيد الفتك » التي أفاضها عالم آل أبي طالب وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سر من أسرار الشريعة وهو مبغوضية
    ____________
    32) في المعجم مما استعجم ج1 ص350 الثوية موضع وراء الحيرة كان سجنا بناء تبّع وفي معجم البلدان ج1 ص28 كان النعمان يحبس فيه فيقال للمحبوس : ثوي ، فسمي الموضع به ، وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة بعدها هاء وفي تاج العروس أنها كسمية.
    33) ابن الأثير ج4 ص11.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 118 )

    الغدر ، وإن النفوس الطاهرة تأبى للضيف أن يدخل بمن استضافهم ما يكرهون.
    وهناك سرّ آخر لتأخر مسلم ـ عليه السلام ـ عن الفتك بابن مرجانة لم تكن الظروف تساعده على كشفه نعرفه من نظائر ما صدر عن المعصومين ؛ فإن أمير المؤمنين لما أتاه ابن ملجم يبايع له وولّى نه قال : « من أراد أن ينظر الى قاتلي فلينظر الى هذا ». فقيل له : ألا تقتله ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « يا عجباه تريدون أن أقتل قاتلي (24) ».


    وليس مراده ـ عليه السلام ـ بيان عدم جواز القصاص قبل الجناية كما ظنه من لا خبرة له وإنما اراد بيان ما ثبت لديه من أن الله سبحانه قدّر شهادته على يد أشر بريته وأنه عنده كعاقر ناقة صالح ، وقد علم أمير المؤمنين بما أودع الله تعالى فيهم من القوة النورانية التي بها يدركون ما في الكون من حوادث وملاحم كما هو الحق الذي لا محيص عنه ان هذه الشهادة على يد ابن ملجم من القضاء الذي لا مردّ له ، فيكون المعنى كيف أقدر أن أنقض ما أبرمه المولى الجليل عز شأنه من هذه الشهادة.
    والى هذا أوعز ـ عليه السلام ـ في كلامه مع ابن ملجم حين مر عليه ورآه نائما على وجهه فعرّفه بأن نومته تلك يمقتها الله تعالى ثم قال له : « لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك (35) ».



    على أن أمير المؤمنين لو فرضنا علمه بتأخر شهادته ذلك الحين لم يقدم على قتل ابن ملجم لأنه به تتجرّى الناس على الفتك بمن يحتملون أنه يريد الإجهاز عليهم ، بل قد يكون العداء فيما بينهم والضغائن التي تحملها جوانحهم حاملا لهم على إزهاق النفوس معتمدين على دعوى العلم أو الظن بذلك فيكثر الهرج وينتشر الفساد.
    وعلى ذلك الإساس يكون جواب الحسين لام سلمة حين قالت له : « لا تخزني بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك رسول الله يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق يقال لها : كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.
    فقال الحسين :




    ____________
    34) بصائر الدرجات للصفار ص6.
    35) البحار ج9 عن أبي الحسن البكري.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 119 )

    « يا أماه وأنا أعلم مقتول مذبوح ظلما وعدوانا ، وقد شاء ربي أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. »
    قالت أم سلمة : واعجباه فأنى تذهب وأنت مقتول ؟ فقال الحسين :
    « يا اماه ان لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وهل من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وان أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي »
    فطلب منه ذلك ، فأراها تربته وتربة أصحابه (36).
    ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فاذا رأتها تفور دما تيقّنت قتله ، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت الى القارورتين فاذا هما يفوران دما (37).









    وعلى هذا فمن الجائز الممكن أن مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان على يقين من شهادته ومحل تربته وانها تكون على يد الدعي ابن الدعي ابن مرجانة ، استفاد ممن أودع عندهم هذا العلم المكنون وهو سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ.
    وعلم المعصومين وان كان « صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان » لكنهم ـ عليهم السلام ـ اذا علموا قابليّة من اشرقت عليه أنوار ولايتهم لتحمل تلك الأسرار ، يوقفونهم عليها ، كما أخبر أميرالمؤمنين ميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وعمر بن الحمق ، ورشيد الهجري الى أمثالهم بقتلهم ، وعلى يد من تكون الشهادة ، والوقت الذي يقتلون فيه ، وكما أخبر سيد الشهداء من ثبت معه على التضحية والمفادات.
    ومسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان في الغارب والسنام من الايمان واليقين والبصيرة النافذة من اولئك الأفذاذ فأي مانع من أن يوقفه أبو عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ على ما يجري عليه من كوارث ومحن حرفا حرفا
    ____________
    36) مدينة المعاجز ص224.
    37) الخرايج للراوندي في باب معجزات الحسين.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 120 )

    ثم ان الفتك الذي هو قيد الايمان كما في نص الحديث شامل باطلاقه لكل من أراد الوقعية بالمؤمن سواء من ناحية الإجهاز عليه ، أو من جهة اغتيابه وإظهار عيوبه للناس ، أو من جهة النميمة المثيرة للاحن والبغضاء الموجبة لملاشاة الأخوة بين المؤمنين ، أو من جهة اشاعة الفاحشة التي يقول فيها سبحانه وتعالى : « الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة »
    فان في كل ذلك وردت الشريعة المحذّرة عنه ، الحاكمة على مرتكب هذه الجهات بالخروج عن ربقة الإيمان.

    حفظ الجوار :
    حماية الجار من عادات العرب الفاضلة ولهم في ذلك أيام بيض وصحائف ناصعة وإن تطرّق فيها بعضهم فخرج إلى الرعونة (38) لكنها في الجملة مما يمدحون بها ، ولم يبرحوا متهالكين عليها ، فكانت تراق على ذلك الدماء ، وتقوم الحرب العوان على أشدها لأنها من ولائد الحفاظ والشهامة والغيرة على الأحساب وفيها الابقاء على المستجيرين من عادية المرجفين وجلب ودّهم وودّ ذويهم وقبائلهم ، وسيادة الإلفة وتوارث المحبة ، وظهور الأبهة وبروز المنعة ، واخماد الفتن ودحض الفوضى ، ولعل العداء يعود حنانا بارجاء الفتك لأجل الإستجارة الى التفاهم ، أو تبيين أغراض النمامين المثيرين للعداء أو بالمعاذير المقبولة.
    وقد حفظ المؤرخون من قضاياهم في هذه الخصلة التي تتفق مع العقل نأتي على بعضها :
    منها قصة « أوفى بن مطر المازني » مع رجل جاوره وعنده امرأة أعجبت أخاه قيسا فلم يصل اليها مع زوجها فقتله غيلة وبلغ ذلك « أوفى » فقتل أخاه قيسا بجاره وقال :


    إني ابنة العمريّ لا ثوب فاجـر * لبســت ولا من غدرة أتقنّـع
    سعيت على قيس بذمة جــاره * لأمنع عرضي إن عرضي ممنّعُ

    ____________
    38) في غرر الخصائص للوطواط ص16 ، كان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد لأنه حمى جرادا لأنه حمى جرادا حط يفنائه ، وكان ثور بن شحمة الضبيّ يسمى مجير الطير فلا تصاد بأرضه ، وحمى زياد الأعجم حمامة تصوت على شجرة فقتلها حبيب وشكاه زياد الى الملهب فالزم حبيبا دية الحر وأعطى زيادا الف دينار.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 121 )

    ومرت سنة مجدبة على بني تيم الله بن ثعلبة فقصد جماعة منهم وهم مالك وعامر وحليحة مجاورة « بدر بن حمران الضبي » فوق لهم حتى أحيوا ورجعوا مسرورين الى وطنهم مكرمين ، وقصد جماعة منهم « مساورا » فجعل يفخر بنسائهم فقال بدر بن حمران :


    وفيتُ وفاء لــم ير الناس مثله * بتعشــار إذ تحنو إليّ الأكابـر
    ومن يك مبنيا به عـرس جـاره * فإني امرؤ عن عرس جاري جافر

    واستجار امرؤ القيس بن حجر الكندي بعامر بن جوين الطائي ثم الجرمي ، فقبّل عامر امرأة امرئ القيس فأعلمته بذلك فارتحل عنه ، واستجار « بأبي حنبل جارية بن مر الطائي ثم الثعلبي » فلم يصادفه فقال له ابن جارية : أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل يعني أباه فرضي امرؤ القيس وتحول إليه ، ولما قدم أبو حنبل رأى كثرة اموال امرئ القيس ، وأعمله ابنه بما شرط له في الجوار فاستشار أهله بذلك فقالوا له : لا ذمة له عندك ، فخرج أبو حنبل الى الوادي ونادى : ألا ان أبا حنبل غادر ، فأجابه الصدى من الجبل بذلك ، ثم نادى : ألا ان أبا حنبل واف ، وأجابه الصدى بذلك ، فقال : الثانية أحسن ثم أتى منزله وحلب جذعة من غنم امرئ القيس وشرب لبنها ومسح بطنه وقال : « اغدر وقد كفاني لبن جذعة » ثم قال :


    لقد آليت أغدر في جـذاع * ولو منّيت أمت الربـاع
    لان الغدر في الأقوام عار * وان اُلحر يجزأ بالكـراع

    ثم عقد له وأعلمه امرؤ القيس فعلة عامر بن جوين بامرأته ، فركب أبو حنبل في أسرته حتى أتى منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس فقال له : قبّل امرأة عامر كما قبّل امرأتك ، ففعل (39).
    الى غير ذلك من قضاياهم الكثيرة في حفظ الجوار وحماية النزيل ، ولا يشفقون في الدفاع عمن استجار بهم وان كان فيه ذهاب أنفسهم وعشائرهم وأموالهم أو يحصلون على أغراضهم.
    وقد جاءت الشريعة المطهرة الحافلة بمكارم الأخلاق الحاثة على السلام والوئام فأقرت تلك الفضيلة ، وأدخلت التحسينات فيها حتى أجازت الإجارة للمشركين قصدا للتأليف ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : « وان أحد من المشركين استجارك فأجره » فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم » وفسّره
    ____________
    39) هذه القضايا في المحبر لابن حبيب ص348 الى ص355.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 122 )

    الامام الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر قوما من المشركين فأشرف رجل وقال : اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم واناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به (40).
    وقام الأئمة من أبنائه ـ عليه السلام ـ بالمحافظة على هذه النواميس التي فيها الإبقاء على الجامعة ، فما زالوا يوصون شيعتهم بحرمة الجوار وان كان المجير عبدا أو امرأة ن وتناهوا فيه حتىعدّوا الإيماء بالأمان لازم الوفاء به ، وان من أعطى الأمان بأي لغة فلا تخفر ذمته ووجب الوفاء به (41).
    وانت اذا عرفت ما هتفت به العادة من حُسن حماية الجوار والذبّ عن النزيل ، وما أيّته الشريعة الإلهية تعرف أن ما قام به « هاني بن عروة » من هذه المأثرة في حماية ابن عقيل ـ عليه السلام ـ واجارته مما يمدح عليه في حد ذاته ، لكن في الحقيقة ان ما قام به « هاني » منبعث عما هو أرقى من تلك الناحية وهو جهة دينية وعقيدة راسخة بأن الحسين ـ عليه السلام ـ هو الإمام المفترض طاعته ، وحيث ان « مسلما » ممثل حجة الله على الخلق كان الواجب الأخذ بعضده والدفاع عنه ، وكلاءته عن عادية الشقي وأنه من أداء أجر الرسالة.
    وان صبّه في مجلس ابن زياد في قالب التقليد والعادة فقال : إني ما دعوته الى منزلي حتى رأيته على باب داري ، وسألني النزول فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام ، فأدخلته داري وضيّفته وآويته ـ الخ.
    فان هانيا لم يسعه في ذلك الموقف الحرج إلا أن يعتذر بما يقتضيه الحفاظ والغيرة. كيف لا وهوبين ناب الدعيّ ومخلبه مغلوب على أمره فحسب أنه سوف يجديه اخفاء أمر مسلم لكنه لم ينتفع بهذه المعاذير بعد قيام « معقل » جاسوس ابن مرجانة ، وقد أعلم ابن زياد بكل ما وقف عليه من أمر مسلم في دار هاني.
    وعلى هذا فما ذكره ابن جرير الطبري من قول هاني لمسلم : لقد كلّفتني شططاً ولولا دخولك داري لسألتك الخروج عنّي غير إنّي يأخذني من ذلك ذمام وليس يردّ مثلي على مثلك عن جهل ، ثم آواه ، وكذا ما ذكره من أن هانيا قال لشريك : لا أحبّ أن يقتل
    ____________
    40) الوسائل ج2 ص425 عين الدولة.
    41) المستدرك للنوري ج2 ص250.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 123 )

    ابن زياد في داري (42) ، لا يعبؤبه ؛ لأن ولاء هاني لأهل هذا البيت واعتقاده بكون مناصرتهم واجبه الديني لا يرتاب فيه من يقرأ حياته المفعمة بالمآثر والمفاخر.
    ومما يشهد له أن هانيا لو كانت اجارته لمسلم لمحض وقوفه على باب داره ودخوله عليه ، فما الذي ألزمه بادخال الشيعة على مسلم وقد اعترف به ابن جرير حيث قال : « وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني بن عروة » (43).
    وكان يهيّء له الأمور يدبر الشؤون يرتّب العساكر ويجمع المال والعتاد (44) ، وفي وسعه أن يقول لمسلم : ادخل أنت وحدك ولا تهج عليّ امرا ساكنا ولا يدخل عليك أحد.
    ثم أن المؤامرة الواقعة بين شريك الأعور وبين مسلم بالفتك بابن زياد كانت بمشهد من هاني فلم يمنع منها ، حتى أن مسلما لما اعتذر عن الفتك بأن امرأة هاني سألته أن لا يفعله في دارهم ، قال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه.
    أليس هذا يشفّ عن مرضاة هاني بالفتك بابن مرجانة لما رسخ بين جنبيه من وجوب التنكيل بأعداء آل الرسول ؟ ومن هنا قال لمسلم : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا (45).
    ____________
    42) الطبري ج6 ص204 وص203.
    43) الطبري ج6 ص203 ، والاخبار الطوال ص235.
    44) الاخبار الطوال ص235.
    45) تاريخ الطبري ج6 ص204 وابن الأثير ج4 ص11.
    v
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:18 am

    تستر واستخفاء وتواصوا بالكتمان (2) وخفى على ابن زياد موضع مسلم دعا مولاه « معقلا » وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وذلك بعد موت شريك الأعور ، وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم أنه من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليه بحب أهل هذا البيت وبلغه قدوم رجل منهم داعية للحسين ، وعنده مال يريد أن يوصله إليه.
    فدخل « معقل » الجامع الأعظم ، ورأى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة يصلي ، وسمع الناس يقولون : هذا يبايع للحسين ، وأخذ منه البيعة والمواثيق ليناصحنّ ويكتمنّ كي لايفشوا الخبر الى ابن مرجانة.
    ثم أدخله على ابن عقيل في دار هاني ، وسلم المال ألى أبي ثمامة الصائدي وكان بصيرا شجاعا ومن وجه الشيعة ، عيّنه مسلم لقبض ما يرد اليه من المال يشتري به سلاحا ، فكان ذلك الرجل يختلف الى مسلم كل يوم فلا يحجب عنه ويتعرّف الأخبار ويرفعها الى ابن زياد عند المساء (3).
    ولما وضح الأمر لابن زياد وعرف أن مسلما مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن
    ____________
    1) الأخبار الطوال ص235.
    2) الإرشاد للشيخ المفيد.
    3) الطبري ج6 ص204.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 126 )

    خارجة ، ومحمد بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن انقطاع هاني عنه فقالوا : الشكوى تمنعه ، فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كل عشيّة ، فركب هؤلاء الجماعة الى هاني وسألوه المصير الى السلطان لأن الجفاء لا يحتمله ، وألحّوا عليه فركب بغلته ولما طلع على ابن زياد قال : « اتتك بخائن رجلاه » (4) والتفت الى شريح القاضي يقول (5) :


    اريد حبــاءه ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد

    ثم التفت الى هاني قائلا : أتيت بابن عقيل الى دارك وجمعت له السلاح ؟ فأنكر هاني ، ولما كثر الجدال دعا ابن زياد الجاسوس « معقلا » ففهم هاني أن الخبر أتاه من جهته فاعتذر بأنه لم يدعه الى منزله ، وإنما استجار به واستضافه ، والذمام الذي يحمله يأبى له ألا يجير من استجار به ، ثم طلب من ابن زياد أن يمضي الى داره ، ويخرج مسلما منها الى حيث شاء ليخرج بذلك من جواره ولا يكون سُبّة للعرب ، ويعطيه رهنا على ذلك ، فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلا أن يأتيه بمسلم (6).
    ههنا جاهر ابن عروة بعقيدته ، فعرّف ابن مرجانة أن مسلما أحق منه بالأمر ، ولوفاء أبيه زياد ومكافاته في ولده لمعروفه معه يقوم بحمايته ، والدفاع عنه وعن أهله حتى يخرجوا بأموالهم إلى الشام سالمين ، لأن داعية الحسين ـ عليه السلام ـ أولى بالقيام على أمر الأمة وادارة شؤونها.
    فغضب ابن مرجانة من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأن هذا محال عليه ويأباه دينه وعقيدته فقال في التعبير عنه : لو كان « ابن عقيل » تحت قدمي لما رفعتهما عنه.


    فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل ، فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع « ابن عروة » ثلاثون ألفا ، فقال لابن زياد : إذا تكثر البارقة حولك
    فاستدناه ابن زياد وأخذ بظفيرتيه وضربه بالسوط حتى كسر أنفه ونثر لحم
    ____________
    4) في مجمع الأمثال للميداني ج1 ص19 قاله الحرث بن جبلة الغساني لما ظفر بالحرث بن جبلة العبدي حين هجاه.
    5) في الإصابة ج3 ص274 بترجمة قيس بن الكشوح قاله عمرو بن معديكرب في أبيات في ابن أخته وكانا متباعدين ، وفي الأغاني ج14 ص32 : ان أمير المؤمنين عليا تمثّل به لما دخل عليه ابن ملجم يبايعه.
    6) ابن الأثر ج4 ص11.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 127 )

    خديه وجبينه على لحيته ، وتناول هاني سيف شرطيّ ، ومانعه الرجل فأمر به ابن زياد إلى الحبس ، فأدخل بعض بيوت القصر وجعل عليه حرسيّ.
    فقال أسماء بن خارجة : أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا أدخلناه عليك هشمت وجهه وأسلت دمه ؟ فأمر به ابن زياد أن يخرج من المجلس فأخرجه الشرطة ، ولما رأى ابن الأشعث ذلك قال : ان الأمير مؤدب رضينا برأيه لنا أم علينا.
    وبلغ عمرو بن الحجّاج قتل هاني الذي هو صهره على أخته « روعة » وهي أم « يحيى بن هاني » فأقبل في مذحج وأحاط بالقصر فأمر ابن زياد شريح القاضي أن يدخل على هاني ويخبرهم بحياته (7).
    ولما سمع هاني لغط الرجال حول القصر وعرف أنهم مذحج صاح : يا للرجال ، أين عشيرتي ، أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، ألا عشرة من قومي ينقذوني من عدوهم وابن عدوهم ؟
    ومن يسمع صوته وأين من يبلغهم نداءه ، والخوف على رؤوسهم والطمع مخيّم على نفوسهم ؟
    نعم دخل قاضي المسلمين « شريح » على هاني ممتثلا أمر ابن زياد وخرج الى القوم يخبرهم بأنه حي ، فهلا مسائل لهذا القاضي المائل عن الحق كيف ساغ له إخفاء استغاثة هاني بقومه وعشيرته ؟ وطمن القوم بحياته وسكن فورتهم حتى أزالهم عن القصر ، تهاونه ؟ أبالخوف من بادرة ابن مرجانة ؟ فهلا ضحى نفسه على تقديره دون مناصرة الحق وأهله وانقاذ المؤمن الاسير من أنياب الطاغية ؟ ولماذا كان يدّخر الحياة الذميمة وقد بلغ من الكبر عتيا ؟ ومن ذا الذي أخبره أنه لو أصدق القوم في المقال ، وزحفوا على القصر ، وأخرجوا زعيمهم وانتكث الأمر على ابن زياد كان يتمكن الدعيّ من التنكيل به ؟ لكنه يتحرّى الحياة مع الظالمين !
    ثم ألا مُسائل مذحجا لماذا تجمهروا على القصر ، ولماذا تفرقوا لمحض القول بأنه حي ، فتكون تلك الجلبة واللغط للوقوف على حياته أو مماته بحيث اذا وجدوه ميّتا شيّعوا جنازته ، وان كان حيا تركوه عرضة للذئاب وليست لهم حاجة في انقاذه. إذا فعلى
    ____________
    7) الطبري ج6 ص206 ، ولكن في مثير الأحزان واللهوف لابن طاووس اسمها رويحة ، وأنها ابنة عمرو بن الحجاج.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 128 )

    الحفاظ والشهامة السلام.

    راية الأمان :
    لما رجع ابن الحجاج بمن معه من مذحج ، خرج ابن زياد الى الجامع الأعظم وخطب الناس وقال : اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، ان أخاك من صدّقك وقد أعذر من أنذر. (
    وأمر محمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، والقعقاع بن شَور الذهلي ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن جريث ، أن يرفعوا راية الأمان ويخذلوا الناس (9) فأجاب جماعة ممن خيّم الفرق عليهم ، وآخرين جرّهم الطمع الموهوم ، واختفى غيرهم ممن طهرت ضمائرهم وكانوا يترقّبون فتح الأبواب للحملة على صولة الباطل.
    ____________
    الطبري ج6 ص207.
    9) ابن الأثير ج4 ص12.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 129 )


    نهضة مسلم

    كان لنهضة مسلم موعد مضروب بينه وبين الناس ، ولم يزل هو ومن بايعه يتأهبون لذلك الأجل من تعبئة الرجال ، وتهيئة العتاد ، ورسم خطط الحرب الأخذ بالتدابير اللازمة ، غير أن الأمر باغته بالقبض على هاني وهو آخذ بعضده ، وموئل رأيه ، وفي داره قاعدة ولايته ، ومركز سلطته ، فاضطرّت الحالة « مسلما » أن يتعجّل الخروج قبل الأجل مخافة أن يؤخذ غيلة ولعله ينقذ صاحبه من مخلب الظالم وقد أسلمته عشيرته.
    وكان رسوله الى القصر عبدالله بن حازم الكبريّ من الأزد من بني كبير (1) ليأتيه بخبرهاني ، فعرّفه حبسه وأن نسوة مراد مجتمعات ينادين واثكلاه واعثرتاه فعندها أمره أن ينادي في أصحابه : « يا منصور أمت » (2) وقد ملأبهم الدور حوله ، وتنادى أهل الكوفة بذلك الشعار فاجتمع اليه أربعة آلاف فعقد راية لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وأمّره على الخيل ، وراية لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج واسد وأمّره على الرّجالة ، وراية لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وراية للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة.
    ثم أقبل مسلم ـ عليه السلام ـ بهؤلاء الجمع الى القصر وكان ابن زياد في الجامع الأعظم يخطب الناس فدخلت النظارة المسجد من باب التمارين يهتفون بمجيء ابن عقيل فراع ذلك ابن زياد ، وأسرع الى القصر وأغلق أبوابه .
    ____________
    1) الطبري ج6 ص208.
    2) منصور رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي يوم بدر وكان شعار المسلمين يا منصور أمت.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 130 )

    واجتمع الناس حتى امتلأ المسجد والسوق منهم وأحاطوا بالقصر وضاق بابن زياد ذرعه إذ لم يكن معه إلا ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه (3).
    فكان أسهل شيء على اولئك الدارعين الا جهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف وفي القوم مساعير للحرب ، ولعل منهم من لا يروعه التقحّم على أولئك النفر المعدودين بالأنامل ولم يكن لابن زياد في ذلك الوقت غير قعقعة الارهاب ، وما أدري كيف انطلت هذه البهرجة على ذوي البصائر بشؤون المصر الواقفين على ما في أرجائه من قلاقل وفي أجوائه من محن وإحن ؟
    ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين إذا مالوا مع عصبة الشيطان بمجرد أن سمعوا ابن لأشعث وحجار بن أبجر وشمر بن ذى الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطاعة ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم ، وأشرف عليهم كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ويفوّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البري بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاق وبال ما جرّت يده (4).
    فتفرق أولئك الجمع عن مسلم ـ عليه السلام ـ حتى لم يبق معه إلا ثلثمائة رجل وصلى العشاء بالمسجد ومعه ثلاثون رجلا وانصرف نجو كندة (5) ومعه ثلاثة ولم يمض إلا قليلا وإذا لم يشاخد أحدا يدلّه على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلدّدا في أزقة الكوفة (6) لا يدري إلى أين يتوجّه (7).
    ____________
    3) ابن الاثير ج4 ص12.
    4) الطبري ج6 ص208.
    5) الأخبار الطوال ص240.
    6) الشريشيّ في شرح مقامات الحريريّ ج1 ص192.
    7) اللّهوف لابن طاووس.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 131 )

    إن من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده ، ووالي قارّة أسلمته أنصاره ، لماذا كان ذلك ؟ للاوهام والتهافهات ، أو للمطامع الشهوات ؟ أين النخوة والحفاط ؟ أين الاباء والحمية ؟ أيظنون أنهم لو انضووا الى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء ؟ أو يضن عليهم بالوظائف ؟ أو يقيم الحق بغيرهم ؟ لا ها الله ما كان يدّخر الاعطيات إلا لهم ، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم ، ولا قيادة الجيوش إلا بهم ، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.
    لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة فاستمرأوا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة ، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم « ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون ».

    خطبة ابن زياد :
    لما تفرق الناس عن مسلم ـ عليه السلام ـ وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها . فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال الى أن تصل الى صحن الجامع ، وفعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلم يروا لأصحاب ابن عقيل أثرا ، فأعلموا ابن مرجانة فأمر مناديه أن ينادي في الناس ليجتمعوا في المسجد ، ولما امتلأ المسجد بهم رقي المنبر وقال : ان ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقو االله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

    الى السجن :
    ثم أمر ابن زياد صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتّش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك الذريع اذا أفلت مسلم وخرج من الكوفة (.
    فقام الحصين بهذه المهمة فبثّ العيون ووضع الحرس على أفواه السكك ، وتتبّع الأشراف الناهظين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي وعمارة بن
    ____________
    الطبري ج6 ص209.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 132 )

    صلخب الأزدي فحبسهما ثم قتلهما.
    وحبس جماعة من الوجوه استيحاشا منهم وكان فيهم المختار الثقفي وعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب (9) وقد خرجا لنصرة ابن عقيل ، وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى « لقفا » فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبدالله بن الحارث راية حمراء وانتهيا الى باب الفيل (10) ووضح لهما قتل مسلم وهاني ، واشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ففعلا وشعد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلما ـ عليه السلام ـ . فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه وبقيا في السجن الى أن قتل الحسين ـ عليه السلام ـ.
    ولما أحضر سبي آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ في مجلسه أخرج المختار من الحبس شامتا منه ، وفرحا بما يحبسه من الظفر ، وإذ رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة كادت روحه أن تخرج فيها ، ولم يثن هذا من عزمه ولا أوهن من عقيدته ، فأغلظ لابن زياد في كلام جرى بينهما (11) وعرّفه بالعقيدة التي يحملها من مصدر وثيق بأن ايامه عدد ومُلكه بدد وسيلقى خزيا وبوارا يكون ذلك على يده.
    فاضحك ابن زياد هذا النبأ من أسير تحت قبضته ، وليس له مساعد له يحذر سطوته خصوصا يرى أعناق الأشراف ذللا نحوه وقد ملأ السجن بمن يتحفّز لنخوته ، فأرجعه الى السجن ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة عبدالله بن عمر بن الخطاب عند يزيد لاقترانه من « صفية » ابنة أبي عبيد الثقفي أخت المختار.
    ولما خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف الأزدي ونال من أمير المؤمنين بحضرة اولئك الأجلاف من الكوفيين ، ولم يلق منهم رادا عليه غير المختار ، فقد ثار في وجهه شاتما ومعرّفا بأن اللصيق لم يستحق من الإمارة موطأ قدم وان أهلها العاملون بالحق السالكون بالأمة طريق الجد المهذّبون المرشدون كابن عقيل ومن حذا حذوه من أهل هذا البيت الطاهر.
    فأمر ابن مرجانة بقتله غير أن عمر بن سعد تشفّع فيه لأنه كان صهره على أخته ، أولدت له حفصا ، فأرجعه الى السجن ثم تشفع فيه ثانيا عبدالله بن عمر عند
    ____________
    9) المصدر ، ص208 وص214 وص215.
    10) أنساب الأشراف للبلاذري ج5 ص215.
    11) رياض الأحزان ص52 عن روضة الشهداء.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 133 )

    يزيد فكتب الى ابن زياد يأمره باطلاقه فأخرجه من السجن على أن لا يساكنه في البلد (12).
    ____________
    12) المصدر ص58 عن روضة الصفا.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 134 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 135 )


    في بيت طوعة

    لقد كان في الكوفة ممن تحلى بسمات الرجال المهذبين الذين لم تلم بساحتهم أي لائمة ولا توجهت اليهم مغبّة ، وأنه ذلك الانسان الواحد الحاوي للشرف المعلى والذكر الخالد والثناء الجميل ، وحضى بالرضوان مع حبيب الله وخاتم رسله ، ألا وهي « طوعة ».


    ولو كنا النساء كمـن ذكرنـا * لفضّلت النساء علـى الرجال
    فلا التأنيث باسم الشمس عيب * ولا التذكيــر فخـر للهلال

    أصحيح أن امرأة تفوق الرجال في الفضائل والفواضل ؟ نعم أن ذلك لما أجنته في أضالعها من طهارة النفس ، وشرف المنبت والولاء الصحيح لأهل هذا البيت ، فقامت بما يرضى الله ، ورسوله ويحبذه الشرف والإنسانية ، ويدعو إليه الخطر ، والناس يتمايزون بالنفسيات الكريمة والغرائز الطيبة والعمل الصالح.
    وماذا على « طوعة » وقد طاوعتها نفسها على متابعة العقل واقتصاص أثر الدين وأداء أجر الرسالة بايواء ابن عم سيد الشهداء وممثله الفذ ، فتحلّت بما فتحلّت بما تخلّى عنه ذووالهمم القاصرة والنفوس الضعيفة والحلوم الضئيلة ، فشع نورها بين هاتيك الظلم المدلهم كما شاع ذكرها في الجوامع والزبر ، وفي ثنايا الحقب والأجيال المتتالية فهي حية بعمرها الثاني حتى يسكنها الله تعالى الخلد محبورة في جوار المصطفى ووصيه المرتضى.
    قال المؤرخون : لما بقى مسلم وحده يتلذذ في أزقة الكوفة لا يدري إلى أين يتوجه انتهى به السير الى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كان للأشعث بن قيس أعتقها


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 136 )

    وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا كان مع الناس ، وكان هذه المرأة على الباب تنتظره فلما رآه مسلم ـ عليه السلام ـ استقاها فسقته فجلس على الباب لا تطاوعه نفسه أن يبتدئها بطلب الإذن في الدخول للدار ، ولا يعرف موضعا يؤيه من عادية الطاغي ، ولا من يأخذ الى الخلص من صحبه والشوارع فيها الحرص ، وقد فرّق الخوف جل الناهضين معه.
    فالتفتت اليه قائلة : ألم تشرب ؟ فأجابها بصوت منكسر وزفرات متصاعدة : نعم قد شربت ، قالت : إذا لماذا تذهب إلى أهلك ؟ فسكت عنها إذ لم يكن له أهل ولا يعرف من يؤيه ، ولكنها لم تقتنع بذلك لأنها امرأة مصونة متأنف من وقوف الأجنبي على بيتها فقالت له : إني لا أحل لك الجلوس هنا ولا يصلح لك.
    فعندها رق وتلاين وقال : يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل ، ولا عشيرة فهل لك الى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد هذا اليوم.
    فاستفزّنها هذه الكلمة الغالية لأن الأجر من أعمال الصالحين والمعروف لا يكافي عليه إلا أهله فقالت مستفهمة : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغرّوني . فلما سمعت باسمه شعرت بزلفى الأبد ، وسعادة لا يتوفّق لها إلا من أودع الله تعالى فيه نور الايمان ، فأعادت عليه السؤال عن اسمه متأكدة في الحصول على الغاية الثمينة وقالت له : أنت مسلم ؟ قال : نعم ، فرحبت به وامتلأ قلبها سرورا بالحضوة بضيافة مثل داعية ابن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وأدخلته بيتاً غير الذي يأوي اليه ابنها وعرضت عليه الطعام فأبى.
    ولما وافى ابنها المنزل ورآها تكثر الدخول لذلك البيت استراب منه فاستفهمها عنه فأعرضت وألح عليها ، فلم تخبره إلا بعد أن أخذت عليه العهود أن لا يعلم أحدا بما في البيت ، فبات الغلام فرحا بجائزة ابن زياد (1).

    مسلم في اليوم الثاني :
    كانت هذه الليلة أطول ليلة مرت على مسلم ـ عليه السلام ـ يرقب آناءها ويعدد دقائقها وثوانيها ، ينظر بعين البصيرة الى زوايا البيت وهو يعلم أنه مأتي لا محالة ولكن كيف يؤتى ومن أين يتوقع الهجوم عليه ، وكيف يدافع ولا يبصر إلا ناحية واحدة
    ____________
    1) مقاتل الطابيين ص41 إيران.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 137 )

    شد إليها الرحال منذ خرج من المدينة بأمر السبط الشهيد ، ألا وهي إظهار الدعوة إلى حُكم الكتاب المجيد وسنة الرسول وانقاذ الأمة من مخالب الضلال وتعريفها سبيل الرشد من الغي ، ومما رؤياه عمه أميرالمؤمنين في المنام يقول له : « أنت معي غدا فالعجل العجل (2) » .


