الشيخ ابو احمد العقيلي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الشيخ ابو احمد العقيلي

تاريخ عقيل بن ابي طالب

كتاب الاشراف بين الاصالة والانحراف : تأليف الشيخ عودة العقيلي
تحفة المطالب في تاريخ عقيل بن ابي طالب :تأليف الشيخ عودة العقيلي

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:02 am



    بسم الله الرحمن الرحيم
    آدم عليه السلام
    على آدم، فلم يطاوعه شيء مما خلق الله جل وعز إلا الجنة، فلما رأى آدم ما في الجنة من النعيم قال: لو كان سبيل إلى الخلود؟ فطمع فيه إبليس لما سمع ذلك منه، فبكى ونظر إليه آدم وحواء يبكي، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: لأنكما تفارقان هذا، وما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. وكان لباس آدم وحواء ثياباً من نور، فلما ذاقا من الشجرة، بدت لهما سوآتهما، فزعم أهل الكتاب أن مكث آدم في الأرض، قبل أن يدخل الجنة، كان ثلاث ساعات، ومكث هو و حواء في النعيم والكرامة، قبل أن يأكلا من الشجرة فتبدو لهما سوآتهما، ثلاث ساعات، فلما بدت لآدم سوأته أخذ ورقة من الشجرة، فوضعها على نفسه، ثم صاح: ها أنا يا رب عريان قد أكلت من الشجرة التي نهيتني عنها، فقال الله: ارجع إلى الأرض التي منها خلقت، فإني مسخر لك ولولدك طير السماء، ونون البحار.
    وأخرج الله آدم وحواء مما كانا فيه، فيما يقول أهل الكتاب، في تسع ساعات من يوم الجمعة، وهبطا إلى الأرض، وهما حزينان باكيان، وكان هبوطهما على أدنى جبل من جبال الأرض إلى الجنة، وكان ببلاد الهند، وقال قوم: على أبي قبيس، جبل بمكة، ونزل آدم في مغارة في ذلك الجبل سماها مغارة الكنز، ودعا الله أن يقدسها.
    وروى بعضهم أن آدم لما هبط كثر بكاؤه، ودام حزنه على مفارقة الجنة، ثم ألهمه الله سبحانه أن قال: لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم! فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه، وأنزل له من الجنة، التي كان فيها، الحجر الأسود، وأمره أن يصيره إلى مكة، فيبني له بيتاً، فصار إلى مكة وبنى البيت، وطاف به، ثم أمره الله أن يضحي له، فيدعوه ويقدسه، فخرج معه جبريل حتى وقف بعرفات، فقال له جبريل: هذا الموضع أمرك ربك أن تقف له به. ثم مضى به إلى مكة، فاعترض له إبليس، فقال: ارمه! فرماه بالحصى، ثم صار إلى الأبطح، فتلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك ألفي عام.
    وأنزل الله، عز وجل، الحنطة على آدم، وأمره أن يأكل من كده، فحرث وزرع، ثم حصد، ثم داس، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، فلما فرغ عرق جبينه، ثم أكل، فلما امتلأ ثقل ما في بطنه، فنزل إليه جبريل، ففجه، فلما خرج ما في بطنه وجد رائحة تكره، فقال: ما هذا؟ قال له جبريل: رائحة الحنطة.
    ووقع آدم على حواء، فحملت، وولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام قابيل، والجارية لوبذا، ثم حملت فولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام هابيل والجارية إقليما. فلما كبر ولده وبلغوا النكاح، قال آدم لحواء: مري قابيل، فليتزوج إقليما التي ولدت مع هابيل، ومري هابيل فليتزوج لوبذا التي ولدت مع قابيل، فحسده قابيل أن يتزوج بأخته التي ولدت معه.
    وقد روى بعضهم أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء، فقال لهما آدم: قربا قرباناً! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسداً، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله، فسخط الله على قابيل ولعنه، وأنزله من الجبل المقدس إلى أرض يقال لها نود.
    ومكث آدم وحواء ينوحان على هابيل دهراً طويلاً، حتى يقال إنه خرج من دموعهما كالنهر. ووقع آدم على حواء، فحملت، فولدت غلاماً، بعد أن أتى له مائة وثلاثون سنة، فسماه شيئاً، فكان أشبه ولد آدم بآدم، ثم زوج آدم شيئاً، فولد له غلام بعد أن أتت عليه مائة وخمس وستون سنة، فسماه أنوش ثم ولد لأنوش غلام، فسماه قينان، ثم ولد لقينان غلام، فسماه مهلائيل، فهؤلاء ولدوا في حياة آدم وعلى عهده.

    ولما حضرت آدم الوفاة جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث وأمره أن يحفظ جسده ويجعله، إذا مات، في مغارة الكنز، وأن يوصي بنيه وبني بنيه، ويوصي بعضهم بعضا عند وفاتهم، إذا كان هبوطهم من جبلهم، أن يأخذوا جسده حشمة، فيجعلوه وسط الأرض، وأمر شيثاً ابنه أن يقوم بعده في ولدهم، فيأمرهم بتقوى الله وحسن عبادته، وينهاهم أن يخالطوا قابيل اللعين وولده، ثم صلى على بنيه أولئك وأولادهم ونسائهم، ثم مات لست خلون من نيسان، يوم الجمعة، في الساعة التي خلق فيها، وكانت حياته تسعمائة سنة وثلاثين سنة اتفاقاً.
    شيث بن آدموقام بعد موت آدم ابنه شيث، وكان يأمر قومه بتقوى الله، سبحانه، والعمل الصالح، وكانوا يسبحون الله ويقدسونه، وأبناؤهم ونساؤهم ليس بينهم عداوة، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تهمة، ولا كذب، ولا خلف، وكان أحدهم إذا أراد أن يحلف قال: لا ودم هابيل.
    فلما حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحداً من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، و يأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة، ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
    أنوش بن شيثوقام أنوش بن شيث، بعد أبيه، بحفظ وصية أبيه وجده، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحسن العبادة، وفي أيامه قتل قابيل الملعون، رماه لمك الأعمى بحجر، فشدخ رأسه، فمات. وكان قد ولد لأنوش قينان بعد أن أتت له تسعون سنة. و لما حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه: قينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ومتوشلح، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من جبلهم المقدس، أو يدعوا أحداً من بنيهم أن يختلطوا بولد قابيل اللعين، وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يصلوا عنده ويقدسوا الله كثيراً، وتوفي لثلاث خلون من تشرين الأول، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة وخمساً وستين سنة.
    قينان بن أنوشوقام قينان بن أنوش، وكان رجلاً لطيفاً، تقياً، مقدساً، فقام في قومه بطاعة الله وحسن عبادته، واتباع وصية آدم وشيث، وكان قد ولد له مهلائيل بعد أن أتت عليه سبعون سنة. فلما دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، فأقسم عليهم بدم هابيل أن لا يهبط أحد منهم من جبلهم المقدس إلى ولد الملعون قابيل، وجعل وصيته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم. ومات قينان وكانت حياته تسعمائة سنة وعشرين سنة.
    مهلائيل بن قينانثم قام بعد قينان مهلائيل بن قينان، فقام في قومه بطاعة الله تعالى، واتباع وصية أبيه، وكان قد ولد له يرد، بعد أن أتت عليه خمس وستون سنة.
    فلما دنا موت مهلائيل أوصى إلى ابنه يرد وأوصاه بجسد آدم، ثم توفي مهلائيل لليلتين خلتا من نيسان، يوم الأحد، على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة.
    يرد بن مهلائيلثم قام بعد مهلائيل يرد، وكان رجلاً مؤمناً، كامل العمل لله، سبحانه، والعبادة له، كثير الصلاة بالليل والنهار، فزاد الله في حياته، وكان قد ولد له أخنوخ، بعد أن أتت عليه اثنتان وستون سنة، وفي الأربعين ليرد تم الألف الأول.

    ولما مضى من حياة يرد خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الإنس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور. وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمأثم، ويجتمعون على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم. فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج. ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدا، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل، بعد أن ركبوا الفواحش.
    فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطاً فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، ثم توفي يوم الجمعة لليلة خلت من آذار، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة.
    أخنوخ بن يردثم قام بعد يرد أخنوخ بن يرد، فقام بعبادة الله، سبحانه ولما أتت له خمس وستون سنة ولد له متوشلح، وأخذ بنو شيث ونساؤهم وأبناؤهم في الهبوط، فعظم ذلك على أخنوخ فدعا ولده متوشلح ولمكاً ونوحاً، فقال لهم: إني أعلم أن الله معذب هذه الأمة عذاباً عظيماً ليس فيه رحمة.
    وكان أخنوخ أول من خط بالقلم، وهو إدريس النبي، فأوصى ولده أن يخلصوا عبادة الله، ويستعملوا الصدق واليقين، ثم رفعه الله بعد أن أتت له ثلاثمائة سنة.
    متوشلح بن أخنوخثم قام متوشلح بن أخنوخ بعبادة الله تعالى وطاعته وكان لما أتت عليه مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له لمك فأوحى الله إلى نوح في عصره وأعلمه أنه باعث الطوفان على الناس وأمره أن يعمل السفينة من الخشب ولما كملت لنوح ثلاثمائة سنة وأربع وأربعون سنة تم الألف الثاني.
    وتوفي متوشلح في إحدى وعشرين من أيلول يوم الخميس وكانت حياته تسعمائة وستين سنة.
    لمك بن متوشلحفقام لمك بعد أبيه بعبادة الله وطاعته، وكان قد ولد له بعد أن أتت عليه مائة واثنتان وثمانون سنة وكثرت الجبابرة في عصره وذلك أنه كان لما وقع بنو شيث في بنات قابيل ولدت منهم الجبابرة.

    ثم دنا موت لمك، فدعا نوحاً وساماً وحاماً ويافثاً ونساءهم ولم يكن بقي من أولاد شيث في الجبل أحد غيرهم إلا هبطوا إلى بني قابيل، فكانوا ثمانية أنفس ولم يكن لهم أولاد قبل الطوفان، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، ثم بكى. وقال لهم: إنه لم يبق من جنسنا أحد إلا هؤلاء الثمانية الأنفس وأسأل الله الذي خلق آدم وحواء وحدهما ثم كثر ولدهما، أن ينجيكم من هذا الرجز الذي أعد للأمة السوء ويكثر ولدكم حتى يملأوا الأرض ويعطيكم بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم الملك وأنا متوفى ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا مت فاحملني واجعلني في مغارة الكنز، فإذا أراد الله أن تركب السفينة فاحمل جسد أبينا آدم فاهبط به معك ثم اجعله وسط البيت الأعلى من السفينة ثم كن أنت وبنوك في طرف السفينة الشرقي، ولتكن امرأتك وكنائنك في طرف السفينة الغربي وليكن جسد آدم بينكم، فلا تجوزوا إلى نسائكم ولا تجز نساؤكم إليكم ولا تأكلوا ولا تشربوا معهن، ولا تقربوهن حتى تخرجوا من السفينة، فإذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الأرض، فصل أنت عند جسد آدم، ثم أوص ساماً أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم حتى يجعله في وسط الأرض، وليجعل معه رجلاً من أولاده يقوم عليه، وليكن حبراً لله حياته لا ينكح امرأة، ولا يبني بيتاً، ولا يهريق دماً، ولا يقرب قرباناً من الدواب، ولا الطير، فإن الله مرسل معه ملكاً من الملائكة يدله على وسط الأرض ويؤنسه.
    وتوفي لمك لسبع عشرة ليلة خلت من آذار يوم الأحد، على تسع ساعات من النهار، وكانت حياته سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة.
    نوح عليه السلاموأوحى الله عز وجل إلى نوح في أيام جده أخنوخ، وهو إدريس النبي، وقبل أن يرفع الله إدريس، وأمره أن ينذر قومه، وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها ويحذرهم العذاب، فأقام على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، وحبس نفسه على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، لا ينكح النساء خمسمائة عام، ثم أوحى الله إليه أن ينكح هيكل بنت ناموسا بن أخنوخ، وأعلمه أنه باعث الطوفان على الأرض وأمره أن يعمل السفينة التي نجاه الله وأهله فيها، وأن يجعلها ثلاثة بيوت سفلاً ووسطاً وعلواً، وأمره أن يجعل طولها ثلاثمائة ذراع بذراع نوح وعرضها خمسين ذراعاً وسمكها ثلاثين ذراعاً ويصير حواليها رفوف الخشب ويكون البيت الأسفل للدواب والوحش والسباع ويكون الأوسط للطير ويكون الأعلى لنوح وأهل بيته ويجعل في الأعلى صهاريج الماء وموضعاً للطعام فولد له بعد أن أتت عليه خمسمائة سنة.
    ولما فرغ نوح من عمل السفينة وكان ولد قابيل، ومن اختلط بهم من ولد شيث، إذا رأوه يعمل الفلك سخروا منه، فلما فرغ دعاهم إلى الركوب فيها، وأعلمهم أن الله باعث الطوفان على الأرض كلها حتى يطهرها من أهل المعاصي، فلم يجبه أحد منهم فصعد هو وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم، فوضعوه في وسط البيت الأعلى من السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من آذار، وأدخل الطير البيت الأوسط، وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس.
    وأرسل الله الماء من السماء، و فجر عيون الأرض، فالتقى الماء على أمر قد قدر وأخذ الأرض كلها والجبال وأظلمت الدنيا وذهب ضوء الشمس والقمر حتى كان الليل والنهار سواء وكان الطالع في ذلك الوقت الذي أرسل الله تعالى فيه الماء فيما يقول أصحاب الحساب: السرطان والشمس والقمر وزحل وعطارد والرأس، مجتمعة في آخر دقيقة من الحوت، فاتصل الماء من السماء والأرض أربعين يوماً حتى علا فوق كل جبل خمس عشرة ذراعاً ثم وقف بعد أن لم تبق بقعة من الأرض إلا غمرها الماء وعلاها.
    ودارت السفينة الأرض كلها حتى صارت إلى مكة، فطافت حول البيت أسبوعاً ثم انكشف الماء بعد خمسة أشهر فكان ابتداؤه لسبع عشرة ليلة خلت من أيار إلى ثلاث عشرة ليلة خلت من تشرين الأول.
    وروى بعضهم أن نوحاً ركب السفينة أول يوم من رجب، واستوت على الجودي في المحرم فصار أول الشهور يعده وأهل الكتاب يخالفون في هذا.
    ولما استوت على الجودي وهو جبل بناحية الموصل أمر الله تعالى ماء السماء فرجع من حيث جاء وأمر الأرض فبلعت ماءها فأقام نوح بعد وقوف السفينة أربعة أشهر ثم بعث الغراب ليعرف خبر الماء فوجد الجيف طافية على الماء.

    فوقع عليها ولم يرجع، ثم أرسل الحمامة فجاءت بورقة زيتون، فعلم أن الماء قد ذهب فخرج لسبع وعشرين من أيار، فكان بين دخوله السفينة وخروجه سنة كاملة وعشرة أيام، فلما صار إلى الأرض هو وأهله بنوا مدينة، فسموها ثمانين.
    ولما خرج نوح من السفينة ورأى عظام الناس تلوح غمه ذلك وأحزنه وأوحى الله إليه: أني لن أرسل الطوفان على الأرض بعدها أبداً. ولما خرج نوح من السفينة أقفلها بقفل ودفع المفتاح إلى سام ابنه ثم زرع نوح وغرس كرماً وعمر الأرض.
    وأن نوحاً يوماً لنائم إذ انكشف ثوبه، فرأى حام ابنه سوأته فضحك، وخبر أخويه ساماً و يافثاً فأخذا ثوباً حتى أتياه به، ووجوههما مصروفة عنه، فألقيا الثوب عليه، فلما انتبه نوح من نومه، وعلم الخبر دعا على كنعان بن حام، ولم يدع على حام، فمن ولده القبط والحبشة والهند.
    وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل، فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج، وأطاع الشيطان في اللعب والباطل.
    وقسم نوح الأرض بين ولده، فجعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن وحضرموت إلى عمان إلى البحرين إلى عالج ويبرين، ووبار والدو والدهناء وجعل لحام أرض المغرب والسواحل فولد كوش ابن حام وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة. ونزل يافث بن نوح ما بين المشرق والمغرب، فولد له جومر وتوبل وماش وماشج ومأجوج فولد جومر الصقالبة، وولد توبل برجان وولد ماش الترك والخزر وولد ماشج الأشبان وولد مأجوج يأجوج ومأجوج وهم في شرقي الأرض من جهة الترك وكانت منازل الصقالبة، وبرجان أرض الروم قبل أن يكون الروم فهؤلاء ولد يافث.
    وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة ثلاثمائة وستين سنة، ولما حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة سام و حام ويافث وبنوهم فأوصاهم وأمرهم بعبادة الله تعالى وأمر ساماً أن يدخل السفينة إذا مات ولا يشعر به أحد فيستخرج جسد آدم ويذهب معه بملكيزدق بن لمك بن سام فإن الله اختاره ليكون مع جسد آدم في وسط الأرض في المكان المقدس وقال له: يا سام إنك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث الله معكما ملكاً من الملائكة يدلكما على الطريق ويريكما وسط الأرض فلا تعلمن أحداً ما تصنع فإن هذا الأمر وصية آدم التي أوصى بها بنيه وأوصى بها بعضهم بعضاً حتى انتهى ذلك إليك فإذا بلغتما المكان الذي يريكما الملك فضع فيه جسد آدم ثم مر ملكيزدق ألا يفارقه ولا يكون له عمل إلا عبادة الله سبحانه وتعالى وأمره أن لا ينكح امرأة ولا يبني بنياناً ولا يهريق دماً ولا يلبس ثوباً إلا من جلود الوحش ولا يقص شعراً ولا ظفراً و ليجلس وحده وليكثر حمد الله ثم مات في أيار يوم الأربعاء وكانت حياته تسعمائة سنة وخمسين كما حكى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً.
    سام بن نوحوقام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له ارفخشد، بعد أن أتت عليه مائة سنة وسنتان، ثم انطلق، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سراً من أخويه وأهله، ودعا أخويه يافثاً وحاماً، فقال لهما: إن أبي أوصى إلي وأمرني أن آتي البحر، فأنظر في الأرض ثم ارجع، فلا تتحركوا حتى آتيكم، واستوصوا بامرأتي وبني خيراً، فقال له أخواه: اذهب في حفظ الله، فإنك قد علمت أن الأرض خربة ونخاف عليك السباع. قال سام: إن الله تعالى يبعث ملكاً من الملائكة، فلا أخاف، إن شاء الله تعالى، شيئاً. ودعا سام ابنه لمكاً فقال له ولامرأته: يا وزدق! أرسلا معي ابنكما ملكيزدق يؤنسني في الطريق. فقالا له: اذهب راشداً! فقال سام لأخويه وأهله وولده: قد علمتم أن أبانا نوحاً قد أوصى إلي، وأمرني أن أختم السفينة، فلا أدخلها أنا، ولا أحد من الناس، فلا يقربن السفينة منكم أحد.
    ثم إن ساماً خرج ومعه ابنه، فعرض لهما الملك، فلم يزل معهما حتى صار بهما إلى الموضع الذي أمروا أن يضعوا جسد آدم فيه، فيقال إنه بمسجد منى عند المنارة، ويقول أهل الكتاب: بالشأم في الأرض المقدسة، فانفتحت الأرضون، فوضعوا الجسد فيها، ثم انطبقت عليه. وقال سام لملكيزدق ابن لمك بن سام: اجلس ها هنا، وأحسن عبادة الله، فإن الله يرسل إليك في كل يوم ملكاً من الملائكة يؤنسك، ثم سلم عليه، وانصرف، فأتى أهله، فسأله ابنه لمك عن ملكيزدق. فقال: إنه قد مات في الطريق، فدفنته، فحزن عليه أبوه وأمه.

    ثم حضرت ساماً الوفاة فأوصى إلى ابنه أرفخشد. ومات سام يوم الخميس لسبع خلون من أيلول. وكانت حياته ستمائة سنة.
    أرفخشد بن سامثم قام أرفخشد بن سام بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له شالح بعد أن أتت عليه مائة وخمس وثمانون، سنة وقد تفرق ولد نوح في البلاد، وكثرت الجبابرة والعتاة منهم، و أفسد ولد كنعان بن حام، وأظهروا المعاصي.
    ولما حضرت أرفخشد الوفاة جمع إليه ولده وأهله وأوصاهم بعبادة الله تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: أقبل وصيتي، وقم في أهلك بعدي عاملاً بطاعة الله تعالى. ومات يوم الأحد لسبع بقين من نيسان وكانت حياته أربعمائة وخمساً وستين سنة.
    شالح بن أرفخشدثم قام شالح بن أرفخشد في قومه يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معاصيه، ويحذرهم ما نال أهل المعاصي من الرجز والعذاب. وكان قد ولد له عابر بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنب فعل بني قابيل اللعين، ومات يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من آذار، وكانت حياته أربعمائة وثلاثين سنة.
    عابر بن شالحثم قام عابر بن شالح يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى، ويحذر بني سام بن نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام، المغير دين آبائه، والمرتكب للمعاصي.
    وكان قد ولد له فالغ، بعد أن أتت عليه مائة وأربع وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه فالغ، فقال له: يا بني! إن ولد قابيل اللعين، لما أكثروا العمل بمعاصي الله، سبحانه وتعالى، ودخل معهم ولد شيث بعث الله عليهم الرجز، فلا تدخل أنت ولا أهلك في ملة بني كنعان. ومات عابر يوم الخميس لثلاث وعشرين من تشرين الأول، وكانت حياته ثلاثمائة وأربعين سنة، وقيل مائة وأربعاً وستين سنة.
    فالغ بن عابرثم قام بعد عابر فالغ ابنه يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى، فكان في زمانه اجتماع ولد نوح ببابل، وذلك أن ماش بن إرم بن سام بن نوح صار إلى أرض بابل، فولد نمرود الجبار، ونبيط، وهو أبو النبط، وهو أول من استنبط الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الأرض، وكان لسانهم جميعا السرياني، وهو لسان آدم، فلما اجتمعوا ببابل قال بعضهم لبعض: لنبنين بنياناً أسفله الأرض وأعلاه السماء! فلما أخذوا في البنيان قالوا: نتخذه حصناً يحرزنا من الطوفان، فهدم الله حصنهم، وفرق الله ألسنهم على اثنين وسبعين لساناً، و تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة من موضعهم ذلك، فكان في ولد سام تسعة عشر لساناً، وفي ولد حام ستة عشر لساناً، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لساناً، فلما رأوا ما هم فيه اجتمعوا إلى فالغ بن عابر فقال لهم: إنه لا يسعكم أرض واحدة مع افتراق ألسنتكم فقالوا: أقسموا الأرض بيننا، فقسم لهم فصار لولد يافث بن نوح الصين والهند والسند والترك والخزر والتبت والبلغر والديلم وما والى أرض خراسان، وكان ملك بني يافث في ذلك الزمان جم شاذ.
    وصار لولد حام أرض المغرب وما وراء الفرات إلى مسقط الشمس.
    وصار لولد سام الحجاز واليمن وباقي الأرض.
    وكان قد ولد له أرغو بعد أن أتت عليه ثلاثون سنة، وحضرت فالغ الوفاة، فأوصى إلى ابنه أرغو، ومات فالغ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيلول، وكانت حياته مائتي سنة و تسعاً وثلاثين سنة.
    أرغو بن فالغثم قام أرغو بن فالغ بعد أبيه، وقد تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، لبني سام تسع عشرة فرقة، ولولد حام ست عشرة فرقة، ولولد يافث سبع وثلاثون، وكان في زمانه نمرود الجبار، وكان مسكنه ببابل، وكان الذي ابتدأ بناء الصرح، وأول من عمل التاج، وملك سبعاً وستين سنة.
    وكان قد ولد لأرغو ساروغ، بعد أن أتت عليه اثنتان وثلاثون سنة، ولما أتت لأرغو أربع وسبعون سنة من عمره كمل الألف الثالث.
    وحضرت أرغو الوفاة، فأوصى ابنه ساروغ، وتوفي أرغو يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من نيسان، وكانت حياته مائتي سنة.
    ساروغ بن أرغو

    وقام ساروغ بن أرغو في ولد سام، بعد موت أبيه، وقد كثرت الجبابرة، وعتت في الأرض. وكان في زمن ساروغ أول ما عبدت الأصنام. وكان أول شأن الأصنام أن الناس كان إذا مات لأحدهم الميت الذي يعز عليهم من أب أو أخ أو ولد صنع صنماً على صورته، وسماه باسمه، فلما أدرك الخلف الذي بعدهم ظنوا، وحدثهم الشيطان، أنه إنما صنعت هذه لتعبد، فعبدوها، ثم فرق الله دينهم، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد الطير، ومنهم من عبد الحجارة، ومنهم من عبد الشجر، ومنهم من عبد الماء، ومنهم من عبد الريح ، وفتنهم الشيطان وأضلهم وأطغاهم.
    وكان قد ولد له ناحور، بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة. ولما حضرت ساروغ الوفاة أوصى ابنه ناحور، وأمره بعبادة الله تعالى، ومات ساروغ لثلاث بقين من آب يوم الأحد، وكانت حياته مائتين وثلاثين سنة.
    ناحور بن ساروغوكان ناحور مكان أبيه، فكثرت عبادة الأصنام في زمانه، فأمر الله سبحانه الأرض، فزلزلت عليهم زلزلة شديدة حتى سقطت تلك الأصنام، فلم يكترثوا بذلك، وأعادوا أصناماً مكانها.
    وفي زمانه ظهر السحر، والكهانة، والطيرة، وذبح الناس أولادهم للشياطين، وجعلت المكاييل والموازين.
    وكانت حياة ناحور مائة وثمانياً وأربعين سنة، وكانت جبابرة ذلك العصر عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا قد انتشروا في البلاد، وكانت منازلهم بين أعالي حضرموت إلى أودية نجران، فلما عاثوا وعتوا بعث الله تبارك وتعالى هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، والعمل بطاعته، واجتناب المحارم، فكذبوه، فقطع الله عنهم المطر ثلاث سنين، فوجهوا وفدا لهم إلى البيت الحرام يستسقي لهم، فأقاموا يطوفون بالبيت ويسعون أربعين صباحاً.
    ثم رفعت لهم سحابتان: إحداهما بيضاء فيها غيث ورحمة، والأخرى سوداء فيها عذاب ونقمة، وسمعوا صوتاً يناديهم: اختاروا أيتهما شئتم! فقالوا: اخترنا السوداء! فمرت، وهي على رؤوسهم، فلما قربت من البلاد قال لهم هود: إن هذه السحابة فيها عذاب قد أظلكم! فقالوا: بل هو عارض ممطرنا، فأقبلت ريح سوداء لا تمر بشيء إلا أحرقته، فما نجا منهم إلا هود، ويقال إنه نجا لقمان بن عاد، وعاش حتى عمر عمر سبعة نسور.
    ولما مضت عاد صار في ديارهم بنو ثمود بن جازر بن ثمود بن إرم بن سام بن نوح، وكانت ملوكهم تنزل الحجر، فلما عتوا بعث الله إليهم صالح بن تالح بن صادوق بن هود نبياً، فسألوه أن يأتيهم باية، فأخرج الله لهم ناقة من الأرض معها فصيلها، فقال لهم صالح: إن لهذه الناقة يوماً ترد فيه الماء، ولكم يوماً، فاحذروا أن تصدوها عن الماء! فكذبوه، فقام رجل منهم يقال له قدار، فعقرها وضرب عرقوبها بالسيف، فارتفع فصيلها على نشز من الأرض، ثم رغا، فبعث الله عليهم العذاب، فما فلت منهم إلا امرأة يقال لها الذريعة، وضرب العرب بقدار المثل.
    تارخ بن ناحوروكان تارخ بن ناحور، هو أبو إبراهيم خليل الله، في عصر نمرود الجبار، وكان نمرود أول من عبد النار و سجد لها، وذلك أنه خرجت نار من الأرض، فأتاها، فسجد لها، وكلمه منها شيطان، فبنى عليها بنية، وجعل لها سدنة.
    وفي ذلك العصر تعاطى الناس علم النجوم، وحسبوا الكسوف للشمس والقمر والكواكب السائرة والراتبة، وتكلموا في الفلك والبروج.
    وكان الذي علم نمرود ذلك رجلاً يقال له تبطق، وكان تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، مع نمرود الجبار، فحسب المنجمون لنمرود، فقالوا له: إنه يولد في مملكته مولود يعيب دينه، ويزري عليه، ويهدم أصنامه، ويفرق جمعه، فجعل لا يولد في مملكته مولود إلا شق بطنه، حتى ولد إبراهيم، فستره أبواه، وأخفيا أمره، وصيراه في مغارة حيث لا يعلم به أحد، وكان مولده بكوثا ربا، وكان مولد إبراهيم بعد أن أتت لتارخ مائة وسبعون سنة، وعاش تارخ أبوه مائتي سنة وخمس سنين.
    إبراهيم عليه السلام

    ونشأ إبراهيم في زمان نمرود الجبار، فلما خرج من المغارة التي كان فيها قلب طرفه في السماء، فنظر إلى الزهرة، فرأى كوكباً مضيئاً، فقال: هذا ربي، فإن له علواً وارتفاعاً، ثم غاب الكوكب، فقال: إن ربي لا يغيب، ثم رأى القمر لما طلع، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب القمر، فقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما جاء النهار طلعت الشمس، فقال: هذا ربي، هذا أنور وأضوأ، فلما غابت الشمس قال: غابت، وربي لا يغيب، كما قص الله خبره وأمره، فلما كملت سنة جعل يعجب إذ رأى قومه يعبدون الأصنام، ويقول: أتعبدون ما تنحتون؟ فيقولون: أبوك علمنا هذا. فيقول: إن أبي لمن الضالين! فظهر قوله في قومه، وتحدث الناس به، وأرسله الله نبياً، وبعث إليه جبريل، فعلمه دينه، فجعل يقول لقومه: إني بريء مما تشركون.
    وبلغ خبره نمرود فأرسل إليه فيها، ثم جعل إبراهيم يكسر أصنامهم، فيقول: ادفعي عن نفسك، فألهب نمرود ناراً ووضعه في منجنيق ورمى به فيها، فأوحى الله إليها: أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فجلس وسط النار ما تضره، فقال نمرود: من اتخذ إلها، فليتخذه مثل إله إبراهيم، فامن معه لوط، وكان لوط ابن أخيه خاران بن تارخ.
    وأمر الله، عز وجل إبراهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشام الأرض المقدسة، فخرج إبراهيم وامرأته سارة بنت خاران بن ناحور عمه، ولوط بن خاران، مهاجرين حيث أمرهم الله، فنزلوا أرض فلسطين، وكثر ماله ومال لوط، فقال إبراهيم للوط: إن الله قد كثر لنا مالنا وماشيتنا، فانتقل منا حتى تنزل مدينتي سدوم وعمورة، بالقرب من الموضع الذي كان فيه إبراهيم، فلما صار لوط إلى مدينة سدوم وعمورة ونزلها أتاه ملك تلك الناحية، فقاتله، وأخذ ماله، فمضى إبراهيم حتى استنقذ ماله.
    ووسع الله، عز وجل، على إبراهيم في كثرة المال، فقال: رب ما أصنع بالمال، ولا ولد لي؟ فأوحى الله، عز وجل، إليه: إني مكثر ولدك، حتى يكونوا عدد النجوم.
    وكان لسارة جارية يقال لها هاجر، فوهبتها لإبراهيم، فوقع عليها، فحملت، وولدت إسماعيل، وإبراهيم يومئذ ابن ست وثمانين سنة، وقال الله: إني مكثر ولدك وجاعل فيهم الملك الباقي مدى الدهر، حتى لا يدري أحد ما عددهم.
    فلما ولدت هاجر غارت سارة، وقالت: أخرجها عني وولدها، فأخرجها، ومعها إسماعيل، حتى صار بهما إلى مكة، فأنزلهما عند البيت الحرام، وفارقهما، فقالت له هاجر: على من تدعنا؟ قال: على رب هذه البنية فقال: اللهم إني أسكنت ابني، بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم.
    ونفد الماء الذي كان مع هاجر، فاشتد بإسماعيل العطش فخرجت هاجر تطلب الماء، ثم صعدت إلى الصفا، فرأت بقربه طائراً واقفاً فرجعت فإذا بالطائر قد فحص برجله الأرض، فخرج الماء، فجمعته لئلا يذهب، فهي بئر زمزم.
    وعمل قوم لوط المعاصي، وكانوا يأتون الذكران من العالمين، وذلك أن إبليس، لعنه الله تعالى، تراءى لهم في صورة غلام أمرد، ثم أمرهم أن ينكحوه، فاشتهوا ذلك حتى تركوا نكاح النساء، وأقبلوا على نكاح الذكران، فنهاهم لوط، فلم ينتهوا، و جاروا في الأحكام حتى ضرب بهم في الجور المثل، وقالوا: أجور من حكم سدوم! وكان الرجل منهم، إذا نال أحداً بمكروه، فضربه، أو سحه، قال له: أعطني أجراً على فعلي بك. وكان لهم حاكمان يقال لهما شقرى وشقرونى يحكمان بالجور والظلم والعدوان.
    ولما كثر عمل قوم لوط وجورهم بعث الله، عز وجل، ملائكة لهلاكهم، فنزلوا بإبراهيم، وكان يضيف الأضياف، ويعمل القرى، فلما نزلوا به قرب إليهم عجلاً مشوياً، فلما رآهم لا يأكلون نكرهم، فعرفوه بأنفسهم، وقالوا: أنا رسل ربك لهلاك أهل هذه القرية، يعنون سدوم القرية التي كان فيها قوم لوط ، فقال لهم إبراهيم: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله، إلا امرأته.

    وكانت سارة امرأة إبراهيم واقفة، فعجبت من قولهم، فبشروها بإسحاق فقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخ كبير؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة، وهي بنت تسعين، فلما أتوا إلى لوط، ورأتهم امرأته دخنت لقومها، فجاءوا إلى لوط، فقالوا ادفع إلينا أضيافك! فقال: لا تفضحون في ضيفي: فلما أكثروا صدهم جبريل، فأعماهم، فقالوا له: أنا مهلكوهم، قال: فمتى؟ قالوا: الصبح. قال: تؤخرونهم إلى الصبح؟ قال له جبريل: أليس الصبح بقريب؟ فلما كان السحر قال له جبريل: اخرج، ثم قلبها عليهم، ويقال نزلت عليهم نار، فلم ينج منهم أحد، وكانت امرأة لوط فيهم فمسخت ملحاً، فما بقي منهم مخبر.
    ووهب الله لإبراهيم إسحاق بن سارة، فعجب الناس من ذلك، وقالوا: شيخ ابن مائة سنة، وعجوز بنت تسعين سنة! فخرج إسحاق أشبه شيء بإبراهيم.
    وكان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه في كل وقت. وبلغ إسماعيل حتى صار رجلاً، ثم تزوج امرأة من جرهم، فزارة إبراهيم مرة، فلم يلقه، وكانت أمه قد ماتت، فكلم امرأته فلم يرض عقلها، وسألها عن إسماعيل، فقالت: في الرعي! فقال: إذا جاء فقولي له غير عتبة بابك! فلما انصرف إسماعيل من رعية قالت له امرأته: قد جاء هنا شيخ يسأل عنك: فقال إسماعيل: فما قال لك؟ قالت: قال لي. قولي له غير عتبة بابك. قال: أنت خلية! فطلقها، و تزوج الحيفاء بنت مضاض الجرهمية، فعاد إليهم إبراهيم من الحول، فوقف ببيت إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأته، فقال: كيف حالكم؟ قالت بخير! قال: هكذا فليكن! أين زوجك؟ قالت: ليس بحاضر، انزل! قال: لا يمكنني. قالت: فأعطني رأسك أقبله! ففعل ذلك، وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: تمسك بعتبة بابك. فلما انصرف جاء إسماعيل، فأخبرته امرأته بخبر إبراهيم، فوقع على موضع قدمه يقبلها.
    ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يبني الكعبة، ويرفع قواعدها، ويؤذن في الناس بالحج، ويريهم، مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل القواعد حتى انتهى إلى موضع الحجر، فنادى إبراهيم أبو قبيس: أن لك عندي وديعة! فأعطاه الحجر، فوضعه، وأذن إبراهيم في الناس بالحج، فلما كان يوم التروية قال له جبريل: ترو من الماء، فسميت التروية، ثم أتى منى، فقال له: بت بها، ثم أتى عرفات، فبنى بها مسجداً بحجارة بيض، ثم صلى به الظهر والعصر ثم عمد به إلى عرفات، فقال له: هذه عرفات فاعرفها، فسميت عرفات.
    ثم أفاض به من عرفات، فلما حاذى المأزمين قال له: ازدلف، فسميت المزدلفة، وقال له: اجمع الصلاتين، فسميت جمع، وصار إلى المشعر، فنام عليه، فأمره الله أن يذبح ابنه، فالرواية تختلف في إسماعيل وإسحاق، فيقول قوم: إنه إسماعيل لأنه الذي وضع داره وبيته وإسحاق بالشام، ويقول قوم: إنه إسحاق لأنه أخرجه وأخرج أمه معه، وكان يومئذ غلاماً، وإسماعيل رجل قد ولد له.
    وقد كثرت الروايات في هذا وهذا، واختلف الناس فيهما، فلما أصبح إبراهيم صار إلى منى وقال للغلام: زورني بالبيت، وقال لابنه: إن الله أمرني أن أذبحك! فقال: يا أبت افعل ما تؤمر! فأخذ السكين، وأضجعه على جمرة العقبة، وطرح تحته قرطان حمار، ثم وضع الشفرة على حلقه، وحول وجهه عنه، فقلب جبريل الشفرة، فنظر إبراهيم، فإذا الشفرة مقلوبة، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
    وأخذ جبريل الغلام، وانحط الكبش من قلة ثبير، فوضعه، تحته فذبحه فأهل الكتاب يقولون: إنه كان إسحاق، وإنه فعل به هذا في برية الأموريين بالشام، فلما فرغ إبراهيم من حجه وأراد أن يرتحل أوصى إلى ابنه إسماعيل أن يقيم عند البيت الحرام، وأن يقيم للناس حجهم ومناسكهم، وقال له: إن الله مكثر عدده. ومثمر نسله. وجاعل في ولده البركة والخير.
    وتوفيت سارة عند مصيرهم إلى الشأم، فتزوج إبراهيم قطورة، فولدت له أولاداً كثيراً، و هم: زمرن، ويقشن، ومدن، ومدين، ويشباق، وشوح، وتوفي إبراهيم، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من آب، وكانت حياته مائة وخمساً وتسعين سنة.
    إسحاق بن إبراهيمولما توفي إبراهيم بالشام قام إسحاق بعده وتزوج رفقا بنت بتوئيل، فحملت فثقل حملها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسحاق: أني مخرج من بطنها شعبين وأمتين، فاجعل الأصغر أعظم من الأكبر! فولدت رفقا عيصو ويعقوب توأمين، وخرج عيصو أولاً، وخرج يعقوب بعده، وعقبه مع عقب عيصو، فسمي يعقوب.

    وكان إسحاق يوم ولد له ابن ستين سنة، وكان إسحاق يحب عيصو، ورفقا تحب يعقوب، وسكن إسحاق وادي جارر، وكان قد ذهب بصره، فقال لابنه عيصو: خذ سيفك وقوسك، واخرج، فصد لي صيداً حتى آكل وأبارك عليك قبل أن أموت، فسمعت رفقا أمه ذلك، فقالت ليعقوب: اصنع لأبيك طعاماً! اذهب إلى الغنم، فخذ جديين، فاصنع طعاماً، وقربه لأبيك، حتى تقع عليك البركة. فقال: أخاف أن يلعنني. فقالت: إن لعنك كانت لعنتك علي، فمضى يعقوب، وأخذ جديين، فذبحهما، وطبخهما، وقربهما إليه.
    وكان عيصو مشعر الذراع، فأخذ يعقوب جلد الجديين، فوضعهما على ساعديه، فلما قرب الطعام من أبيه قال: النغمة نغمة يعقوب، والمسحة مسحة عيصو. ثم بارك عليه، ودعا له، وقال له: كن رأسا على إخوتك.
    وجاء عيصو بصيده، فقال له إسحاق: من قدم إلى الطعام فباركته ومباركاً يكون؟ قال: خدعني أخي يعقوب! قال له إسحاق: قد جعلته رأسا عليك، وعلى إخوته. ثم دعا له، وقال: على سميه الأرض تنزل.
    وأمر إسحاق يعقوب أن يصير إلى حران، فيكون عند لابان بن بتوئيل بن ناحور، أخي إبراهيم، وخاف إسحاق عيصو عليه، وأمره أن لا يتزوج من نساء الكنعانيين، فصار إلى حران إلى خاله لابان، فكانت حياة إسحاق مائة وخمساً وثمانين سنة.
    يعقوب بن إسحاقثم إن إسحاق قال ليعقوب: إن الله قد جعلك نبياً، وجعل ولدك أنبياء، وجعل فيك الخير والبركة، وأمره أن يسير إلى الفدان، وهو موضع بالشام، فسار إلى الفدان فلما دخلها رأى امرأة معها غنم على البئر تريد أن تسقي غنمها، وعلى رأس البئر حجر لا يرفعه إلا عدة رجال، فسألها: من هي؟ فقالت: أنا بنت لابان، وكان لابان خال يعقوب، فزحزح يعقوب الحجر، وسقى لها، و سار إلى خاله، فزوجه إياها، فقال يعقوب: إن التي كانت مسماة لي راحيل أختها. فقال: هذه أكبر، وأنا أزوجك أيضاً راحيل، فتزوجهما جميعاً.
    ودخل بليا أولاً، فأولدها روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، وجارية يقال لها ديناً، ثم زوجه خاله بابنته الأخرى، وهي راحيل، فأبطأ عليها الولد، حتى عظم ذلك عليها، ثم وهب الله، سبحانه وتعالى، يوسف، وبنيامين.
    ووقع يعقوب بزلفا جارية كانت لليا، فولدت منه كاذ، وآشر، ونفتالي.
    ووقع بوليدة راحيل، فولدت دان، وقال قوم إن يعقوب تزوج راحيل قبل ليا، وقال أهل الكتاب تزوجهما جميعاً في وقت واحد، فماتت راحيل، وبقيت ليا.
    وكان يوسف أحب ولد يعقوب إلى يعقوب لأنه كان أجملهم وجهاً، وكانت أمه أحب نسائه إليه، فحسده إخوته ذلك، فأخرجوه معهم، وكان من خبرهم ما قصة الله، عز وجل، في كتابه العزيز، حتى بيع، واستعبد، وغاب عن أبيه أربعين سنة، ثم رده الله، سبحانه، عليه، وجمعهم ويوسف بمصر على ما قد قصة الله في كتابه.
    وولد ليوسف بمصر عدة أولاد، فأقام يعقوب بمصر سبع عشرة سنة، ولما حضرته الوفاة أوصى يوسف ولده ألا يدفنه بمصر. وتوفي وله مائة وأربعون سنة.
    ولد يعقوبوكان ليعقوب من الولد اثنا عشر ذكراً: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، ويوسف، وبنيامين، وكاذ، وآشر، ودان، ونفتالي، فهؤلاء بنو يعقوب، وهم بنو إسرائيل، وهم الأسباط.
    وكان لروبيل من الولد: خنوخ، وفلو، وحصران، وكرمي.
    وكان لشمعون من الولد: نموئيل، ويامين، وشاوول وكان للاوي من الولد: جرشون، وقهث، ومراري.
    وكان ليهوذا من الولد: عار، وأونان ، وشيلا، وفارص، وزارح.
    وكان ليشاجر من الولد: تولع، وفوا، ويوب، وشمرون.
    وكان لآشر من الولد: يمنا، وأشوا، وأشوى، وبريعا، وسارح.
    وكان لزفولون من الولد: سارد، وإيلون، ويحلائيل.
    وولد ليوسف بأرض مصر: إفرائيم، ومنشى.
    وكان لبنيامين: بالع، وبخر، وأشبال، ونعمان، وأوخي، ومفيم، وحفيم، وأرد.
    وكان لكاذ من الولد: صفيان، وشوني، وأصبون، وعاري، وأرودي، وارايلي.
    وكان لنفتالي من الولد: يحصيل، وغوني، ويبصر، وشاليم.
    فهؤلاء أولاد يعقوب وولد ولده، الذين اجتمعوا بمصر عند يوسف، مع ولدي يوسف اللذين ولدا بمصر، وأعطاهم أرضا، وقال: ازرعوا، فما خرج فلفرعون الخمس.
    ولما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده وولد ولده، فبارك عليهم، ودعا لهم، وقال لكل واحد منهم قولا، وأعطى ليوسف سيفه وقوسه.

    وقرب إليه يوسف ابنيه منشى وإفرائيم، فصير منشى عن يمينه وإفرائيم عن شماله، لأن منشى كان أكبر، فقلب يده اليمنى على إفرائيم ، وأوصى يوسف أن يحمله ويدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
    ولما توفي يعقوب قاموا يبكون عليه سبعين يوماً، ثم حمله يوسف، وأخرج معه غلماناً من أهل مصر، وصار به إلى أرض فلسطين، فدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
    ولما فرغوا من دفن يعقوب قال لإخوته: ارجعوا معي إلى أرض مصر! فخافوه، فقالوا له: قد أوصاك أبوك يعقوب أن تغفر خطيئتنا. قال: لا تخشوني! فإني أخشى الله. فاطمأنت قلوبهم، فرجعوا إلى أرض مصر، فأقاموا بها.
    وعاش يوسف بمصر دهراً، ثم حضرته الوفاة، فجمع بني إسرائيل، وقال: إنكم تخرجون بعد حين من أرض مصر، إذا بعث الله رجلاً يقال له موسى بن عمران من ولد لاوي بن يعقوب، وسيذكركم الله، ويرفعكم، فأخرجوا بدني من هذه الأرض، حتى تدفنوني عند قبور آبائي.
    ومات يوسف وله مائة وعشر سنين، فصير في تابوت حجارة، وصير في النيل.
    وكان في ذلك العصر أيوب النبي ابن أموص بن زارح بن رعوئيل بن عيصو ابن إسحاق بن إبراهيم، وكان كثير المال، فابتلاه الله تعالى بخطيئة أخطأها، فشكر الله وصبر، ثم رفع الله عنه البلاء، ورد إليه ماله وأضعف له.
    موسى بن عمرانوولد موسى بن عمران بن قهث بن لاوي بن يعقوب بمصر في زمان فرعون الجبار، وهو الوليد بن مصعب، ويقال: كان اسمه ظلمي، وبنو إسرائيل يومئذ بمصر قد أقاموا من زمان يوسف في الرق والعبودية.
    وكان سحرة فرعون وكهنته قد قالوا له: يولد في هذا الوقت مولود من بني إسرائيل يفسد عليك ملكك، ويكون به هلاكك. وكان فرعون قد ملك مصر دهراً طويلاً ممتعاً بالسلامة، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، فأمر فرعون، فوضع على كل امرأة حامل من بني إسرائيل حرساً، فكانت لا تلد منهن امرأة غلاما إلا قتل ولدها، فلما جاء أم موسى المخاض قالت لها القابلة: إني أكتم عليك! فلما ولدت قالت للحرس: إنما خرج منها دم. وأوحى الله إلى أم موسى أن اعملي تابوتاً، ثم ضعيه فيه، وأخرجيه ليلاً، فاطرحيه في نيل مصر! ففعلت ذلك، وضربته الريح، فطرحته إلى الساحل، فرأته امرأة فرعون، فدنت منه حتى أخذته، فلما فتحت التابوت ورأت موسى وقع عليه منها محبة، فقالت: لفرعون نتخذه ولداً، وطلبت له من ترضعه، فلم يأخذ من المرضعات، حتى جاءت أمه، فأخذ منها، وشب أحسن شباب، وبلغ في أسرع وقت ما لا يبلغ الصبيان.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:03 am

    وكان يوسف قد قال لبني إسرائيل: إنكم لن تزالوا في العذاب حتى يأتي غلام جعد، من ولد لاوي بن يعقوب، يقال له موسى بن عمران. فلما طال الأمر على بني إسرائيل ضجوا و أتوا شيخاً منهم، فقال لهم: كأنكم به! فبيناهم، ذلك إذ وقف عليهم موسى، فلما رآه الشيخ عرفه بالصفة، فقال له: ما اسمك؟ فقال: موسى قال ابن من؟ قال: ابن عمران. فقام هو والقوم و قبلوا يديه ورجليه، واتخذهم شيعة.
    ودخل يوماً مدينة من مدائن مصر، فإذا رجل من شيعته ينازع رجلاً من آل فرعون، فوكزه موسى، فقتله، ونذر به فرعون وآل فرعون وأرادوا قتله، فلما علم ذلك خرج وحيداً على وجهه، حتى صار إلى مدين، وأجر نفسه من شعيب النبي ابن نويب بن عيا ابن مدين بن إبراهيم على أن ينكحه إحدى ابنتيه.
    فلما قضى موسى الأجل سار بامرأته يريد بيت المقدس، على ما قص الله، عز وجل، من خبره في كتابه العزيز، فبينا موسى يسير في طريقه إذ رأى ناراً، فقصد نحوها، وخلف أهله، فلما دنا منها إذا شجرة تضطرم من أسفلها إلى أعلاها ناراً، فلما دنا منها تأخرت نفسه، ووجل واشتد رعبه، فناداه الله جل وعلا: يا موسى أقبل لا تخف! إنك من الآمنين. فسكن عنه رعبه، وأمره الله أن يلقي عصاه، فألقاها، فإذا هي حية كالجذع، فأمره الله أن يأخذها، فصارت عصا.
    وبعثه الله تعالى إلى فرعون، وأمره أن يأتيه، ويدعوه إلى عبادة الله، فعظم ذلك في قلب موسى، فقال الله: إني آمرك إلى عبد من عبيدي بطر نعمتي وأمن مكري، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لو لا العدل والحجة التي وضعتها بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار تغضب لغضبه السموات والأرض.

    فقال: اللهم اشدد عضدي بأخي هارون، وإني قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون! فقال له الله: قد فعلت ذلك، فاذهب أنت وأخوك بآياتي، فأخرجا بني إسرائيل! هذا أوان إخراجي إياهم من الرق والعبودية. فرد موسى امرأته إلى أبيها، وصار إلى فرعون هو وأخوه هارون، وأعلمه ما بعثه الله به، وخبر بني إسرائيل، فعظم سرورهم، وعلموا أن يوسف صدقهم. ثم ساروا إلى باب فرعون، وعليه مدرعة صوف، وفي وسطه حبل ليف، وفي يده عصا، فمنع من الدخول، فضرب الباب بالعصا، فانفتحت الأبواب، ثم دخل، فقال لفرعون: أنا رسول رب العالمين، بعثني إليك لتؤمن به، وتبعث معي بني إسرائيل. فأعظم فرعون ذلك، فقال له: إيت بآية نعلم بها صدقك! فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيم قد فتح فاه، وأهوى نحو فرعون، فسأل موسى أن ينحيه عنه، ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء من غير سوء برص.
    وكان فرعون أراد أن يصدقه، فقال له هامان: أما في عبيدك، أيها الملك، من يعمل مثل هذا؟ فأحضر السحرة من جميع البلاد، وخبروا بخبر موسى، فأقاموا حيناً يعملون من جلود البقر حبالاً مجوفة وعصياً مجوفة، ويزوقونها، ويصيرون فيها الزيبق، ثم أحموا المواضع التي أرادوا أن يلقوا فيها الحبال والعصى، ثم جلس فرعون، وأحضره، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فلما حمي الزيبق تحرك، ومشت الحبال والعصى، فألقى موسى عصاه، فأكلت ذلك كله، حتى لم يبق منه شيء، ونكص السحرة، فقتل فرعون من قتل منهم.
    وبعث الله موسى بآيات إلى فرعون: العصا، ثم اليد التي خرجت من جيبه بيضاء، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم وموت الأبكار، فلما اتصل بهم هذا قال له فرعون: إن كشفت عنا الرجز آمنا وأخرجنا معك بني إسرائيل. فكشف الله عنهم، ولم يؤمنوا.
    وأمر الله موسى أن يخرج بني إسرائيل، فلما أرادوا الخروج طلب جسد يوسف بن يعقوب ليحمله معه، كما أوصى يوسف بني إسرائيل، فأتته شارح بنت آشر بن يعقوب، فقالت: تضمن لي البقاء حتى أدلك عليه؟ حتى ضمن ذلك لها فصارت به إلى موضع من النيل، فقالت له: هو ها هنا! فأخذ موسى أربع صفائح ذهب، فصور في واحدة صورة نسر، وأخرى صورة سبع، وأخرى صورة إنسان، وأخرى صورة ثور، وكتب في كل صفيحة اسم الله الأعظم، وألقاها في الماء، فطفا تابوت الحجارة الذي كان فيه جسد يوسف، وبقيت في يد موسى صفيحة واحدة فيها صورة ثور، فوهبها لشارح بنت آشر، و حمل التابوت.
    وقفل موسى ببني إسرائيل، وهم ستمائة ألف إنسان بالغ، واتبعه فرعون وجنوده، فغرقهم الله جميعاً، وكانوا ألف ألف فارس، وقيل هبط جبريل، وفرعون وأصحابه يحاولون الدخول أثرهم، وإذ قد نزل جبريل بعد أن لم يجزع من خيل فرعون فرس واحد، وكان تحت جبريل مهره، وكان تحت فرعون فرس طويل الذنب، فدخل جبريل البحر، فنظر فرس فرعون إلى مهرة جبريل، فاقتحم أثرها البحر، وتبعه أصحابه فغرقوا كلهم، أعني فرعون وجميع أصحابه، وانطبق البحر عليهم، وصار موسى إلى التيه.
    وجعل بنو إسرائيل يستعجلونه ليدخل إلى الأرض المقدسة، فأوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم أربعين سنة، فأقاموا في التيه، واشتد بهم العطش، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فقام موسى مغضبا، فضرب الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين يشربون منها، فأوحى الله إلى موسى أنك ضربت الحجر قبل أن تقدسني، ولم تذكر اسمي، وأنت أيضاً فلا تخرج من التيه، وأمره أن يبني فيه قبة الزمان، ويجعل فيها الهيكل، ويجعل في الهيكل تابوت السكينة، ويكون هارون كاهن ذلك الهيكل الذي لا يدخله غيره، فجمع غزول نساء بني إسرائيل، فنسجت، وجمع الحلي، وعمل سرادقا طوله مائة ذراع في صدره الهيكل وفي صدر الهيكل تابوت السكينة.