    فعرفت نفسه المطمئنة الملهمة أن في صباح هذه الليلة اللقاء والفناء الذي فيه البقاء الأبدي ، فلم تبعثه الحالة إلا إلى النشاط والبسالة والوثوق بازوف الموعد .
    فلما انفلق عمود الفجر وانفتل من صلاته ودعائه ونوافله تأهب لمجاهدة من مرق عن الدين وأعرض عن وصايا النبي في أهله وذويه وقال لطوعة : « قد اديت ما عليك من البر والإحسان ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله » وقص عليها الرؤيا (3).
    أما ابن العجوز فذهب الى القصر وأعلم عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بمكان مسلم ـ عليه السلام ـ في بيتهم ، فأخبر عبدالرحمن أباه ، ووضح الأمر لابن زياد ، فدعا الغلام وطوقه بطوق من ذهب (4) وأمر ابن الأشعث أن يذهب اليه في سبعين من قيس ليأتيه به.
    فلما سمع مسلم ـ عليه السلام ـ وقع حوافر الخيل ولغط الرجال علم أن هذا طليعة الشر (5) ، فخرج اليهم بجأش طامن ، وجنان راسخ بهضب يهزأ الرواسي وحشو الردى منه فروسية وشجاعة ، وملء اهابه بشر ومسرة فاستقبلهم كمي آل أبي طالب في جحفل مجر من عزمه ، أو حشد لهام من بأسه والقوم سبعون دارعا وهو واحد في ذلك المأزق الحرج من نواحي البيت فلم يفتأوا يرجفوا عليه الدار وهو يكردهم غير مكترث بعددهم ولا بعدّتهم.
    الا تعجب من مكثور أطلعت عليه أعداؤه حيث لا متسع فيه لكر أو فر في مضائق الشوارع ومرتبك الأزقة والجراح يؤلمه والعطش يرمضه ، وهناك جلبة الصاخبين وتشجيع المنشطين ، وهلهلة النساء كما يقتضيه طبع الحال عند العرب ، وهم على يقين
    ____________
    2) نفس المهموم ص56 عن كامل البهائي.
    3) نفس المهموم ص56.
    4) رياض المصائب ص265.
    5) مقاتل الطالبيين ص41.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 138 )

    بالمدد أن أعزوتهم القوة .
    وصريحة الهاشميين خالي من ذلك كله ، ولكن سل القوم والموقف كما وصفناه ، هل ألم بابن عقيل خور ، أو داخله فرق ، أو فترت منه عزيمة ، أو تثبّط من إقدام ؟ لا ومن ترك « الجديدين » يرتّلان صحيفته البيضاء على رؤوس الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
    ولم يشعروا أهو مسلم ينساب عليهم بصارمه الذكر ، أو عمه أمير المؤمنين يشق الصفوف ويطرد الألوف ، أو أن زورعة الحمام أخذتهم من نواحيهم فقتل من السبعين أربعين وهو يرتجز (6) :


    هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع * فأنت بكـأس الموت لاشك جــارع
    فصبـرا لأمر الله جــل جلالــه * فحكم قضــاء الله في الخلـق ذايع

    وكان من قوته يأخذ الرجل من محزمه ويرمي به فوق البيت ، (7) والمرأة الطاهرة « طوعة » تحرّضه على القتال ( فاضطرهم البؤس واليأس من الظفر الى الاستمداد ، فأنفذ ابن الأشعث الى ابن مرجانة يستمدّه الرجال فبعث اليه : إنا أرسلناك الى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحباك هذه الثلمة فكيف لو أرسلناك الى غيره ؟ (9)
    فأرسل إليه ابن الأشعث : « أيها الأمير أتظن أنك أرسلتني الى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقان من جرامقة الحيرة ؟ وإنما وجّهتني الى سيف من أسياف محمد بن عبدالله » فأمده بخمسمائة فارس (10).
    إن ابن مرجانة يعجب من هذه البسالة الطالبية وما لهم من القسط الأوفر منها ، ولا تزال أنباء مواقفهم في الحروب ترنّ في مسامعه كما أن صداها لم ينقطع عن اذن الدهر ومسامع الأجيال والاندية تلهج بحديث النبي : « لو ولد الناس كلهم أبوطالب لكانا (*) شجعانا » (11)


    لكن طيش الملك وغرور الحاكمية أخذا به الى الاستخفاف بسرّي مضر من أنه
    ____________
    6) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص212.
    7) نفس المهموم ص57.
    رياض المصائب ص265.
    9) مقتل محمد بن أبي طالب.
    10) رياض المصائب ص266.
    * كذا في المتن ولكن الصحيح لكانوا بدل لكانا.
    11) غرر الخصائص للوطواط ص17 في باب حفظ الجوار.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 139 )

    واحد فكيف يثلم ذلك الجمع.
    نعم هو واحد بالذات كثير في العزم والبأس.
    فتجمهروا عليه من كل الجهات وصرخة آل أبي طالب لا يكترث بجمعهم ولم ترعه كثرتهم ، فأوقع فيهم الموت الزوام ، واختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين ، ضرب بكير فم مسلم ـ عليه السلام فقطع شفته العليا وأسرع السيف الى السفلى ونصلت لها ثنيّتان ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، واخرى على حبل العاتق كادت أن تطلع الى جوفه (12) فمات منها (13).
    وأخذ يقاتلهم وحده في ذلك المجال الضيّق حتى أكثر القتلى والناس من أعلى السطوح يرمونه بالحجارة ، ويقلبون عليه القصب المضرم بالنار (14) وهو يرتجز في حملاته (15) :


    أقسمت لا أقتـل إلا حـرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا
    كل امرئ يوما ملاق شـرا * ويخلط البـارد سخنا مـرا
    رد شعاع النفس فاستقـرا * أخـاف أن أكـذب أو أغرا

    ولما أثخنته الجراح وأعياه نزف الدم استند الى جنب تلك الدار فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة فقال : « ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ألا ترعون حق رسول الله في عترته (16) ».



    وحيث أعوزتهم الحيل والدابير الحربية لالقاء القبض عليه أو التوصل الى قتله ، أو تحرّي منجاة من سيفه الرهيف قابلوه بالأمان عساه يكف عن القتال فيتسنى لهم
    ____________
    12) الطبري ج6 ص210.
    13) مقتل الخوارزمي.
    14) ابن الأثير ج4 ص13.
    15) في اللهوف ص30 صيدا ، الأبيات لحمران بن مالك النخعي قالها يوم القرم ، وعند ابن نما « القرن » ويشهد له ما في المعجم مما استعجم ج3 ص1068 قرن اسم جبل كانت فيه وقعة لغطفان على بني كنانة فهو يوم قرن ، وفي تاج العروس ج9 ص310 يوم أقرن كاملس يوم لغطفان على بني عامر وفي معجم البلدان ج7 ص64 قرن اسم جبل كانت به وقعة لبني قرن على بني عامر بن صعصعة ، وفي نهاية الارب للقلقشنديّ ص321 بنو فرن بطن من مراد وهم بنو قرن ابن رومان بن ناجية بن مراد منهم أو يس القرني الشهور.
    16) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص212.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 140 )

    بعض ما يرومونه ، فقال له ابن الأشعث : أنت آمن ، إلا عبيد الله بن العباس السلمي فغنه تنحى وقال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل (17).
    أما ابن عقيل ـ عليه السلام ـ فلم تفته خيانتهم ونقضهم العهود وأنهم لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فلم يعبء بأمانهم فقال : « لا والله لا أؤسر وبي طاقة ، لايكون ذلك أبداء » وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثم تكاثروا عليه وقد اشتد به العطش فطعنه رجل من خلفه فسقط الى الأرض وأسر (18).
    وقيل : أنهم عملوا حفيرة وستروها بالتراب وانكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه (19).
    ولما أركبوه البغلة وانتزعوه سيفه دمعت عينه ، فقال له عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي : ان الذي يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، فقال ـ عليه السلام ـ : « ما على نفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين اليكم ، أبكي للحسين وآل الحسين (20). »


    تفيدنا هذه الجملة درسا آخر من نفسية مسلم وقوة ايمانه وثبات جأشه وقداسة نفسه ؛ فان هذا البكاء لم يكن لجروحه الدامية أو عطشه المبرح لما ألم به من الضرب والطعن وهو في الحالة نفسها مكثورة وأنه سوف يؤدّي به الظلوم الغاشم في منتأى عن أهله وولده.
    لكن الذي أبكاه أمام ذلك الجمع المحارب أمر ديني وطاعة للمولى نظير الغاية التي أوقفته هذا الموقف وهو ما سيجري على حجة الوقت الواجب على العباد الإنقياد له والخضوع لأمره ، وان سيد شباب أهل الجنة سيرد هذا المورد متى حلّ بين ظهراني أهل الكوفة الطغاة وهو لايريد أن تشوك سيدة شوكة ولا يستهين أن يصيبه أي أذى ، وإنما وقف هذا الموقف للحصول على مرضاة إمامه والدعوة إليه والذّب عنه ، ولم يبرح هذه نواياه حتى نسي نفسه ولم ينس أبي الضيم ـ عليه السلام ـ فطفق يبكي لما يصيبه وهو
    ____________
    17) ابن الأثير ج4 ص13.
    18) ابن شهر آشوب في المناقب ج2 ص212.
    19) المنتخب للطريحي .
    20) تاريخ الطبري ج6 ص211.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 141 )

    مرتثّ بالجراح وفي آخر رمق من الحياه الله من شهم سيط الإيمان بلحمه ودمه ، وعاد مزيج نفسه الكريمة .
    وفي نص سبط ابن الجوزي : أن ابن الأشعث سلب مسلم بن عقيل درعه وسيفه فقال بعض الشعراء يؤنّبه على فعلته هذه وتركه نصرة هاني (21) :


    وتركت عمك لم تقاتل دونه * فشلا ولـوا أنت كان منيعا
    وقتلت وافد آل حزب محمد * وسلبت أسيافـا له ودروعا

    ولما جيء به الى القصر تساند الى الحائط وقد أخذ الضعف لنزف الدم وشدة الظماء فرأى قلة مبردة فطلب منها ما يبلّ غلّته ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم !
    فكبرت هذه الكملة على ابن عقيل أن تصدر من رجل يدّعي الإسلام ويتشهّد الشهادتين ثم لا تسمح نفسه يبذل الماء الذي هو مباح لعامة الحيوانات ولا يمنع منه حتى الكافر ، والشريعة تنادي بأعلا صوتها : « الناس شرع سواء في الماء والنار والكلاء »


    ثم أي رجل يحمل أقل شيء من العاطفة يشاهد إنسانا بتلك الحالة المشجية ثم يضن عليه بشربة من ماء ، أنه لخارج عن الحدود البشرية ومستوى الانسانية .
    ومن هنا تعجب مسلم ـ عليه السلام ـ واستفهم عن حسبه فقال له : من أنت ؟ قال : أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي !
    فقال ابن عقيل : « لامك الثكل ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظه أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم. »


    وعلى هذا الحوار بعث عمرو بن حريث غلاما له يدعي سليما فأتاه بالماء (22) وفي نص آخر أرسل عمارة بن عقبة بن أبي معيط غلامه قيسا وأتاه بالماء (23) وهل شرب ابن عقيل من الماء فيخفف من الغلوب ويطفئ أوار الظمأ ؟ لا ! فإنه كلما أدنا القدح منه
    ____________
    21) تذكرة الخواص ص139.
    22) الإرشاد للشيخ المفيد.
    23) الطبري ج6 ص211.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 142 )

    امتلأ دما للضربة التي على شفتيه ، وفي الثالثة امتلأ دما وسقطت في القدح ثناياه فتركه وقال : « لو كان من الرزق المقسوم لشربته (24) »


    وهذ من أشد تمكن القداسة في ذاته الملكوتية التي هي قطعة ذلك الجامع المنبسط على رجالات بيت الوحي ، وهو روح الطهارة والعصمة عن الرذائل . فتلك ذات لم تمازجها دنيّة ولا ألمّت بها ضعة ولا وصمت برذيلة فراق داعية السبط الشهيد ـ عليه السلام ـ أن لا يعلق به شيء لا يتفق مع عنصره الزاكي وذاته المطهرة ولم يقاربه طيلة عمره ، ألا وهو شرب الماء المشوب بالدم وان كان يجوز له ذلك.
    لأن الله تعالى اختار لهذه النفوس القدسية المتفانية في نيل مرضاته الداعية الى كلمته وبرهانه حتى قاست ما لا يدركه العقل من كوارث ومحن في سبيل طاعته أشر الموت وهو القتل ممنوعين من الورود لتكون الحجة ألزم على اولئك المتمرّدين على قدس المولى سبحانه الخارجين على حدود سننه وتعاليمه.
    ____________
    24) المصدر ص212.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:20 am

    في قصر الإمارة

    لقد جرى من الكفـور الملحـد * نغـل زيـاد الظلـوم المعتدي
    ما قد جرى من فاحش الخطاب * ومن قبيــح ألـرد والجواب
    وغير ضائـر عـواء الكلـب * إذا عـوى على النجوم الشهب
    وكيف يرجـى من عدو الله في * وليــه شـيء من التعسـف

    اُدخل ابن عقيل ـ عليه السلام ـ على ابن زياد وهو على سرير الطغيان والجور ومسلم أسير مكتوف لايجد أحدا ينجده ولا من يقف دونه ، فلم يتظاهر بالخضوع لابن مرجانة ولا استلان له واستعطفه بالسلام عليه ، ولما اعترضه الشرطي بقوله : ألا تسلم على الأمير ؟ قال : « إنه ليس لي بأمير (2) » ويقال : انه قال : « السلام على من اتبع الهدى ، وخشي عواقب الرّدى ، وأطاع الملك الأعلى (3) ».


    أراد بهذه الكلمة تعريف الحضور بأنه مقاوم للسلطة الغاشمة ومناوى لهذا الجائر حتى عند تضائل قواه وانفلات الأمر من يده وعند منصرم العمر ، ولعل بذلك يتجدّد المقت من الأمة على ابن مرجانة ، وتحتدم القلوب عليه ، وعلى من ولاه أمر البلاد ، فيستطيع حينئذ أن يقول القائل : ان داعية الصلاح رافض لحكومة الضلال
    ____________
    1) المقبولة الحسينية ص14 لشيخنا الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.
    2) اللهوف لابن طاووس30.
    3) المنتخب للطريحي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 144 )

    حتى في أحرج المواقف ، ولا يهون عليه شيء من أمرها ، فلا يفوت أهل الكوفة العلم بمشروعية هذه الولاية ، وأن الأخوة التي شرّفه بها سيد الشهداء أخوة شرف وإيمان والثقة التي فاز بها كما في صك الولاية لايدرك مداها.
    ولم يقتنع مسلم ـ عليه السلام ـ بكل ذلك حتى أخذ يعرّف الناس في ذلك المجلس نفسية عبيدالله وأبيه ومن أجلسه هذا المجلس لتتمّ الحجة فلا يعتذر أحد بالغفلة والجهل ، وأن لقوة الجور مفعولا آخر.
    فإنه لما قال له ابن زياد : إيهاً يا ابن عقيل أتيت الناس ، وأمرهم واحد فشتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ،وحملت بعضهم على بعض ! قال : « كلا لست أتيت لذلك ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمل كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو الى حكم الكتاب. »



    قال ابن زياد : ما أنت وذاك يا فاسق أو لم نكن نعمل فيهم بذلك وأنت بالمدينة تشرب الخمر.
    قال مسلم : « أأنا أشرب الخمر ؟ ان الله ليعلم أنك غير صادق ، وأنك تقول بغير علم ، وإني لست كما ذكرت ، وأنت أحق بشرب الخمر منّي ، من ولغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. »




    فقال ابن زياد : إن نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله.
    فقال مسلم : فمن أهله ؟
    فقال ابن زياد : أميرالمؤمنين يزيد.
    قال مسلم : الحمدلله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.
    فقال ابن زياد : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا.
    فقال مسلم : والله ما هو الظن ولكنه اليقين.
    فقال ابن زياد : قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام !
    فقال مسلم :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 145 )

    أما أنك أحق من أن تحدث في الإسلام ما لم يكن ، وأنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحق بها منك.


    فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليا وعقيلا !
    لقد نضحت آنية ابن مرجانة بما فيها من فحش وخنا ، وأسمع مسلما ما لاتحمله الجبال الرواسي ، فما إستهان ، ولا استلان ولا تكعكع عن ابداء الحقيقة للناس ، وايقافهم على مخازيه ، ومخاريق أبيه ، وبوائق من استعملهما حتى أحرج الموقف وسدّ المذاهب عليه فلم ير الدعي وسيلة لمقابلة ابن عقيل إلا بسب أميرالمؤمنين ذلك الذي يقول فيه رسول الله : « يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا (4). يا علي من سبّك فقد سبّني ومن سبني فقد سب الله (5) ».



    ههنا لم يطلق مسلم صبرا وان صبر قبل ذلك على مثل حز المدى فقال لابن مرجانة : « فاقض ما أنت قاض يا عدو الله. »

    كتم السر :
    كم السر من لوازم المروءة ، فإن في إفشائه اما فضيحة على من أذيع عنه ان كان ذلك المذاع من الرذائل غير متجاهر بها ،والله سبحانه يحب الستر على المؤمنين ابقاء لحيثيّاتهم في الجامعة ، وكلاءة لعضويّتهم فيها ، فإن الحط من الكرامة يوجب سقوط محله بين الناس ، ويعود منبوذا بينهم فلا يصغى لقوله ، ولا يحترم مقامه ، فيختل التكاتف ، والتعاون على حفظ النظام ، ويكون ذلك مبدأت لتجري الغير كما هو مقتضى الجبلة البشرية ، ومثالا لنفرة أناس ممن يترفّعون عن أمثالها ، فتسود المنابذة ، وتحتدم البغضاء ، واذا كان المولى سبحانه وهو القابض على ازمّة الخلق القادر على كشف ما انطوت عليه ضمائرهم يستر عليهم ويفيض ألطافه مع التناهي ، وينادي كنابه العزيز : « ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ».
    ____________
    4) دار السلام للنوري ج2 ص338.
    5) تقدم في الأبحاث السابقة رد سعد على معاوية لما أراد منه أن يسب عليا.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 146 )

    ولما سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ربه جل شأنه أن لا يحاسب أمته بحضرة الملائكة والأنبياء فيطلعوا على عيوبهم قال تعالى : « يا حبيبي أنا ارأف بعبادي منك وإذا كرهت كشف عيوبهم عند غيرك ، فأنا أكره أن أكشفها عند فأحاسبهم وحدي بحيث لا يطلع على عثراتهم غيري (6) ».



    فافشاء السر وإذا عته ممنوع منه سواء كان فيه العيب والنقص على الشخص بخروجه عن قانون الشريعة أو لم يكن فيه العيب ؛ لأن في غذاعة السر إيذاء له وهتكا لحرمته وخيانة لما استودع له ، فإن الحديث بين الناس أمانة . (7) غذا فهو محرم بجميع أقسامه سواء كان بالغيبة أو النميمة أو بالإفضاء لمن لا يرضى صاحب السر عليه غيره لكونه إيذا له ، فلا يوصف به مؤمن فاضل ، ولا انسان كامل إلا من ضربت الخسة في عنصره ، ومدت الدناءة فيه عروقها.
    ومن هذا تعرف كيف بلغ اللؤمن ورداءة المنبت بعمر بن سعد حين أفضى بالسر الذي أودعه عنده مسلم بن عقيل ، وذلك أن ابن عقيل طلب من ابن زياد أن يوصي الى بعض قومه ، فأذن له ، فنظر الى الجلساء فرأى فيهم ابن سعد فقال له : « أن بيني وبينك قرابة ، ولي اليك حاجة ، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر » فأبى أن يمكّنه من ذكرها ، فقال ابن زياد : لا تمتنع من النظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد فأوصاه مسلم ـ عليه السلام ـ أن يقضي من ثمن سيفه ودرعه ، دينا استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمائة درهم ( ، وأن يستوهب جثّته من ابن زياد ، ويدفنها ، وأن يكتب الى الحسين بخبره.
    فأفشى ابن سعد جميع ذلك الى ابن زياد فقال ابن زياد : لا يخونك الأمي ولكن قد يؤتمن الخائن (9).
    لم يفت مسلما ما عليه ابن سعد من لؤم العنصر ، وأنه سيفشي بسره بين الملأ ،
    ____________
    6) جامع السعادات ص339 طبع إيران.
    7) المصدر ص340.
    في الأخبار الطوال ص241 يبلغ ألف درهم ، وفي تاريخ الطبري ج6 ص212 يبلغ سبعمائة درهم.
    9) الإرشاد.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 147 )

    لكنه اراد تعريف الكوفيين بأن هذا الذي يعدون من كبرائهم ويتبجح بأن أباه فاتح البلاد هذا حده من المروءة ، وموقفه من الحفاظ فلا يغتر به أحد إذا تحيّز الى فئة أو جنح الى جانب ، فأنه لا يهوى إلا مثله .
    وهناك دقيقة اخرى لاحظها مسلم في هذه الوصية ، وهي الإرشاد الى أنه ومن يعقبه منالرهط الهاشمي لم يقصد هذا المصر لاستنزاف أموالهم ، وإنما جاؤا منقذين وملبّين لدعوتهم ، ونشر الإصلاح فيهم ، وأول شاهد على ذلك أنه أيام إقامته بالكوفة لم يمدّ يده الى بيت المال على أنه جاء واليا يتصرف كيف شاء وتحت يده ما يجمع من المال إلا أنه قضى أيامه البالغة أربع وستين يوما بالإستدانة ، وهكذا ينبغي أن يسير أولياء الأمور فلا يتخذون مال الفقراء مغنما ، وأين من يفقه هذه الأسرار ؟

    الشهادة
    لما أكثر مسلم ـ عليه السلام ـ من الطعن على ابن زياد في حسبه ونسبه أمر رجلا شاميا (10) أن يصعده الى أعلا القصر ، ويشرف به على موضع الجزّارين (11) ، ويضرب عنقه ، ويرمي بجسده ورأسه الى الأرض. فأصعده الشامي ، ومسلم يسبّح الله ويكبّره ويستغفره ويقول : « اللهم أحكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا (12) »


    ثم صلى ركعتين (13) وتوجه نحو المدينة وسلم على الحسين (14) فضرب الرجل عنقه ورمى بجسده الى الأرض كما أمره ابن زياد (15) ونزل مذعورا فسأله ابن زياد عما دهاه قال : رأيت ساعة قتله رجلا أسود سيّء الوجه حذائي عاضّا على اصبعه ، فقال له : لعلك دهشت ! (16) قصدا لتعمية الأمر على الجالسين حوله لئلا يفشوا الخبر فتزداد عقيدة الناس
    ____________
    10) مقتل الخوارزمي . ومنه يعرف الإضطراب في نقل ابن جرير فإنه نص على أن بكير الأحمري هو الذي أصعده الى أعلا القصر ، وقبل هذا ذكر أن مسلما ضربه على عاتقه حتى كاذت أن تطلع الى جوفه ، ومثل هذا الجريح هل يستطيع القيام بقتله.
    11) في ارشاد الشيخ المفيد موضع الحذائين.
    12) الطبري ج6 ص213.
    13) رياض المصائب ص68.
    14) أسرار الشهادة ص258.
    15) ابن الأثير ج4 ص15.
    16) اللهوف لابن طاووس ص31.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 148 )

    بداعية الحسين ـ عليه السلام ـ ، ولعل الأمر ينتكث عليه لأن النفوس متكهربة بولائهم ولهم العقيدة الراسخة بفضلهم الكثار.
    وهنا نقل آخر في قتله أنه دفعه الى الأرض على أمّ رأسه فتكسّر وكانت فيها شهادته ، (17) ولأنفراد ناقله ونص المورخين على الأول مما يبعّده.
    ثم أمر ابن زياد بهاني بن عروة فأخرج مكتوفا الى مكان من السوق يباع فيه الغنم فنادى : « وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، وامذحجاه ولامذحج لي اليوم. »


    فلما رأى أن أحدا لا ينصره انتزع يده من الكتاف ونادى : « ألا عصا أو سكّين أو عظم أو حجر يذبّ به رجل عن نفسه. »


    فوثبوا عليه وأوثقوه كتافا فقيل له : مدّ عنقك قال : « ما أنا بسخيّ بها ولا معينكم على نفسي ! »


    فضربه رشيد مولى لابن زياد تركي فلم تعمل فيه فقال هاني : « الى الله المعاد ، اللهم الى رحمتك ورضوانك. »


    ثم ضربه أخرى فقتله.
    وهذا العبد رآه عبدالرحمن بن حصين المرادي مع ابن زياد في وقعة « الخازر » فثأر بهاني وحمل عليه بالرمح فقتله (18).
    ____________
    17) تظلّم الزهراء ص268.
    18) الطبري ج6 ص214.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 149 )


    بعد الشهادة

    غير خاف أن الغاية العقلية من الحرب والقتل ، محصورة بكف ضرر المودّى به ، واتّقاء شرّه ، والتقصير من مدى تأهبّه لايذاء المقاتل ، ونصب العراقيل دون مسعاه ، فمتى غلب عليه بازهاق نفسه أمن القاتل من بلواه ، واطمأن مما كان يحذر منه ، وحينئذ تكون الزيادة على القتل بالهتك والمثلة ، خروج عن ناموس المروءة والعاطفة البشرية ، ولا يأتي به إلا من كان دنيّ الأصل لئيم العنصر ؛ لأن الضرورات تقدّر بقدرها ولا شيء أوفى لقمع الخطر والضرر من القتل ، إذا فالزيادة مذمومة عند العقلاء ، مبغوضة عند الشارع حتى في الحيوانات ، ففي حديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور »


    بل جاء النثي عن ضرب وجه الدابة لكون الزجر يحصل بما دونه.
    ولذلك لم يذكر أحد من المؤرخين أن النبي في مغزيه مثّل بالمشركين ولما تمكّن أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ من عمرو بن عبدود لم يمثّل به كما لم يسلبه مع ما عليه من الكفر والإلحاد ، وفي وصيته للحسن ـ عليه السلام ـ لما ضربه ابن ملجم : « ولئن قتلت فضربة مكان ضربة ، ولئن عفوت فأنت ولي الدم ، ولا تمثّلنّ بالرجل ؛ فإني سمعت رسول الله يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ! »



    هذه وصايا الشريعة المطهرة باحترام الميت ولكن هل من مسلم يفقه هذه الدرر
    ____________
    1) كتاب سليم الهلاليّ.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 150 )

    الثمينة . والعجب ممن يتسنّم منبر الدعوة الإلهية ثم يمشي مترددا في حنادس الظلم ما شاء له الهوى ، ولا عجب من الامويين وعمالهم إذا خالفوا قوانين الإسلام ، فإنهم متى أسلموا ليهتدوا ، وإنما استسلموا فرقا من البوار أو تحكما في الأموال والنفوس.
    وليس بالغريب إذا أمر ابن زياد بسحب مسلم وهاني من أرجلهما في الأسواق (2) ، ثم صلبهما في الكناسة منكوسين (3) ، وأنفذ الرأسين الى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حية الوداعي والزبير بن الأروح التميمي وكتب معهما :
    أما بعد فالحمدلله الذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقه ، وكفاه مؤنة عدوه وأخبر أميرالمؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ الى دار هاني بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهم العيون ودسست اليهما الرجال ، وكدتهما حتى استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما وضربت عنقيهما ، وبعثت اليك برأسيهما مع هاني بن أبي حية الوداعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أميرالمؤمنين عما أحب من أمر فإن عندهما علما وصدقا وفهما وورعا ، والسلام.
    فكتب اليه يزيد :
    أما بعد فإنك لم تعد أن كنت كما أحب عملت عمل الحازم ، وصُلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما ، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا ، وانه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن وخُذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك ، واكتب إليّ في كل ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك (4).
    ثم أمر يزيد بالرأسين فنصبهما في درب من دروب دمشق (5).
    ____________
    2) المنتخب للطريحي.
    3) ابن شهر آشوب ج2 ص212.
    4) الطبري ج6 ص214.
    5) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص212.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 151 )


    تاريخ الشهادة

    الأقوال في يوم شهادة مسلم ـ عليه السلام ـ على ثلاثة :
    ( الأول ) يوم الثالث من ذي الحجة سنة ستين ؛ نص عليه أبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ص242 ، ويظهر من ابن طاووس الموافقة له فإنه قال في اللهوف ص33 طبعة صيدا : توجه الحسين من مكة يوم الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجة ، وقال بعد ذلك : كان خروجه من مكة في اليوم الذي قتل فيه مسلم.
    ( الثاني ) يوم الثامن من ذي الحجة ؛ قال بن الوطواط في غرر الخصائص ص210 وهو الظاهر من تذكرة الخواص ص139 وتاريخ أبي الفدا ج1 ص190 قالا : قتل مسلم لثمان مضين من ذي الحجة ، وتذكير العدد يراد منه الليلة لنص أهل العربية أن العدد يذكّر مع المؤنث ويؤنّث مع المذكّر.
    ( الثالث ) يوم عرفة ؛ نص عليه المفيد في الإرشاد ، والكفعمي في المصباح ، والمجلسي في مزار البحار ص99 وهو الظاهر من ابن نما في مثير الأحزان ، وتاريخ الطبري ج6 ص215 ، ومروج الذهب ج2 ص90 . قالوا : وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثامن من ذي الحجة والمفروض أنه قُتل في ثاني يوم خروجه.
    وحكى المسعودي قولا في مروج الذهب أنه خرج يوم التاسع من ذي الحجة واذا كان قتله في ثاني يوم خروجه تكون شهادته يوم الأضحى.
    وعلى كل فمدة بقائه بالكوفة أربع وستين يوما تقريبا ، لأنه كما مر عليك دخل الكوفة في الخامس من شهر الشوال.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 152 )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 153 )


    المرقد الأخير

    لقد عرف الناس مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ في بيته وحسبه ومروءته وفضائله منذ عهد الصبا الى أن بلغ مبالغ الرجال المحنّكين ، وقد وعوا كلمة الحسين ـ عليه السلام ـ في صكّ ولايته لكن ابن مرجانة من جراء ما تردى به من لؤم العنصر ، وخبث المنبت ، ودعارة الطبع حسب أنه سوف يحط شيئا من كرامته الصوريّة عساه يتوصل به الى تحطيم مبدئه ، وإخماد ذكره ، فأمر بمسلم وهاني بعد القتل أن يُسحبا من أرجلهما في الأسواق والجواد قضية لؤم الغلبة ودناءة المحتد ، وبعد أن بلغ الغاية فيما حسب ، أمر بدفنهما بالقرب من « دار الإمارة » لتستمر رقابة الشرطة عليهما فلا يقصدهما أحد بالزيارة ، ولا يحضر هناك مؤبّن لهما ولا تلم بهما النوادب لأنه يعلم أن الكوفة بطبعها الأولي علويّة الرأي على العكس من البصرة والشام فإن الاولى عثمانية والثانية أموية.
    والكوفة وان تأثرت بالسياسات الزمنية لكنها في نفس الحالة قد تراجعها نفسها بمرتكزاتها الاولية فيعروها الندم فتتحول تلكم الهواجس ندبا وتأبينا ويتسبب منهما فك عرى الطاعة للسلطان ، ويعود القبول فيما ارتكبه « الوالي » هياجا في الأفئدة وحراب وجلادا فينتقض فتله ويتلاشى كل ما دبره من إطفاء النائرة والحصول على الغاية.
    ولقد خاب الدعي وفشل لئن أخمد فورة مسلم أوقل ونهضة سيد الشهداء فيما زعم ذلك اليوم ولم يقف في وجه المنكر الذي ارتكبه أيّ أحد غير العقيلة زينب وبنات أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ فلقد وافاه المستقبل بما كشف عن بوادره وبوار من دعا اليه من


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 154 )

    طواغيت الشام يوم قام التوابون في وجهه ، ويوم وثبة غلام ثقيف الذي أخبر سيد الشهداء يوم الطف عنه إذ قال : « وكأني بغلام ثقيف يسقيكم كأسا مصبرة » فأجهزت عليه ضربة ابن الأشتر وألحقته بأميره الذي دعا إليه.
    وان ما ذكرناه من الهاجسة التي حسب لها الوالي حسابه ولها وضع القبرين بالقرب من قصره شيء مطّرد عنه الولاة والحكام فإنهم لايدعون أحدا يقرب ممن نكّلوا بهم إذا كان لهم شأن بين الأمة حذرا من تأثر النفوس واحتدام القلوب بتذكّر ما جرى عليهم فتثور العواطف وتصبح الحالة مضطربة من جميع جهاتها.
    ويشهد لذلك حديث الحسين بن بنت أبي حمزة الثمالي فإنه يعطينا صورة واضحة عما عليه الأمويون من الجد في منع الناس من اتيان قبر الحسين ، ولو لم يكن السبب الوحيد ما أشرنا اليه من خوف الأمراء من اضطراب الحالة عليهم وهياج الأمة عندما يتذكّرون الفوادح الجارية عليه وإلا فأين الحسين واين خلافة المروانيين.
    قال الحسين : خرجت في آخر دولة بني مروان الى زيارة الحسين ـ عليه السلام ـ مستخفيا من أهل الشام ولما وصلت كربلاء وأردت الدخول على القبر خرج إليّ رجل ومنعني منه فقلت : يا هذا لا تحل بيني وبين القبر فغني أخاف إذا طلع الصبح يقتلوني أهل الشام فقال الرجل : ان موسى بن عمران استأذن ربه في سبعين ألفا من الملائكة لزيارة الحسين فهم من أول الليل الى طلوع الفجر ، وبعد الفجر جئت الى الزيارة فلم أر أحدا (1).