    وكان عمله ذلك في السنة الثانية من خروجه من مصر، وجعل فيه مائدة من ذهب، وجعل للقبة أجراس ذهب، وكلل القبة بالجوهر، وجعل فيها مجمرة ذهب للدخنة، وجعل فيها منارة ذهب مكللة بالجوهر، فكان هارون وحده يدخل القبة ويقدس الله، وموسى على الستر، وسائر بني إسرائيل في السرادق. وكانت غمامة تجلل القبة، ولا تبرحها، وأمرهم الله أن يقربوا قربانهم، وقال لموسى: قل لبني إسرائيل يقربون قربانا سليماً من العيوب من البقر والغنم، ويجعلون شحم القربان، على المذبح، وينضحون الدم أيضاً عليه، وما كان من القربان فهو حل لبني هارون خاصة، حرام على غيرهم، ومن أذنب منهم ذنباً، فليقرب قرباناً لله عند المذبح على قدر ما يجد بقراً، أو غنماً، أو شفنينين، أو فرخي حمام.
    فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يكتب العشر الآيات في لوحي زمرد، فكتبها على ما أمره الله، وهذه العشر الآيات: قال الله: إني أنا الرب الذي أخرجتك من أرض بيت الرق والعبودية، و لا يكون لك إله آخر دوني، ولا تتخذ تمثالاً، ولا صنماً مشبها بي من فوق السماء، ولا تحت الأرض، ولا تسجد لها، ولا تعبدها من أجل أنا الرب الملك القاهر قاضي ديون الآباء عن الأبناء، نقمي على الثلاث والرباع لمبغضي، وأصنع نعمي لمحبي وحافظ وصيتي إلى ألوف الآلاف من المحبين لي، الحافظين لوصيتي.
    لا تحلف باسم الرب كاذبا لأن الله لا يزكي من حلف باسمه كاذباً. واذكر يوم السبت لتطهره، اعمل ستة أيام، واسع في أعمالك كلها، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك و أمتك ونعمك وبهائمك والساكن في قراك، لأنه في ستة أيام خلق الله السماء و الأرض والنجوم وجميع ما فرع في السماء، فلهذا بارك الله اليوم السابع وطهره.
    وأكرم أباك وأمك لتطول أيامك في الأرض التي أعطاكها الرب إلهك. ولا تقتل.
    ولا تزن.
    ولا تسرق.
    ولا تشهد على صاحبك شهادة كاذبة.
    ولا تشته بيت صاحبك ولا زوجة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً من مال صاحبك.
    وصعد موسى طور سيناء فأقام أربعين يوماً، فكتب التوراة، فاستبطأه بنو إسرائيل. فقالوا لهارون: إن موسى قد ذهب، ولا نظنه يرجع، ثم عمدوا إلى حلي نسائهم، فعملوا منها عجلا مجوفا، وكانت الريح تدخله فتخور فيه، فقال الله لموسى: إن بني إسرائيل قد اتخذوا عجلاً وعبدوه من دوني: فدعني أهلكهم. فدعا لهم موسى، وقال يا رب! احفظ فيهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تشمت بهم أهل مصر.
    وهبط موسى من الجبل بعد أربعين يوماً، فلما رأى العجل ورآهم عكوفاً عليه، اشتد غضبه، فألقى الألواح، فكسرها، وأخذ برأس أخيه هارون، فنظر إلى العجل يخور، فكسره وسحقه، حتى صيره كالتراب، وذرأه في الماء، وقال لبني لاوي: جردوا سيوفكم واقتلوا من قدرتم عليه ممن عبد العجل! فجرد بنو لاوي سيوفهم، وقتلوا في ساعة واحدة خلقاً عظيماً، وقال الله لهم: أبيدوا من اتخذ إلها غيري. وأمر الله موسى أن يعد بني إسرائيل، ويجعل على كل سبط رجلاً خيراً، فاضلاً، وكان عددهم ممن بلغ العشرين سنة، فما فوقها إلى الستين، ممن يحمل السلاح: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً، وكان عدة إياهم بعد خروجهم من مصر بسنتين، فكان رئيس بني يهوذا نحشون بن عمينذاب، وعدد من معه من سبطه أربعة وسبعون ألفاً وستمائة رجل.
    ورئيس بني يشاجر نثنيل بن صوعر، وعدد من معه أربعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل.
    ورئيس سبط زبلون الياب بن حيلون، وعدد من معه سبعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. ورئيس سبط بني روبيل اليصور بن شذياور، وعدد من معه سبعة وأربعون ألفاً وخمسمائة رجل.
    ورأس بني شمعون شلوميال بن صوري شذاي، وعدد من معه تسعة وخمسون ألف رجل وثلاثمائة رجل.
    ورأس بني كاذ اليسف بن دعوال، وعدد من معه خمسة وأربعون ألفاً وستمائة وخمسون رجلاً.
    ورأس بني إفرائيم اليشمع بن عميهوذ، وعدد من معه أربعون ألفاً وخمسمائة رجل. ورأس بني منشا جمليال بن فداصور، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً ومائتا رجل. ورأس بني بنيامين أبيذان بن جذعوني، وعدد من معه خمسة وستون ألفاً وأربعمائة رجل. ورأس بني دان أخيعازر بن عميشذاي، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة رجل.

    ورأس بني آشر فجعيال بن عنحرن، وعدد من معه أحد وأربعون ألفاً وخمسمائة ورجل. ورأس سبط نفتالي أخيرع بن عينان، وعدد من معه ثلاثة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. وكان بنو لاوي خدام قبة الزمان وحرسها، فلم يدخلوا معهم، وكانوا مخصوصين بالكرامة والقدس، وخدمة قبة الزمان والتطهير، فهذا عدد بني إسرائيل واسم رئيس كل سبط منهم، وما كان معه من سبط على ما في السفر الرابع من التوراة.
    وأمر الله، سبحانه، موسى أن يقول لرؤساء أسباط بني إسرائيل أن يقرب كل عظيم منهم قرباناً فكان قربان، كل رجل منهم صحفة فضة من مائة وثلاثين مثقالاً، ومصفاة فضة من سبعين مثقالاً، وملء الصحفة سميذ ملتوت بدهن، ومدهن ذهب من عشرة مثاقيل مملوءاً طيباً، وثوراً، وكبشاً، وحملاً حولياً، وحولية من المعزى، وكان الذبح الكامل ثورين وخمسة أكبش وخمسة جداء وخمسة حملان حولية.
    وأمر الله، عز وجل، موسى أن يقول لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة صفراء مسلمة لا عيب فيها، ثم يأخذ دمها فيرشه على حبال قبة الزمان، ثم يحرقها وجلدها، ثم ليأت رجل آخر، فليجمع الرماد، وليصيره في موضع، فإذا أراد أحد أن يطهر، فليجعل في الماء من ذلك الرماد، فيكون طهوراً.
    وأقام موسى وبنو إسرائيل في التيه دهراً، وكان طعامهم المن، وكان المن مثل حب الكسبرة يطحنونه بالأرحاء ويجعلونه أرغفة، فيكون طعامهم طيباً أطيب من كل شيء، وكان ينزل عليهم بالليل، ويجمعونه بالنهار، فضجوا وبكوا، وجعلوا يقولون: من يطعمنا لحماً؟ أما تذكرون ما كنا نأكل بمصر من النون، والقثاء، والبطيخ، والكراث، والبصل، والفوم؟ فاشتد غم موسى لذلك، وجعلوا يقولون: أطعمنا لحماً! فقال موسى: اللهم إني لا أقوى على بني إسرائيل! فأوحى الله إليه أني مطعمكم لحما، فبعث لهم السلوى، وأعلمهم الله أنه يخرجهم إلى الشام، فبعث موسى إلى الشام بيوشع ابن نون وغيره إلى أرض بني كنعان ليأتوه بخبرها، فقالت بنو إسرائيل: لا طاقة لنا بحرب الجبابرة.
    وأذن الله لموسى أن ينتقم من أهل مدين، فوجه باثني عشر ألف رجل من بني إسرائيل، فقتلوا جميع أهل مدين، وقتلوا ملوكهم، وكانوا خمسة ملوك، أوى، ورقم، وصور، وحور، وربع، وقتل بلعام بن باعور في الحرب، وكان نبياً، فأشار على ملك مدين أن يوجه بالنساء على عسكر بني إسرائيل، حتى يفسدوهم، فغضب موسى من ذلك، فأمر الله موسى أن يقسم تلك الغنائم بين بني إسرائيل، ويأخذ منهم من كل خمسين واحدا، فيجعله لله يدفعه إلى ولد هارون، ثم أمره الله أن يوجه بني إسرائيل إلى الشام يقاتلون من بها، فوجه جيشاً عظيماً، فجعلوا يسيرون قليلاً قليلاً، وينزلون، ويقولون: إنا نخاف الجبارين فأقاموا بجبل ساعير، فقال الله تعالى لموسى: إن بني إسرائيل عصوا أمري، فليشتروا الطعام بالثمن، وليخضعوا الآن لمن كان يخضع لهم.
    وكان ذلك بعد أن قتل موسى سيحون ملك الأموري واستباح أرضه.
    ولما كان في سنة الأربعين من مقامهم في التيه، وهي برية سينا، أوحى الله إلى موسى: إني قابض هارون إلي، فاصعد به الجبل لتأتي ملائكتي فتقبض روحه! فأخذ موسى بيد هارون أخيه، فلما صعد به الجبل لم يكن معه إلا اليعازر بن هارون، فلما صار على الجبل إذ سرير عليه ثياب، فقال له موسى: البس يا أخي هذه الثياب المطهرة، التي أعدها الله لك، لتلقاه فيها، فلبسها هارون، ثم تمدد على السرير فمات، وصلى عليه موسى. فلما لم ير بنو إسرائيل هارون. ضجوا، وقالوا: أين هارون؟ قال لهم موسى: قبضه الله إليه، فاضطربوا.
    وكان هارون محبباً فيهم، لين الجانب لهم، فرفعه الله لهم على السرير، حتى رأوا وجهه، فعلموا أنه قد مات، وكانت سنو هارون يومئذ مائة وثلاثاً وعشرين سنة، وكان له من الولد أربعة: نادب، وأليهو، واليعازر، وإيتمر، وتوفي في حياته نادب، وأليهو، وبقي اليعازر، وإيتمر.
    وصار اليعازر مكان هارون يقدس في قبة الزمان. ودعا موسى يوشع بن نون. وقال له: بين يدي بني إسرائيل سر، وشد قلبك فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض بني كنعان التي ورثهم الله، وهذه التوراة ادفعها إلى كهنة بني لاوي، الذين كانوا يقومون بتابوت السكينة، ووقروا مقام الله.

    واحفظوا وصاياه، التي بينها لكم في التوراة، وأوصاهم أن يتبعوا ما فيها، وبرك عليهم. وكان مما أوصى الله عز وجل به لبني إسرائيل على لسان موسى أن قال لهم: اذكروا اليوم الذي قمتم فيه قدام الله إذ قال الله لي: اجمع هذا الشعب قدامي، فأسمعهم كلامي ليخشوني أيام حياتهم، فقمتم في أسفل الجبل، والجبل يتوقد ناراً إلى قلب السماء، وكلمني الله من جوف النار، فسمعتم الصوت، ولم تروا الشبه، وأوصاكم الله أن تتعلموا العشر الآيات. وأوصاني أن أعلمكم السنن والقضاء، فتعملوا بذلك في الأرض التي تصيرون إليها، فاحتفظوا بأنفسكم ولا تصنعوا أصناما مما يشبه ذكرا، ولا أنثى، ولا شيئاً مما يدب على الأرض، ولا مما يكون في البحر، ولا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء فتعبدوا النجوم! إن الله قد أقسم لا أدخل الأرض الصالحة، فأنا ميت بهذه الأرض، ولست أعبر الأردن، ولكنكم ستعبرون وتصيرون إلى الأرض الصالحة، التي جعلها الله لكم ميراثاً، فلا تضلوا ميثاق الله ربكم الذي واثقكم به، فتصنعوا الأصنام، ولا تعملوا أعمال السوء قدام إلهكم لو قد صرتم إلى الأرض الصالحة، فتوشكوا، إن عصيتم أن تهلكوا، وتفرقوا بين الشعوب، وإن عبدتم ما تعمله أيدي البشر من خشب وحجارة لا يبصرون، وتدعون، فلا يسمع لكم دعاء، إن الله الرحيم بكم يسمع أصواتكم، وإن من سمع من الله مثل الذي سمعتم، ورأى مثل الذي رأيتم، لا ينبغي أن يعصي الله، لقد رأيتم ما صنع الله بأهل مصر، وأنتم تنظرون، فإن الله هو الرب الذي ليس غيره، الذي بصركم ناره، وأسمعكم صوته، وأحب آباءكم فاجتبى خلوفهم، وأهلك لكم قوماً كانوا أعظم وأشد منكم، وإن الله سيدخلكم الأرض الصالحة، ويجعلها ميراثاً لكم، فاحفظوا سننه التي أوصاكم بها وأمركم بها ليحسن إليكم وإلى خلفكم من بعدكم، ويكثر أيامكم في الأرض، اقبلوا وصية الله التي أمركم بها لا تزيغوا عنها يميناً ولا شمالاً، واسلكوا كل طريق أوصاكم بها ربكم ليحسن إليكم. أحبوا الله من كل قلوبكم ومن همكم ومالكم، وقصوهن على أولادكم، وأتموها، واتلوها في بيوتكم، اجعلوها علامة بين أعينكم، واكتبوها في منازلكم، إن الله سيعطيكم قرى عظاماً لم تبنوها، وبيوتاً مملوءة من الخير لم تملأوها، وآباراً مطوية لم تحفروها، وكروماً، وزيتوناً لم تغرسوها، فلا تنسوا الله، واخشوه، واعبدوه، واحلفوا باسمه، ولا تتبعوا إلهاً آخر.
    احذروا غضب الله الذي يبيدكم عن وجه الأرض، ولا تخونوا الله، واقبلوا أمره، واعملوا خيراً وصدقاً.
    اذكروا إذ كنتم عبيدا لفرعون، فأخرجكم الله بيد شديدة، وآيات معجزات عظام ساقت فرعون وأصحابه إلى الهلكة، وأنتم تنظرون.
    إن الله يقول لكم سأعطيكم البلاد الصالحة وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم، وأظفركم بالجبارين، والجرشيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرازيين، والحوبيين، والنابلسيين، هؤلاء السبع الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد، فإذا ظفركم الله بهم، فاضربوهم، وارجموهم، ولا ترحموهم، ولا تعطوهم ميثاقاً، ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة، فيزيغون أولادكم عني، فيعبدون إلها غيري، فيشتد عليكم غضبي، فأبيدكم عاجلاً، ولكن اكسروا أصنامهم، واعقروا مذابحهم، واهدموا أنساكهم، وأوقدوها! إنكم إن سمعتم وصيتي، وعملتم بقضاياي، فسأحفظ لكم نعمكم والميثاق الذي واثقت آباءكم، وأكثركم، وأثمر زرعكم وماشيتكم.
    اجعلوا لله نصيباً في أموالكم، فواسوا منه اليتيم، والأرملة، والمسكين، والضعيف، والساكن معكم الذي لا زرع له.
    إذا قضيتم بين اثنين، فاعدلوا، ولا تأخذوا الرشا، فإن الرشوة تعمي عيون الحكام، ولا تغرسوا شجرة عند مذبح، ولا تذبحوا قربانا فيه عيب من ثور ولا كبش، واقتلوا من يعمل الأصنام التي تعبد من دون الله، وإذا بلغكم أن أحداً يسجد للشمس والقمر والنجوم، أو شيء من الأنوار، فافحصوا عنه، فإذا علمتم صحته، فارجموه بالحجارة حتى يموت. ولا تقبلوا في الأحكام الموجبة للقتل شهادة واحد، ولكن شهادة شاهدين، أو ثلاثة، وإذا شهد الشهود على من يجب عليه القتل، فليبد الشهود فليبسطوا أيديهم إلى الذي يقتل، فإذا أشكل عليكم الحكم، فارجعوا إلى الأحبار والكهان.

    ومن قتل رجلا خطأ، ولم يرده، فليفر من ولي الدم حتى لا يدركه. ولا تسفكوا دم بريء، أيما رجل قتل رجلاً بريئاً تعمداً، فليقتل، ولا تقتلوا أحداً حتى تقوم عليه شهادة عند الحبر، والقاضي، فإن وقف القاضي على أن أحدا شهد بزور فعل بالشاهد ما أراد أن يفعله بالمشهود عليه، والنفس بالنفس، والعين بالعين، واليد باليد، والرجل بالرجل.
    وإذا أردتم قتال قوم فأتيتم قريتهم، فأدعوهم إلى السلم، فإن أجابوكم، فاجعلوا عليهم ضريبة، فإن لم يسلموا قتلتم كل من يحمل السلاح، و لا تفسدوا شجرها.
    وقال الله عز وجل لموسى: إذا خرجت لقتال عدوك، فأمكنك الله منهم، فرأيت في السبي امرأة، وأحببت أن تتخذها لنفسك، فأدخلها إلى بيتك، واكشف عن رأسها، وقص أظفارها، وانزع عنها ثيابها التي سبيت فيها، وأقعدها في بيتك ثلاثة أشهر تبكي على أبيها وأمها، ثم استحلها، فإن كرهتها بعد أن تمسها، فأخرجها، ولا تبعها، ولا تأخذ لها ثمنا بعد أن وقعت عليها.
    وأيما ابن عصى أباه، ولم يطعه، ولم يقبل أمره، فليخرجه أبوه إلى شيوخ سبعة، فيرجموه حتى يذهب الشر والفظيعة منكم، ويحذر أمثاله من بني إسرائيل.
    وإذا وجد أحد منكم ضالة قد ضلت من صاحبها من نعجة، أو ثور، أو حمار، فليردها على صاحبها، فإن لم يجده، فليحبسها في بيته حتى يحضر صاحبها.
    ولا تلبسوا ثوباً منسوجاً بقطن وصوف جميعاً، واصنعوا خيوطاً في أطراف أكسيتكم.
    وأيما رجل قذف امرأته ورماها بفجور، فلم يصح عليها، فليغرم مائة درهم، وتكون امرأته آخر الدهر، وإن كان ما قذفها به حقاً، فلترجم، وأيما رجل وجد يزني بامرأة لها زوج فليقتلا كلاهما.
    وأيما رجل غلب امرأة على نفسها، فليقتل الرجل، وأي رجل وقع على جارية تكون في حجر أبيها، فافتضها، وأحبها، فليعط أباها خمسين مثقالاً فضة، ولتكن امرأته آخر الدهر، ولا يخل سبيلها.
    ولا يحل لرجل أن يمس امرأة قد مسها أبوه، ولا ينظر إلى عورتها، ولا يدخل الرجل الجنب مسجداً من مساجد الله ولا تأكلوا ربا لفضة، ولا ذهب، وإذا نذرتم نذراً، فلا تؤخروا قضاءه، وأوفوا بالعهد، إذا عاهدتم، ولا تنقضوا العهد، فإن الله يحب من وفى بعهده.
    اعتزلوا من كان به برص، وتباعدوا منه، ولا تحبسوا أجر الأجير، ولا تأخذوا أبا بذنب ابنه، ولا ابنا بذنب أبيه، وأدوا زكاة أموالكم وثمراتكم إلى الحبر قرباناً، وأعطوا الفقراء، والأرامل، واليتامى، والمساكين، وبني السبيل.
    وإذا دخلتم الأرض الصالحة، فاعملوا مذبحاً للقدس من حجارة مستوية، فليقل أحبار بني إسرائيل: ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.
    ملعون من يحيف في القضاء على المساكين، واليتيم، والأرملة.
    ملعون من يضاجع امرأة أبيه.
    ملعون من يضاجع دابة.
    ملعون من يضاجع أخته وأمه.
    ملعون من يضاجع أم امرأته.
    ملعون من يأكل لحم أخيه سراً.
    ملعون من يأخذ رشوة في قتل نفس زكية ظلماً.
    ملعون كل من لم يعمل بوصية الله.
    ثم قال لهم موسى: قد بلغتكم وصايا الله، وعرفتكم أمره، فاتبعوا ذلك، واعملوا به، فقد أتت لي مائة وعشرون سنة، وقد حانت وفاتي، وهذا يوشع ابن نون القيم فيكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإنه يقضي بينكم بالحق، وملعون من خالفه وعصاه.
    وكانت بين وفاة هارون إلى أن حضرت موسى الوفاة سبعة أشهر، ثم صعد موسى إلى جبل نابون، فنظر إلى الشام، وقال الله له: هذه الأرض التي ضمنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب أن أعطيها خلفهم، و قد أريتكها بعينك، ولكنك لن تدخلها! فمات موسى في ذلك الموضع، فقبره يوشع بن نون، ولم يدر أين قبره.
    أنبياء بني إسرائيل وملوكهم بعد موسىوكان موسى لما حضرته وفاته أمره الله، عز وجل، أن يدخل يوشع بن نون، وكان يوشع بن نون من شعب يوسف بن يعقوب، إلى قبة الزمان، فيقدس عليه، ويضع يده على جسده لتتحول فيه بركته، ويوصيه أن يقوم بعده في بني إسرائيل، ففعل موسى ذلك، فلما مات موسى قام يوشع بعده في بني إسرائيل، ثم خرج من التيه بعد وفاة موسى بيوم، وقال بعض أهل الكتاب: ثلاثين يوماً، وصار إلى الشام، و فيها الجبابرة، ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان أول من ملك منهم السميدع بن هوبر، فصار من أرض تهامة إلى الشام يريد غزو بني إسرائيل، فوجه إليه يوشع بن نون من قتله، ثم قام بعده من بني أبيه جماعة، فقتلهم يوشع.

    وسار يوشع حتى انتهى إلى البلقاء، فلقي رجلا يقال له بالق، وبه سميت البلقاء، فجعلوا يخرجون يقاتلونه، فلا يقتل منهم رجلا واحدا، فسأل عن ذلك: فقيل له: إن في مدينته امرأة منجمة تستقبل الشمس بفرجها: ثم تحسب، فإذا فرغت عرضت عليها الحيل، فلا يخرج يومئذ من حضر أجله، فصلى يوشع ركعتين، ثم دعا أن يؤخر الله الشمس ساعة، فأخرت له ساعة، فاختلط عليها حسابها، فقالت لبالق: انظر ما كانوا يسألونك، فأعطهم، فإن حسابي قد اختلط على! قال: تصفحي آلتك، واخرجي منها، فإنه لا يكون صلح إلا بقتال! فتصفحت الحيل على غير علم منها لاختلاط الأمر عليها، فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم، فسألوا يوشع الصلح، فأبى عليهم، حتى يدفعوا إليه المرأة، فقال بالق: لا أدفعها! فقالت: ادفعني إليه! فدفعها إليه، وصالح، فقالت له: هل تجد فيما أنزل على صاحبك قتل النساء؟ قال لا! قالت: فإني قد دخلت في دينك. قال: فاسكني في مدينة أخرى فأنزلها مدينة أخرى.
    ولما افتتح يوشع بن نون البلقاء أكثر بنو إسرائيل الزنا، وشرب الخمور، ووقعوا على النساء، وكثرت فيهم الفاحشة، فعظم ذلك على يوشع بن نون وخوفهم الله، وحذرهم سطوته، فلم يحذروا، فأوحى الله، عز وجل، إلى يوشع بن نون: إن شئت سلطت عليهم عدوهم، وإن شئت أهلكتهم بالسنين، وإن شئت بموت حثيث عجلان. فقال: هم بنو إسرائيل، ولا أحب أن تسلط عليهم عدوهم، ولا يهلكوا بالسنين، ولكن بموت حثيث. فوقع فيهم الطاعون فمات في وقت واحد سبعون ألفاً.
    وكانت أيام يوشع في بني إسرائيل، بعد موسى بن عمران، سبعاً وعشرين سنة.
    ثم كان على بني إسرائيل بعد يوشع بن نون دوشان الكفري، فلبث فيهم ثماني سنين، ثم كان بعد دوشان عثنايل بن قنز، أخي كالب، من سبط يهوذا ابن يعقوب، أربعين سنة، وقد كان كثر ظلم بني إسرائيل وعتوهم، فسلط الله عليهم كوشان جبار مؤاب، فلما ملك عثنايل قتل كوش، وملك أربعين سنة.
    ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم عقلون ملك مؤاب، خمس عشرة سنة، ثم تابوا، فبعث الله لهم رجلا يقال له أهود بن جيرا، من سبط إفرائيم، فقتل عقلون ملك مؤاب، وكان يقاتل بشماله ويمينه، فسموه ذا اليمينين، وهو أول من طبع السيوف ذوات الحدين، وكانت قبله ذوات أقفية، وفي زمانه بنيت البنية بالشام، وفي خمس وعشرين سنة من ملك أهود تم الألف الرابع.
    ثم ارتدت بنو إسرائيل بعد أهود، فسلط الله عليهم يابين ملك كنعان، عشرين سنة، وكان سمحر بن عانات قد ملك على بني إسرائيل قبل، فقتل من أهل فلسطين ستمائة رجل، ثم إن الله رحمهم، فبعث إليهم رجلاً يقال له بارق بن أبينعم، من سبط نفتالي، فملكهم أربعين سنة.
    ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم أهل مدين سبع سنين، ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث إليهم رجلا يقال له جدعان بن يواس، من سبط منشى، وكان صالحاً، وهو الذي بيت أهل مدين، فقتل منهم مائتي ألف وخمسة وثمانين ألفاً، وملكهم أربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه ابيملك بن جدعون، وكان ابن سوء، وهو الذي قتل سبعين أخا كانوا له، فقتلته امرأة، ورمته بحجر من فوق باب المدينة، فشدخته، وكان ملكه ثلاث سنين.
    ثم ملك تالع بن فواي، من سبط يشاجر، فأقام ثلاثاً وعشرين سنة، ثم ملك جلعاد من سبط منشى، وكان له ثلاثون ابناً يركبون معه على ثلاثين مهراً، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم بني عمون، سبع عشرة سنة، وفي زمانه بنيت مدينة صور بالشام، وسامهم سوء العذاب.
    ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث لهم رجلاً من أهل جلعاد اسمه يفتح، فقتل من بني إسرائيل من آل إفرائيم اثنين وأربعين ألفاً، وكان من سبط منشى، وكان ملكه ست سنين، ثم كان عليهم أبيصان الذي يدعى نخشون، سبع سنين، ثم كان عليهم إيلان، من سبط زبولون، عشرين سنة، ثم كان عليهم عكران ثماني سنين، ثم كان عليهم الانكساس، فسامهم سوء العذاب، وسلط عليهم أشد التسليط، أربعين سنة، ثم كان عليهم شمسون عشرين سنة، ثم لبثوا ليس عليهم أحد اثنتي عشرة سنة، ثم كان عليهم عالي الأحباري أربعين سنة.