    وجاء دور الرشيد فزاد على ما عليه المروانيون فإنه قطع السدرة التي هي عند قبر الحسين والزوار يستظلون تحتها وقد لعن النبي قاطع السدرة ثلاث مرات ، فلم يفهم الناس معنى الحديث الى أن قطعها الرشيد (2).
    وحديث المتوكل العباسي متواتر عند المؤرخين فقد وضع المسالح لذلك وفي سنة 247 أرسل قائدا ومعه جند لمنع الناس من اتيان قبر الحسين فرأى خلقا مجتمعين عنده و
    ____________
    1) كامل الزيارة ص111.
    2) أمالي ابن الشيخ الطوسي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 155 )

    لهم سوق كبير فنادى : برئت الذمة ممن بقى هنا ؛ فتفرق الناس ، وفي هذه السنة أجرى الماء على القبر لاطفاء نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، فحار الماء واستدار على قبل المنحور على مجزرة الدعوة الإلهية ممنوعا من الورود.
    وهذا كله حذرا على الدست الذي اغتصبوه من آل رسول الله ن فإنهم علموا أن ذلك الاجتماع يوجب التعريف بمبدأ الحسين وسلفه أما بكلمة تلقى أو قريض يرتل ، أو انشودة يصدح بها ، أو نوادب تجيش الأفئدة وتستفزّ الحلوم ، وفي خلال ذلك يعرف فضل العترة الطاهرة ، ووصايا الرسول بهم وأوامره بالأخذ بحجزتهم ، والتنديد بظالمهم ، والبراءة منهم ، فيعتكر حينئذ صفو الخلفاء ، ويقلقجوّهم الهادئ وربما تكلّفهم الحالة مقاسات معارك دامية.
    هكذا صوّرت لهم أحلامهم وما صوّرت إلا حقيقة ناصعة كفلق الصباح فمنعوا الناس من المثول في « مجزرة الحقائق » ومشهد الطف.
    لكن شيعة الحسين من ناحية تحفّظهم على المبدأ القويم ، وتهالكم في القيام بوصايا النبي بآله الأطهرين ، وظنوا أنفسهم على كل ما يجري عليهم من القتل ، وقطع الأيدي ، الارهاب دون مقصدهم الراقي ، وضالتهم المنشودة ، فلم يتركوا المثول عند المرقد الأقدس.
    وقد روى الشيخ الطوسي في « الأمالي » : ان في سنة 237 أنفذ المتوكل قائدا من قوّاده ، ومعه جند يمنع الزائرين ، فرأى خلقا كثيرا ، وثار اليه الناس وقالوا : لو قتلتنا بأجمعنا لما أمسك من بقى منا زيارته ، فكتب بذلك الى المتوكل فأمره بالكف عنهم مخافة أن يتسبّب ما لا يحمد عقباه.
    ثم أن الشيعة لم يقتصروا على أداء حق الحسين في الزيارة فقط ، بل طفقوا يعقدون الأندية والمحتشدات سرية وعلنية حسب مقتضيات الظروف والأحوال لتذكّر ما جرى على آل الرسالة من القساوة الشائنة فلاقوا من أعدائهم القتل والنهب والحرق ، فلم يبالوا بكل ذلك حتى تسنى لهم الحصول على طلبتهم من تدمير صروح النعرة الأموية في شتى الوسائل.
    ثم لاتزال الشيعة يكثر عددها ، ويقوى أمرها حتى جاء منهم ملوك ووزراء وولاة وعلماء مجاهدون ، فتفننوا في توسيع دائرة الذكريات الى حفلات تعقد في الأفراح والأحزان ، ومواكب تجول في الطرقات فيها تمثيل تلك المأسات الدامية الى أن نمت بذرة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 156 )

    الحق فأثمرت الولاء الأكيد لأهل البيت وفي القولب عداء محتدم للأمويين نسبا ومذهبا ، فنسيتهم الأمة إلا عند كل سبة ، فكأن وعاء الدهر لم يقل منهم أحدا أو أنهم حديث أمس الدابر.
    وهذا الذي ذكرناه في دفن مسلم وهاني حول القصر اعتبار لم يبعد عن الحقيقة ، ولسنا نعتمد عليه فقط في إتيان هذا المشهد المطهر ، وإنما المستند الوحيد هو سيرة العلماء والصلحاء ، والشيعة عامة المتصلة بزمان المعصومين في المثول بهذا الموضع المقدس الذي لم تزل الكرامات تصدر ممن ثوى فيه ، فلم يؤمّه مريض إلا عوفي ولا طالب حاجة إلا قضيت ، ولا تجرأ عليه متمرد باليمين الكاذبة إلا عاد بالخيبة والخسران وهذه السيرة دليل قطعي في كل مشهد ولولاها فأي مشهد يمكننا تعيينه من دون نقاش.
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:23 am

    زوجاته وأولاده

    تزوج مسلم ـ عليه السلام ـ رقية بنت أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فولدت له عبدالله وعليا (1) ، ومحمد من أم ولد (2) ، وأما مسلم وعبدالعزيز لم يعيّن ابن قتيبة أمهما ، وله بنت اسمها حميدة أمها أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين (3) ، وحيث لا يصح الجمع بن الاختين فلابد من فراق احداهما أو موتها ، وتزوج حميدة ابن عمها وابن خالتها عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، وأمه زينب الصغرى بنت أميرالمؤمنين ، وكان شيخا جليلا محدثا فقيها عده الشيخ الطوسي من رجال الامام الصادق ـ عليه السلام ـ وجزم الترمذي بصدقه ووثاقته ، وخرّج حديثه في جامعه ، كما احتج به أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وابن ماجة القزويني مات سنة 142 (4) وولدت حميدة محمدا أعقب من خمسة القاسم وعقيل وعلي وطاهر وابراهيم(5).
    فأولاد مسلم الذكور خمسة ؛ عبدالله ومحمد استشهدا يوم الطف ، واثنان قتلا بالكوفة ، ولم نقف على شيء من أمر الخامس.
    وكان من حديث المقتولين بالكوفة ما يحدث به الشيخ الصدوق عن رجاله قال : اسر طفلان من عسكر الحسين ، فجيء بهما الى ابن زياد ، فدفعهما الى رجل ، وأوصاه
    ____________
    1) المعارف ص88.
    2) مقاتل أبي الفرج ص37 ط ايران.
    3) عمدة الطالب ص16 ط نجف.
    4) تهذيب التهذيب ج6 ص15.
    5) عمدة الطالب ص17.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 158 )

    بالتضييق عليهما حتى في الطعام والشراب ، فمكثا في الحبس سنة فقال أحدهما للآخر : لقد طال الحبس بنا ويوشك أن تفنى أعمارنا ، فاذا جاء الشيخ ، فأعلمه بمكاننا من رسول الله لعله يوسّع علينا.
    ولما جاء الرجل سألاه هل تعرف محمد بن عبدالله ؟ قال : هو نبيي . ثم سألاه عن جعفر الطيار ، قال : إنه الذي أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة . فسألاه عن علي بن أبي طالب ، قال : إنه ابن عم رسول الله.
    فقالا له : نحن من عترة رسول الله نبيك ، ومن أولاد مسلم بن عقيل وقد ضيّقت علينا حتى في الطعام والشراب.
    فانكبّ الرجل عليهما يقبّلهما ، ويعتذر من التقصير معهما مع مالهما من المنزلة من رسول الله ، ثم قال لهما : اذا جنّ الليل أفتح لكما باب السجن ، وخذا أيّ طريق شئتما ، ولما أن جاء الليل أخرجهما وقال : سيرا في الليل ، واكمنا في النهار حتى يجعل الله لكما من أمره فرجا.
    فهرب الغلامان ، ولما أن جن عليهما الليل انتهيا الى عجوز كانت واقفة على باب دارها تنتظر ختنا لها ، فوقفا عليها وعرفاها بأنهما غريبان من عترة رسول الله لا يهتديان الى الطريق واستضافاها سواد هذه الليلة.
    فأدخلتهما البيت وقدّمت لهما الطعام والشراب فأكلام وشربا وباتا راجيين للسلامة ، واعتنق أحدهما الآخر وناما ، وفي تلك الليلة أقبل ختن العجوز وقد أجهده الطلب للغلامين وقص على العجوز هرب الغلامين من سجن ابن زياد ، وانه نادى عسكره من أتاه برأسيهما فله ألفا درهم.
    فحذّرته العجوز من العذاب الأليم ، ومخاصمة جدهما محمد ، وأنه لافائدة في دنيا ولاآخرة معها ، فارتاب الرجل من هذا الوعظ ، وظن الغلامين عندها ، ولما ألح على أن تخبره بما عندها وهي كاتمة عليه أمرهما أخذ يفحص البيت عنهما فوجدهما نائمين ، فقال لهما : من أنتما ؟ قالا : إن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال : نعم ، فأخذا عليه أمان الله وأمان رسوله ثم جعلا الله عليه شهيدا ووكيلا فأوقفاه على حالهما.
    وعند الصباح أمر غلاما له أسود أن يأخذهما الى شاطئ الفرات ويذبحهما ويأتيه برأسيهما.
    فلما أخذهما الغلام قالا له : يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 159 )

    الله أتقتلنا ونحن عترة نبيك ، وقصّا عليه قصّتهما في السجن وما لاقياه من النصب حتى أضافتهما العجوز.
    فرقّ الغلام لهما واعتذر منهما ورمى السيف وألقى نفسه في الفرات وعبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه : عصيتني ؟ فأجابه : أنا في طاعتك ما دمت لا تعصي الله فاذا عصيت الله فأنا بريء منك.
    فلم يتّعظ الرجل ولا رقّت لهما بل دعا ابنه وقال له : إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرص عليها فاضرب عنقي الغلامين لأحضى برأسيهما عند ابن زياد ، ولما وقف عليهما الولد قالا له : يا شاب أما تخاف على شبابك من نار جهنم ونحن عترة رسول الله محمد . فرقّ الولد لهما وفعل مثل العبد.
    فقال الرجل : أنا أتولى ذبحكما ، فقالا له الغلامان : إن كنت تريد الال فانطلق الى السوق وبعنا ولا تكن ممن يخاصمك محمد في عترته ، فما ارعوى عن غيّة ، قالا له : انطلق بنا الى ابن زياد ليرى فينا رأيه ، فأبى . قالا : ألم ترع حرمة رسول الله في آله ، فأنكر قرابتهما من النبي ، فاستعطفاه لصغر سنهما فلم يرقّ قلبه.
    فطلبا منه أن يصليا لربهما سبحانه فقال : صليا إن نفعتكما الصلاة ، وبعد أن فرغا رفعا أيديهما الى الله سبحانه وهما يقولان : يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين إحكم بيننا وبينه بالحق.
    فقدّم الأكبر وذبحه فتمرّغ الأصغر بدمه وقال : هكذا ألقى رسول الله وأنا مخضّب بدم أخي ، ثم ضرب عنقه ورمى ببدنهما في الفرات وأقبل بالرأسين الى ابن زياد وقصّ عليه ما شاهده منهما.
    فاستجاب الله تعالى دعاءهما وحرمه الدنيا والآخرة إذ قال ابن زياد له : إن أحكم الحاكمين حكم بقتلك ، وأمر به فأخذ الىالموضع الذي قتل فيه الغلامين فضربت عنقه ونصب رأسه على قناة والصبيان يرمونه بالحجارة ويقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله (6).
    وحكى في رياض الأحزان ص3 عن المناقب أنهما من ولد جعفر الطيار اسم أحدهما محمد والآخر ابراهيم.
    ____________
    6) أمالي الصدوق ص51 مجلس 19.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 160 )

    وإن السيرة بين الشيعة علىالمثول بمشهدهما الواقع بالقرب من « المسيب » تفيد القطع به ، وبناء على ما أفادته الرواية من القاء بدنهما في الفرات يكون هذا الموضع أما محل القتل وأما انهما فدفنا هناك.
    والتأمل في الرواية يفيد بأنهما لم يأتيا دار العجوز في الليلة التي هربا فيها من السجن ، فإن غاية ما تنص عليه أن ختن العجوز قال لها : ان ابن زياد نادى في عسكره يهرب الغلامين ، وجعل لمن أتاه برأسيهما ألفي درهم ، وقطعا لم يعلم ابن زياد يهربهما في تلك الليلة فلابد أن يكون في صاحبها ، كما لم يعلم مجيء ختن العجوز الى الدار هل هو في الليلة الثانية أو بعدها لأنه كان بصدد التفتيش عنهما ، فالتشكيك في الرواية من جهة بعد الموضع الذي قتلا فيه عن الكوفة التي هي محل حبسهما إنما يتجه لو فرض قبض الرجل عليهما في الليلة التي هربا فيها ، وأما احتمال عثوره عليهما فيما بعها بأكثر فلا.
    ثم أن الرواية لم تنص أيضا على كون الحبس في نفس البلد فاحتمال بعض العلماء على أن يكون ابن زياد دفعهما الى الرجل على أن يحبسهما ولو في بيته الخارج عن الكوفة وانه لم يكن بعيدا عن موضع قتلهما بكثير متجه.
    ولو انا ماشينا من ينكر هذه الرواية لبعض الاحتمالات فلا نوافقه على الإلتزام ببطلان نسبة هذا المشهد الى ولدي مسلم ـ عليه السلام ـ ، فإن سيرة الشيعة ، والشهرة بينهم تحقق كون المشهد المعروف لولدي مسلم على الاجمال ولم يحصل الشك في أدوارهم اتباعا للخلف على طريقة السلف حتى كثرت زرافات الزائرين لهما تقربا الى الله تعالى مع النذور المهداة إليهما ، والعمارة المتجددة حول القبرين على نحو غير واحد من المشاهد المحقق ثبوتها ، وكل هذا بمشهد من العلماء فلا يعتنى حينئذ بمن تأخذه الوسوسة الى مناحي ممقوتة كما هو شأنه في جملة من المظاهر والمشاعر.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 161 )


    الاحتفال بأمر مسلم

    ان الاشادة بذكر عظماء الرجال مما جرى عليه العقلاء شكرا لجميلهم الذي أسدوه الى الأمة وتنشيطا لمن بعدهم وتشويقا لهم على أن ينهضوا بمثل أعمالهم ، وحتى يكون ذلك فاتحة لنشر تعاليهمهم ، وتلقي علومهم ، واقتفاء آثارهم في الأخلاق والحكمة والتذكير بمبادئهم الملائمة للإصلاح ، وتوطيد السلام والوئام ، وما فيه جمام النفس وهدوء المجتمع ، وسعادة البشر دنيا وآخرة.
    ولو علم الناس ما في الأخذ بالتعاليم الأحمدية ، وأن الاحتذاء على أثر آل محمد يعود عليهم بالزلفى المباركة لسروا اليهم ، وانسابوا الى ساحتهم ولو حبواً على الركب فإن عندهم المثل العليا ، والحكم البالغة ، والغرائز الكريمة والتعاليم الكافلة لرقي الجامعة الإسلامية ، وتهذيب أفراد المجتمع الحافظ لها عن الملاشاة والتقهقر ، ولعادت أمة الإسلام أرقى الأمم ، وأطولها باعا ، وأبسطها يدا ، غير أن خسة الطباع ، وقصر النظر وضؤولة التفكير وقفت بهم عن السعادة في الحياة.
    وغير خفيّ أن داعية الحسين مسلم بن عقيل من أولئك الرجال الذين يجيب أن يخلّد ذكرهم ويقتصّ أثرهم فهو صريخة هاشم ، وسريّ من سروات المجد من آل محمد ، وقد استصلحه سيد الشهداء للنيابة عنه في الكوفة ثقة منه بعلمه وتقواه وعقله وبسالته وكرمه ، فأقبل ـ عليه السلام ـ ناشرا لواء العدل ليكتسح الجور ويكبح جماح الضلال بيد أن نزعات الباطل حالت دون إقامته الأمت وتثقيفه الإود ، فاستشهد دون إكمال رسالته ، ولكنه خلف من بعده هتافا عاليا يسمع الصخر الأصم ، وعقيرته مرتفعة بين لابتي العالم تعيها إذن واعية بأن الحق في دعوة سيد الشهداء ، وأن الباطل فيمن ناوأه ،


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 162 )

    وأن مبدأ صحيحا كهذا يجب أن يضحى دونه النفس والنفيس ، ويرخص في سبيله ذلك الدم الغالي الزاكي « دم مسلم بن عقيل » ومن يحذو حذوه من المجاهدين أعضاد الحفاظ الديني وراود الصالح المدني.

    المأتم :
    فمن الاحتفال بأمره الكاشف عن الخضوع لخطّته والمصافقة على ارتياد مبدئه عقد المأتم له ، وتذكار ما تلفع به من مكارم الأخلاق ، وما جرى عليه من الكوارث على حد فضله الكثار ، وقد قابل تلكم المحن بالصبر والثبات فلم يعط سرىّ هاشم وليث أبي طالب المقادة عن ذلة ، ولا نكص على عقبه فرقا ، ولم يفتأ مكافحا كما شاء له الحفاظ حتى أمسى رافلا بحلة الشهادة بين ذلك الجيل القدسي الزاهر.
    فعلى مثل مسلم فليبك الباكون ، وليضجّ الضاجون ، كيف لا وقد بكى عليه الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ قبل أن يُقتل وعد البكاء عليه من علائم الإيمان كما في حديث ابن عباس : أن أميرالمؤمنين عليا ـ عليه السلام ـ قال لرسول الله : « أتحب عقيلا ؟ » قال :
    « اي والله أحبه حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله وقال : « الى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (1) ».





    وهذا النص كاف في رجحان البكاء عليه لمن يتطلبه بالخصوص فإن إخبار النبي عن بكاء المؤمنين عليه وارد لبيان كونه محبوبا له لأنه رتّبه على شهادة مسلم المسببة عن محبة الحسين ، ثم قرن البكاء بصلاة الملائكة المقربين ، وهل يصح القول بأن صلاة الملائكة عليه غير محبوبة لله سبحانه ؟ فإذا بكاء المؤمنين وصلاة الملائكة على مسلم المترتّان على شهادته مما يرغب فيه الرسول وهو محبوب لله سبحانه.
    ولفظ الحديث وان لم يذكر فيه مسلم صريحا لكنا نعلمه من أفراد لفظ القتل في قوله « وان ولده لمقتول » ولو كان يريد أولاد أجمع لقال : « وان ولده لمقتولون » ثم
    ____________
    1) المجالس ، مجلس 77 ص27.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 163 )

    تعقيبه بالضمائر المفردة شاهد آخر.
    على أن النبي بكى عليه قبل شهادته وبكاؤه حجة في الرجحان ولو لم يقترن براجح آخر ، فكيف وقد قرنه بالشكوى الى الله تعالى مما تلقاه عترته من بعده.
    ثم أن الأحاديث العامة في البكاء لمن تذكّر مصابهم وما جرى عليهم من الظلم كافية في رجحان البكاء عليه ؛ ففي بعضها عن الصادق ـ عليه السلام ـ : « من دمعت عينه فينا دمعة لدم سُفك لنا أو حق لنا نقصناه ، أو عرض انتهك منا أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله بها في الجنة حقبا. »



    وفي حديث الأربعمائة أن أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ قال : « إن الله تعالى اطلع الى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، يبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا والينا. »



    ومن هذا العموم نستفيد رجحان البكاء على أولاد المعصومين أيضا ممن كانت نهضته وهتافه بين الأمة لإحياء أمر الأئمة والدعوة اليهم حتى جرى عليهم من الظلم بازهاق النفوس والتنكيل بالحبوس ما تسيخ له الجبال . فاستدرار الدموع لمظلومية هؤلاء المتسببة عن مظلومية أهل البيت يكون مشمولا لهذه الأحاديث قطعا.

    الزيارة :
    ومن الإحتفال بأمر مسلم ـ عليه السلام ـ قصد مشهده بالزيارة خصوصا يوم مقتله وهو التاسع من ذي الحجة وتلاوة ألفاظ الزيارة المأثورة التي نص عليها العلماء الثقات كابن المشهدي الذي هو من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس الذي هو من أعيان القرن السابع . فقد ذكر الأول في « المزار الكبير » والثاني في « مصباح الزائر » اذنا للدخول في الحرم المطهر وأوله : « الحمدلله الملك الحق المبين ، المتصاغر لعظمته جبابرة الطاغين ، المعترف بربوبيته جميع أهل السموات والأرضين ، المقر بتوحيده سائر




    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 164 )

    الخلق أجمعين ، وصلى الله على سيد الأنام وأهل بيته الكرام صلاة تقرّبها أعينهم ، ويرغم بها أنف شانئهم من الإنس والجن أجمعين.
    سلام الله العلي العظيم ، وسلام ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وأئمته المنتجبين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، ـ الى قوله ـ : قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن.





    وأما الزيارة في داخل الحرم فأولها : السلام عليك أيها العبد الصالح ، المطيع لله ولرسوله ولأميرالمؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله ، ـ الى قوله ـ : فجمع الله بيننا وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين.




    وبعد الفراغ من الزيارة يصلي ركعتين ويهديهما له . ويقول بعد الفراغ منهما : اللهم صل على محمد وآل محمد ، ولا تدع لي ذنبا إلا غفرته ـ الى قوله ـ : إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.



    وعند وداعه يقف على القبر ويقول : أستودعك الله وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام ـ الى قوله ـ : فإني قد رضيت بذلك يا رب العالمين.


    وقد اتفق هذان العالمان على هذه الآداب والسنن في مزاريهما اللذين لم يزالا مخطوطين حتى اليوم ، إلا في إبتداء سلام الإذن فقد ابتدأ ابن المشهدي من قوله : سلام الله العلي العظيم وسلام ملائكته المقربين.
    ومن أراد الوقوف عليهما فلينظر مزار البحار للمجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ فقد طابقنا « المزارين » مع ما نقله عنهما فلم يكن فيه تغيير (2).
    وإن في ذلك من التّنوية بمقامه الرفيع وموقفه الشامخ وفضله الجم ، ومصائبه المؤلمة ما يلين الأفئدة ويستدرّ الدموع ، ويوصل إلى ما وصفناه من الغايات الكريمة ، وظاهر تلكم الآداب والسنن كونها مأثورة لأن سردها مرتّبة كما في زيارات المعصومين ـ عليهم السلام ـ لا يمكن صدوره من علماء الدين بلا تخريج عن الأئمة بحيث يكون
    ____________
    2) تقدم في العنوان المتعلق بهاني بن عروة ما ذكراه من الزيارة المتعلقة به والصلاة بعدها.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 165 )

    الداعي الى ترتيب تلك الآداب محض الإستحسان والمناسبة ، لأن في الإقدام على هذا بعنوان أنه من الشريعة يستلزم الوقوع في ورطة البدعة التي لا تقال عثرتها ، وحاشا علماء المذهب الصحيح ارتكاب ما لم يرد من الشرع ؛ كيف وهم يقرؤون ليلهم ونهارهم قول الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ : « كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. »


    ومما يشهد لذلك أن الشيخ الكليني يقول في خطبة كتاب « الكافي » : وقلت أنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع جميع فنون الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين ـ عليهم السلام ـ ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنة نبيه ، وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت.
    وقال الشيخ الصدوق في أول « من لا يحصره الفقيه » : إني لم أقصد قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت الى ايراد ما أفتى به ، وأحكم بصحته ، وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.
    وقال ابن الشمهديّ في أول « المزار الكبير » : إني جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهدة ، وما ورد من الترغيب في المساجد المباركة والأدعية المختارة ، وما يدعى به عقيب الصلوات ، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات ، وما يلجأ اليه من الأدعية عند المهمات مما اتصلت به من ثقات الرواة الى السادات الأطهار ـ عليهم السلام ـ.
    وقال الشريف النقيب ابن طاووس في آخر « مصباح الزائر » : ان ما وقع اختياره عليه في الكتاب وصل على الوجه الذي استحسنته وأعتمد عليه من جهة الرواية.
    وان ما ذكرناه في ترجمة الشريف المطبوعة في كتابه « الملاحم » تفيد القارئ معرفة بجلالته وسعة اطلاعه ومقامه عند العلماء ، واما ابن المشهدي فهو أبو عبدالله محمد ابن جعفر بن جعفر المشهدي الحائري ، ووصفه بهما صاحب المعالم في إجازته الكبيرة ، كان ـ أعلا الله مقامه ـ جليلا في الطائفة ، متبحّزا في أخبار أهل البيت ، واسع الرواية ، عظيم المنزلة بين العلماء ، متكرر الذكر في الإجازات.
    روى عن جماعة يزيدون على اثنين وعشرين منهم يحيى بن البطريق ، والشيخ


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 166 )

    ورام صاخب « تنبيه الخاطر » ، وهبة الله بن نما الحلي ، والسيد عز الدين ابن زهرة ، وشاذان بن جبرئيل القمي الى غيرهم.
    وروى عنه محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلي المعروف بابن نما على الإطلاق ، وذكر أن والده أجاز له أن يروي كتاب المقنعة للشيخ المفيد عنه ، عن محمد بن جعفر بن المشهدي ، وكان ابن المشهدي يقول : قرأتها ولم أبلغ العشرين على الشيخ ابي منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي ، وهو طاعن في السن وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على الشريف النقيب المحمدي الموصلي وهو طاعن في السن ، وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على المصنف الشيخ المفيد ـ أعلا الله مقامه ـ.
    ولم نقف على تحديد عمر ابن المشهديّ بالتحقيق غير أنه أرّخ سماعه في مجلس عماد الدين الطبري بسنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مشهد أميرالمؤمنين ، وإجازته من ابن الحمد النحوي في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، وقراءته على الشيخ عربي بن مسافر ، وهبة الله بن نما بن علي بن حمد في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في ربيع الأول فهو من علماء القرن السادس.
    له كتاب المصباح وايضاح المناسك والمزار الكبير الذي ينقل عنه السيد ابن طاووس في كتبه ، والسيد عبدالكريم في « فرحة الغريّ » ، وصاحب المزار القديم وهو من مصادر « بحار الأنوار » لشيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ. (3)

    الشعر :
    ومن الاحتفال بأمر مسلم ـ عليه السلام ـ تأبينه بسرد مآثره وبث فوادحه لتكون خالدة مع الدهر يرتل سطور نهضته الجديدان ، وتسير بها الركبان وتضمها طيّات الكتب وصحائف المجاميع ، وتشدو بها خطباء المنابر ، وتصيخ إليها الأسماع ، وتعيها إذن واعية ، فتتأثر بها النفوس ، وترقّ لها القلوب ، وبها يكون الولاء لمسلم ـ عليه السلام ـ مزيج روحية الملأ المستتبع لتحرّي مبادئه الصحيحة التي ضحّى نفسه لانتشارها ، وتمهيد الطريق اليها ، وأول من وقفنا عليه مما رُثي به قول شاعره :
    ____________
    3) المستدرك للنوري ج3 ص365 وص477 وإجازة صاحب المعالم الكبيرة في البحار ج25 كتاب الإجازات.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 167 )


    فإن كنتَ لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانــىء في السوقَ وابن عقيلَ
    إلى بطـل قــد هشّم السيـف أنفهُ * وآخر يهـوي من طمــار قتيــل
    أصابهما أمر الأميــر فأصبحــا * أحاديث من يســري بكل سبيــل
    ترى جســدا قد غيّـر الموت لونه * ونضح دم قـد ســال كــل مسيل
    فتــى هـو أحيــا من فتاة حييّة * وأقطـع من ذي شفرتيــن قتيــل
    أيركب أسمـاء الهماليــج آمنــا * وقـد طلبـتــه مذحـج بذحــول
    تطوف حوالـيــه مــراد وكلهم * على رقبــة من سائــل ومسـولِ
    فإن أنتــم لم تثــأروا بأخيكــم * فكونوا بغايـا أرضيــت بقليــل


    وهذه الأبيات نسبها في رياض المصائب ص268 الى الفرزدق ، وفي اللهوف ص32 صيدا ، وكامل ابن الاثير ج4 ص15 قيل : أنها للفرزدق ، وزاد في اللهوف : أن بعضهم يراها لسليمان الحنفي ، ونسبها الدينوري في الأخبار الطوال ص242 الى عبدالرحمن بن عبدالله الأسدي ، وفي البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص157 نسبها إلى الشاعر ، وفي نقله أنها قصيدة ولكنه ذكر منها خمسة أبيات ، وعند ابن الأثير في الكامل ، وأبي الفرج في المقاتل ، والشيخ المفيد ، وابن نما : أنها لعبد الله بن الزبير الأسدي (4).
    ولكن في نص الأغاني ج13 ص31 : أن عبدالله بن الزبير من شيعة بني أمية وذي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم ،وأنه لايمالئ أحدا عليهم ولا على عمالهم ، وكان عبيدالله بن زياد يصله ويكرمه ويقضي ديونه وله فيه مدائح منها :


    اليك عبيدالله تهـوى ركابنـــا * تعسّف مجهــول الفلاة وتدأب
    وقد ضمرت حتى كــأن عيونها * نطاف فـلاة ماؤهــا متصبّب
    فقلت لهــا لا تشتكي الأين أنه * أمامك قرم من أميــة مصعب
    إذا ذكروا فضل امرئ كان قبلـه * ففضل عبيدالله أثــرى وأطيب
    وإنك لو نشفي بك القـرح لم يعد * وأنت على الأعداء ناب ومخلب
    تصافى عبيدالله والمجـد صفـوة * الحليفين ما أرسى ثبيـر ويثرب
    وأنت إلى الخيـرات أول سابـق * فأبشر فقد أدركت ما كنت تطلب


    ____________
    4) في كامل ابن الأثير ج4 ص15 الزبير بفتح الزاء المعجمة وكسر الباء الموحدة.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 168 )

    ويقول في مدح اسماء بن خارجة وكان يكرمه ويصله :


    فمن مثل أسماء بن حصن اذا عدتْ * شآبيبه أم أي شـــيء يعادلــه
    وكنـت إذا لاقيت منهم حطيطــة * لقيت ابا حســان تنـدى أصائله
    تضيّفه غسـان يرجــون سيبـه * وذو يـمــن اجيوشـهُ ومقاولـه
    فتى لا يزال الدهر ما عاش مخضبا * ولو كان بالموتــان يجدي رواحله
    فأصبح ما في الأرضِ خلـق علمتِه * من الناسِ إلا باعُ أسمــاء طائُلـه
    تــراهُ اذا ماجئتَــه متـهــلّلاً * كأنّك تعطيهِ الــذي أنتَ نائلُــه
    ولوْ لمْ يكنْ في كفّهِ غيــرُ روحهِ * لجادَ بهــا فَلْيتّقِ الله سـائـلــه
    ترى الجندَ والأعـرابَ يغشونَ بابَهُ * كما وردتْ مـاء الكلاب نواهلــهُ
    اذا ما أتوا أبوابَــهُ قالَ مرحبــاً * لجوا البابَ حتّى يقتلَ الجوعَ قاتلُـه
    ترىَ البازلَ البختى فوقَ خوانِــه * مقطّعــةً أعضـاؤهُ ومفاصلُــه
    إذا ما أتوا أسمــاءَ كـان هوَ الذي * تحلّبُ كفــاهُ الندَى وأناملُــه (6)


    وهل يستطيع أحد بعد مدائحه وعقيدته وتزعته الأموية أن ينسب الأبيات إليه خصوصا ، وقد ذكر أبو الفرج أن أسماء بن خارجة له ذكر قبيح عند الشيعة يعدّونه في قتلة الحسين ، ومعاوناً لعبيدالله بن زياد على هاني بن عروة حتى قتله ، ونصره على مسلم بن عقيل وذكر ذلك شاعرهم فقال (7) :


    أيركب أسماء الهماليج آمنا * وقد طلبتـه مذحج بقتيــل

    فنسب هذا البيت وهو في جملة تلك الأبيات الى شاعر الشيعة وقد عرفت أن عبدالله بن الزبير أموي الرأي ومادحا ليزيد بن معاوية وليس من شيعة آل علي.
    نعم ، نسبة تلك الأبيات الىالفرزدق قريبة جدا لتشيّعه وموالاته الأكيدة لآل علي ـ عليه السلام ـ والذّب عنهم وهجاء من عاداهم ، وكونه حاجّا بأمه سنة ستين لا يدفع نسبتها إليه ؛ إذ من القريب أنه أنشأها بعد رجوعه من الحج وقد بلغه فعل الدعي ابن مرجانة بعترة الرسول ومن آواهم ولبّى دعوتهم.
    ____________
    5) الجيشان لقب عبدالرحمن بن حجر بن ذي رعين واليه ينسب الجيشانيون والمقاول جمع مقول كثير يقال لملك اليمين أو ملوك حمير خاصة : القاموس وتاج العروس.
    6) الأغاني ج13 ص33 وص37.
    7) الأغاني ج13 ص35.
    _________________
    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:26 am

    وقد أكثر العلماء والأدباء باللغة الفصحى والعامية في التعريف بما لابن عقيل من نفسية قدسية ، وما حواه من فضائل وفواضل أهلته للنيابة الخاصة عن خليفة الله في أرضه ، وما أبداه من بسالة حينما كشفت الحرب عن ساقها وكشرت عن نابها فقابل بمفرده أولئك الجماهير من أعدائه « في موقف لو به أرسي سهلان لزالا » حتى أكثر القتلى وضجّت الكوفة بأهلها ، وكان لهتافه المعرب عن ثباته وإيمانه دويٌّ في أرجائها.
    وممن بادر للفوز بالرضوان الأكبر سيد العلماء المحققين وقدوة الفقهاء الراسخين الآية الكبرى السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي أعلا الله درجته ونوّر ضريحه ، فقال ( :


    عين جودي لمسلم بن عقيـل * لرسول الحسين سبط الرسول
    لشهيد بين الأعـادي وحيــد * وقتيل لنصر خيـر قتيــل
    جاد بالنفس للحسـين فجـودي * لجــواد بنفسـه مقتــول
    فقليل من مسلــم طلُّ دمـع * لدم بعد مسلم مـطـلــول
    أخبر الطهر أنــه لقتيــل * في وداد الحسين خيـر سليل
    وعليه العيون تسبـل دمعــا * هو للمؤمنين قصد السبيــل
    وبكاه النبي شجـوا بفيــض * من جوى صدره عليه هطول
    قائلاً : إنني إلـى الله أشكــو * ما ترى عترتي عقيب رحيلي
    فابك من قد بكاه أحمد شجـوا * قبل ميلاده بعهـد طويــل
    وبكاه الحسيـن والآل لمــا * جاءهم نعيه بدمـع همــول
    كان يوما على الحسين عظيما * وعلى الآل أي يــوم مهول
    منــذرا بالذي يحل بيــوم * بعده في الطفوف قبل الحلول
    ويح ناعيه قد أتى حيث يرجى * أن يجيء البشيــر بالمأمول
    أبدل الدهر بالبشيـر نعيــا * هكذا الدهر آفة من خليــل
    فأحثّوا الركـاب للثـأر لكـن * ثـأروه بكـل ثـأر قتيــل
    فيـهــم ولْدُه وولْـد أبيــه * كم لهم في الطفوف من مقتول
    خصّه المصطفـى بحبّين حبٍّ * من أبيه لـه وحـب أصيـل


    ____________
    القصيدة طويلة زادت على الثمانين بيتا تعرض فيها لمدح هاني بن عروة وشهداء الطف ، انتخب منها ما اثبتناه الفاضل السيد حسين ابن العلامة السيد محمد تقي آل بحر العلوم.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 170 )


    قال فيـه الحسيـن أي مقــال * كشف الستر عن مقام جليــل
    ابن عمي أخـي ومن أهل بيتي * ثقتي قد أتاكــم ورسولــي
    فأتاهم وقد أتـى أهــل غـدر * بايعوه وأسرعـوا فـي النكول
    تركوه لدى الهيــاج وحيــدا * لعـدو مـطـالـب بذحــول
    لست أنســاه اذ تسـارع قـوم * نحوه من طـغــاة كـل قبيل
    وأحاطـوا بـه فكـان نذيــرا * باقتحـام الرجال وقع الخيـول
    صال كالليث ضاربـا كل جمـع * بشبا حد سيفــه المسلــول
    واذا اشتـد جمعهم شـد فيهــم * بحسـام بقرعـهـم مفلــول
    فنرأى القوم منه كــر علــيّ * عمه في النـزال عنـد النزول


    وقال في الإعتذار عن أداء الحق :


    يابن بنت النبي ان فات نصري * يوم طعن القنـا ووقع النصول
    فولائى دليـل إنــي قتيــل * فيك لو كنت بدء كـل قتيــل
    باذلا مهجتــي وذاك قليــل * في وداد البتـول وابـن البتول
    مقولي صـارم وليس كليــلا * وهو في ذا المصاب جد كليـل
    وقصارى فيــه جهد مقــل * منك يرجو قبول ذاك القليــل
    ما إلى رزئك الجليل سبيــل * فإلى « مسلم » جعلت سبيـل
    إن يكن لي بكل عضو لسـان * ما وفى لي « بمسلم بن عقيل »


    ولحجة الإسلام آية الله الشيخ عبدالحسين صادق العاملي المتوفى سنة 1361هـ بالنبطيّة :