    ثم كان عليهم شمويل النبي، وهو الذي ذكره الله تعالى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فلما قالوا لشمويل النبي: سل الله أن يبعث لنا ملكاً حتى يقاتل عدوه، وقال: إنه لا وفاء لكم، ولا صدق نية، وقالوا: بلى! قال: فإن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، واسمه شاول، قالوا: والله ما هو من سبط الملك والنبوة، ما هو من ولد لاوي، ولا يهوذا، وإنما هو من سبط بنيامين. قال شمويل: فليس لكم أن تختاروا على الله، فدعا شمويل شاول، وهو طالوت، فقال له: إن الرب أمرني أن أبعثك ملكاً على بني إسرائيل، والله يأمرك أن تنتقم من عمليق، فأهلك عمليق وكل ما له، ولا تبق له شيئاً من رجل، ولا امرأة، ولا صبي رضيع، ولا عجل، ولا شاة، ولا بعير، ولا حمار.
    وأوصى الجماعة كلها بهذا، وكان عددهم أربعمائة ألف مقاتل، فأقبل شاول إلى عمليق، فقتل أصحاب عمليق، وأسر أغاغ ملك العمالقة، فأخذه حيا، فاستبقاه، وامتنعوا من إتلاف شيء من البقر، والغنم، وأبقوا لأنفسهم، فأوحى الله تعالى إلى شمويل: أن شاول عصاني، ولم يهلك عمليق، وكل ما حواه ملكه. فقال شمويل لشاول: إن الله قد غضب من فعلك! فدعا شاول باغاغ، فقال: ما أمر الموت؟ قال: الذبح! فذبحه، ثم قال شاول لشمويل: امض معي لنسجد بين يدي الله تعالى، فامتنع، فأمسك رداء شمويل فخرقه، فقال شمويل: كذا ينخرق ملكك.
    وارتفعت النصرة عن شاول، ودخلته ريح سوء، وكان يضطرب، ويتغير لونه، فقال له أصحابه: لو أتيت بإنسان حسن الصوت، من الشعارير، يقرأ عليك، إذا دخلتك هذه الريح السوء! فأرسل إلى إيشا: ابعث إلى داود ابنك، فبعث به إليه، فكان إذا خنق شاول أخذ داود قيثارة بيده، وتكلم عليها، فيذهب عنه الريح السوء. ثم اجتمع الحنفاء الذين كانوا في وقت شاول، فقاتلهم، وهم عبدة النجوم، وخرج إليهم شاول في جموعه، فخرج منهم رجل طوله خمس أذرع يقال له غلياث، وهو جالوت، فقال: يبرز لي منكم رجل واحد، فقال داود لشاول: أنا أبرز إليه! فقال لداود: انطلق، والرب يكون معك! فأخذ عصا وخمسة أحجار، وخرج إلى غلياث، فلما رآه احتقره، فقال له: إلى كلب خرجت بعصا وحجر؟ فقال له: إلى أشد من الكلب، ثم أخذ حجراً من مخلاته ورماه به حتى غاب الحجر في جبهة جالوت، وسقط، فسعى إليه داود، فأخذ سيفه، وحز رأسه، وأخذ راجعاً، فانهزم عسكر غلياث، واشتد سرور بني يهوذا، فاغتم شاول وحسد داود، فطرده عنه، وصيره رئيسا على ألف، ونفاه بمكان بني يهوذا، وتزوج ميخل بنت شاول.
    وكان شاول يريد قتل داود، فكان يوجهه يقاتل الحنفاء عبدة النجوم، فيفتح الله عليه، فهم أن يقتله بغير حيلة، فهرب داود، فجاء إلى شمويل النبي، فخبره بخبر شاول، ولم يزل شاول يحاول قتل داود حتى هرب، فمر باخيش ملك جات، فلما رآه عرفه، فتحيل عليه داود حتى أطلقه، فصار إلى سارع، فنزلها. ولما علم شاول أنه قد فاته قتل الكهنة الذين كانوا يقدسون، وقال: قد علمتم به ولم تخبروني، ثم خرج شاول في طلب داود، حتى أدركه، فدخل داود مغارة، فلما صار شاول عند المغارة نزل لحاجته، فدخل المغارة، وهو لا يعلم أن داود فيها، فقام داود، فتوارى، فقال له أصحابه: يا داود أقتله! فقد أمكنك الله منه. قال: ما كنت لأفعل.
    وتوفي شمويل النبي، فاجتمعت بنو إسرائيل، وأعظموا ذلك، وناحوا عليه ثلاثين يوماً. وخرج شاول يقاتل الحنفاء، والتحم القتال بينهم، فهزموا بني إسرائيل، وقتل منهم خلق عظيم، وكان داود بن إيشا يقاتل العماليق مع قومه من ولد يهوذا، فلما انهزم عن شاول جميع بني إسرائيل، قام هو وولده يحارب، ثم قال لصاحبه الذي يحمل سلاحه: خذ سيفك فاقتلني به لئلا يقتلني هؤلاء القلف، و يلعبوا بي، فلم يفعل، فأخذ شاول سيفه، فأقامه، ثم ألقى نفسه عليه، فمات، وقتل أولاده الثلاثة، وكان ملك شاول أربعين سنة.
    داود

    ولما مات شاول، وهو طالوت، انصرف داود من قتال عمليق إلى سقلاغ، فأقام بها يومين، ثم أتاه الخبر بموت شاول، فحزن لذلك، وأظهر جزعاً، وملك داود على بني يهوذا، وكان لداود عدة نسوة قد ولدن منه أولاداً، فكان أكبر أولاده: أمنون، وأمه شيتموم، والثاني دالويا بن إربيخايل، والثالث أباشلوم بن موخا، والرابع أرنيا بن دحات، والخامس سفاطيا بن ابيطال، والسادس ناتان بن اغلا، فهؤلاء الستة من ست نسوة، و لم تلد ميخل بنت شاول، فهربت من داود إلى أصحاب شاول.
    واجتمعت بنو إسرائيل من الأسباط على تمليك داود، فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة، إلى أن ملكته جميع أسباط بني إسرائيل. ونزل داود مدينة صيون، وهي بيت المقدس، وبنى بها منزلاً، وتزوج النساء، فولد له بعد أن ملك: سمون، وسوباب، ونوتان، وسلامان، ويابار، واليشوس، ونافاق، ويافيا، واليشماس، والسنايا، واليفلات، فكثر أولاد داود، وعز ملكه، وأعظمته بنو إسرائيل.
    وسمع الحنفاء أن داود قد ملك على بني إسرائيل، واجتمعوا لقتاله، فقاتلهم داود، فقتل فيهم قتلا كثيراً، حتى أبادهم، فلما فرغ من قتالهم حمل تابوت السكينة على عجل، حتى أدخله مدينة بيت المقدس، وصنع طعاماً لبني إسرائيل، لرجالهم ونسائهم.
    وكان في ذلك العصر ناتان النبي، فأوحى الله إلى ناتان: قل لعبدي داود: ابن لي بيتاً، فقد ملكتك على بني إسرائيل، بعد أن كنت في صيرة الغنم، و قتلت أعداءك، فقال ناتان النبي لداود، فعظم في قلب داود، ويقال: إن ناتان كان ابن داود.
    وقاتل داود الحنفاء فهزمهم، وقاتل أهل مؤاب وهزمهم، وقاتل اددازار ملك سوبا فهزمه، وأخذ له ألف مركب وسبعة آلاف من الخيل.
    واجتمع أهل الشام ودمشق مع اددازار ليقاتلوا داود، فقتل منهم اثنين وعشرين ألفا، واستحوذ على الأرض، فكان أهل الشأم جميعاً عبيداً له، ثم اجتمعوا جميعاً على محاربة داود، فوجه إليهم يؤاب ابن أخته، وابيشا أخاه، ثم خرج داود حتى عبر نهر الأردن، فقتل من القوم أربعين ألفاً، وقتل أشان رأس القوم ثم وجه يؤاب ابن أخته لقتال بني عمون إلى أسافل الشأم، ورجع إلى بيت المقدس، فقام يمشي على سطح له إذ نظر إلى برسبا بنت إليات، امرأة أوريا بن حنان الشطي، فسأل عنها، فأخبر بحالها، وأنها امرأة أوريا بن حنان، فوقعت في قلبه، فأرسل إلى أوريا بن حنان، فأقدمه عليه، ثم كتب إلى يؤاب ابن أخته أن قدم أوريا أمام الخيل يحارب، فقدمه يؤاب، فقاتل، فقتل.
    وأرسل داود إلى امرأته، فتزوجها وأحبلها، فأرسل الله إليه الملكين، على ما قص في كتابه جل وعز، وأرسل إليه ناتان النبي فقال له، يا داود، ألم يأمرك الله أن تعدل في القضاء، وتحكم بالحق، ولا تتبع الهوى؟ قال: بلى! قال: فهذان رجلان يسكنان مدينة واحدة أحدهما غني والآخر فقير، وكان للغني مواش وبقر كثيرة، ولم يكن للفقير شيء إلا رخلة واحدة صغيرة رباها، فشبت معه ومع أولاده، فكانت تأكل من طعامه، وتشرب من كأسه، وتنام في حجره. ونزل بالغني ضيف، فلم يأخذ من بقره وغنمه شيئاً، وأخذ رخلة الفقير، فهيأها لضيفه، فغضب داود، وقال: أهل أن يموت، ويغرم بتلك الرخلة سبعة أضعاف. فقال ناتان النبي لداود: أنت الرجل الذي فعلت هذا! إن الرب إلهك يقول لك: أنا الذي جعلتك ملكاً على بني إسرائيل، بعد أن كنت راعي غنم، وأنقذتك من يدي شاول، وأعطيتك بيت إسرائيل، وبيت يهوذا، ففعلت هذا، فلأنتقمن منك بشر ولدك، ولأسلطنه عليك وعلى نسائك! فعظم ذلك على داود، فقال له ناتان: إن الله قد تجاوز عن سبيلك، فلن تموت، ولكنه ينتقم منك بشر بنيك، وأعلمه الله أن ولده الذي ولدته المرأة يموت، فجزع داود، واشتد جزعه، واشتكى الصبي، فلما اشتدت علته صام وقام ليصلي ويبكي، ويتمرغ بالشعر على الأرض، فلما توفي الصبي أعظم خول داود أن يخبروه بذلك، حتى سمع بوشوشتهم، فعلم، فغسل وجهه، ولبس ثيابه، وجلس في مجلسه، ودعا بطعامه، وقال: إنما كنت أحزن قبل أن يهلك: فأما الساعة، فإن حزني لا يرده إلي بل أنا أذهب إليه. ثم واقع برسبا، فحملت غلاماً، فسماه سليمان.

    ثم إن أبيشالوم بن داود قتل أخاه أمنون، وذلك أنه اتهمه بأخت له من أمه، فقتله، وخرج على داود، وكان أبيشالوم عظيم الجسم، كثير الشعر، فبعث إليه داود من رده حتى رجع، ثم خرج عليه ثانية، فهرب منه داود ماشياً على رجليه، حتى صعد عقبة طور سينا، وبلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز وزيت، فأكل منه، ودخل أبيشالوم مدينة أبيه، وصار إلى داره وأخذ سراري أبيه، فوطئهن، وقال: ملكني الله على بني إسرائيل، وخرج ومعه اثنا عشر ألفاً، فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن، فلما جاز اجتمع إليه جماعة من أصحابه ولفيف من القرى، فوجه يؤاب ولده ليحارب أبيشالوم، وقال له: خذه لي حياً صحيحاً! فخرجوا، وحاربوه، وكان أبيشالوم على بغل، فدخل تحت شجرة بطم، فتعلق بها، فاندقت عنقه، ورماه يؤاب بثلاثة أسهم، وطرحه في جب، فلما أتى داود الخبر جزع عليه جزعاً شديداً، ورجع داود إلى موضعه.
    وخرج على داود بعد ذلك أزلا، ومعه جبابرة، فحاربهم، فقتلهم، فلما قتلهم، وأنقذه الله منهم، قام يقدس الله ويسبحه، فقال في تقديسه: إياك يا رب أعبد، ولك أخلص محبتي، فإنك قوتي وعدتي، وملجأي و مخلصي، بعد أن أحاطت بي سكرات الموت، وقربت مني، واحتوت على أحداث الهلكة، فدعوتك في ضيقي واستعنت بك يا إلهي، فسمعت صوتي فاستنقذتني من الذين اعتوروني واضطهدوني، وكنت ناصري، فأخرجتني من الضيق إلى الفرج، فما أعدلك يا رب، وأنصرك للمتوكلين عليك، لأنه لا رب غيرك، فألهمني القوة، وبصرني طريق الرشد، وثبت قدمي بين يديك، وشدد ساعدي، ولا تقدر على أعدائي، وهب لي طاعة بني إسرائيل، وصيرهم خولاً خاضعين، وألهمني شكرك.
    وكان داود إذا سبح الله بهذا الكلام رفع صوتاً حسناً لم يسمع مثله، وكان إذا قرأ الزبور قال: طوبى لرجل في سبيل الأثمة لم يسلك، وفي مجالس المستهزئين لم يجلس، ولكن هواه سنة الله، وبسننه تعلم الليل والنهار، يكون كشجرة غرست على شط الماء، تؤتي أكلها كل حين، ولا يتناثر ورقها، وليس كذلك المنافقون في القضاء، ولا الخاطئون في مجمع الأبرار، من أجل أن الله يعلم سبيل الأبرار وسبيل الأئمة يبطل.
    ثم يقول: سبح لله من في السماء، وليسبحه من في العلى، ولتسبحه ملائكته كلها، ولتسبحه جنوده كلها، ولتسبح له الشمس والقمر، ولتسبح له الكواكب والنور، وليسبح لاسم ربنا الماء الذي فوق السماء، وذلك بأنه قال لكل شيء: كن فكان، وهو خلق كل شيء وبرأه، وجعلهن دائمات الأبد، وقدر كل شيء منهن تقديراً، وجعل لهن حداً ومنتهى لا يجاوزنه، فليسبح الله من في الأرض، والنار، والبرد، والثلج، والجليد، فإنه خلق الريح العاصف بكلمته.
    سبحوا الله تسبيحاً حديثاً في مسجد الصديقين، وليفرح إسرائيل بخالقه، وأن بني صيون يكبرون ربكم، ويسبحون اسمه بالدف، والطبل، والكبر، يكبرونه من أجل أن يسر الله بشريعته، ويعطي المساكين النصر، ليشيد الصديقون بالكرامة، ويسبحون على أسرتهم، ويكبرون الله على حناجرهم، وسيف ذو شفيرتين بأيديهم، لينتصروا على الشعوب ويتعظ الأمم فيوثقوا ملوكهم في القيود، وذوي الكرامة بسلاسل من حديد، ليفعل بهم القضاء الذي كتب، والحمد لله لكل الصديقين.
    سبحوه في مقدسة، سبحوه في سماء عزته، سبحوه بحوله وقوته، سبحوه بعظمته، سبحوه بصوت العزف، سبحوه بالقيتار والكبر، سبحوه بالبرابط والزمر، سبحوه بالأوتار والكبر الطويل الخليلات، سبحوه في صلاصل السمع، سبحوه بالأصوات العلى والنداء، سبحوا ربنا تسبيحاً خالصاً، كل نفس بنفس. ثم يقول داود في آخر الزبور: إني كنت آخر إخوتي وعبد بيت أبي، وكنت راعي غنم أبي، ويدي تعمل الكبر، وأصابعي تقص المزامير، فمن ذا الذي حدث ربي عني؟ هو ربي، وهو الذي سمع مني وأرسل إلى ملائكته فأنزعني من غنم إخوتي، هم أكبر مني وأحسن، فلم يرضهم ربي، فبعثني للقاء جنود جالوت، فلما رأيته يعبد أصنامه أعطاني النصر عليه، فأخذت سيفه، فقطعت رأسه.

    ثم إن بني إسرائيل وقعوا في داود، فاشتد غضب الله عليهم، فأمر الله داود أن يحصي عدد بني إسرائيل، فأحصاهم، فوجدهم ثماني مائة ألف رجل بطل، وعدد بني يهوذا خمسمائة ألف رجل، فبعث الله حيرام النبي إلى داود، وقال له: قل لداود اختر واحدة من ثلاث: إما أن يكون جوع سبع سنين، وإما أن تدفع إلى أعدائك فيعزونك ثلاثة أشهر، ويطرحونك من سلطانك، وإما أن يكون موت شديد ثلاثة أيام؟ فضاق داود لذلك، وقال: ربنا أولى بنا من خلقه! فسلط الله عليهم الموت، فمات في ساعة واحدة سبعون ألف رجل، فقال داود: يا رب! إني أنا أسأت، فما ذنب هؤلاء الذين يشبهون البهائم؟ فأوحى الله إليه: أن ابن لي هيكلاً في بيدر اليبوساني، فصعد داود الجبل، حتى اشترى البيدر بخمسين أستاراً، وابتنى هناك مذبحا، فكف الموت عن بني إسرائيل.
    وكان داود قد أسن وضعف بدنه، وكان له ابن يقال له أدونياس، فاستمال يؤاب صاحب حروب داود وقوماً من قواد داود، وقال لهم: قد كبر الملك داود، وأنا أولى أن أقوم مقامه، فلما بلغ داود ذلك أرسل إلى سادوق الكاهن وناتان النبي، وقال لهم: أجمعوا أهل المملكة، واحملوا سليمان ابني على بغلتي، وأجلسوه على منبري، فقد جعله الله رأساً على بني إسرائيل، والله يعظم ملكه، ويرفع شأنه! فمضوا مع سليمان حتى علا منبر داود، واجتمع عليه أهل المملكة، فقال داود: هكذا أعلمني الله أن يملك سليمان ابني، وعيناي تنظران إليه، وكان سليمان يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة.
    ثم اشتدت على داود علته، فأوصى سليمان، وقال: أنا ماض في سبيل كل أهل الأرض، لا ثمان، فاعمل بوصايا الرب إلهك، واحفظ مواثيقه وعهوده ووصاياه التي في التوراة المنزلة على موسى بن عمران، ومات داود وله مائة وعشرون سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
    سليمان بن داودولما قبض الله، عز وجل، داود قام مكانه سليمان نبياً، وملكاً، فسخر الله له الجن والإنس، والرياح والسحاب، والطير والسباع، وآتاه ملكاً عظيماً، كما قص في كتابه العزيز.
    ومال يؤاب صاحب حروب داود، وقوم من أصحابه، مع أخوه سليمان، ليفسدوا على سليمان ملكه، فقتلهم سليمان من عند آخرهم، وقتل أدونياس أخاه، فصلح الملك لسليمان، وثبت سلطانه، وتزوج بنت فرعون ملك مصر، ودخل بها في بيت داود.
    وجمع سليمان بني إسرائيل ليقرب قربانا، فقرب ألف ذبيحة، فرأى سليمان في ليلة كان الرب يقول له: سل ما أحببت لأعطيك! فقال سليمان: أنت يا رب أنعمت على داود النعمة العظيمة. وصيرت عبدك سليمان ملكا بعده، فأعطني قلباً حكيماً لأحكم بين عبادك بالعدل، وأفهم الخير والشر. فقال الله: لأنك طلبت هذا الأمر، ولم تطلب مالاً، ولم تطلب أنفس أعدائك، ولم تطلب طول العمر لكنك طلبت حكمه تفهم بها الحكم والقضاء. فقد استجبت لك، وأعطيتك قلباً فهيماً، بصيراً إلى الأمر الذي لم يكن لأحد قبلك، ولا يكون بعدك مثلك، وأعطيتك ما لم تطلب من الأموال، والعتاق، والكرامة، وأنت إن سلكت في طريقي، وحفظت شرائعي ووصاياي، كما حفظ داود أبوك، أطيل عمرك، وأعظم أمرك. فكان سليمان يجلس للقضاء، ويحكم بين بني إسرائيل، فيعجبون لحكمه، وعدل قضائه، وقوله، وحسن لفظه، وكان لسليمان قواد، ووزراء، وكتاب، ووكلاء، فكان وزيره زابود بن ناتان، وعلى حروبه بنايا بن بويادع، وخازنه أبيشار، وعلى الخراج أدونيرام بن عبدا، و كان له اثنا عشر وكيلاً على نفقاته يقوم كل وكيل بنفقة شهر، وكانت نفقاته على أسباط بني إسرائيل، وكانت وظيفته كل يوم ثلاثين كراً من الدقيق السميذ، وستين كراً من دقيق الخشكار، وعشرة ثيران معلوفة، وعشرين ثورا، ومائة كبش، وكان له أربعون ألف أرى معلق عليها دوابه، وكان معجبا بالخيل، وقد قص الله من خبره فيها ما قص.
    وابتدأ سليمان في بناء بيت المقدس، وقال: إن الله أمر أبي داود أن يبني بيتاً، وإن داود شغل بالحروب، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبني البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه، ولبسه الخشب من داخل، وجعل الخشب منقوشاً، وجعل له هيكلاً مذهباً، وفيه آلة الذهب، ثم أصعد تابوت السكينة، فجعله في الهيكل، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:06 am

    ولما وضع سليمان تابوت السكينة قام بين يدي الهيكل، وقد اجتمعت جموع بني إسرائيل، فسبح الله وقدسه، وأثنى عليه بآلائه إذ ملكه على بني إسرائيل، وأجرى بناء بيت المقدس على يده، وكان يجتمع إليه بنو إسرائيل، ويقول: تبارك وتعالى الرب الذي وهب الراحة لإسرائيل، وتمت كلماته الصالحة، فلم يسقط شيء منها مما قاله لعبده موسى، ونسأل الله ربنا أن يكون معنا كما كان مع آبائنا، ولا يرفضنا، ولا يخذلنا، بل يقبل بقلوبنا إليه لنسلك الطريق التي يرضاها، ونحفظ سننه، وعهوده، ووصاياه، وأحكامه التي أمر آباءنا بها، ويجعل قولنا قريباً منه، ورضيا عنده، وقلوبنا سالمة له، حافظة لأمره.
    ولما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس عمل عيداً، وقرب فيه الذبائح فأقام أربعة عشر يوما يفعل ذلك، وقد جمع إليه بني إسرائيل، فإذا فرغ من إطعامهم قام، فقدس الله، وسبحه، فلما فرغ أوحى الله إليه: أني قد سمعت صلاتك، ورأيت قربانك، فإن دمت على طاعتي وصلت لك ملكك ولولدك بعدك، فقدست هذا البيت آخر الدهر، وإن حدتم عن أمري، أو نقض أحد منكم عهودي سلبته ملكه، وخربت هذا البيت إلى آخر الأبد.
    وقدمت بلقيس ملكة سبإ على سليمان، وكان من أمرها ما قد قصة الله في كتابه العزيز، ولما قدمت عليه جاءته بجمال موقرة ذهبا وعنبرا، وقالت له، لقد بلغني من أمرك ما لم أصدق به حتى رأيته، ثم انصرفت إلى بلدها.
    وكان سليمان معجباً بالنساء، فتزوج، فيما يقال، سبعمائة امرأة، فيهن بنت فرعون ملك مصر، وعدة من نساء بني عمون، وعدة من نساء أهل مؤاب جبابرة الشام، ومن أدوم، ومن الجثانيين، وهم الصيدانيون، ومن الشعوب التي قد كان الله نهى عن مخالطتهم، وكان له سبعمائة، واتخذت امرأة من نساء سليمان تمثالاً على صورة أبيها، فلما رأى ذلك غيرها من نسائه فعلن كفعلها، فعاتب الله سليمان، وقال له: تعبد الأصنام في بيتك، ولا تغضبك، لأسلبنك ملكك، ولأنزعن العز من يدك، ولأفرقن الأسباط من ولدك، ولكني أحفظ أباك داود فيك، فلا أسلبك الملك بقية عمرك، ولا أسلب جميع الأسباط، ولكني أدع في يدك سبطين لئلا يذهب ذكرك.
    وإن سليمان لجالس على كرسيه المعمول من الذهب، المكلل بالجوهر، إذ انتزع خاتمه من يده، فأخذه شيطان، من الشياطين فوضعه في يده، ونحي سليمان عن كرسيه، وجلس عليه الشيطان، ونزع ثياب سليمان ولبسها، فمر سليمان على وجهه وعليه جبة صوف، وفي يده قصبة، فكان يستطعم، ويقول: أنا ملك بني إسرائيل، سلبني الله ملكي، فيسخر منه من يسمعه، وينكرون قوله، فكان يقف على الصيادين الذين على البحر، فيطلب منهم ما يطعمونه.
    وأنكر آصف صاحب سليمان وغيره أمر ذلك الشيطان، ولم يروه يذكر الله، فهرب الشيطان، وطرح الخاتم في البحر، وأقام سليمان مسلوب الملك أربعين يوماً، فإنه بعد أن كملت له الأربعون يمشي على شط البحر حائراً، إذ قال له بعض الصيادين، تعال يا مجنون، فخذ هذا الحوت، فأعطاه حوتا قد تغيرت رائحته، فصار به إلى البحر، فغسله، و شق بطنه، وإذا في داخله حوت آخر، فشق بطن الحوت الآخر، فإذا خاتمه في جوفه، فلبسه، وحمد الله، ورد الله عليه ملكه.
    وأقام ملكاً على بني إسرائيل، وعلى ما وصف الله، جل وعز، من ملكه، وتسخيره له الطير والجن و الإنس يعملون له أعاجيب الصنعة، ويشيدون له البنيان، ويطيعونه في كل أمره، أربعين سنة، ثم توفي، ودفن إلى جانب قبر داود، وكان لسليمان يوم ملك اثنتا عشرة سنة، فمات وله اثنتان وخمسون سنة.
    رحبعم بن سليمان والملوك بعدهولما مات سليمان بن داود ملك رحبعم بن سليمان، فاجتمع إليه أسباط بني إسرائيل، و قالوا له: إن أباك قد كان غلظ علينا، واستعبدنا استعباداً شديداً، فخفف أنت الآن عنا! فقال لهم رحبعم: انصرفوا عني اليوم وجيئوني بعد ثلاثة أيام، فانصرفوا عنه، فاستشار المشيخة من أصحاب أبيه، فقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تحسن إجابة بني إسرائيل، وتلين لهم القول، حتى تملكهم بعد اليوم، فترك قول مشيخة بني إسرائيل، واستشار أحداثاً نشئوا معه، فقالوا له: نرى أن تغلظ القول لهم ليستقيم لك أمرهم، كما استقام لأبيك.

    فلما كان اليوم الثالث اجتمعوا إليه ليسألوه عما ذكروا له، فقال لهم: إن خنصري أثقل من إبهام أبي. فلما قال لهم هذا انصرفوا عنه، وتفرقوا في قراهم، فلم يبق معه من أسباط بني إسرائيل إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين.
    وملكت الأسباط العشرة عليهم يوربعم بن ناباط، وكان قد هرب من سليمان إلى مصر، فلما اختلفت بنو إسرائيل على رحبعم بن سليمان قدم، وجمع رحبعم ابن سليمان من سبط يهوذا، وسبط بنيامين، ألف رجل يطلب محاربة يوربعم ابن ناباط ومن معه.
    وأوحى الله إلى سمعيا النبي أن قل لرحبعم ومن معه: لا تحاربوا بني إسرائيل! فسمعوا قوله، وانصرفوا، وكان ملك رحبعم سبع عشرة سنة.
    وملك يوربعم بن ناباط على العشرة الأسباط من جبل فاران، فقالت بنو إسرائيل: إنا نريد أن نقرب قرابيننا إلى الله، فكره يوربعم أن يصعدوا إلى بيت المقدس، فيستميلهم آل يهوذا، فيدخلوا في ملكهم، فقال ليست بكم حاجة إلى الصعود، وأنا أعمل لكم مذبحاً، فعمل لهم مذبحاً، وصير فيه عجلاً من ذهب، وقال: هذه آلهتكم التي أصعدتكم من أرض مصر، واتخذ للعجل أحباراً، وعمل عيداً، وقرب الذبائح للعجل، فأتاه نبي بني إسرائيل، فوعظه، فمد يده إليه فيبست، فقال له: ادع الله أن يرد يدي! فدعا له النبي، فرجعت يد يوربعم، وأقام يوربعم على طريقة لم يرجع عنها، وأهلك الله يوربعم، وكل من كان معه، وقتله ودمر عليه، وكان ملكه عشرين سنة.
    ثم ملك إبيام بن رحبعم، فسلك سبيل أبيه، وأظهر الفواحش، وارتكب القبيح، فبتر الله عمره، وكان ملكه ثلاث سنين، ثم ملك اسا، فأظهر العمل بطاعة الله تعالى، ومنع الزنا، وعاقب عليه وعلى الريب، وأخرج من كان يعبد الأصنام من مملكته، حتى طرد أمه لما بلغه أنها تعبد الأصنام.
    وفي زمانه صار زارح ملك الحبشة، وأقبل ملك الهند إلى بيت المقدس، فبعث الله عذاباً، فأهلك زارح وملك الهند، وكان ملك اسا أربعين سنة، ويقال إن بني إسرائيل أوقدوا من خشب أسلحة أصحاب الهند، لما قتلهم اسا، سبع سنين.
    ثم ملك بعده ابنه يهوشافط، فسلك سبيل أبيه، وكان ناسكاً صديقاً، فملك العشرة الأسباط، وكان مرضياً في جميع بني إسرائيل، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
    ثم ملك بعده يورام ابنه، فكفر، ورجع قومه إلى عبادة الأصنام، وتزوج امرأة أطغته وأضلته، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك أحزيا، بعد أبيه، فسلك سبيله، وكان العشرة الأسباط قد اعتزلت، وملكت منهم ملكاً يقال له يهو، فحارب أحزيا، حتى قتل من قومه مقتلة عظيمة، ثم سلط الله عليهم ملك سورية، ففعل بهم مثل ذلك، وكان ملك أحزيا سنة واحدة.
    ثم ملكت عتلايا بنت عمري، فقتلت ولد داود، حتى لم يبق من نسل داود أحد إلا غلام يقال له يواش، وأخذته امرأة من بني عمه، يقال لها يوشبع عمته وكان يرضع.
    وأفسدت عتلايا، وأظهرت الفواحش، وأفسدت البلاد، واجتمعت بنو إسرائيل إلى يويدع الأحباري، فاشتكوا إليه الذي تفعل بهم، فاجتمعوا، فقتلوها، وكان ملكها سبع سنين.
    وملك بعد عتلايا الغلام الذي كان بقي من بني داود، وهو يواش، وكان يوم ملك له سبع سنين، فصلحت أمور بني إسرائيل، وظهر فيهم العدل، وارتفعت الفواحش، وتركوا عبادة الأصنام، ثم ظلم في آخر عمره، واستعمل القتل، حتى قتل أولاد الأحبار، وقتل ولد يويدع الأحباري الذي ملكه، ثم مات وكان ملكه أربعين سنة، وهدم من سور بيت المقدس أربعين ذراعاً، وانتهب كل ما كان فيه.
    ثم ملك بعده أمصيا، وكان يشبه مذهب يواش في أول أمره، ثم ظلم وجار، وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
    ثم ملك عزيا بن أمصيا، وكان في زمانه أشعيا النبي، فأحسن عبادة الله، والعمل بطاعته، غير أنه أخذ المجمر ودخل الهيكل، ولم يكن ذلك يصلح لأحد إلا للأحبار، فعاقبه الله فبرص، وعاقب أشعيا النبي لأنه لم ينهه عن ذلك، فنزع الله منه النبوة، حتى مات عزيا، وكان ملكه اثنتين وخمسين سنة.
    ثم ملك يوتام لما برص أبوه، وكان ملكه ست عشرة سنة.