    سل كوفة الجنـد مُذ ماجت قبائلها * تسد ثغــر الفضا في سيلها العرم
    غـداة زلّت عن الإسلام فاتكــة * « بمسلم » حين أضحى ثابت القدم
    فقام وهو بليـغ الوعظ ينذرهــم * بالمرهفين غراري صارم « وفم »
    لم أنسه وهو نائي الهم حين سرى * من يثرب يمـلأ البيــداء بالهمم
    عجلان اقلقل أحشـاه البسيطة في * إرقالة من بنـات الأينق الرســم



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 171 )


    طـوع « ابن فاطمة » أم العراق على * علم بـأن أمــام السيــر سفك دم
    جذلان نفس سرى والمـوت غايتــه * أفديـه من قــادم للموت مبتســم
    يـرى المنيــة من دون ابن حيـدرة * أشتهى له من ورود المـاء وهو ظمي
    هامت به البيض تقبيــلا وهام بهـا * ضربا وكل بغير المثــل لم يهــم
    فكم تحلب من أخــلاف صارمــه * مـوت زؤام وحتـف غير منخــرم
    وكــم تلمظ بالأبطــال أسمــره * غداة أطعمه أحشــاء كـل كمــي
    كبا بـه القدر الجــاري وحــان له * مـن الشهــادة ما قد خُطّ بالقلــم
    فــراح ملتئمــا بالسيف مبسمــه * أفديـه من مبســم بالسيف ملتئــم
    وحلقت نفســه للخلــد صاعــدة * غداة في جسمــه وجه الصعيد رمي
    لله مـن مفــرد أمسـت توزّعــه * جموعهم بشبـا الهنديــة الخــذم
    أضحى تريب المحيا الطلق ما مسحت * عنه غبار النفــا كف لـذي رحـم
    ما الشمس في بهجة الإشراق ناصعـة * تحكي محيّاه مخضوبـا بفيــض دم
    ما شد لحييه من عمــرو العلى أحد * كلا ولا ندبتـه الأهل مــن أمــم
    نائي العشيــرة منبوذ بمصرعــه * مترّب الجســم من قــرن إلى قدم
    من مبلغ السبط أن الدهــر فلّ لـه * من الصوارم أمضـى مرهف خــذم
    لا البيض من بعـده حمــر مناصلها * ولا القنــا بعــده خفاقــة العلـم


    لآية الله الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني المتوفي سنة1361 بالنجف :


    يا ربي المحمــود فــي فعــالـه * صــل عـلــى محمـد وآلــه
    وصـل بالإشـراق والأصـيـــل * علـى الإمــام مـن بني عقيــل
    أول فــاد فــاز بـالشــهــادة * وحــاز أقصــى رتب الشهـادة
    أول رافــع لـرايـــة الهــدى * خص بفضل السبـق بين الشهــدا
    درة تــاج الفـضـل والكـرامــة * قــرة عيـن المجـد والشهـامـة
    غـرة وجــه الدهـر في السعـادة * فـإنــه فاتحــة السـعـــادة
    كفــاه فـخــرا منصب السفـارة * وهو دليــل القـدس والطهــارة
    كفـاه فخــرا شــرف الرسالــة * عـن معــدة العـزة والجـلالـة
    وهـو أخ ابــن عمـه المظلــوم * نائبـه الخـاص علـى العمــوم



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 172 )


    وعينــه كانـت بـه قريــرة * حيث رآه نافــذ البصـيــرة
    لسانه الداعـي الـى الصــواب * بمحـكــم السنــة والكتـاب
    منطقـه الناطــق بالحقـائــق * فهو ممثل الكتــاب الناطــق
    له من العلــوم مـا يليــق به * بمقتضى رتبتــه ومنصبــه
    يمينه في القبض والبسـط معــا * فمـا أجــل شأنـه وأرفعــا
    فارس عدنــان وليـث غابهــا * وسيفها الصقيـل في حرابهــا
    بل هو سيف السبط سيـف الباري * وليث غاب عتــرة المختــار
    أشـرق كوفـان بنــور ربهــا * مذحل فيهــا رب أرباب النهى
    بايعــه مـن أهلهــا ألــوف * والغدر منهم شائـع معــروف
    ثباتــه مـن بعــد غدر الغدرة * ثبـات عمه أميــر البــررة
    بل هو فـي وحدتـه وغربتــه * كعمه فـي بأســه وسطوتــه
    لــه مـن الشهامــة الشمــاء * ما جاز حد المــدح والثنــاء
    أيامــه مشـهــودة معروفــة * يعرفها أبطال أهــل الكوفــة
    كم فـارس غـدا فريســة الأسد * كم بطل فــارق روح الجسـد
    وكم كمـي حد سيفــه قضــى * على حياته كمحتــوم القضــا
    وكــم شجــاع ذهبت قــواه * وذاب قـلــبــــه إذا رآه
    شد عليهم شدة الليــث الحـرب * قرت عيـون آل عبدالمطلــب
    بل عيــن عمــه العلـي قدرا * إذ هو بالبارق أحيى « بــدرا »
    ذكر يوم « خيبــر وخنــدق » * بصولـة تبيـد كــل فيلــق
    تكاثروا عليـه وهــو واحــد * لا ناصــر لـه ولا مساعــد
    رموه بالنــار مـن السطــوح * لروحــه الفــداء كـل روح
    حتــى إذا أثخــن بالجــراح * واشتـد ضعفــه عن الكفــاح
    لم يظفــروا عليــه بالقتــال * فاتخـذوا طريــق الإحتيــال
    فساقه القضا إلـى « الحفيــرة » * أو ذروة القــدس من الحظيـرة
    أصبح « مسلم » أسيـر الكفــرة * تعسا وبؤسـا للئــام الغــدرة
    كـان أميــرا فغــدا اسيــرا * كذاك شأن الدهـر أن يجــورا
    أدخل مكتوفا علــي ابن العاهرة * عذّبــه الله بنــار الآخــرة



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 173 )


    أسمعــه سبا وشتما فاحشـا * رماه باطلا بما يدمي الحشــا
    وما اشتفى من مسلم بما لقـي * حتى اشتفى منه بضرب العنق
    وبعده رماه من أعـلا البنــا * فانكسرت عظامـه وأحزنــا
    وشد رجـلاه ورجلا هانــي * بالحبــل يا للـذل والهـوان
    فأصبحـا ملعبــة الأطفـال * بالسحب في الأسواق بالحبـال
    فلْتبكه عين السمـا دمـا فمـا * أجل رزء « مسلم » وأعظمـا
    وقد بكاه السبط حينمـا نعـي * إليه « مسلـم » بقلب موجـع
    فارتجت الأرجـاء بالبكــاء * على عميد الملـة البيضــاء
    واهتزّ عرش الملك الجليــل * على فقيد الشرف الأصيــل
    وناحـت العقــول والأرواح * لما استحلّـوا منه واستباحـوا
    صُبّت دموع خاتـم النبــوة * على فقيــد المجد والفتــوة
    بكــاه عمه علـى مصابـه * وحق أن يبكــي دما لمـا به
    بكـى على غربته آل العبــا * وكيـف لا وهو غريب الغربا
    ناحت عليه أهل بيت العصمة * فيا لهـا من ثلمــة ملمــة


    للعلامة الحجة السيد رضا الهندي المتوفى سنة 1362 (9) :


    لو أن دموعي استهلّت دمــا * لما أنصفت بالبكا « مسلما »
    قتيـل أذاب الصفــا رزؤه * وأحـزن تذكاره « زمزما »
    وأورى الحجون بنار الشجون * وأبكى المقام وأشجى الحمىَ
    أتى أرضَ كوفـانَ في دعوةٍ * لها الأرضُ خاضعـةٌ والسما
    فلبوا دعاهُ وأمّــوا هــداه * لينقذَهم من عشاء العمــى
    وأعطوه من عهدهم ما يكـادُ * إلى السهل يستدرجُ الأعصما
    وما كان يحسب وهو الوفـيُّ * أن ينقضوا عهده المبرمَــا
    فديتُكَ من مفـرد أسلمــوه * لحكم الدّعيِّ فما استسلمــا
    وألجأه غدرهـم أن يحــلّ * في دار « طوعة » مستسلمَا
    فمذ أقحموا منه في دارهــا * عريناً أبى الليث أن يقحمـا


    ____________
    9) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الجابري.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 174 )


    أبان لهم كيف يضرى الشجاع * ويشتد بأســا إذا أسلمـــا
    وكيف تهبّ أســود الشرى * إذا رأت الوحوش حول الحِمى
    وكيف تفرّق شهـب البــزاة * بغاثا تطيـف بهــا حــوّما
    ولما رأوا بأســه لايطــاق * وماضيه لايرتــوي بالدمــا
    أطلّوا على شرفـات السطوح * يرمونه الحطب المضـرمــا
    ولولا خديعتُهــم بالأمــان * لما أوثقـوا ذلـك الضيغمــا
    وكيف يحس بمكــر الأثيـم * من ليس يقتــرف المأثمــا
    لئن ينسني الدهر كل الخطوب * لم ينسنــي يومك الأيومــا
    أتوقف بيـن يـدي فاجــر * دعي إلى شرهــم منتمــى
    ويشتـم اسرتك الطاهريــن * وقد كــان أولى بأن يشتمـا
    وتقتل صبــرا ولا طالــب * بثـأرك يسقيهــم العلقمــا
    وترمى إلى الأرض من شاهق * ولم تـرم أعداك شهب السمـا
    فإن يحطموا منك ركن الحطيم * وهدوا من البيت ما استحكمـا
    فلست سوى المسك يذكو شذاه * ويـزداد طيبــا إذا حطمــا
    فإن تخــل كوفـان من نادب * عليـك يقيــم لك المأتمــا
    فإن ضبــا الطالبييــن قـد * غدت لك بالطف تبكي دمــا
    زهى منهم النقـع في أنجــم * أعادت صباح العــدى مظلما


    وللعلامة السيد باقر نجل آية الله الحجة السيد محمد الهندي ـ قدس الله تربتهما ـ أبياتا سبعة ، وصدرها الخطيب الفاضل الشيخ قاسم الملا الحلي بثلاثة عشر بيتا وذيّلها بأربعة أبيات ، وأتمها العالم الشيخ محمد رضا الخزاعي بتسعة أبيات.
    الشيخ قاسم الملآ :


    لحيّكــم مهجتـي جانحـهْ * ونحوكــم مقلتي طامحـهْ
    واستنشق الريح إن نسّمـت * فبالأنف من نشركم نافحـهْ
    وكم لي على حيّكـم وقفـةً * وعيني في دمعها سـابحـهْ
    تعاين أشباح تلك الـوجـوه * فلا برحت نحوكم شابحـهْ
    وكم ظبياتٍ بها قـد رعـتْ * بقيصوم قلبي غدت سارحهْ



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 175 )


    تقصت ومن لي بها لو تعودُ * فكيف وقد ذهبت رائحــهْ
    وعدّت غريبا بتلك الديــار * أرى صفقتي لم تكن رابحهْ
    كما عاد « مسلم » بين العدى * غربيا وكابدهـا جائحــهْ
    رسـول حسين ونعم الرسول * إليهـم من العترة الصالحهْ
    لقد بايعــوا رغبــة منهمُ * فيا بؤس للبيعة الكاشحــهْ
    وقد خذلـوه وقد أسلمــوه * وغدرتهـم لم تزل واضحة
    فيا ابن عقيـل فدتك النفوس * لعظم رزيتـك الفادحــة
    لنبك لها بمـذاب القلــوب * فما قـدر أدمعنــا المالحة


    السيد باقر الهندي ـ رحمه الله ـ :


    بكتك دمـا يا ابن عم الحسين * مدامــع شيعتـك السافحـه
    ولا برحت ها طلات العيون * تحييـك غاديــة رائحــه
    لأنك لم ترو مـن شربــة * ثناياك فيها غـدت طائحــه
    رموك من القصر إذ أوثقوك * فهل سلمت فيك من جارحـه
    وسحبا تجــرّ بأسواقهــم * ألست أميرهــم البارحــه
    أتقضي ولم تبكك الباكيــات * أما لك في المصر من نائحـه
    لئن تقضي نحبا فكم في زرود * عليك العشية من صائحــة


    الشيخ قاسم الملآ :
    وكم طفلة لك قد أعولـتْ * وجمرتها في الحشا قادحهْ
    يعززها السبط في حجره * لتغدو في قربه فارحــهْ
    فأوجعها قلبهـا لوعــةً * وحسّتْ بنكبَتِها القارحـهْ
    تقول مضى عم منّي أبي * فمن ليتيمتهِ النائحهْ (10)


    ____________
    10) الى هنا من كتاب « سوانح الأفكار في منتخب الأشعار » للخطيب الأستاذ السيد محمد جواد شبّر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 176 )

    الشيخ محمد رضا الخزاعي (11) :


    ثكول تبيـت بليــل اللّسيع * تعج وعن دارهـا نازحــهْ
    وكم من كمــيّ بأحشائــه * تُركت زنــاد الأسى قادحَهْ
    دريت ابن عمك يوم الطفوف * نعـاك باسرتــه الناصحهْ
    تحفُّ بـه منهــم فتيــةٌ * صبـاحٌ وأحسابُهُـم واضحَهْ
    بكاكَ بماضـي الشّبا والوغَى * وجوهُ المنايــا بهـا كالحهْ
    أقامَ بضـرب الطلــى مأتماً * عليكَ وبيض الضبـا نائحهْ
    ونادى عشيرتَكَ الأقربيــن * خذ الثأرَ يا أسرةَ الفاتحَــهْ
    وخاضَ بهم في غمار الحتوفِ * ولكنهما بالضّبـا طائحــهْ
    وقالَ لها : يا نــزارُ النّزالِ * فحربُك في جدهــا مارحَهْ


    وقال العلامة الحجة ميرزا محمد علي الأوردباديّ الغرويّ :


    وافى بمنقطـع البيـان ثنــاؤه * بطل على الجـوزاء رفّ لـواؤهُ
    وعلى السمــاك محلهُ شرفاً وإنْ * يكُ فـي الصعيــدِ يلفّهُ بوغاؤهُ
    بالباسـط العدل المهيب جـوارهُ * والواسع الوفر الرحيب فنــاؤهُ
    قد أخضل الوادي بمـرزم سيبـهِ * وأضاء في النادي الرهيب بهـاؤهُ
    لم تدر يوم تبلّجــتْ أنــوارهُ * أذكاً تضيءُ الأفــقُ أم سيمـاؤهُ
    هو نقطة المجد الأثيل تألّفــتْ * منها غدات تكثّـرتْ أجــزاؤهُ
    ولـه بأعلام النبــوة مفخــرٌ * قد نيطَ بالإيمــان فيه بكــاؤهُ
    وبعين جبّــار السّمــاء شهادةٌ * خصتْ به وعليه حــق جزاؤُهُ
    ونيابة عن سبط أحمد حازهــا * فتقاعستْ عن حملهـا قرنــاؤهُ
    وأخوة قـد شرّفتْــهُ بموقــف * قد كــان مشكورا لديـه إخاؤُهُ
    لم يبغِ غيرَ هوى الحسين ورهطهِ * وسواهُ قد شطـت به أهــواؤهُ
    هو ذاك موئــا رأيه وعليه منْ * أمر الإمامــةِ ألقيــتْ أعباؤهُ
    علم تدفّقَ جانبــاه فلـم يــدع * إمّا تدفّـق سـاحــلا دئمــاؤهُ


    ____________
    11) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الشيخ محمد علي الجابريّ.


    تبلجـتْ * أرجـاؤه وتأرجــت أجـواؤهُ
    وبسالة موروثـة من حيــدر * فكأن موقف زحفـه هيجــاؤهُ
    وضرائب قدسية ما إن تلــحْ * إلاّ أطل على الوجـوه ذكـاؤهُ
    وشذيُّ نجر من ذوأبة غالــب * تسري على مر الصبـا فيحاؤهُ
    ومآثر شعّت سنا تمتـد مــن * نسب قصير يستطـيـل سناؤهُ
    وأمير مصر لم يخنه وإن يكـن * خانته عند الملتقـى أمــراؤهُ
    يزهو به دست الخلافة مثلـمـا * يزدان من صرح الهدى أبهاؤهُ
    لله صفقة رابـح لمـا يبــنْ * يوم التغابــن بيعـه وشراؤهُ
    هو مسلم الفضل الجميـع ومعقد * الشرف الرفيع تقدسـت أسماؤهُ
    طابت أواصره فجـم مديحــه * وزكت عناصره فجـل ثنـاؤهُ
    قرت به عينا « عقيل » مثلمـا * سرت بموقف مجـده آبــاؤهُ
    واحتلّ من كوفان صقع قداسـة * فيه تقدس أرضـه وسمــاؤهُ
    كثرت مناقبه النجوم وكاثـرتْ * قطر الغمــام بعــدّهِ أرزاؤهُ
    سيف لهاشم صاغهُ كـف القضا * فلنصرة الدين الحنيـف مضاؤهُ
    شهدت له الهيجاء أن بيمينــه * أمر المنايا حكمـه وقضــاؤهُ
    إذ غاص في أوساطهـا وأليفـه * ماضى الشبا وسميـره سمراؤهُ
    في يوم حرب بالقتـام مجلــل * أو ليل حرب قـد جـلاه رواؤهُ
    وبمأزق فيه النفـوس تدكدكـتْ * من بعدما التقم الرؤوس فضاؤهُ
    إن سل عضبا فالجبـال مهيلـة * أو هز رمحـا فالسمـا جرباؤهُ
    وانصاع يزحف فيهم مستقصيـا * فأتى على بهم الوفى استقصاؤهُ
    يحصي مصاليت الكماة بصارم * لم يبق منهـم مقبلا إحصــاؤهُ
    وارتجّ كوفان عليه بعاصــف * من شره وتغلغلـت أرجــاؤهُ
    فرأوا هنا لك محمدا ضوضاءهمْ * بكميــن بأس هدهــمْ بأساؤهُ
    ومبيدُ شوكتهم إذا حم الوغــى * أضحى يدير الأمر كيـف يشاؤهُ
    من فاتق رتق الصفوف وخارق * جمع الألوف غــداة عز رفاؤهُ
    لولا القضا عرفوه مطفأ عزمهمْ * بمهنـد لاينطفــي إيــراؤهُ
    لكنهم عرفوا الضبارهم خاضعاً * لولي أمر لايــرد قضــاؤهُ



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 178 )


    أمنوا الشقــا فتواثبــوا لقتاله * فارتثّ من بطـل الهدى أعضاؤهُ
    حتى إذا غيــل الهزبرُ بمستوىً * لابد أن تــرد الـردى أسراؤهُ
    بالأمس كان أميرهــم واليـومَ * تسحبه إلى ابن سميـة زمـلاؤهُ
    وهناك إد من مقالــة فاجــر * قد كان يسمعه التقــيُّ رغـاؤهُ
    إن كان أسمعه سبابـاً مقذْعــا * فالنضحُ مما قد حــواه إنـاؤهُ
    ولدين أحمـد مدمــع لفــوأده * المفطور من ظمـأ ترقرق ماؤهُ
    ولقد بكيتُ مقطّعا منهُ الحشــا * قد وزّعت بشبا الظبــا أشلاؤهُ
    ومناولاً قدحــا ليروي غلــة * قد أجهدتـه فغيّرتــه دمــاؤهُ
    طلاع كــل ثنية طاحـت ثنـا * ياه فأجـج بالصـديّ ظمــاؤهُ
    وأشد ماعانــاه من أرزائــهِ * إفك الدعـي عليــه أو أرزاؤهُ
    لم يصعــدوهُ له وإن يك قــدْ * إلا وثمّـت حلّقــت عليــاؤهُ
    قوس الصعــود لـه وإن يك قد * هـوى متنــازلا حوبـــاؤهُ
    يا هـل درى القصر المشيد بان * من ينقض عنــه جماله وبهاؤهُ
    هو للإمارة وهو مفخــر دسته * والمكـرمـات إهابــه ورداؤهُ
    ألقوه من صعد فكــان محطّمـاً * جثمانـه ومعظمــا برحــاؤهُ
    ويُجَر في الأسواق منه أخو هدىً * من حادثــات الدهر طال عناؤهُ
    فكأنه وســريَّ مذحــج خدنهُ * في السحب من افق العلا جوزاؤُهُ


    لفضيلة العلامة السيد محمد نجل حجة الإسلام آية الله السيد جمال الهاشمي أدام الله ظله :


    سار يطوي القفار سهلا ونجــدا * ويحث الركــاب رملا ووخــدا
    بعثتــه رسالــة الحـق وحياً * فيه ركب الحياة يحــدى ويُهـدى
    يتحدّى التاريـخ فــردا بعــزم * فار غيظــا على الزمـان وحقدا
    أيزيد يقــود قافلــة الديــن * إلى أين أيهــا الركـب تُحدى ؟!
    أترى يترك الحميّــا ، وقد شبّ * عليها وشـاب حبــا ووجــدا ؟
    عاشـر القــرد في صباه إلى أنْ * عاد في الطبع والشمائـل قــردا
    وأراد « ابن هند » أن يمحق الدين * ويعـلــى بــه يعوقــا وودا



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 179 )


    فارتضـاه للمسلميــن إمــامــا * مستجـاراً وحاكمــا مستبــــدا
    وهنــا ثارت العقيــدة بركانــا * وفارت حقـدا يصلصــل وقــدا
    صهرتهــا روح الحسيــن نشيدا * ردّدتــه القــورن فخـرا ومجدا
    وتحلى بلحنــه « ابن عقيــل » * وتحدّى النظــام هدمــا ونقــدا
    وسرى في القفار يهتـف : عــاش الديـن فـي موكــب الحسيــن لنفدى
    نثر اُلح فـي الرمــال ففاضــت * ربوات الصحــراء وردا ورنــدا
    كوفة الجنــد قابلتــه بــروح * تــتــنــدى لـــه ولاء وودا
    وهي مهـد الهــوى لآل علــي * فجديــر بــأن تجــدد عهــدا
    أرسول الحبيـب يأتــي بشيــرا * باللقــا فلتـذب هنــاء وسعــدا
    ولتبايـع يـد الحسيــن وتُعلــي * ذكره في الجموع مدحــا وحمــدا
    ولتعش جمـرة العقيــدة والـروح * لتـصـفــو لهـا المــوارد وردا
    ومشت في القلوب موجـة إيمــان * غدت تغمــر الجماهيــر بمــدا
    رفعـت للجهــاد ألويـة المـوت * وسارت بهـا المواكــب حشــدا
    قررت أن تلفّها الحــرب أو تنشر * مـن حكمـهـا علـى الدهــر بندا
    واغتـدى « مسلم » يعبّئ جيشــا * علويّـا يفيــض بأســا ونجــدا
    وأثارت « يزيد » احداث « كوفان » * وماجــت « دمشـق » برقا ورعدا
    وأشار الخنـا إلــى « ابن زياد » * أن يديــر الأمــور حـلا وعقـدا
    فسعى مفــردا لكوفــان لكــن * كــان من خبثــه يسايــر جندا
    أنكرتْـه العيــون لمــا تـرآى * سيدا ، وهي فيـه تبصــر عبــدا
    وكما رامــه « يزيــد » أدار الوضــع في حزمــه وعيــدا ووعــدا
    وتلاشى التيار ، فا « لمسجـد الأعظــمُ » قد بات فيــه « مسلــم » فردا
    خانه الدهر ، فالجماهيـر راحــت * تتنائــى عنـه شيـوخــا ومُـردا
    ومشى يقطــع الشـوارع حتــى * كـل من سيــره مراحــا ومغـدى
    وتسامت أمجاد « طوعـة » لمــا * ضافهـا « مسلـم » عيــاء وجهـدا
    وأتته أنصــاره وهـي أعــداء * تـردّت مــن الخـزايــة بــردا
    تبتغي منــه أن يبـايـع نغــلاً * أنكرتْـه الأصــلاب رسمـا وحـدا
    فطوى جيشهـا الكثيـف بسيــف * يتلقـى الالــوف نثــرا وحصـدا



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 180 )


    ذكرت فيه « عمه » ورأت في * يومه حلم أمسها قـد تبــدّى
    غدرت فيه « بالأمان » ولولاهُ * لما أطفأت له الحــرب زندا
    أدخلتْهُ « قصر الإمارة » ظمآناً * ولما يذق من المــاء بـردا
    حاول النغلُ عجمُـهُ فــرآهُ * خشنا في فم الحـوادث صلدا
    قطع البغي رأسه ورمـى الطغيــان جثمانــه انتقامــا وحقدا
    رام إطفاء نــوره ، وهو نور الله هيهــات خـاب فألا وقصدا
    ها هي الذكريـات تطفح منها * ظلمات القـرون نورا ورشدا


    الخطيب الفاضل السيد صالح الحلي ـ رحمه الله ـ :
    لو كان ينقـع للعليـل غليــل * فاض الفرات بمدمعي والنيــل
    كيف السلـو وليس بعد مصيبة * ابن عقيل لي جلــد ولا معقول
    خطب أصاب محمدا ووصيــه * لله خطب قـد أطــلّ جليــل
    أفديه من قــاد شريعـة أحمد * بالنفس حيث الناصرون قليــل
    حكم الإله بما جرى في مسلــمٍ * والله ليـس لحكمــه تبديــلُ
    خذلوه وانقلبــوا إلى ابن سميةٍ * وعن ابن فاطمة يزيـد بديــل
    آوتْه طوعـة مذ أتــاه والعدى * من حولــه عدوا عليـه تجول
    فأحس منهـا إبنهـا بدخولهــا * في البيت أن البيت فيه دخيـل
    فمضى إلى ابن زياد يسرع قائلا * بشرى الأمير فتى نماه عقيــلُ
    فدعا الدعي جيوشه فتحزّبــتْ * يقفو على أثر القبيــل قبيــلُ
    وأتت اليه فغاص في أوساطهـا * حتى تفلّت عرضُها والطــول
    فكأنّه أسـد لجــوع شبولــه * في الغيــل أفلته عليهـا الغيلُ
    يسطو بصارمه الصقيـل كأنـهُ * بطَلى الأعادي حدُّهُ مصقــول
    حتى هوى بحفيرة صنعت لــه * أهوتْ عليه أسنّـةٌ ونصــولُ
    فاستخرجوهُ مثخنـاً بجراحــهِ * والجسم من نزف الدمـاء نحيلُ
    سلْ ما جرى جملاً من أعلا البنا * فقليله لم يحصــهِ التفصيــلُ
    قتلوه ثم رموه من أعلا البنــا * وعلى الثرى سحبوه وهو قتيـلُ
    ربطوا برجليه الحبال ومثّلــوا * فيه فليت أصابنــي التمثيــلُ



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 181 )


    مذ فاجأ الناعي الحسين علتْ على * فقدان مسلـم رنّــةٌ وعويــلُ
    وله ابنةٌ مسح الحسيــن برأسها * اليتمُ مسح الرأس فيــه دليـلُ
    لما أحسّتْ يتمها صرخت الايــا * والدي حزنــي عليــك طويلُ
    قال الحسين : أنـا زعيم بعــده * لا تحزنــي وأب لك وكفيــل
    قد مات والدهــا فأملت البقــا * في العم لكـن فاتها المأمولُ (12)


    للطبيب الحاذق الأديب الشيخ محد الخليلي :


    إن كنت تحـزن لادكــار قتيــل * فاحزن لذكرى « مسلــم بن عقيل »
    واجزع لنازلـة بخـيــر مفضـل * أبكى عيــون الفضـل والتنزيــل
    واندب قتيلا ما انجلى ليل الوغــى * أبدا لـه عــن مشبــه وبديــلِ
    هو ليث غالب « مسلم » من أسلمت * مهج العـدى لفرنــده المصقــولِ
    شهم تحـدّر من سلالــة هاشــم * خيــر البيوت علا وخيــر قبيـل
    متفرّعا عـن دوحــة مضريــةٍ * تُنمى لأصلٍ في الفخــار أصيــلِ

    ***
    أم العــراق مبلغــا برسالــة * أكـرم بمرسلــه وبالمرســول
    وأتى إلـى كوفــان ينقذ أمــة * طلبت اغاثتهــم على تعجيــل
    فاكتضّ مسجدها بهم وعلت بــه * أصـواتهــم بالحمد والتهليــل
    وتقاطروا مثل الفـراش تهافتــاً * طلبا لبيعتــه علـى التنزيــلِ
    يفدونه بنفيسهــم والنفــس لا * يبغون دون رضــاه أي بديــل
    باتوا وبـات مؤمّلا للنصــر من * أشباحهم يـا خيبــة المأمــولِ
    لكنهم ما أصبحــوا حتى غــدا * في مصرهم لا يهتـدي لسبيــلِ
    خذلوه إذ عدلوا إلى « ابن سمية » * واستبدلــوا الإرشــاد بالتضليلِ
    وتجمّعــوا لقتالــه من بعد ما * عرفوه للإرشــاد خيــر دليـل
    وأتوه منفردا بمنزل « طوعـة » * وقلوبهم تغلـى بنــاد ذحــول
    فغدا يفــرق جمعهـم ويجنـدلُ * الأبطال في عــزم له مسلــولِ


    ____________
    12) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الشيخ محمد علي الجابريّ.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 182 )


    ورأوا به بطلا إذا نكل العــدى * عنه فرارا فهو غيـر نكــولِ
    يلقى الكمـيّ بعزمــةٍ مضريّةٍ * إجمالهــا يغني عـن التفصيل
    إن صال أرجعهم على أعقابهـم * في بطش ليث في الرخام صئول
    فغدت فلول الهاربين لخوفهــا * تطأ الشريد بأرجـل وخيــولِ

    ***
    حتى إذا كضّ الظما أحشــاءهُ * و بدد دماء تسيل أي مسيــلِ
    وافوه غدرا بالأمان وخدعــة * منهم فلم يخضع خضوع ذليـلِ
    لكنهم حفروا الحفيـرة غيلــةً * فهوى بها كالليث جنب الغيـلِ
    وتكاثروا فيها عليـه فأفقــدوا * يمناه خيــر مهنّد وصقيــلِ
    وأتوا به قصــر الإمارة مثخناً * بجراحـه ومقيــدا بكبــولِ
    فغدا يقارعـه الزنيــم عداوةً * ويغيضــه سبّا بأقبح قيــل
    ودعا ابن حمران به ولسانــهُ * لهـج بذكــر الله والتهليــلِ
    ما بان رأسا كان يرفعه الابــا * عن جسم خير مزمل مقتــولِ
    ورماه من أعلا البناء إلى الثرى * كالطود إذ يهوى لبطن رمـولِ
    فقضى شهيدا في مواطن غربةٍ * متضرّجاً بنجيعـهِ المطلــولِ

    ***
    وأتى الحسين السبط مؤلم لغيه * فدهاه في خطــب هناك جليل
    فبكاه مفجــوع الفـؤاد بفقده * حزنا سليل المصطفـى المرسلِ
    وغدتْ تزيدُ النوح صفوةُ أحمد * لمصابــهِ في رنّةٍ وعويــلِ


    للخطيب التقي السيد مهدي الأعرجيّ النجفيّ (13) :
    هذى مرابعهــم فحي وسلم * واعقـل وقف فيها وقوف متيّمِ
    وانشد فؤادا ضاع مني عندها * بين الدكاك فالربـى فالعليــمِ
    أيام كان العيش حلـو طعمه * والعيش في اللذات حلو المطعمِ
    والراح يجلوها الهـلال كأنها * شمل لندمان كمثـلِ الأنجــمِ


    ____________
    13) نقلتها من كتاب « سوانح الأفكار في منتخب الأشعار » للخطيب الأستاذ السيد محمد جواد شبر.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 183 )


    والشمل ملتئــم بكــل مهفهف * غنج غرير الطـرف حلو المبسمِ
    والدهر بايعنا وأعطانـا علــى * أن لا يخون بنـا يد المستسلــم
    واليوم خــان بنا فشتّتنــا كما * خانت بنو صخر ببيعة « مسلم »
    لم أنسه بين العـدى وجبينــه * كالبدر في ليل العجــاجِ المظلمِ
    أفديهِ من بطلٍ مهيب إن سطــا * لفّ الجموع مؤخــرا بمقــدّمِ
    شهم نمته إلى البسالـة هاشــمٌ * والشبل للأسدِ المجــرب ينتمي
    ولدتــه آبــاء مياميــن ولا * تلدُ الأراقم قط غيــر الأرقــمِ
    حتى إذا ما أثخنــوه بالضبــا * ضربا وفي وسط الحفيرة قد رُمي
    جاؤا إلى ابن زياد فيه فمـذْ رأى * للقصر قد وافــه غير مسلــم
    قال اصعدوا للقصر وارموا جسمهُ * ومن الوريدين اخضبوه بالــدم
    صعدوا به للقصـر وهـو مكبّل * تجري دماه من الجـوارح والفـمِ
    قتلــوه ظام لم يبــلّ فــؤادَهُ * أفديه من ظام الحشـا متضــرّمِ
    دفعوه من أعلا الطمار إلى الثرى * فتكسرت منه حنايــا الأعظـم


    avatar
    عودةحسن سالم


    عدد المساهمات : 14
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009

    الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة Empty رد: الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب في اعتقاد الشيع الرافضة

    مُساهمة  عودةحسن سالم الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 6:27 am

    الشهيد
    مُسلم بنُ عقيل عليه السلام


    مقدمة الناشر 3
    المقدمة 7
    بيت أبي طالب 7
    عقيل 23
    إلى الشام 24
    كتاب عقيل 27
    كتاب أميرالمؤمنين عليه السلام 27
    حديث الحديدة 29
    إفتراء على عقيل 29
    الخلف عن عقيل 31
    حياة مسلم بن عقيل عليه السلام 33
    أمه عليه السلام 34
    نشأته عليه السلام 43
    المؤامرات في الكوفة 47
    كتبهم للحسين عليه السلام 53
    ولاية مسلم عليه السلام 57
    سفر مسلم عليه السلام إلى العراق 63
    مسلم لايتطير 65
    مسلم يتفأل 77
    إفتراء على الحسين عليه السلام 79
    في بيت المختار الثقفي 81
    البيعة 85
    كتاب مسلم إلى الحسين عليه السلام 87
    خطبة النعمان 89
    ولاية ابن زياد 93
    خطبة ابن زياد 94
    موقف الكوفيين 97
    ابن سعد مع يزيد 101
    لفت نظر 107
    في بيت هانئ 109
    مسلم لا يغدر 112
    حفظ الجوار 120
    هانئ مع ابن زياد 125
    راية الأمان 128
    نهضة مسلم عليه السلام 129
    خطبة ابن زياد 131
    إلى السجن 131
    في بيت طوعة 135
    مسلم في اليوم الثاني 136
    في قصر الإمارة 143
    كتم السرّ 145
    الشهادة 147
    بعد الشهادة 149
    تاريخ الشهادة 151
    المرقد الأخير 153
    زوجاته وأولاده عليه السلام 157
    الإحتفال بأمر مسلم عليه السلام 161
    المأتم 162
    الزيارة 163
    الشعر 166

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 12:26 am