    ثم ملك احاز ابنه، فكفر، فعبد الأصنام فسلط الله عليه تغلتفلسر ملك بابل، فسباه، واستعبده، وضرب عليه الجزية، وأخرب مدينة العشرة الأسباط بفلسطين، وهي سبسطية، وسبى أهلها، فدخل بهم إلى أرض بابل، ثم أرسل إلى المدينة قوماً من قبله، فعمروها وبنوها، فهم الذين يدعون السامرة بفلسطين والأردن، فلما سكنوها سلط الله عليهم الأسد، ثم بعث إليهم رجلاً من أحبار بني إسرائيل، من ولد هارون، يعلمهم دين بني إسرائيل، فلما دخلوا في دينهم تركهم الأسد، وصاروا سامرة فقالوا: لا نؤمن بنبي إلا بموسى، ولا نعرف إلا ما في التوراة، وجحدوا نبوة داود، وأنكروا البعث والنشور، وامتنعوا من مجالسة الناس والاختلاط بهم، ومن تناول شيء منهم، ومن حمل الموتى، ومن حمل ميتاً اعتزل سبعة أيام، يعتزل في الصحراء لا يختلط بهم، ثم يغتسل، وكذلك من تناول شيئاً لا يحل له، ولا يؤوون الحائض منازلهم، وجعلوا رئيسهم من ولد هارون يسمونه الرئيس، ويتوارثون على التوراة، فليس هم في بقعة من بقاع الأرض إلا بجند فلسطين، وكان ملك احاز ست عشرة سنة.
    ثم ملك بعد احاز حزقيل ابنه، فأحسن عبادة الله تعالى، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وكان في زمانه سنحاريب بن سراطم ملك بابل، فسار إلى بيت المقدس، فسبى بقية الأسباط، فرشاه حزقيل بثلاثمائة قنطار فضة، وثلاثين قنطار ذهب، على أن ينصرف، فأخذها، ثم غدر، فلما فعل ذلك دعا الله أشعيا النبي وحزقيل على سنحاريب، فأجاب الله دعاءهما، فسلط الله على أصحاب سنحاريب القتل، فقتل منهم في ساعة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفاً، فرجع سنحاريب مهزوماً، حتى صار إلى بابل، وقتله ولده شر قتله. وأمر الله سبحانه أشعيا النبي أن يعلم حزقيل أنه ميت، فليوص، فلما أعلمه الله ذلك دعا الله أن يزيد في حياته، حتى يهب له ولدا يملك بعده، فزاد الله في حياته خمس عشرة سنة، حتى ولد له ولد.
    وفي أيام حزقيل رجعت الشمس نحو مطلعها خمس درجات، وكان ملك حزقيل سبعاً وعشرين سنة.
    ثم ملك بعد حزقيل منشا بن حزقيل، فكفرت بنو إسرائيل في أيامه، وكفر، وعبد الأصنام، و كان شر ملك في بني إسرائيل، وبنى للأصنام مسجداً، واتخذ صنماً له أربعة أوجه، فنهاه أشعيا، فأمر به فنشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه، فسلط الله على منشا قسطنطين ملك الروم، فحاربه، وأسره، فأقام في الأسر، زماناً ثم تاب إلى ربه، فرده الله إلى ملكه، فكسر الصنم، وهدم بيوت الأصنام، وكان ملكه خمساً وخمسين سنة، وأيام أسره عشرين سنة.
    ثم ملك أمون بن منشا، فأعاد الأصنام حتى كثرت، وكان ملكه ست عشرة سنة.
    ثم ملك بعده يوشيا ابنه، فأحسن عبادة الله، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وقتل سدنتها، وأحرقهم، وكان في العدل وحسن عبادة الله تعالى وجميل مذهبه يشبه داود وسليمان، وكان ملكه ثلاثين سنة.
    ثم ملك يهواخز ابنه ثلاثة أشهر، ثم أسره فرعون الأعرج ملك مصر، ووضع على بلاده الخراج، وصير عليها ملكاً من قبله، وأخذ يهواخز، فذهب به إلى مصر فمات هناك.
    ثم ملك بعده يويقيم أخوه، وهو أبو دانيال النبي، وفي عصره سار بخت نصر ملك بابل إلى بيت المقدس، فقتل في بني إسرائيل، وسباهم، وحملهم إلى أرض بابل، ثم صار إلى أرض مصر، فقتل فرعون الأعرج ملكها. وأخذ بخت نصر التوراة، وما كان في الهيكل من كتب الأنبياء، فصيرها في بئر وطرح عليها النار، وكبسها، وكان في ذلك العصر إرميا النبي، فلما علم بقدوم بخت نصر، أخذ تابوت السكينة، فخبأه في مغارة حيث لم يعلم به أحد، ولم ينج من بخت نصر إلا إرميا.
    وكان عدة من حمل بخت نصر إلى أرض بابل ثمانية عشر ألفاً، فيهم ألف نبي، وملكهم يحنيا بن يهوياقيم، فمنهم اليهود الذين بالعراق، ويقال إن إرميا النبي قال: اللهم! إني لأعلم من عدلك ما لا يعلمه غيري، فعلام سلطت بخت نصر على بني إسرائيل؟ فأوحى الله إليه: أني إنما أنتقم من عبادي، إذا عصوني، بشرار خلقي.

    ولم يزل بنو إسرائيل في الأسر تحت يد بخت نصر حتى تزوج امرأة منهم يقال لها ملحات أخت زربابل، بنت سلتائيل، فسألته أن يرد قومها إلى بلدهم، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بلدهم ملكوا عليهم زربابل بن سلتائيل، فبنى مدينة بيت المقدس، وبني الهيكل، وأقام على بنائه ستاً وأربعين سنة، وفي زمانه مسخ الله بخت نصر بهيمة أنثى، فلم يزل ينتقل في أجناس البهائم سبع سنين، ثم يقال إنه تاب إلى الله، عز وجل، فأحياه بشراً، ثم مات.
    وكان زربابل الذي أخرج التوراة وكتب الأنبياء من البئر التي دفنها فيها بخت نصر، فوجدها بحالها لم تحترق، فأعاد نسخ التوراة و كتب الأنبياء وسننهم وشرائعهم، وكان أول من رسم هذه الكتب.
    وكانت شريعة بني إسرائيل توحيد الله، والإقرار بنبوة موسى وهارون ابني عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكان صيامهم في كل سنة ستة أيام أولها في رأس السنة، وهم يعدون رأس السنة أول يوم من تشرين، فإذا مضى من تشرين عشرة أيام صاموا يوما واحدا، وهو اليوم الذي نزلت فيه الألواح الثانية على موسى بن عمران. ويصومون لعشر خلون من كانون الآخر يوماً واحداً، وهو يوم نجى الله بني إسرائيل من هامان.
    ويصومون لسبعة عشر يوماً من تموز يوماً واحداً، وهو اليوم الذي نزل فيه موسى من الطور. ويصومون لتسعة أيام من آب يوماً واحداً، وهو اليوم الذي كان فيه خراب بيت المقدس.
    ويصومون لثلاثة أيام من تشرين، وهو الذي قتل فيه قدريا بن أخيقام.
    ولهم أربعة أعياد في السنة: عيد الفطير، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى ببني إسرائيل من مصر، فحملوا عجينهم، ولم يختمر، فأكلوه فطيراً، وهو لخمسة عشر يوماً من نيسان، وأيامه سبعة أيام، ثم عيد لستة عشر يوماً يمضي من حزيران، وهو يوم أنزلت التوراة على موسى، فذلك يوم عيد عندهم معظم، ثم عيد أول يوم من تشرين، وهو رأس السنة عندهم، ثم عيد في خمسة عشر يوماً من تشرين، وهو عيد المظلة، ومعناها أن الله، عز وجل، أمر موسى أن يأمر بني إسرائيل أن يبنوا عريشا بالسعف والجريد، فهم يقيمون ثمانية أيام يتخذون في كنائسهم ظلالات من السعف والجريد.
    و صلواتهم ثلاث صلوات: صلاة بالغداة، وصلاة عند غروب الشمس، وصلاة بعد الغروب، فإذا وقف أحدهم للصلاة جمع عقبيه، وجعل يده اليمنى على كتفه اليسرى، ويده اليسرى على كتفه اليمنى، وهو مطرق، يركع خمس ركعات لا يسجد فيهن، ثم يسجد في الآخرة سجدة واحدة، ويسبح بمزامير داود في أول الصلوات، ويقرأ في صلاة المغيب من التوراة، ومعتمدهم في سننهم وشرائعهم على كتب علمائهم، و هي الكتب التي يقال لها بالعبرانية، وهي اللغة التي صارت لهم لما عبروا البحر.
    وسنتهم في مناكحهم ألا يتزوجوا إلا بولي وشاهدين، وأقل مهورهم للبكر مائتا درهم، وللثيب مائة درهم بهذا الوزن لا يكون أقل منه، والطلاق مباح متى كرهوا، ولا يكون إلا بشهود. وسنتهم في ذبائحهم ألا يأكلوا ما ذبحه غيرهم، وأن يكون الذي يتولى الذبائح عالماً بالشرائع، ثم يأتي بالسكين كلما أراد أن يذبح بها، إلى الكاهن، فإذا رضي حدها أطلق له الذبح بها، و إلا أمره أن يحدها، أو يأتي بغيرها، فإذا ذبح لم يقربها من حائط تضطرب عليه، فإذا فرغ منها نظر إلى الحلقوم، فإن وجده لم يرغ الغلصمة، ووجد الذبح مستوياً لم يؤكل حتى ينظر إلى الرئة، فإن وجد بها عيبا، أو علة، أو شقا، أو بثرة، أو ورماً، لم تؤكل الذبيحة، فإن سلمت الرئة نظر إلى الدماغ، فإن وجد فيه علة لم تؤكل، وإن سلم الدماغ نظر إلى القلب، فإن وجد فيه علة لم يأكله، وإن سلم ما في البطون والثرب من الشحم، فلا يأكله، ولا العروق، وأكل ما سوى ذلك.
    وتاريخهم على حسابهم، من خراب بيت المقدس، فعلى هذا يحسبون، ولا بد لهم في كل يوم أن يذكروا اليوم الذي خرب فيه بيت المقدس، وكم له إلى يومه ذلك.
    المسيح عيسى بن مريم وكانت حنة امرأة عمران قد نذرت إن وهب الله لها ولداً أن تجعله، لله فلما ولدت مريم دفعتها إلى زكرياء بن برخيا بن بشوا بن نحرائيل بن سهلون بن أرسوا بن شويل بن بعود بن

    موسى بن عمران، وكان كاهن المذبح، فلم يزل، كذلك حتى إذا كملت سبع عشرة سنة بعث الله إليها الملك ليهب لها ولدا زكيا، فكان من خبرها ما قد قصة الله، عز وجل، حتى اشتملت على الحمل، فلما كملت أيامها طرقها المخاض، على ما قال الله، عز وجل، ووصف من حالها وحاله، وكلامه من تحتها، وكلامه في المهد.
    وكان مولده بقرية يقال لها بيت لحم من قرى فلسطين، وكان ذلك يوم الثلاثاء لأربعة وعشرين يوما خلت من كانون الأول.
    قال ما شاء الله المنجم: كان الطالع للسنة التي ولد فيها المسيح في الميزان ثماني عشرة درجة، والمشتري في السنبلة إحدى وثلاثين دقيقة راجعاً، وزحل في الجدي ست عشرة درجة و ثمانياً وعشرين دقيقة، والشمس في الحمل دقيقة، والزهرة في الثور أربع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء إحدى وعشرين درجة وأربعا وأربعين دقيقة، و عطارد في الحمل أربع درجات وسبع عشرة دقيقة.
    وأما أصحاب الإنجيل فلا يقولون إنه تكلم في المهد، ويقولون: إن مريم كانت مسماة برجل يقال له يوسف من ولد داود، وإنها حملت فلما قرب وضع حملها سار بها إلى بيت لحم، فلما ولدت ردها إلى ناصرة من جبل الجليل، فلما كان في اليوم الثامن ختنه على سنة موسى بن عمران، وقد وصف الحواريون أخبار المسيح، وذكروا حاله، فأثبتنا مقالة واحد واحد منهم، وما وصفوه به، وكان الحواريون اثني عشر من أسباط يعقوب وهم: شمعون بن كنعان من سبط، ويعقوب بن زبدي، ويحيى بن حابر بن فالي من سبط زبلون، وفيلفوس من سبط اشر، ومتى من سبط أشجر بن يعقوب، وسمعي من سبط هرام بن يعقوب، ويهودا من سبط يهوذا بن يعقوب، ويعقوب من سبط يوسف بن يعقوب، ومنسي من سبط روبيل بن يعقوب، وكان دون هؤلاء سبعون رجلاً، وكان الأربعة الذين كتبوا الإنجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، اثنان من هؤلاء الاثني عشر، واثنان من غيرهم.
    فأما متى فإنه قال في الإنجيل في نسب المسيح إيسوع بن داود بن إبراهيم إلى أسفل، حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن ماثن بعد اثنين وأربعين أبا، ثم قال: وكان يوسف بعل مريم، وإن المسيح ولد في بيت لحم من قرى فلسطين، وملك فلسطين يومئذ هيرودس، وإن قوماً من المجوس ساروا إلى بيت لحم، وعلى رؤوسهم نجم يهتدون به، حتى رأوه، فسجدوا له، وإن هيرودس ملك فلسطين أراد أن يقتل المسيح، وإن يوسف أخرجه وأخرج أمه إلى أرض مصر، فلما مات هيرودس رده، فأنزله ناصرة جبل الجليل، وإنه لما كمل المسيح وبلغ تسعاً وعشرين سنة صار إلى يحيى بن زكرياء ليصطنعه، فقال له يحيى بن زكرياء: أنا أحوج إليك منك إلي! فقال له المسيح: اترك هذا القول، فإن هكذا ينبغي أن يتم البر، فتركه يحيى، وإن إيسوع خرج بتأييد روح الله إلى البرية فصام أربعين يوماً، فاقترب إليه الشيطان، فقال: إن كنت الآن ابن الله فمر هذه الحجارة أن تصير خبزا! فقال إيسوع: إنه ليس بالخبز وحده يحيا البشر، ولكن بكلمة الله، فحمله، فصيره على جناح الهيكل، ثم قال له الشيطان: فألق نفسك إلى الأرض، فإنك إن كنت ابن الله تكنفتك ملائكته. فقال المسيح: إنه مكتوب لا تجرب الله بك، ثم قال للشيطان: اذهب فأنا لله أسجد وإياه أعبد. فتركه الشيطان وذهب، ثم إن ملائكة الله، جل وعز، اقتربت منه، فجعلوا يخدمونه، ثم إن تلامذته اقتربوا إليه، فجعل يكلمهم بأمثال ووحي، و بغير أمثال. وكان أول ما تكلم به من الإنجيل، على ما في إنجيل متى: طوبى للمساكين القانعة قلوبهم بما عند ربهم، بحق أن لهم ملكوت السماء، طوبى للجياع العطاش في طاعة الله، طوبى للصادقين في قولهم، التاركين للكذب، الذين هم ملح الأرض ونور العالم. لا تقتلوا، وتسخطوا أحدا، وارضوا من سخط عليكم، وصالحوا خصمكم، ولا تزنوا، ولا تنظروا إلى غير نسائكم، فإن كانت عينكم اليمنى تدعوكم إلى الخيانة، فاقلعوها حتى تنجوا بأبدانكم، ولا تطلقوا نساءكم من غير زنية، ولا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، ولا بسمائه، ولا بأرضه، ولا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على عارضك الأيمن، فأقبل إليه بعارضك الأيسر، ومن أراد أن ينزع قميصك، فأعطه أيضا رداءك، ومن سخرك ميلا، فانطلق معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن استقرضك فأقرضه ولا تحرمه.

    قد سمعتم أنه قد قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك! أما أنا فإني أقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلوا من قطعكم، وافعلوا الخير إلى من بغضكم. إن كنتم تحبون الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ لا تظهروا صدقاتكم بين أيدي البشر، لا تعلم شمائلكم بما عملت أيمانكم، لا تراؤوا الناس بصلاتكم، وإذا صليتم فادخلوا بيوتكم، وأغلقوا أبوابكم، ولا يسمعكم أحد، وإذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات يقدس اسمك، ويأتي ملكوتك، تكون مشيئتك كما في السماء وعلى الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واترك لنا الذي علينا كمثل ما نترك نحن لغرمائنا، ولا تدخلنا في تجربة يا رب! ولكن نجنا من الشرير. ولا تظهروا صيامكم للبشر، إذا صمتم لله ربكم، و لا تغيروا وجوهكم ليراكم الناس، فإن ربكم يعلم بحالكم.
    لا تدخروا الذخائر حيث السوس والأرضة الأكلة يفسدن، وحيث اللصوص يحفرون، ولكي تكون ذخائركم عند ربكم الذي في السماء حيث لا سوس يعدو، ولا لص يسرق.
    ولا تهتموا بمعاشكم، ولا ما تأكلون، ولا ما تشربون، ولا ما تلبسون، وانظروا إلى طير السماء لا يزرعن، و لا يحصدن، ولا يجمعن في البيوت، فإن الله يرزقهن، وأنتم أكرم على الله من الطير.
    لا تهتموا لأولادكم، فإنهم مثلكم كما خلقتم خلقوا، وكما رزقتم رزقوا.
    ولا تقل لأخيك أخرج القذى من عينك، وفي عينك أنت جذع، لا تنظروا في عيوب الناس وتدعوا عيوبكم، لا تعطوا القدس ولا اللؤلؤ للخنازير، فتدوسه بأرجلها! سلوا ربكم يعطكم وابتغوا إليه، فإنكم تجدونه رحيماً بكم، واقرعوا بابه يفتح لكم، أما الباب فإنه معرض، والطريق بين، وهو يبلغ الناس التلف، وما أصغر الباب، وأضيق الطريق التي تبلغ الناس النجاة.
    تحفظوا من أهل الكذب الذين يشبهون الذئاب الضارية، كما لا تستطيعون وتقطفون العنبة من الشوك، ولا التين من الحنظل، هكذا لا تجدون شجرة سوء تخرج نباتاً صالحاً، ولا شجرة صالحة تخرج ثمرة سوء.
    كل من يسمع كلامي ثم يفهمه، فإنه يشبه رجلاً حليماً بنى بيته في مكان صلب شديد، فجاء المطر ودرت الأنهار، وارتفعت الرياح فسقط البيت.
    وفي ذلك الزمان كان الملك هيرودس قد أخذ يوحنا فسجنه، وذلك أنه كان يأتي امرأة أخيه فيلفوس، فنهاه يوحنا أن يأتي ذلك، وكان يريد أن يقتله، ويتقي لأنهم كانوا يعظمون يوحنا، فقالت له امرأة أخيه: اقتل يوحنا! فوجه إلى السجن، فقطع رأس يوحنا ووضعه على طبق، واقترب تلاميذه، وأخذوا جثته فقبروها، وجاءوا المسيح فأخبروه، فخرج إلى أرض قفر، وجعل يأمر أصحابه: لا تخبروا أحداً.
    إنجيل مرقس: فأما مرقس فإنه قال في أول إنجيله: إيسوع المسيح ابن الله، كما هو مكتوب في أشعيا النبي: أني مرسل ملاكي قدام وجهك لأصلح سبيلك، وإن يحيى بن زكرياء كان يعمد المعمودية للتوبة، وكان لباسه وبر الإبل، وكان يشد حقوته بغرفة من جلود، وإن المسيح جاءه من ناصرة الجليل يعمده في الأردن، فلما عمده خرجت روح القدس على الماء كالحمامة، وصوت من السماء ينادي، أنت ابني خليلي الذي بك سررت.
    وانصرف إلى جبل الجليل، فإذا قوم يصطادون السمك، فيهم شمعون وأندراوس، فقال لهما: ألحقاني أجعلكما تصطادان البشر! فمضيا معه، فدخل قرية فأبرأ مرضاها وبرصها، وفتح أعين عميان بها، فاجتمع إليه قوم وجعل يكلمهم بأمثال ووحي، ويقول: بحق أقول لكم، لا تذهب القبيلة حتى يذهب السماء والأرض، وكلامي لا يذهب.
    إنجيل لوقا فأما لوقا: فإنه يقول في أول الإنجيل: من أجل أن كثيراً من الناس أحبوا أن يكتبوا القصص والأمور التي عرفناها رأيته يحق على أن أكتب شيئاً علمته بحقه.
    أنه كان في أيام هيرودس الملك كاهن يسمى زكرياء من خدام آل أبيا وامرأته من بنات هارون تسمى اليسبع، وكانا جميعاً بارين قدام الله، عاملين بوصاياه، غير مقصرين في طاعته، ولم يكن لهما ولد، وكانت اليسبع عاقراً، وزكرياء عاقراً قد كبرت سنهما، فبينا زكرياء يكهن الدخنة، فدخل الهيكل، وجماعة خارج الهيكل، فتراءى لزكرياء ملك الرب قائماً عن يمين

    المذبح، فارتعد زكرياء حين أبصره، وحلت عليه الخشية، فقال له الملك: لا ترهبن يا زكرياء! فإن الله قد سمع صلواتك، وأجاب دعاءك، فيهب لك ابنا تسميه يحيى، ويكون لك فيه الخير والفرح، ويكون عظيماً عند الله، ولا يشرب خمراً، ولا سكراً، ويمتلىء من روح القدس، إذ هو في بطن أمه، ويقبل إلى الله بكثير من آل إسرائيل، ويحل عليه الروح الذي حل على الياء النبي ليقبل بقلوب الآباء على أبنائهم، ويكونوا لله شعباً كاملاً.
    فقال زكرياء للملك: كيف لي أن أعلم هذا، وأنا شيخ، وامرأتي كبيرة السن؟ فقال له الملك: إني أنا جبريل القائم بين يدي الله، عز وجل، أرسلني لأبشرك بهذا، فمن الآن، فكن صامتاً لا تتكلم حتى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق، ولم تؤمن بقولي الذي يتم في حينه.
    وكان الشعب قياماً ينتظرون زكرياء، ويتعجبون من لبثه في الهيكل، فلما أن خرج لم يقدر أن يكلمهم، فعرفوا، وأيقنوا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يومىء إليهم إيماء، ولا يتكلم. فلما تمت أيام خدمته انصرف إلى بيته، وحبلت اليسبع امرأته، وأقامت تخفي نفسها أشهراً خمسة، وتقول: هذا الذي صنع إلى الرب في أيام نظره إلي ليمحو عني عاري في البشر.
    ولما كان في الشهر السادس من حمل امرأة زكرياء أرسل الله جبريل الملك إلى جبل الجليل إلى مدينة تدعى ناصرة، إلى فتاة عذراء مملكة برجل يسمى يوسف من آل داود، اسمها مريم، فدخل إليها الملك، وقال لها: السلام عليك أيتها المملوءة من النعمة، أيتها المباركة في النساء! فلما رأته فزعت من كلامه، وجعلت تفكر، وتقول: ما هذا السلام؟ فقال لها الملك: لا ترهبي يا مريم! قد لاقيت ووافيت عند الله نعمة، بحق أنك تقبلين حبلى، وتلدين ابنا، وسميه إيسوع، ويكون عظيما، وابن الأعلى يدعي، ويعطيه الرب إلهه كرسي داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الدهر، و لا يكون لملكه فناء، ولا انقطاع. فقالت مريم للملك: كيف يكون هذا، ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: روح القدس يحل عليك، وهذا الذي يولد منك قدوس، وابن الله يدعى، وهذه اليسبع نسيبتك، فهي أيضاً حبلى بابن، على كبرها، وهذا الشهر هو السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لأنه لا يعجز الله شيء! فقالت مريم: إني أمة الله، فليكن لي كما قلت.
    ودخلت مريم إلى بيت زكرياء، وسألت عن سلامة اليسبع، فلما سمعت امرأة زكرياء كلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من روح القدس، قالت لمريم: مباركة أنت في النساء؟ بحق أنه لما وقع صوت سلامك في مسمعي، بفرح عظيم ارتكض الجنين في بطني.
    وولدت اليسبع امرأة زكرياء ابناً، وختنوه يوم الثامن، وسموه يوحنا، ومن ساعته انفتح فوه، و تكلم وبرك الله تعالى، وامتلأ زكرياء من روح القدس، وقال: تبارك الرب إله إسرائيل، الذي أبلى شعبة، وأطلقهم بالخلاص، وأقام لنا قرن الخلاص من آل داود، كالذي تكلم على السنة أنبيائه الطاهرين.
    ولما كملت لمريم أيامها صعد بها يوسف إلى جبل الجليل، فولدت ابنها البكر، فلفته في الخرق، وأضجعته في الأرى من أجل أنه لم يكن لها مكان حيث كانا نازلين فأتاهم ملك الرب، ومجد الله أشرق عليهم، فخافوه خوفا شديدا، وقال لهم ملك الرب: لا تخافوا، ولا تحزنوا! بحق إني أبشركم بفرح عظيم يعم العالم.
    ثم نسب المسيح من يوسف إلى آدم، وإنه لما تمت له ثمانية أيام أتوا به ليختنوه، كسنة موسى، وسموه إيسوع، وختنوه، وأتوا به إلى الهيكل، وأتوا بذبيحة زوج يمام وفرخي حمام ليقرب عنه، وكان هناك رجل يقال له شمعان من الأنبياء، فلما دنوا من المذبح ليقربوا عنه احتمله شمعان، وقال: قد أبصرت عيناي حنانك، يا رب، فمن الآن فتوفني. وكان أهله يصعدونه في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وكان يخدم العظماء، ويعجبون به لما يرون من حكمته. وإن المسيح لما كملت له ثلاثون سنة دخل إلى الهيكل يوم السبت، وقام ليقرأ كعادته، وأعطى سفر أشعيا النبي، ففتح السفر، فوجد فيه مكتوبا: روح الرب علي من أجل ذلك اصطفاني، ومسحني لأبشر المساكين، وأرسلني لأشفى المنكسرة قلوبهم، ولأبشر المسبيين بالخلاص، والعميان بالبصر، وإن أجبر المنكسر، وأبشر المسيء بالعفو والمغفرة، وإن أبشر بالسنة المتقبلة للرب، وطوى السفر ودفعه إلى الخادم، وتنحى، فجلس، فعجب الناس لفعله، وقالوا: أليس هذا ابن يوسف؟

    إنجيل يوحنا: وأما يوحنا السليح، فإنه يقول في أول إنجيله في نسبة المسيح: قبل كل شيء كانت الكلمة، وتلك الكلمة عند الله، والله كان هو الكلمة، هذه كانت قبل كل شيء وكان بها، كانت الحياة، والحياة هو نور البشر، وذلك الضياء في الظلام، والظلام لم يدركه.
    كان إنسان، كان أرسله الله، اسمه يوحنا، أتى للشهادة ليشهد على النور ليهتدي الناس، ويؤمنوا على يده، ولم يكن هو النور، فإن نور الحق لم يزل يضيء ويبين في العالم، والعالم كان في يده، والعالم لم يعرفه، إلى خاصته أتى وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه، وآمنوا به، فأعطاهم الله سلطاناً ليكونوا يدعون أبناء الله، أولئك الذين يؤمنون باسمه الذي لا من الدم، ولا هو من هوى اللحم، ولا من شهوة المرء ولد، ولكن من الله ولد، والكلمة صارت لحماً وحلت فينا، ورأينا مجدها مجداً كالوحيد الذي من الأب المملوء من النعمة والقسط.
    ويوحنا شهد عليه ونادى وقال: هذا قلت إنه يأتي من بعدي: وقد كان قبلي من أجل أنه أقدم مني، ومن تمامه كلما نلنا نعمة فاضلة بدل النعمة الأولى، لأن التوراة على يد موسى أنزلت، فأما الحق والنعمة فبايسوع المسيح الكلمة التي لم تزل في حضن أبيها.
    فهذا قول الأربعة التلاميذ، أصحاب الإنجيل، في نسبة المسيح، ثم وصفوا بعد ذلك ما كان من أخباره، وأنه أبرأ المرضى والبرص، وأقام المقعد، وفتح عيون العميان، وإنه كان له صاحب يقال له العازر في قرية تدعى بيت عنيا، في ناحية بيت المقدس، وإنه مات، فصير في مغارة، فأقام أربعة أيام، ثم جاء المسيح إلى تلك القرية، فخرجت أختان للعازر، فقالتا له: يا سيدنا إن خليلك العازر قد مات، فحزن المسيح عليه، و قال: أين قبره؟ فأتوا به إلى المغارة وعليها حجر، فقال: نحوا الحجر! فقالوا: قد نتن منذ أربعة أيام! فدنا من المغارة، فقال: رب لك الحمد! إني أعلم أنك تعطي كل شيء، ولكني أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا ويصدقوا إنك أنت أرسلتني، ثم قال للعازر: قم! فقام يجر خماراً عليه، ويداه و رجلاه مشدودة، وقد كان معهم قوم من اليهود، فأمنوا به وأقبلوا ينظرون إلى العازر ويتعجبون منه.
    فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم، فقالوا: إنا نخاف أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، فقال لهم قيافاً، رئيس الكهنة: لأن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره! فأجمعوا على قتله.
    ودخل المسيح إلى أورشليم على حمار، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، وكان يهوذا بن شمعان من أصحاب المسيح، فقال المسيح لأصحابه: إن بعضكم يسلمني ممن يأكل ويشرب معي، يعني يهوذا بن شمعان، ثم جعل يوصي أصحابه، ويقول لهم: قد بلغت الساعة التي يتحول ابن البشر إلى أبيه، وأنا أذهب إلى حيث لا يمكنكم أن تجيئوا معي، فاحفظوا وصيتي، فسيأتيكم الفارقليط يكون معكم نبياً، فإذا أتاكم الفارقليط بروح الحق والصدق، فهو الذي يشهد علي، وإنما كلمتكم بهذا كيما تذكروه إذا أتى حينه، فإني قد قلته لكم، فأما أنا فإني ذاهب إلى من أرسلني، فإذا ما أتى روح الحق يهديكم إلى الحق كله، وينبئكم بالأمور البعيدة، ويمدحني، وعن قليل لا تروني، ثم رفع المسيح عينه إلى السماء، وقال: حضرت الساعة! إني قد مجدتك في الأرض، والعمل الذي أمرتني أن أعمله فقد تممته، ثم قال: اللهم إن كان لا بد لي من شرب هذه الكأس، فهونها علي، وليس كما أريد يكون، ولكن ما تريد يا رب.
    ثم مضى المسيح مع تلاميذه إلى المكان الذي يجتمع هو وأصحابه فيه، وكان يهوذا أحد الحواريين يعرف ذلك الموضع، فلما رأى الشرط يطلبون المسيح ساقهم والذين معهم من رسل الكهنة، حتى وقف بهم على الموضع، فخرج إليهم المسيح، فقال لهم: من تريدون؟ فقالوا: إيسوع الناصري! فقال لهم إيسوع: أنا هو! فرجعوا، ثم عادوا، فقال لهم المسيح: أنا إيسوع الناصري فإن كنتم تريدوني، فانطلقوا بي لتتم الكلمة.
    وكان مع شمعان الصفا سيف فاخترطه، ثم ضرب عبد سيد الكهنة، فقطع يده اليمنى، فقال المسيح: يك شمعان! رد السيف إلى غمده، فإني لا أمتنع من شرب الكأس التي أعطاني ربي. فأخذ الشرط المسيح، وأوثقوه، وجاءوا به إلى قيافا رئيس اليهود، الذي كان أشار بقتله.

    وكان شمعان الصفا يمشي خلفه، فدخل مع الأعوان، فقيل له: أنت من تلاميذ هذا الناصري؟ قال: لا! ولما أدخل المسيح على رئيس اليهود جعل يكلمه، والمسيح يجيبه بما لا يفهمه، فضربه بعض الشرط على فكيه، ثم أخرجوا المسيح من عند قيافا إلى فرطورين، فقال له: أنت ملك اليهود؟ فقال له المسيح: أمن نفسك قلت هذا أم أخبرك آخرون عني؟ وجعل يكلمه، ويقول: إن ملكي ليس من هذا العالم.
    ثم إن الشرط أخذوا إكليلاً من أرجوان، فوضعوه على رأسه، وجعلوا يضربونه، ثم أخرجوه وعليه ذلك الإكليل، فقال له رؤساء الكهنة: أصلبه! فقال لهم فيلاطوس: خذوه أنتم فاصلبوه، فأما أنا، فلم أجد عليه علة! فقالوا: قد وجب عليه الصلب والقتل من أجل أنه قال: إنه ابن الله، ثم أخرجه، فقال لهم: خذوه أنتم فاصلبوه! فأخذوا المسيح، وأخرجوه، وحملوه الخشبة التي صلبوه عليها.
    هذا في إنجيل يوحنا، فأما متى ومرقس ولوقا فيقولون: وضعوا الخشبة التي صلب عليها المسيح على عنق رجل قرنانى، وصاروا به إلى موضع يدعى الجمجمة، ويسمى بالعبرانية ايماخاله، وهو الموضع الذي صلب فيه، وصلب معه اثنان آخران: واحد من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب، وكتب فيلاطوس في لوح: هذا إيسوع الناصري، ملك اليهود، فقال له رؤساء الكهنة: اكتب الذي قال إنه ملك اليهود! فقال لهم: ما كتبت، وقد كتبت.
    ثم إن الشرط اقتسموا ثياب المسيح، وكانت أمه مريم، ومريم بنت قلوفا، ومريم المجدلانية قياما ينظرن إليه، فكلم أمه من فوق الخشبة.
    وجعل أولئك الشرط يأخذون إسفنجة فيها خل يقربونها إلى أنفه، فيتكرهها، ثم أسلم روحه، فجاءوا إلى ذينك المصلوبين معه، وكسروا سوقهما، وأخذ واحد من الشرط حربة، فطعنه في جنبه، فخرج دم وماء، ثم كلم فيه أحد التلاميذ لفيلاطوس، حتى أنزله، وأخذ حنوطاً من مر وصبر، ولفه في ثياب كتان وطيب، فكان في ذلك الموضع جنان، وفيه قبر جديد، فوضعوا المسيح فيه، وكان ذلك يوم الجمعة.
    فلما كان يوم الأحد، فيما يقول النصارى، بكرت مريم المجدلانية إلى القبر، فلم تجده، فجاءت شمعان الصفا وأصحابه، فأخبرتهم أنه ليس في القبر، فمضوا فلم يجدوه، وجاءت مريم ثانية إلى القبر، فرأت في القبر رجلين عليهما ثياب بياض، فقالا لها: لا تبكي! ثم التفتت خلفها، فرأت المسيح، وكلمها وقال لها: لا تدنين إلي لأني لم أصعد إلى أبي، ولكن انطلقي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم، وإنه لما كان عشية الأحد جاءهم وقال لهم: السلام معكم! كما أرسلني أبي كذلك أرسلكم، وإن غفرتم ذنوب أحد، فهي مغفورة، فقالوا: هذا الذي يكلمنا روح وخيال، قال لهم: انظروا إلى آثار المسامير بإصبعي وإلى جانبي الأيمن، ثم قال لهم: طوبى للذين لم يروني وصدقوا بي.
    وجاءوه بقطعة سمك، فأكل، وقال لهم: إن أنتم صدقتم بي، وفعلتم فعلي، يحق ألا تضعوا أيديكم على مريض إلا برىء، ولا يضره الموت، ثم ارتفع عنهم، وكان له ثلاث وثلاثون سنة.
    هذا ما يقول أصحاب الإنجيل وهم يختلفون في كل المعاني، قال الله، عز وجل، ما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.
    ولما رفع عيسى المسيح اجتمع الحواريون إلى أورشليم، في جبل طور الزيتون، وصاروا إلى عليه كان فيها بطرس، ويعقوب، ويوحنا، وأندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرتلموس، ومتاوس، ويعقوب فقام شمعان على الحجر، فقال: يا معشر الإخوة! قد كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق فيه روح القدس، وأرادوا أن يجعلوا رجلاً يتم به الاثنا عشر، فقدموا متى وبرسبا، وقالوا: اللهم أظهر لنا من نختاره! فوقع على متى، فأصابتهم ريح شديدة، امتلأت الغرفة التي كانوا فيها، ورأوا مثل لسان النار، فتكلموا بالسن شتى، ثم قالوا لبطرس: ما ذا تصنع؟ فقال لهم بطرس: قوموا واعمدوا كل إنسان منكم باسم المسيح، وتنحوا عن هذه القبيلة المعوجة.

    وأقام بطرس ويوحنا كلما دخلا الكنيسة ذكرا أمر المسيح، ووصفا فعله، ودعوا الناس إلى عبادته، فأنكر ذلك عليهم اليهود، وأخذوهم، فحبسوهم، ثم أطلقوهم، وقالوا: نختار سبعة رجال يقدسون الله، ويذكرون حكمته ومسيحه، فاختاروا إصطفانس، وفيلبس، وأبرحورس، ونيقانور، وطيمون، وبرمنا، ونيقولاوس الأنطاكي، وأقاموهم، فصلوا عليهم، وقدسوهم، فجعلوا يصفون أمر المسيح، ويدعون الناس إلى دينهم.
    وكان بولس أشد الناس عليهم، وأعظمهم إيذاء لهم، وكان يقتل من يقدر عليه منهم، ويطلبهم في كل موضع، فخرج يريد دمشق ليجمع قوماً كانوا بها، فسمع صوتاً يناديه: يا بولس، كم تضطهدني! ففزع حتى لم يبصر، ثم جاءه حنانيا، فقدس عليه حتى انصرف، وبرأت عينه، فصار يقوم في الكنائس، فيذكر المسيح، ويقدسه، فأرادت اليهود قتله، فهرب منهم، وصار مع التلامذة يدعو الناس، ويتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويظهر الزهد في الدنيا، والتقليل منها، حتى قدمه الحواريون جميعا على أنفسهم، وصيروه رأسهم.
    وكان يقوم فيتكلم، ويذكر أمر بني إسرائيل والأنبياء، ويذكر حال المسيح، ويقول: ميلوا بنا إلى الأمم، كما قال الله للمسيح: إني وضعتك نوراً للأمم، فتصير إخلاصاً إلى أقطار الأرض، فتكلم كل رجل منهم برأيه، وقالوا: ينبغي أن يحتفظ بناموس، وأن يرسل إلى كل بلد من يدعو إلى هذا الدين، وينهاهم عن الذبائح للأوثان، وعن الزنا، وعن أكل الدم.
    وخرج بولس ومعه رجلان إلى أنطاكية ليقيموا دين المعمودية، ثم رجع بولس، وأخذ، فحمل إلى ملك رومية فقام فتكلم، وذكر حال المسيح، فتحالف قوم على قتله لإفساده دينهم، وذكره المسيح وتقديسه عليه.
    ملوك السريانيينوكان أول الملوك بعد الطوفان بأرض بابل ملوك السريانيين، فأول من ملك منهم، وعقد التاج على رأسه: شوسان، وكان ملكه ست عشرة سنة، ثم ملك بعده بوير ابنه عشرين سنة، ثم ملك اسماشير بن ألول سبع سنين، ثم ملك بعده عمرقيم ابنه عشر سنين، ثم ملك أهريمون ابنه عشر سنين، ثم ملك سمادان ابنه عشر سنين، ثم ملك سبير ابنه ثماني سنين، ثم ملك هريمون ثماني عشرة سنة، وملك ابنه هوريا اثنتين وعشرين سنة، ثم ملك أرود وحلحابيس كلاهما اثنتي عشرة سنة.
    ملوك الموصل ونينوىوكان أول من ملك منهم بالوس اثنتين وثلاثين سنة، وملك نينوس بن بالوس اثنتين وخمسين سنة، وبنى مدينة نينوى، ثم ملكت امرأة يقال لها شميرم أربعين سنة، ثم ملك لاوسنسر خمساً وأربعين سنة، ثم ملك خمسة عشر ملكاً لا تاريخ لهم، ولا قصص.
    ملوك بابلفكان أول ملوك بابل، بعد السريانيين، نمرود الجبار، فملك تسعاً وستين سنة، وملك كودس ثلاثاً وأربعين سنة، وملك أرقو عشر سنين، وملك بولس اثنتين وستين سنة، ثم ملك سميرم اثنتين وأربعين سنة، وملك قوسميس تسعاً وستين سنة، وملك أنيوس ثلاثين سنة، وملك ليلاوس اثنتي عشرة سنة، وملك اطلوس اثنتين وثلاثين سنة، و ملك سفردس ثلاثين سنة، ثم ملك حازم بودس ثلاثين سنة، ثم ملك سعالوس ثلاثين سنة، وملك سبطاس أربعين سنة، وملك اسنطرس أربعين سنة، وملك دمنوطوس خمساً وأربعين سنة، وملك العروس ثلاثين سنة، وملك المقرندوس اثنتين وخمسين سنة، وملك قاربوس ثلاثين سنة، وملك باباوس خمساً وأربعين سنة، وملك شرسبا أدوموس أربعين سنة، وملك دارافوس ثمانياً وثلاثين سنة، وملك لاوبس خمساً وأربعين سنة، وملك فطريس، ثلاثين سنة، وملك فرطاوس عشرين سنة، وملك افرطا ستين سنة، وملك قولا خمساً وثلاثين سنة، وملك بعنطس خمساً وثلاثين سنة، وملك اسبعلو سرفتم أربع عشرة سنة، وملك اسرعون سبع سنين، وملك قيم حدوم ثلاث سنين، وملك فردوح سبعاً وأربعين سنة، وملك سنحاريب إحدى و ثلاثين سنة، وملك معرساً ثلاثاً وثلاثين سنة، وملك بخت نصر خمساً وأربعين سنة، وملك فرمورج سنة واحدة، وملك سط سفر ستين سنة، وملك ماسوسا ثماني سنين، وملك معوسا سبعة أشهر، وملك داريوش إحدى وثلاثين سنة، وملك كسر حوش عشرين سنة، وملك فرطنان سبعة أشهر، وملك منحسمت إحدى وأربعين سنة، وملك سعلس سبعة أشهر، وملك داريوش، وهو الذي قتله الإسكندر، تسع عشرة سنة، وملك أرطحشاست سبعاً وعشرين سنة.

    هؤلاء الملوك ملوك الدنيا، وهم الذين شيدوا البنيان، واتخذوا المدن، وعملوا الحصون، وشرفوا القصور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن، وضربوا الدنانير، وصاغوا وكللوا التيجان، وطبعوا السيوف، واتخذوا السلاح، وعملوا آلات الحديد، وصنعوا النحاس والرصاص، واتخذوا المكاييل والموازين، واختطوا البلدان، وقلموا الأقاليم، وأسروا الأعداء، واستعبدوا الأسراء، واتخذوا السجون، ووصفوا الأزمنة، وسموا الشهور، وتكلموا في الأفلاك والبروج والكواكب، وحسبوا، وقضوا بما يدل عليه الاجتماع والافتراق، والتثليث والتربيع، والمجاسدات.
    ملوك الهندقال أهل العلم: إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم: برهمن الملك الذي في زمانه كان البدء الأول، وهو أول من تكلم في النجوم، وأخذ عنه علمها، والكتاب الأول، الذي تسميه الهند: السند هند، وتفسيره دهر الدهور، ومنه اختصر الأرجبهر والمجسطي، ثم اختصروا من الأرجبهر الأركند، ومن المجسطي كتاب بطليموس، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزيجات وما أشبهها من الحساب، ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها، وهي 1 2 3 4 5 6 7 8 9، فالأول منها واحد، وهو عشرة ومائة، وهو ألف، وهو مائة ألف ، وهو ألف ألف، وهو عشرة آلاف ألف، وهو مائة ألف ألف، وعلى هذا الحساب أبدا فصاعدا، والثاني، وهو اثنان، وهو عشرون، وهو مائتان، وهو ألفان، وهو عشرون ألفاً، وهو مائتا ألف، وهو ألفا ألف، وعلى هذا الحساب يجري التسعة الأحرف، فصاعدا، غير أن بيت الواحد معروف من العشرة، وكذلك بيت العشرة معروف من المائة، وكذلك كل بيت، وإذا خلا بيت منها يجعل فيه صفر، ويكون الصفر داره صغيرة.
    وجعلوا الدنيا سبعة أقاليم: فالإقليم الأول الهند، وحده مما يلي المشرق: البحر، وناحية الصين إلى الديبل مما يلي أرض العراق، إلى خليج البحر مما يلي أرض الهند، إلى أرض الحجاز.
    والإقليم الثاني: الحجاز، حده: هذا الخليج إلى عدن إلى أرض الحبشة مما يلي أرض مصر، إلى الثعلبية مما يلي أرض العراق.
    والإقليم الثالث: مصر، حده: مما يلي أرض الحبشة إلى أرض الحجاز، إلى البحر الأخضر مما يلي الجنوب، إلى المغرب، إلى الخليج الذي يلي الروم، إلى نصيبين مما يلي أرض العراق.
    والإقليم الرابع: وهو العراق، حده مما يلي الهند: الديبل، ومما يلي الحجاز: الثعلبية، ومما يلي أرض مصر والروم: نصيبين، ومما يلي أرض خراسان: نهر بلخ.
    والإقليم الخامس: الروم، حده مما يلي أرض مصر: الخليج، ومما يلي المغرب: البحر، ومما يلي الترك: يأجوج ومأجوج، ومما يلي أرض العراق: نصيبين.
    والإقليم السادس: يأجوج ومأجوج، حده مما يلي أرض المغرب: الترك، ومما يلي الخزر: البحر، ومفاوز بينه وبين بحور الشمال، ومما يلي المشرق: أرض نصيبين، ومما يلي خراسان: نهر بلخ.
    والإقليم السابع: الصين، حده مما يلي المغرب: يأجوج ومأجوج، ومما يلي المشرق: البحر، ومما يلي الهند: أرض قشمير، ومما يلي خراسان: نهر بلخ، وقالوا كل إقليم من هذه الأقاليم يسع مائة فرسخ في مثلها.
    وذكروا أن قطر الأرض ألفان ومائة فرسخ، ومدها ستة آلاف وثلاثمائة فرسخ، وانهم قدروا هذا الفرسخ على ستة عشر ألف ذراع. وذكروا أن الذراع الذي يحيط بأسفل دائرة النجوم، وهو فلك القمر، مائة ألف فرسخ وخمسة وعشرون ألفا وستمائة وأربعة وستون فرسخاً، وأن قطرة من حد رأس الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ، بتقدير هذه الفراسخ التي قدروا بها الأرض فساعات طول النهار في الإقليم الأول: ثلاث عشرة ساعة، وفي الثاني: ثلاث عشرة ساعة ونصف، وفي الثالث: أربع عشرة ساعة، وفي الرابع: أربع عشرة ساعة ونصف، وفي الخامس: خمس عشرة ساعة، وفي السادس: خمس عشرة ساعة ونصف، وفي السابع: ست عشرة ساعة.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:07 am

    و كل مدينة كانت في مقادير طول نهارها في هذا القدر، فهي متوسطة الإقليم الذي هي فيه، وما كان فيما بين هذه الأقدار، فهي من الإقليم الذي هي إليه أقرب في مقدار الساعات، فصار وسط الإقليم الأول، على مسيرة نحو من ثلاثين ليلة من خط الاستواء، بأرض اليمن مدينة سبإ وما والاها إلى المشرق والمغرب، وذلك، فيما دون عدن، أبين بقدر عشرة أيام، ووسط الإقليم الثاني مكة وما والاها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الثالث الإسكندرية وما والاها من ناحية الكوفة والبصرة من المشرق والمغرب، ووسط الإقليم الرابع أصفهان وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الخامس في أداني أرض مرو وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السادس برذعة وما والاها مما هو في مثل عرضها ما بين المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السابع بجبال الترك وما والاها مما هو في مثل عرضها مما بين المشرق والمغرب.
    وقالت الهند إن الله، عز وجل، خلق الكواكب في أول دقيقة من الحمل، وهو أول يوم من الدنيا، ثم سيرها من ذلك الموضع في أسرع من طرفة العين، فجعل لكل كوكب منها سيراً معلوماً حتى يوافي جميعها، في عدة أيام السند هند، إلى ذلك الموضع الذي خلقت فيه كما كانت كهيئتها الأولى، ثم يقضي الله، تبارك وتعالى، ما أحب، فقالوا: إن جميع أيام الدنيا من السند هند، منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعاً في دقيقة الحمل، كما كانت يوم خلقت: ألف ألف ألف ألف، وخمسمائة ألف ألف ألف، وسبعة وسبعون ألف ألف ألف، وسبعمائة ألف ألف، وستة عشر ألف ألف، وأربعمائة ألف، وخمسون ألف يوم، يكون ذلك شهوراً ستين ألف ألف ألف، وثماني مائة ألف ألف، وأربعين ألف ألف شهر، ويكون من السنين أربعة آلاف ألف ألف، وثلاثمائة ألف ألف، وعشرين ألف ألف سنة كاملة بسني الشمس على مدارها، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم و خمس ساعات، وجزء من أربعمائة جزء من ساعة.
    ثم اضطرب أمر الملك بالهند، فأقام زماناً طويلاً وهو ممالك مفترقة في البلاد، لكل طائفة مملكة، حتى غزتهم الملوك فخافوا أن يدخل عليهم الوهن، وكانوا أهل حكمة ومعرفة وعقول، مجاوزين بها مقدار غيرهم من الأمم فأجمعوا على تمليك رجل واحد، فملكوا زارح، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، فعظم ملكه، و جل سلطانه، حتى سار إلى أرض بابل، ثم تجاوزها إلى ملوك بني إسرائيل، وهو الذي غزا بني إسرائيل، بعد أن مات سليمان ابن داود بعشرين سنة، وملك إسرائيل يومئذ رحبعم بن سليمان، فضجت بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فسلط الله على زارح وجيشه الموت، فانصرف إلى بلاده.
    ومن ملوكهم فور، وهو الذي غزا بلاده الإسكندر لما قتل ملك الفرس، وغلب على أرض العراق وما والاها مما كان في مملكة داريوش، وذلك أنه كتب إليه يأمره بالدخول في طاعته، وكتب إليه فور أنه يزحف إليه بالجيوش، بدر الإسكندر، فصار إلى بلاده، وخرج إليه فور، فحاربه، وأخرج فور الفيلة وكان العلو على الإسكندر، فكانت لا يقف لها شيء، فعمل الإسكندر تماثيل من نحاس، ثم حشاها بالنفط والكبريت، وأشعل النار في داخلها، ثم صيرها على عجل، وألبسها السلاح، ثم قدمها أمام الصفوف، فلما تلاقوا دفعتها الرجال إلى الفيلة، فلما قربت حملت عليها الفيلة بخراطيمها، فكانت تلف الخراطيم على ذلك النحاس وهو يلهب فتشتوي، وتنصرف منهزمة، فتفل كراديس الهند، وتهلكهم، ثم دعا الإسكندر فور ملك الهند إلى أن يبارزه، فبرز له، فقتله الإسكندر مبارزة بعدله، واستباح عسكره.
    ومن ملوكهم كيهن، وكان رجلا حكيما، ذكيا، أديبا، فملكه الإسكندر بعد فور على جميع أرض الهند، وكان كيهن قد استعمل الفكر، فكان أول من قال بالتوهم، وإن الطبيعة تنصرف إلى ما تتوهمه، فما توهمت أنه ينفعها نفعها وإن كان ضاراً، وكان كيهن يأكل البيش، وهو السم القاتل، ثم يتوهم أن على قلبه أحمال ثلج، فلا يضره ذلك البيش، حتى احترقت رطوبته، وكان من أصح خلق الله ذهنا، وأحفظه وأذكاه.

    ومن ملوكهم دبشليم، وهو الذي وضع في عصره كتاب كليلة ودمنة، وكان الذي وضعه بيدبا حكيم من حكمائهم، وجعله أمثالاً يعتبر بها، ويتفهمها ذوو العقول، ويتأدبون بها، فكان أول باب منها باب السلطان الذي سعى إليه البغاة بخاصته وأصحابه المقدمين عنده، وكيف ينبغي أن يستعمل الأناة والتثبيت، ولا يعجل بقول السعاية، وهو باب الأسد والثور.
    الباب الثاني باب الفحص عن الأمور، وكيف تكون العواقب فيها، وما يؤدى إليه البغي و التهور والكيد من سوء العاقبة، وهو باب الفحص عن خبر دمنة.
    الباب الثالث باب الأعداء والتحرز منهم والحيلة لهم، والكلام الذي يكسب العداوة، وما يجب من مداراة الأعداء، وانتهاز الفرصة فيهم عند إمكان الأمر، والتضرع لهم حتى يمكن الانتقام منهم، وهو باب البوم والغربان.
    الباب الرابع باب المشاورة للعلماء والاستعانة بأهل الحزم والأمانة، وإفشاء الأمور إلى أهل العقل، وهو باب بلاذ.
    الباب الخامس باب المعروف وإلى من ينبغي أن يصطنع وكيف يفسده سوء الشكر إذا وضع غير موضعه، وحمله من لا يستحقه، وكيف يعرف موضعه عند أهله الذين يشكرونه، وهو باب السلحفاة والببر والقرد والنجار.
    الباب السادس باب الظفر بالأمر، وإضاعته بعد إمكانه، والعجز عن حفظه بعد القدرة عليه، وهو باب القرد والغيلم.
    الباب السابع باب المداراة ومصانعة أهل الشأن، واحتراز مودتهم، واستماله أهل الانحراف حتى يتخلص من السوء، وهو باب السنور والجرذ.
    الباب الثامن باب معرفة السلطان بأعوانه وأقربائه وأهل دخلته، واستصلاحه من نالته جفوته منهم، واجتلاب ردئه، والاستعانة على أموره بأهل العفاف والمودة، وتفقد أحوال أعوانه وحاشيته، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء على الإساءة، وهو باب الأسد وابن آوى.
    الباب التاسع باب الإخوان والمتصادقين على صحة موداتهم، ومقدار الإخوان، وعظم النفع بهم، ومعاونتهم على أمور الشدة والرخاء، وهو باب الحمامة المطوقة.
    الباب العاشر باب طلب نفع الناس بضر النفس، والتفكر في العاقبة، وهو باب اللبؤة والأسوار. وقال بعض علماء الهند إن أهل بلاد الهند تواتر عليهم الموت، حتى ذهب علماؤهم، وضعف الملك، وإنه لما ملك هشران طلب من يحيى له شرائع دين آبائه، فأتاه قفلان، وكان داهية، فقال له: إن الناس جزء من الحيوان، وإن الحيوان جزء من النامي، وإن النامي من الطبائع الأربع التي هي: النار والهواء والأرض والماء، وإن النامي ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها النبات، وله النمو فقط، والثاني ما يكون في البحر من الأصداف وما أشبهها، وله نمو وحس، والثالث الحيوان البري، وله نمو وحس وحركة، وإن الحيوان أقل وأحقر من أن يدبرهم الخالق، وإنما يدبرهم ويصرفهم الفلك.
    فقال له الملك: أرني صورة ما تقول وبرهانه! فوضع النرد، وقال: اتفق الناس على أن دور الزمان سنة، ومعناها اثنا عشر شهراً، ومعناها البروج الاثنا عشر، وعلى أن أيام الشهر ثلاثون يوماً، ومعناها لكل برج ثلاثون درجة، وعلى أن الأيام سبعة، ومعناها الكواكب السبعة السيارة، ثم جعل تشبيها لذلك، فوضع عرصة شبيهة بالسنة، وصير فيها أربعة وعشرين بيتاً عدد ساعات الليل والنهار، في كل ناحية اثنا عشر بيتاً تشبيها بشهور السنة والبروج، وصير لها ثلاثين كلباً تشبيها بأيام الشهر ودرج البروج، وصير الفصين تشبيها بالليل والنهار، وفي كل فص ست جهات لأنه عدد تام له نصف وثلث وسدس، في كل فص، إذا سقط من أعلاه وأسفله، سبع نقط: تحت الست واحدة، وتحت الخمس اثنتان، وتحت الأربع ثلاث، تشبيهاً بعدد الأيام والكواكب السبعة السيارة، وهي: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمريخ، وعطارد، والزهرة، ثم جعلها محنة بين رجلين، وأعطى كل واحد فصاً، وقال: من أعطيته هذه السبع النقط من أعلاها أكثر من صاحبه بدا، فاجتمع له الفصان، فضرب، وما ظهر من الفصين تقلب الكلاب عليه، وجعل ذلك تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما جرى له الفلك، والحرمان الذي يبتلي به الحازم، على حسب ما يجري له الفلك، فلما ظهر ذلك قبله الملك، وفشا في أهل المملكة، وصار أهل الهند تجري أمورها بما تدبره الكواكب السبعة السيارة.

    وملك بلهيت وقد غلب على أهل المملكة هذا الدين، وكان له عقل ومعرفة، فلما رأى ما عليه أهل مملكته ساءه ذلك، وبلغ منه، ثم سأل: هل بقي رجل على دين البرهمية؟ فدل على رجل له عقل ودين، فأرسل إليه، فلما أتاه أكرمه، ورفع درجته، ثم ذكر له ما قد فشا في أهل مملكته، فقال: أيها الملك! أنا أقيم برهاناً اضطر به، ويعرف به فضل الحازم، وموضع تقصير العاجز، واجعلها صورة بين اثنين ليبين فضل الحازم على العاجز، والمجتهد على المقصر، والمحتاط على المضيع، والعالم على الجاهل، فوضع الشطرنج، وتفسيرها بالفارسية هشت رنج، وهشت ثمانية، ورنج صفح، وصيرها ثمانية في ثمانية، فصارت أربعة وستين بيتاً، وصيرها اثنين وثلاثين كلباً، مقسومة بين لونين، كل لون ستة عشر كلباً، وقسم الستة عشر على ست صور فالشاة صورة، والفرز صورة والفيلان صورة، والرخان صورة، والفرسان صورة، والبيادق صورة، فاشتق ذلك من زوج الزوج، وهو أحسن ما يكون من الحساب لأن الأربعة والستين، إذا قسمتها، كان لها نصف، وهو اثنان وثلاثون، وهي عدة جميع الكلاب، وإذا نصفت الاثنين والثلاثين كان لها نصف، وهو ستة عشر، وهو ما لكل واحد من الكلاب، وإذا نصفت الستة عشر كان لها نصف، وهو ثمانية، وهي عدة بيادق كل واحد، فإذا نصفت الثمانية كان لها نصف، وهو أربعة، وهو الرخان والفرسان من كل واحد فإذا نصفت الأربعة كان لها نصف، وهو اثنان، فقد انقسمت أزواجاً ولم يبق في القسم بعد الأزواج إلا الواحد الذي يقسمها كلها آحاداً، وهو ليس بعدد، ولا معدود، ولا زوج، ولا فرد، لأن أول أعداد الفرد ثلاثة.
    ثم قال الحكيم: ليس شيء أجل من الحرب، لأنه يبين فيها فضل التدبير، وفضل الرأي، وفضل الحزم، وفضل الاحتياط، وفضل التعبية، وفضل المكيدة، وفضل الاحتراس، وفضل النجدة، وفضل البأس، وفضل القوة، وفضل الجلد، وفضل الشجاعة، فمن عدم منه شيء من هذا عرف موضع تقصيره لأن خطأها لا يستقال، والعجز فيها متلف للمهج، والجهل مبيح للحمى، وترك الحزم ذهاب الملك، وضعف الرأي جلب للعطب، والتقصير سبب الهزيمة، وقلة العلم بالتعبية داعية الانكشاف، وقلة المعرفة بالمكيدة تهور إلى الهلكة، وترك الاحتراس نهزه للعدو، وجعلها على مثال الحرب، فإن أصاب ظفر وإن أخطأ هلك.
    فلما رأى الملك صحة البرهان، وتبين فضل حكمة الحكيم، وعلم أن قد أصاب وأحسن التمثيل، وأبان عما قد عمي عنه، جمع أهل مملكته، فعرفهم ما كشف الله عنهم من الغم، وأمرهم أن يقيموها ويتأملوها، وقال لهم، قد علمنا أن ليس في العالم حي ناطق، مفكر، ضاحك عاقل إلا الإنسان، فالإنسان عليه مدار جميع ما في العالم، لأن الفلك بجميع ما فيه خلقه الخالق للإنسان ليعرف به ما يحتاج إليه من زمانه وأوقاته، وكذلك ذلل له جميع ما في الأرض، وكل ما خلق الله مما في قعر البحر، وجو السماء ورؤوس الجبال فلما ملك الإنسان جميع ما خلق قسم ذلك الإنسان ثلاثة أقسام فأكل ثلاثاً، وسخر ثلاثاً، وقتل ثلاثاً: فأكل الطير والسمك وما شاء من النعم والإبل، وسخر البقر والحمير والدواب، وقتل السباع والحيات والهوام، ثم جعل فيه آلات يعلم بها، ويعقل بها، ويدرك بها، ويفهم، ففضل الناس بعضهم بعضا بالعلم والعقل والفهم.
    وقد زعم علماء من علماء الهند أنه لما ملكت حوسر بنت بلهيت خرج عليها خارجي، وكانت جارية عاقلة، فوجهت ابناً لها، وكان لها أربعة أولاد، فقتل ذلك الخارجي ابنها، فعظم ذلك أهل مملكتها، وأشفقوا من أخبارها، فاجتمعوا على حكيم من حكمائهم يقال له قفلان، وكان ذا حكمة وفطنة ورأي، فذكروا ذلك له، فقال: أنظروني ثلاثاً! ففعلوا ذلك، وخلاً مفكراً، ثم قال لتلميذ له، أحضرني نجاراً وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فأحضره نجاراً فارها، وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فصور صورة الشطرنج، وأمر النجار، فنجرها، ثم قال له: أحضرني جلداً مدبوغاً! فأمره أن يخط فيه أربعة وستين بيتاً، ففعل ذلك، فنصب ناحية، ثم تجاولا حتى فهماها وأحكماها، ثم قال لتلميذه: هذه حرب بلا ذهاب أنفس.

    ثم حضره أهل المملكة، فأخرجها لهم، فلما رأوها علموا أنها حكمة لا يهتدي لها أحد، وجعل يجاول تلميذه، فيقع شاة مات، وشاة غلب، فأخبرت الملكة بخبر قفلان، فأحضرته، وأمرته أن يريها حكمته، فأحضر تلميذه، ومعه الشطرنج، فنصبها بينه وبينه، فلعبا فغلب أحدهما صاحبه، فقال، شاه مات! فانتبهت، وعلمت ما أراداه، وقالت لقفلان: أقتل ابني؟ قال: أنت قلت! فقالت لحاجبها: أدخل الناس، يعزوني فلما فرغت أحضرت قفلان وقالت له: سل حاجتك! فقال: أسأل أن أعطى قمحاً بعدد بيوت الشطرنج، أعطى في البيت الأول حبة وفي الثاني اثنتين، ثم يضعف ذلك لي في البيت الثالث على الثاني، ثم على هذا الحساب إلى آخرها.
    قالت: وما مقدار هذا؟ ثم أمرت بالحنطة أن تحضر، فلم يقم لذلك شيء حتى أنفدت قموح البلد، ثم قوم القمح بالمال حتى فنى المال، فلما كثر ذلك قال: لا حاجة لي به! إن قليل الدنيا يكفيني. ثم سألته عن عدد الحب الذي سال، فقال لها: يكون ذلك عدداً، وهذا ما في الشطرنج من العدد: السطر الأول مائتان وخمسة وخمسون.
    الثاني اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة وثمانية وستون.
    الثالث ثمانية آلاف ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا وستمائة وثمانية.
    الرابع ألفاً ألف ألف، ومائة وسبعة وأربعون ألف ألف، وأربعمائة وثلاثة وثمانون ألفاً، وستمائة وثمانية وأربعون.
    الخامس خمسمائة وتسعة وأربعون ألف ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وخمسون ألف ألف، وثماني مائة ألف، وثلاثة عشر ألفاً، وثماني مائة وثمانية وثمانون.
    السادس مائة وأربعون ألف ألف ألف، و سبعمائة وسبعة وثلاثون ألف ألف ألف، وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ألف، وثلاثمائة وخمسة وخمسون ألفاً، وثلاثمائة وثمانية وعشرون. السابع ستة وثلاثون ألف ألف ألف ألف ألف، وثمانية وعشرون ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وسبعة وتسعون ألف ألف ألف، وثمانية عشر ألف ألف، وتسعمائة وثلاثة وستون ألفاً، وتسعمائة وثمانية وستون.
    الثامن تسعة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف، ومائتان وثلاثة وعشرون ألف ألف ألف ألف ألف، وثلاثمائة واثنان و سبعون ألف ألف ألف ألف، وستة وثلاثون ألف ألف ألف، وثماني مائة وأربعة و خمسون ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وسبعون ألفاً، وثماني مائة وثمانية، يكون جميع ذلك في الشطرنج الثمانية ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف، وأربعمائة وستة وأربعين ألف ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وأربعة وأربعين ألف ألف ألف ألف، وثلاثة وسبعين ألف ألف ألف، وسبعمائة وتسعة آلاف ألف وخمسمائة وواحداً وخمسين ألفاً وستمائة وخمسة عشر. ومنهم كوش الملك الذي كان في زمان سندباذ الحكيم، وكوش هذا وضع كتاب مكر النساء. والهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة، فقولهم في النجوم أصح الأقاويل، وكتابهم فيه كتاب السند هند الذي منه اشتق كل علم من العلوم مما تكلم فيه اليونانيون والفرس وغيرهم، وقولهم في الطب المقدم، ولهم فيه الكتاب الذي يسمى سسرد فيه علامات الأدواء، ومعرفة علاجها وأدويتها، وكتاب شرك، وكتاب ندان في علامات أربعمائة وأربعة أدواء ومعرفتها بغير علاج، وكتاب سند هشان، وتفسيره صورة النجح، وكتاب فيما اختلفت فيه الهند والروم من الحار والبارد و قوي الأدوية وتفصيل السنة، وكتاب أسماء العقاقير كل عقار بأسماء عشرة، ولهم غير ذلك من الكتب في الطب، ولهم في المنطق والفلسفة كتب كثيرة في أصول العلم منها: كتاب طوفا في علم حدود المنطق، وكتاب ما تفاوت فيه فلاسفة الهند والروم، ولهم كتب كثيرة يطول ذكرها ويبعد عرضها.
    ودين أهل الهند البرهمية، وفيهم عبدة الأصنام، ولهم ممالك مختلفة وملوك متفرقة لسعة البلد في طوله وعرضه، فأول ملوكهم مما يتاخم البلاد التي هي اليوم في دار الإسلام: دانق، وهو ملك عظيم القدر، واسع المملكة، كثير العدة، ثم من بعده رهمي، وهو أعظم قدراً وأعز بلاداً، وهو على بحر من البحور، وفي بلده الذهب وما أشبهه، ثم مملكة بلهري، ثم الكمكم ومن عندهم يأتي الساج، ولهم اتساع في البلاد، ثم مملكة الطافن، وهم قوم بيض الوجوه، ثم مملكة

    كنباية، ومملكة الطرسول، ومملكة الموسة، ومملكة المايد، وهذه الممالك تتاخم الصين، وهم يحاربون الصين، ثم مملكة سرنديب، ثم مملكة قمار، وهي مملكة جليلة القدر، عظيمة الأمر، يتقدم لملكهم الملوك، ثم مملكة الديبل، ثم الفاريط، ثم مملكة الصيلمان، ولهم بعض ممالك يليها النساء.
    اليونانيونوكان لليونانيين حكماء متفلسفون، وفلاسفة متكورون، ومنهم من تكلم في الطب، ومنهم من تكلم في حقائق الأمور، ومنهم من تكلم في الحساب والأعداد، ومنهم من تكلم في الأفلاك و النجوم، ومنهم من تكلم في الحساب والقسمة، ومنهم من قال في الهندسة والفلاحة، ومنهم من قال في الصنعة والإكسيرات، ومنهم من قال في الفراسة، ومنهم من قال في الطلسمات والآلات فيقال إن أول حكيم وضع كتاباً، ودون علماً، أبقراط مقليدس بن أبقراط، فبفلسفته يتفلسف الحكماء في الطب، وإليه يرجعون في المعرفة، وله من الكتب: كتاب الفصول، وكتاب البلدان والمياه و الأهوية، وكتاب ماء الشعير، وكتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الجنين، وكتاب الأركان، وكتاب الغذاء، وكتاب الأسابيع، وكتاب أوجاع النساء، وكتاب أبيذيميا، فهذه مشهورات من كتبه، وله بعد ذلك كتب كثيرة، فالكتب التي لا بد للمتطببين من معرفتها من كتب أبقراط أربعة، وهي: كتاب الفصول، و كتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الأهوية والأزمنة، وكتاب ماء الشعير.
    فأما كتاب الفصول، فإنه قال في كل وجه من العلم قولا جامعا، في سبعة وخمسين باباً، وهي التي تسمى التعليمات: فالتعليم الأول في الصنعة وصنفها قال أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والزمان حديد، والتجربة خطرة، والقضاء عسر.
    التعليم الثاني في أصناف الطعام للمرضى وتقديره قال أبقراط: الأطعمة اللطيفة دقيقة جداً ليست في الأمراض المزمنة، ولا في الحادة، والأطعمة أيضاً التي على أقصى حد اللطافة ردية مثلما أن الماء الذي على الحد الأقصى ردي.
    التعليم الثالث في اهتياج الحمى قال أبقراط: ينبغي أن يتحفظ في الطعام، وإن الزيادة منه مضرة، وكل ما يعرض من الأمراض في الحين بعد الحين، فينبغي التحفظ عند اهتياجها. التعليم الرابع في علامات الأمراض قال أبقراط: الدليل على حال الأمراض ما يظهر من لفظ الجسد فيها: مثل من به ذات الجنب، إن ظهر منه نفث عاجل من أول المرض قصر مرضه، وإن ظهر ذلك متأخراً طال مرضه، وفي مثل البول والبراز والعرق، إذا ظهر على الوجه الذي يجري عليه القضاء بالفرج، أو على خلاف ذلك على قصر الأمراض وطولها.
    التعليم الخامس قال أبقراط: كلما نشت، يعني ذوات الأرواح، فهو كثير الحرارة الغريزية، ولذلك يحتاج إلى كثرة الطعام وإلا بلي جسده.
    التعليم السادس فيما ينبغي أن يطعم للمحمومين من الطعام، قال أبقراط: التدبيرات الرطبة بجميع المحمومين أمثل، ولا سيما للصبيان ولغيرهم من الذين اعتادوا ذلك التدبير، لبعض مرة، ولبعض اثنتين وأكثر وأقل، ومرة بعد مرة، وأعطوا الساعة والعادة والبلاد والسن حقها.
    التعليم السابع في معرفة الموقت قال أبقراط فيما يتفرج وما قد تفرج: ينبغي أن لا يحرك، ولا يحدث به حدث لا بأدوية، ولا بغيرها، مما يهيج ذلك.
    التعليم الثامن في النوم قال أبقراط: في أي مرض كان إن جاءه النوم بوجع، فذلك يموت، وإن نفع النوم، فليس بميت، وإن رد النوم ذهاب العقل، فذلك صالح.
    التعليم التاسع في سقي الدواء قال أبقراط: ينبغي لمن أراد تنقية الأجساد أن ينقيها قبل ذلك أي إذابة ما فيها من الكيميوس الغليظ.
    التعليم العاشر في البراز قال أبقراط: إن وقع في الجسد وجع، أو خرجت في الجسد خراجات، فعند ذلك ينبغي أن ينظر في البراز، فإن كانت مرة صفراء فالجسد كله مريض، وإن كان شبيها ببراز الأصحاء فالطعام الحشد.
    التعليم الحادي عشر قال أبقراط في الأمراض الحادة لأنها ربما أسرعت إلى الدماغ، أو إلى القلب، أو الكبد، فتهلك، وربما أسرع انحطاطها فتبرأ. التعليم الثاني عشر في القضاء في الفرج قال أبقراط: الأمراض الحادة يقضي عليها بالفرج في أربعة عشر يوماً.
    التعليم الثالث عشر قال أبقراط: عند ابتداء الأمراض إن رأيت أن تحرك شيئاً، فحرك، و

    إن صعدت العلة، فلزوم الكف أفضل، أي إن رأيت موضعا للعلاج، فقبل أن تصعد العلة. التعليم الرابع عشر في معرفة صالح الأمراض وطالحها قال أبقراط: في كل مرض صحة عقل المريض حسن، وقبوله ما يقضي خير، وخلاف ذلك شر أي ما يجد العليل في الدماغ والمعدة. التعليم الخامس عشر في المخنوقين قال أبقراط: الذين يخنقون ويخلون قبل أن يموتوا إن ظهر في أفواههم زبد لم يسلموا.
    التعليم السادس عشر في إضمار الجسد والعناء قال أبقراط: في كل تحريك الجسد، إذا بدا بتعب، ثم ودعته مكانك لم يضر التعب.
    التعليم السابع عشر في انقلاب الساعات قال أبقراط: انقلاب الساعات عن عظم البرد والحر وغير ذلك مما يجري مجراه أي انقلاب ساعات الزمان من أجزاء السنة.
    التعليم الثامن عشر في العرق قال أبقراط: إذا كان الزمان شبيها بالصيف يعني الربيع فعند ذلك ينبغي أن يتوقع كثرة العرق مع كل حمى تعرض. التعليم التاسع عشر في الساعات قال أبقراط: إن كان الشتاء يابساً بلا رطوبة، وكانت رياحاً شمالاً، كان الصيف، يعني الربيع، ممطوراً، وكانت رياحة يمانية، فلا بد أن يكون في القيظ حميات حادة، ووجع العين واختلاف من الأعفاج، وعامة ذلك في النساء والذين في طبيعتهم رطوبة.
    التعليم العشرون في تدبير السنين قال أبقراط: السنة اليابسة أوبأ من الممطورة الرطبة، عامتها حميات طويلة، وسيلان البطون، وخروج متماشية، وجنون، وفالج، وذبحه، وأما أمراض السنة اليابسة، فقرح في الرئة، ووجع العيون والمفاصل، وتقطير البول، واختلاف من خراج الأعفاج.
    التعليم الواحد والعشرون في أمراض الساعات والأسنان قال أبقراط: في الساعات على ما يكون من الأمراض في الصيف وأول القيظ: الغلمان والذين يتلونهم في السن أصحاء، وحسن حالهم أفضل من غيرهم، وفي القيظ، وبعض الربيع: الشيوخ أحسن حالاً، وفي سائر الربيع والشتاء: أهل النصفة في السن أفضل حالاً.
    التعليم الثاني والعشرون في الأمراض التي تصيب الإنسان فيبدأ بالولدان قال أبقراط: الأمراض التي تصيب الولدان الصغار قرح وسعال، وسهر وفزع، وورم في السرر، ورطوبات الأذنين. التعليم الثالث والعشرون قال أبقراط: والأمراض التي تصيب الصبيان، إذا كبروا: وجع اللوزتين، وبهر، و حصاة، ودود عراض، ودود طوال، ودود مثل دود الخل، وثاليل، وغلظ في أبشارهم، وخنازير وخراجات أخر، والذين أكبر منهم ممن قد راهق الاحتلام: يصيبهم أمر آخر، ويقضي عليهم بالفرج إلى أربعين يوماً، بعضها إلى سبعة أشهر، ومنها إلى سبعين يوماً، ومنها إذا راهقوا الاحتلام.
    وكل أمراض لا تنجلي عن الصبيان إلى الاحتلام، وعن الجواري إلى أن يطمثن، فتلك أمراض تثوي زماناً طويلاً.
    التعليم الرابع والعشرون في معرفة ما تداوي به النساء الحوامل، قال أبقراط: النساء الحوامل يداوين لأربعة أشهر فما دون ذلك من صغر الولد، وأما ما زاد من كبره، فينبغي أن يحذر علاجهن.
    التعليم الخامس والعشرون قال أبقراط: ينبغي أن يداوي ما فوق في الصيف و ما أسفل في الشتاء، يعني ما كان فوق الرأس والمعدة، وما كان أسفل من المرة الصفراء، وما أسفل من الخام وما أشبهه.
    التعليم السادس والعشرون في ذي المشي قال أبقراط: عند شرب الأدوية والخربق ينبغي أن يرطب أجساد الذين لا تخف التنقية عليهم من فوق قبل الدواء بكثرة الطعام.
    التعليم السابع والعشرون في الاختلافات طوعاً قال أبقراط: إذا جاء الاختلاف طوعاً كأنه دم أسود مع حمى، أو غير حمى، فذلك اختلاف سوء، وإن كان اختلاف كثير الألوان منتقل من ألوان صالحة إلى ألوان ردية، فذلك اختلاف سوء أيضاً، وإن جاء الأول بدواء، فهو أمثل، والكثير الألوان فلا بأس به.
    التعليم الثامن والعشرون في الفراغ من حيث كان قال أبقراط: كل محموم يعرض له اختلاف لأن كثرة إفراغ الدم ترخي الكبد ثم تسقم النضج.
    التعليم التاسع والعشرون في العرق قال أبقراط: العرق في المحمومين خير إن جاء في اليوم

    الثالث، أو الخامس أو السابع عشر، أو الواحد والعشرين، أو الواحد والثلاثين، أو الرابع والثلاثين، لأن هذا يفرج عن المريض، فأما الذي يكون في غير هذه الأيام، فذلك عرق مؤذن بوجع وطول مرض ونكسه. التعليم الثلاثون في الحميات اللازمة قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع بل تشتد في اليوم الثالث، فتلك أقرب إلى الهلاك، والتي تقلع إلى أي وجه كان من الأقلاع، فتلك أبعد إلى الهلاك.
    التعليم الحادي والثلاثون في علامات الموت قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع، إن كان ظاهر الجسد باردا وداخله يحترق، وكان بصاحبه عطش، فتلك علامات موت.
    التعليم الثاني والثلاثون في الانقباض والكزاز قال أبقراط: من أصابه انقباض، أو كزاز، فتبعت ذلك الحمى انحل مرضه. التعليم الثالث والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فأصابه حر شديد في جوفه ووجع في قلبه فذلك شر. التعليم الرابع والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فورمت شراسيفه، وأشرفت وظهرت به قرقرة في جوفه، فأصابه مع ذلك وجع صلبه، فلم يتفرج بأرواح تخرج منه، أو ببول كثير، أو يتفرج باختلاف هلك.
    التعليم الخامس والثلاثون في شرب الخربق قال أبقراط: من أصابه انقباض من كثرة الاختلاف على شرب الخربق فذلك ميت.
    التعليم السادس والثلاثون في القروح في الرئة، والضمر في الرئة، يكون ذلك في ثمانية عشر إلى خمسة وثلاثين.
    التعليم السابع والثلاثون في الماء الحار والبارد قال أبقراط: الماء الحار، إذا أدمنت عليه يرخي اللحم، ويذهب بشدة العصب، ويخدر العضل، ويهيج الرعاف، ويضعف النفس، وإن دام ذلك مات، والبارد يأتي بكزاز وتسود، ويأتي بنافض وحمى.
    التعليم الثامن والثلاثون في معرفة المياه قال أبقراط: الماء الحار ينضج المدة، وليس في كل جرح، ولنضج المدة علامات كثيرة، وهي لين الجلد، وضم الورم، وإذا كان الماء الحار يفعل ذلك يذهب الوجع، ويسكن النافض والانقباض والكزاز، ويحل وجع الرأس.
    التعليم التاسع والثلاثون في أمور النساء قال أبقراط: البخور بالطيب جلاب لطمث النساء، نافع لذلك، ولأشياء كثيرة غير ذلك، إلا أنه يهيج وجعا في الرأس وصداعاً.
    التعليم الأربعون قال أبقراط: أيما امرأة ليست بحبلى، ولا مرضعة، وتجد في ثدييها لبناً، فذلك دليل على أن دم طمثها قد انقطع.
    التعليم الحادي والأربعون قال أبقراط: إن الأولاد الذكور أكثر ما يكونون في يمين الأرحام، والإناث في يسراها.
    التعليم الثاني والأربعون قال أبقراط: النساء الحبالى اللاتي تصيبهن الحمى، فتصلب عليهن فأولئك من غير علة معروفة تبين، فإن ذلك دال على هلاك، ويسقطن، فيهلكن.
    التعليم الثالث والأربعون قال أبقراط: أعط اللبن لمن يشتكي رأسه ولمن به عطش، وأيضاً لمن به اختلاف من مرة صفراء وحمى حادة، ولمن اختلف دما كثيراً، وهو موافق أن يعطي لمن به ضمر وقرح في رئته، إذا لم يكن محموما جداً، ويعطي لمن كانت حماه لينة، فاترة، مزمنة، من غير أن يكون به شيء من العلامات التي ذكرنا ويكون جسده ناحلاً جداً.
    التعليم الرابع والأربعون في إزلاق الأمعاء قال أبقراط: من أصابه زلق الأمعاء وطال به، ثم تبع ذلك، جشاء حامض لم يكن به قبل ذلك فذلك علامة خير، وهو مرض يكون له ثلاثة أسباب: من قبل ضعف المعدة، أو من قبل بلغم بل المعدة، أو من قبل قرح يكون في المعدة. التعليم الخامس والأربعون قال أبقراط: من أصابه وجع في رأسه وضربان شديد، فذلك إن سال من أنفه، أو من أذنيه، أو من فمه قيح، أو ماء، حل وجعه.
    التعليم السادس والأربعون قال أبقراط: من أصابه انقطاع في مثانة، أو دماغ، أو قلب، أو صفاق، أو شيء من الأمعاء الدقاق، أو في معدة، أو في كبد، فذلك كله مميت.
    التعليم السابع والأربعون قال أبقراط: من أصابه فزع، أو خبث نفس زماناً كثيراً دائماً، فذلك يصير إلى المرة السوداء.
    التعليم الثامن والأربعون قال أبقراط: شرب الخمر صرفا، والكماد الحار، وقطع العروق، وشرب الدواء يحل وجع العينين.
    التعليم التاسع والأربعون قال أبقراط: ترك كل خراج سرطاني لا يعالج أفضل، فإن أصحابه إن عولجوا هلكوا سريعاً، فإن لم يعالجوا بقوا زماناً.
    التعليم الخمسون قال أبقراط: الخراج الذي ينتأ سنة، وأكثر من ذلك، فلا بد من أن يقلع منه عظام، ويبقى آثارها كالجرب.

    التعليم الحادي والخمسون قال أبقراط: ذهاب العقل الذي يأتي الضحك معه يؤثر به، وذهاب العقل مع الحزن والعبوس لا يؤثر به.
    التعليم الثاني والخمسون قال أبقراط: في الأمراض الحادة، إذا بردت الأطراف، فذلك شر. التعليم الثالث والخمسون قال أبقراط: من خرج في كبده خراج، ثم تبعه فواق، فذلك شر.
    التعليم الرابع والخمسون قال أبقراط: من كانت به حمى، وكان ببوله ثفل غليظ شبيه بدشيش الطحين، فذلك دليل على أن مرضه يطول. التعليم الخامس والخمسون قال أبقراط: من قاء دماً من غير أن تصيبه غلبة، فهو يتخلص، فإن أخذته غلبة حمى، فهو خبيث، وينبغي أن يعالج بكل دبوغ، أي من الأدوية الدابغة. التعليم السادس و الخمسون قال أبقراط: من كان يتقيأ القيح، فكوى، وخرج القيح أبيض نقياً سلم صاحبه، وإن خرج منتناً وسخاً هلك صاحبه، وإن كان بكبده خراج قد قيح، وكوى، وخرج القيح نقياً أبيض سلم لأن القيح في صفاق الكبد، وإن خرج القيح شبه ماء الزيتون هلك صاحبه.
    التعليم السابع والخمسون قال أبقراط: العطاس يكون من قبل الرأس، إذا سخن الدماغ، أو برد، أو ترطب ما بين الدماغ وصفاقه، وامتلأ فيفرغ ذلك الهواء، ويكون له نغنغة لأن مخرجه من ضيق، فهذه أبواب كتاب الفصول. و أما كتابه في تقدمة المعرفة فهو ثلاثة فصول وعشرون تعليماً: الأول يخبر أبقراط كيف ينبغي للطبيب أن ينتحل تقدمه المعرفة ، فإنه الذي يخبر المرضى بما بهم، وما أصابهم قبل ذلك، وما هو آت مما يصيبهم، وما أغفل المرضى ذكره، وإن قوتها وأسبابها، وإن كانت من اختلاط الجسد، أو غيره، ونحو هذا.
    التعليم الثاني يخبر فيه كيف ينبغي للطبيب أن يحسن النظر في الأمراض الحادة، وكيف ينظر في وجوه المرضى إن كانت تشبه وجوه الأصحاء، وعلامات الوجوه الدالة على الموت ونحو هذا. التعليم الثالث يقول فيه: إن كان للمرضى ثلاثة أيام، وأربعة والوجوه على حال وجوه الأصحاء، وغير ذلك ينبغي أن يحسن الفكر في الآيات والعلامات على ما تقدم ذكره، وفي علامات العينين وأشفارهما، والأنف، وانضجاع المريض، وكيف ينبغي أن يعمل وما المهلك من علاماته.
    التعليم الرابع يصف رجلي المريض وأحوالهما، وانضجاعه، وحك الأسنان بعضها ببعض مع الحمى، والدلائل في ذلك، وإن كان بالمريض خراج أصابه في مرضه، أو قبل مرضه، وما يدل عليه، ويصف اليدين واضطرابهما، وما تدلان في ذلك.
    التعليم الخامس يذكر النفس الكثير السريع، وما يدل عليه، ويذكر أفضل العرق في الأمراض الحادة، والعرق الفاضل، والعرق البارد، والعرق المتخبث، ويذكر أن العرق يكون إما من ضعف الأجساد، وإما من دوام خراج. التعليم السادس يذكر صحة الشراسيف، وإذا لم تكن صحيحة، وضربان عروقها، وما يدل في ذلك، والأورام التي بجنب الشراسيف، ويخبر عن الأورام وما يصيبها. التعليم السابع يذكر فيه الخراجات، وإذا أزمنت كيف ينبغي أن ينظر فيها وينعت مقاديرها وما يخرج منها، وكيف ينبغي أن يخرج.
    التعليم الثامن يذكر فيه الحبن الذي يكون مع الأمراض الحادة، والذي يكون من البزاق، والذي من الكبد، وما يصيب أصحاب الحبن من الأعراض اللاحقة بهم من أجله، وعلامات تدل على الموت من اسوداد الأصابع والأرجل ونحو هذا. التعليم التاسع يذكر فيه تقابض الخصيتين و الذكر، ويذكر السبات والنوم وكيف ينبغي أن يكون، والبراز وكيف ينبغي أن يكون.
    التعليم العاشر يذكر فيه البراز كيف يجب خروجه وأسبابه، وكيف ينبغي أن يكون البطن في كل مرض، وألوان البراز الدالة على الموت وغير ذلك، ويصف الرياح والقراقر ونحو ذلك. التعليم الحادي عشر يخبر عن البول الصحيح ثم عن البول إذا تغير وأصناف أثفال الأبوال من جهة المثانة.
    التعليم الثاني عشر يذكر فيه القيء وأسبابه، والنخمة، وكيف تنفث، ومما تختلط، و لونها، ويذكر العطاس في جميع الأمراض التي تلي الرئة، وما الميمت في ذلك، وما المؤذن بانحلال المرض.
    التعليم الثالث عشر يصف فيه النخامة في أمراض الرئة ولونها وألوان النخامات، ويذكر فيه البول والبراز والعرق وما يدل كل واحد من هذا عليه. التعليم الرابع عشر يذكر الخراجات المقيحة وأوقاتها التي تنفجر فيها، ويصف كل ما يخرج منها، وكونها في كل إنسان.

    التعليم الخامس عشر يذكر الخراجات الثابتة فيما يلي الآذان وما يحدث ذلك في الذين بهم أمراض الرئة، وكيف الدلائل على ذلك، والخراجات التي في سوق الذين بهم أمراض وما يلحقهم في ذلك.
    التعليم السادس عشر يذكر الأوجاع الردية الذاهبة بالعقل، ويذكر الحميات وأسبابها في أيامها.
    التعليم السابع عشر يذكر تقدمة المعرفة في الأمراض الحادة العسرة المزمنة، و يذكر حميات الربع، وما يلحق أصحابها من أجلها، والأيام التي تكون فيها، ويذكر أوجاعاً تكون في الصدغين والجبهة، ووجع الآذان وما يلحق المرضى.
    التعليم الثامن عشر يذكر أوجاع الحلق المخنقة، والحمرة في الرقبة والصدر، والثقب، وما يلحق المريض من علامات الهلاك في ذلك، ويذكر أسباب الغرغرة وخراجات تكون ووجع مؤلم في المفاصل، وذكر الخراجات الثابتة في الشباب، وشيئا من أسباب الحمى.
    التعليم التاسع عشر يذكر فيه الحمى ووجع الفؤاد والأيام التي تطول فيها الحمى مع أوجاع تكون في الحمى.
    التعليم العشرون يخبر كيف ينبغي لمن أراد أن يحكم تقدمه المعرفة أن يعرف ما ينجلب من الأمراض التي لا تزال مؤلمة، وكيف يعلم، وخبر الأركان والعلامات وأجزاء السنة وأسباب البلدان، فهذه تعليمات كتاب تقدمة المعرفة لابقراط. فأما كتابه في الأهوية والأزمنة والمياه والأمصار، فإنه يخبر بما يعتري أهلها من الأمراض الخاصة والعامة، والمؤتلفة والمختلفة، بحدود ثابتة ومعالم بينة: فالباب الأول يقول: إنه ينبغي لمن أراد طلب الطب طلباً صادقاً أن يفحص أولاً عن أزمنة السنة، وما يحدث فيها، لأن بعضها لا يشبه بعضاً بل بعضها مخالف لبعض، وقد تختلف أيضا في انقلابها بذاتها.
    الباب الثاني يقول: إن السنين اللاتي تحفظ أزمنتها على اعتدالها ومراجعها، فإن الأمراض التي تحدث فيها تكون شبيها وعلى استوائها، غير مخالفة ولا مشبهة، أما الأزمنة الكثيرة الانتقال، فإن الأمراض تعرض غير مستوية، ولا متواتية، وانحلالها عسر شاق.
    الباب الثالث يقول: إن الرياح الحارة والباردة العامة فيها تغير الأبدان.
    الباب الرابع يقول: ينبغي للطبيب أن يفكر في قوى المياه لأنها متخالفة في المذاقة والوزن، وكذلك تختلف في القوة اختلافا شديداً.
    الباب الخامس يقول في المياه: كيف هي؟ أ راكدة أو لينة، أو خاشنة سائلة أم نواحي مشرفة صخرية أم صالحة رطبة النضج.
    الباب السادس يقول: إنه ينبغي للطبيب أن يفكر في الأرضين إن كانت جرداء، عديمة الماء، أو شعراء، كثيرة الماء، أو عامرة، أو غامرة، أو مشرفة باردة.
    الباب السابع قال: ينبغي أن يذكر غذاء الناس في أي شيء لذاتهم أفي كثرة الشرب والأكل وحب الدعة أم حب العمل والأكل؟ وأن يفحص عن كل واحد من هذه الأشياء في كل بلد. الباب الثامن قال: إن مضى شيء من الزمان والسنة، فإن الطبيب سيخبر بكل مرض عام يعرض لكل واحد من أهلها من قبل تغير أغذيتهم.
    الباب التاسع قال: إذا لم تكن الأمراض من فساد الهواء فإنه لا ينزل بأهل المدينة عامة، ولكنه يكون متفرقاً، فإذا فكر الطبيب في هذا النوع وفي هذه الأشياء، فعلم علماً شافياً كيف تكون الأزمنة، كان حرياً أن يكون علمه صوابا، فإن علم النجوم ليس بجزء صغير من علم الطب. وأما كتابه في الأهوية والبلدان، فإنه وصف البلدان ومياهها وخواصها: فالقول الأول في المدن، وهي أربع مدائن: فالأولى على سمت الاستواء، والثانية على سمت الفرقدين، والثالثة بإزاء المشرق، والرابعة بإزاء المغرب.
    فالأولى قال: كل مدينة موضوعة بإزاء الرياح الحارة هي التي وسط شرق الشمس الشتوي وغربة، فإنها تهب إليها هبوباً دائماً، وتكون في كن من إزاء الفرقدين، ومياه هذه المدينة كثيرة حارة تسخن في القيظ وتبرد في الشتاء، ورؤوس سكان هذه المدينة رطبة بلغمية، وبطونهم

    كثيرة الاختلاف دائمة، و نساء هؤلاء الناس مرضى، ذوات أسقام أبداً بكثرة طمثهن، ولا يسقطن، وليس ذلك من طبيعتهن، ولكن من قبل أمراضهن، فإن حبلن أسقطن أكثر ذلك، وأما الصبيان فيصيبهم الكزاز، والربو، والسقم، ورجالهم يعرض لهم البطن، واختلاف الدم، والسقم الذي يدعى ابيالوس، وحمى طويلة شتوية وليليه، وبواسير في المقاعد، وتعرض لهم الحمى المتلهبة، والأمراض الحادة، والرمد الطويل، فإذا أتت لهم خمسون سنة عرضت لهم النزلات من الدماغ، فهيج بهم الفالج العارض في جميع البلدان.
    والمدينة التي ناحية الشمال قال: إن كل مدينة موضوعة بإزاء ناحية الرياح الباردة مما يلي ناحية المغرب والمشرق والقطبين، فإن هذه الرياح رياحها البلادية، وتكون مستورة من الرياح الحارة، ومياهها يابسة بطيئة النضح حلوة أكثر ما تكون، وسكان هذه المدينة أكثرهم أشداء أقوياء، سوقهم إلى الدقة اضطراراً، وبطونهم خاشنة، ورؤوسهم صلبة يابسة شديدة، وينالهم الفتق، وأسقامهم ذات الجنب، والعلل الحادة، وكثرة القيح، وعروقهم تنقطع، ويأكلون كثيراً، ولا يعرض الرمد سريعاً، فإذا مرضوا تصدعت أعينهم، ويصيبهم إذا بلغوا ثلاثين سنة رعاف كثير، ولا تعرض لهم الأسقام الكاهنية، فإن عرضت كانت شديدة وتطول أعمارهم، وأخلاقهم وحشية غير ساكنة ولا هادنة، ونساؤهم يكن عواقر لبرد الماء ويبسه، وذلك أن الطمث ربما لم يكن على ما ينبغي، فإذا حبلن اشتد عليهن الولاد، ولا يسقطن، ويقل غذاء أولادهن لبرد الألبان، ويعرض لهن الكزاز، ووجع الرئة، ويعرض للصبيان الماء الأصفر في الأنثيين، فإذا كبروا ذهب، ويبطىء احتلامهم.
    والمدينة الموضوعة سمت الرياح التي من المطلع القيظي والشتوي قال أبقراط: كل مدينة موضوعة ناحية شرق الشمس تكون أصح من المدينة الموضوعة ناحية الفرقدين ومن الموضوعة ناحية الرياح الحارة، والحرارة والبرودة فيها أقل وأيسر، وأمراض أهلها قليلة، والمياه الكائنة سمت طلوع الشمس نيرة مضيئة، صافية، طيبة المشم، لينة، لأن الهواء لا يكون فيها غليظا، فالشمس تحول بينه وبين أن يغلظ، وصورة سكان هذه المدينة حسنة الألوان، نيرة ضوية، وأصوات رجالهم صافية حديدة، يغضبون سريعاً، ونباتها وأعشابها أقوى وأصح، وهي في ذاتها وهيئتها تشبه فصل الربيع في قلة الحر والبرد، وأسقامها قليلة ضعيفة، ونساؤها يعلقن كثيراً، ويلدن بغير مشقة.
    والمدينة الرابعة سمت المغرب هي في كن من الرياح الشرقية، وتهب إليها الرياح الحارة والباردة من ناحية الفرقدين، فتكون كثيرة الأمراض، ومياهها غير نقية، ولا صافية، وأن علتها الهواء الكائن عند الأسحار، وذلك أن أسحار هذه المدينة تطول جداً، والشمس لا تشرق فيها أول ما تشرق، حتى ترتفع وتعلو، وتهب فيها رياح باردة في القيظ، ويكون رجالها مصفارين، مرضى تضيرهم الأمراض كلها، وأصواتهم بح ونهارهم ردي في أيام الخريف لكثرة تغيره، فهذا الباب الأول في المدن الأربع.
    والقول الثاني في المياه، وهي أربعة أصناف: أولها المياه الراكدة، مثل البطائح التي لا تجري، والثاني العيون النابعة، والثالث المياه التي تكون من الأمطار، والرابع المياه التي تكون من الثلوج.
    قال أبقراط: المياه الظاهرة المستوية على وجه الأرض، التي لا تجري، والأمطار تمطر عليها، وتقوم معها ولا تنزع، والشمس دائمة الإشراق عليها، والاحتراق بها، فتكون ردية لا لون لها، تولد المرة، وتكون في الشتاء باردة جامدة، كدرة بلغمية، تورث من يشرب منها البحوحة والطحال وتكون بطونهم خاشنة، وتهزل التراقي والوجوه وتنقحها، ويكثر أهلها الطعم، ويدفع ظمأهم وعطشهم، ويلزمهم المرض في الشتاء والصيف، ويعرض لهم الماء الأصفر، ويعرض لهم في القيظ اختلاف الأغراس، وحمى ربع طويلة مزمنة.
    وشباب هؤلاء القوم تعرض لهم أوجاع الرئة وأسقام تخثر عقولهم، وأما الشيوخ، فإنه تعرض لهم حمى اللهبية يدل على تحرقهم يبس بطونهم، وأما نساؤهم، فيعرض لهن أنواع الورم من قبل بلغم أبيض، فلا يحبلن إلا بعد عسر، ولا يلدن إلا بمشقة، ويكون أولادهن عظاماً، وكلما عزلوا هزلوا ودقوا، ويعرض للصبيان أدرة، وللرجال سقم وقروح في سوقهم، ولا تكون الأعمار فيها طويلة، ويدخل عليهم الكبر سريعاً في ضمن الأزمان، وربما أصاب النساء ما يتوهمن أنه حبل ثم يبطل.

    ومياه العيون النابعة من بعض الصخور ردية لأنها خاشنة، والعيون النابعة من أرض حارة، ومن أرض معادن الحديد والنحاس والفضة والذهب والكبريت والشب والزفت والنطرون، فإن هذه كلها إنما تكون من شدة الحرارة، فلا تكون من هذه الأرضين مياه نافعة مصلحة بل تكون عامتها خاشنة، يعرض منها ومن شربها عسر البول، وشدة الاختلاف.
    والمياه التي تنصب عن مواضع مشرفة، ومن تلال ترابية، أفضل المياه وأصحها، وهي حلوة لا تحتاج لكثرة مزاج الشراب، وتكون في الشتاء حارة، وفي الصيف باردة، فهذه حالة المياه النابعة من العيون الغائرة.
    وخير هذه المياه السائلة من أفق الشمس، ولا سيما الشرق الصيفي، لأنها بيضاء براقة، طيبة الريح، وكل ما كان من المياه مالحاً، بطيء النضح، خاشناً، فإن الذين يشربون منه بلا حاجة إليه ليس بنافع لهم، وإن بعض الطبائع والأسقام ربما انتفعت به، وكلما كان طعم المياه إلى الملوحة، فكلها ردية مفسدة، وكل عين تكون سمت شرق الشمس، فماؤها خير المياه.
    ثم بعدها العيون التي بين أفق الشمس القيظي والغرب القيظي، وأفضلها المائلة إلى الشرق ثم التي بين مغرب الشمس الشتوي والقيظي، وأرداها العيون التي في ناحية الجنوب، فأما العيون التي تنزل أفق الشرق الشتوي والغرب الشتوي، فما كان منها ناحية الجنوب، فهي ردية جداً، وما كان منها ناحية الشمال، فهو خير، فمن كان خاشن البطن، فإن المياه الخفيفة الصافية له نافعة، ولمن كان بطنه ليناً لدنا بلغمياً ضاره، فإن المياه المالحة تسهل البطن، فقد أخطأ ومياه الأمطار خفيفة عذبة، والشمس تخطف من الماء رقيقة وخفيفة، وتصعد الماء من الأنهار والبحور والمواضع الرطبة، ولذلك صارت مياه الأمطار تعفن وتنشر رائحة ردية لأنها اجتمعت من رياح شتى، فصارت أسرع عفناً وتغيراً، فإن الرطوبة التي تنشفها الشمس متفرقة لا تزال معلقة في الهواء، فإذا اجتمعت كلها، والتفت بالرياح المتضادة اللاقية بعضها بعضاً، أنصبت حينئذ، ولا سيما إذا كانت المقايسة كما ينبغي، وأكثر ما يكون هذا إذا استحكم اجتماع السحاب، واستقبلته ريح أخرى، فمزقته، وإذا تزاحمت سحابة أخرى على السحابة الأولى، وقطعتها، انحدرت حينئذ الرطوبة من ثقلها، وتمزقها الرياح، فتكون الأمطار السابغة، فهذه المياه، أفضل المياه إلا أنه ينبغي أن تكون رائحتها ردية، ويعرض لمن شرب منها البحة والسعال، وثقل الصوت، وإذا طبخت لم يغن عنها الطبخ شيئاً.
    وأما المياه التي تكون من الثلوج والجليد، فكلها ردية لأنها، إذا جمدت مرة، لم ترجع إلى طبيعتها الأولى لأن ما كان من الماء خفيفا، عذباً، صافياً، نقياً، أفلت من الجمود، وطار، وما كان من الماء كدراً بقي على حاله، ويعرف ذلك بأنه لو صير في إناء في أيام الشتاء، وكيل بكيل معلوم، ووضع تحت السماء جمد، فإن وضع في الشمس حتى ينحل ثم كيل ذلك الماء، وجد وقد نقص نقصاناً بيناً، فذلك العلامة أن لطيف الماء يتنفس، ولا يقع عليه الجمود، ولا يتنفس، ولا يبرح وماء الثلوج أردأ المياه، وإذا شرب الناس المياه المختلفة عرض لهم الأسر والحصاة في المثانة، ووجع الخاصرة، ووجع الوركين، وفي الأنثيين أدرة، ولا سيما إذا شربوا من مياه أنهار تنصب من أنهار واسعة، أو من بحيرة ينصب فيها من سيول شتى مختلفة، لأن منها العذب، والمالح، والشبي، ومنها ماء السيل من مواضع حارة، فإذا شربت عرضت الأسقام، واللبن الردي يولد الحجارة في مثانات المرضعين، والنساء لا تصيبهن الحصاة لأن مبالهن واسع.
    والقول الثالث في الأزمنة، إذا كانت سقيمة، أو سليمة قال أبقراط: إنه إن كان طلوع الكواكب وغيرها على ما ينبغي، وكانت مياه كثيرة في الخريف، وفي الشتاء يسيرة، ولا يكون الصحو كثيراً، ولا البرد فوق المقدار، فكانت مياهها معتدلة في الربيع وفي القيظ، كانت سليمة صحيحة، ويصح الهواء.
    وإذا كان الشتاء يابساً شمالياً، والربيع كثير الأمطار جنوبياً، عرض للناس في الصيف الحمى و
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:08 am

    لرمد، واختلاف الأغراس لكل ذي طبيعة رطبة، وإذا كان في وقت طلوع الكوكب الذي يدعى الكلب، وهو الشعري، مطر كثير، وشتاء، وهبت الرياح على أنواثها، كفت الأسقام، ورجى أن يكون الخريف صحيحاً، فإن لم يكن ذلك كان الموت في الصبيان وفي النساء، وقل في المشيخة، فمن نجا عرضت له الحمى الربع، وربما آل إلى جمع الماء الأصفر.
    وإذا كان الشتاء جنوبياً كثير الأمطار، والربيع يابساً شمالياً، فإن النساء الحوامل يسقطن في فصل الربيع فإن ولدن كان أولادهن مسقومين، إما يموتون من ساعتهم، وإما يعيشون مهازيل، وأما سائر الناس، فمنهم من يعرض له الاختلاف ورمد يابس، ومنهم من يعرض له النزلات من رأسه إلى رئته، فأما المبلغمون والنساء فيعرض لهم اختلاف الأغراس، وأما أصحاب المرة الصفراء فتعرض لهم النوازل لسخافة جلودهم، وذبولة عصبهم، وربما ماتوا فجأة، وربما يبس جانبهم الأيمن.
    وما كان من الأمصار يقابل شرق الشمس، ورياحة سليمة، ومياهه غائرة، فقل ما يضيره تغير الهواء، وكل مدينة يشرب أهلها ماء ساخناً، بطاحياً، وليست موضوعة سمت الشرق، وليست رياحها سليمة، ضير بأهلها تغير الهواء، وإن كان الصيف يابساً عاماً ذهبت الأمراض سريعاً، وإن كان كثير الأمطار طالت الأمراض وإن عرض لأحد من الناس قرحة في هذه الأسقام، أو البطن، أو الماء الأصفر، هلك.
    وإذا كان الصيف كثير الأمطار، وكان جنوبياً، والخريف، كمثل ما كان الشتاء، يابساً سقيماً، فتعرض للمبلغمين والشيوخ أبناء أربعين سنة حمى تسمى القوسوس، وأما أصحاب المرة الصفراء، فيعرض لهم ذات الجنب، ووجع الرئة.
    وإذا كان الصيف يابساً جنوبياً، وكان الخريف كثير الأمطار شمالياً، عرض للناس وجع الرأس، وسعال، وبحوحة، وزكام، وعرض لبعضهم السل.
    وإذا كان الصيف يابساً شمالياً ولم يمطر عند طلوع الشعري نفع أصحاب البلغم والرطوبات، وأضر بأصحاب المرة الصفراء، وربما نقلهم إلى المرة السوداء، والتغير الكثير يكون في تصرف الشمس، والتصرف الصيفي أكثر تغيراً من الشتوي، والخريفي أكثر تغيراً من الربيعي، وكل بلد يكثر تغير زمانه لا يكون مستوياً، ويكون فيه جبال طوال، سامية شامخة، وكل بلد يقل تغير زمانه فهو مستو.
    ثم يذكر أبقراط اختلاف صور الناس في أحوالهم واعتدال خلقهم، والسبب الذي أشبه بعضهم بعضاً، وإن ذلك باتفاق الزمان والمطالع، ويذكر حال الرجال والنساء في كثرة الأولاد و قلتهم، وما يوجب النسل ويقطعه، ويقولون: إن سكان البلاد الشاهقة، المستوية، الكثيرة المياه، تكون صورهم حسنة وأجسامهم جسيمة، وتكون غرائزهم إلى اللين والتؤدة، وليسوا بأهل بأس وشجاعة، ومن سكن أرضاً رقيقة قليلة المياه، جرداء، وكان مزاج هوائها غير معتدل، كانت صورهم خاشنة، وألوانهم إلى الصفرة، أو إلى السواد، وأخلاقهم ردية، وغضبهم شديد، و طباعهم مخالفة بعضها بعضاً، لأن باختلاف الأزمان يكون اختلاف الطبائع، ثم بعد الأزمان والبلاد الغذاء بالمياه لأن غذاء الإنسان، من بعد البلاد بالمياه.
    ثم يتكلم أبقراط بعد ذلك في الرياح وهبوبها، والتي تهب من موضع إلى موضع، و قسمها أربعة أقسام، ويقول: إن الريح من تخلل الهواء، وإنما نشوءها من اصطكاك أجرام الهواء، فهذه أغراض كتاب أبقراط في الأهوية والأزمنة، الذي فسره جالينوس، وشرح ما ذهب إليه أبقراط في فصل فصل ومعنى معنى.
    فهذه كتب أبقراط التي عليها يعتمد وإليها يرجع، وهذه أغراضها، وقد فسرها جالينوس وشرح كل ما فصله له، وذهب إليه، وأبان عن قوله، وترجم معانيه وأوضحها.
    فأما كتاب ماء الشعير، فإنه يذكر فيه الأمراض الحادة التي تسمى: وجع الجنب والرئة، والبرسام، والحمى المحرقة، وأخبر كيف يشرب ماء الشعير، والأيام التي يكون شربه فيها، وكيف يدبر، ومتى الأوقات التي ينبغي أن يشرب فيها، والأوقات التي يمنع منها، وما يكون الطعام عليه، وذكر صنوفاً من العلل الحادة والأمراض المحرقة، وقال في كل صنف منها. وأما كتابه الذي يسميه كتاب الأركان فإن معنى الأركان، أي الطبائع الأربع: الحرارة و الرطوبة، والبرودة واليبوسة، وأركان البدن وهي العصب والعروق، والعظام، والجلد، والدم، فهذه أركان بها قوام العالم.

    قال أبقراط: إن الأجسام لو كانت شيئاً واحداً لم تصل الأوجاع إليها أبداً، ولكنها من أشياء مختلفة وطبائع متباعدة، مضر بعضها ببعض، وطبيعة الإنسان وسائر الحيوان، إذا صارت على هذه الصفة، فمن الضرورة ألا يكون الإنسان شيئاً واحداً بعينه، وكذلك سائر الطبائع، إنما قوامها بالرطوبة واليبس، والحر و البرد، ويتكلم في هذا بكلام واضح.
    وكان لأبقراط تلاميذ ترجموا كتبه، وبعضهم عمل كتبا ونسبها إليه إقرارا له بالعلم والفضل، فمنهم دياسقوريدس صاحب كتاب الأشجار والعقاقير، فإنه وضع كتاباً في منافع الأشجار، وصور كل شجرة بصورتها، وذكر ما تنفع له تلك الشجرة، ومنهم أرسجانس صاحب الكناش الذي فيه صفة البدن.
    فكان أحكم حكيم بعده، وأهم عالم بالطب، وأفهمه، لما فسر من كتاب أبقراط، هو جالينوس، على تباعد ما بينهما من السنين، فإن بينهما زماناً طويلاً، غير أنه كالذي تلا أبقراط في الحكمة، ولحق به في العلم، وفسر كتبه، وعمل كتباً كثيرة من كتب الطب التي عليها المعول، وإليها يرجع، وكان رجلاً فيلسوفاً، منطقياً، حكيماً.
    فأول كتب جالينوس: كتاب في فرق الطب المخالفة بعضها بعضاً في الجنس، وهي فرقة الرأي والفكر والقياس، والفرقة الثانية فرقة التجارب، والثالثة فرقة الحيل.
    وكتاب في الطعام.
    وكتاب في نبض العروق.
    وكتاب في تشريح العصب.
    وكتاب في تشريح العروق والأوراد.
    ومقالتان في علل النفس.
    وأربع مقالات في الصوت.
    وكتاب في منافع الأعضاء سبع عشرة مقالة.
    وكتاب في تشريح الرحم.
    وكتاب في علامات العين.
    وكتاب في طب أصحاب التجارب.
    وثلاث مقالات في ركة الرئة والصدر.
    وكتاب التشريح الكبير في خمس عشرة مقالة فالمقالة: الأولى في العضل والرطوبات التي في اليدين.
    والثانية في العضل الذي في الرجلين. والثالثة في العصب والعروق والأوراد التي في اليدين والرجلين.
    والرابعة في العضل الذي يحرك الخدين والشفتين، والعضل الذي يحرك اللحي الأسفل إلى ناحية الرأس، وإلى ناحية الرقبة، وإلى ناحية الكتفين.
    والمقالة الخامسة في عضل الصدر، والعضل الذي على المتنين، وعضل عظم الصلب. والمقالة السادسة في آلات الغذاء، وهي الأمعاء، والبطن، والكبد، والطحال، والكلي، والمثانة، والمرارة، وما أشبه ذلك. والمقالة السابعة في تشريح الفؤاد.
    المقالة الثامنة في أجزاء الصدر.
    المقالة التاسعة في تشريح الفؤاد.
    المقالة العاشرة في تشريح العينين واللسان والمريء وما يتصل به.
    المقالة الحادية عشرة في الحنجرة والعظم الذي يتصل بها، والعصب الذي تحتها.
    المقالة الثانية عشرة في تشريح آلات التوليد يعني آلات المنى، والرحم، والمذاكير.
    المقالة الثالثة عشرة في تشريح العروق النابضة، وهي الشريانان والعروق التي لا تنبض.
    المقالة الرابعة عشرة في العصب المنبت من الدماغ.
    المقالة الخامسة عشرة في العصب المنبت في الصلب.
    وله كتاب التشريح غير هذا في عدة مقالات قد ذكر فيها الجلد، والشعر، و الأظفار، واللحم، والشحم، ولحم الوجه، والأغشية التي تغشى بعض الأعضاء مثل غشاء القلب، والمعدة، و الكلي، والكبد، والصفاقات، والعضلة الفاصلة بين الصدر والبطن، والمجاري، والعروق النابضة، وفصد العروق، ومن أين تبتدىء العروق، ومجاري البول فيما بين الكليتين، والمثانة إلى الذكر، ومجراه من المثانة إلى السرة في الطفل، وأوعية المرة الصفراء والمسام، والمنخرين والمجاري الخارجة من الأذنين، وقصبة الرئة، وما ينبت فيها وينبت في الرئة و الأوعية التي في الثديين، التي فيها اللبن، وباقي الأشياء المفرعة التي في البدن، التي تحويها الأوعية من أي شيء من الرطوبات، والأشياء المفرغة في أي شيء من الأوعية، وما في الرأس من الشؤون والالتحام، وغير ذلك والشؤون التي في الوجه واللحي الأسفل، وما فيه من النقب والالتحام، والأسنان، والعظم الذي على رأس قصبة الرئة، وما يتصل به من جنبتي الموضع، والعظم العريض الذي في البطن، والورك، والأضلاع، والكتفين، والمنكبين، وعظم

    الترقوتين، والعضد، وعظم الساق، وعظام الكف والأصابع، وعظم الفخذ، والقصر، والذي على الركبة، وعظم الساق، وعظام القدم، واشتراك قحف الرأس بالأغشية التي على الدماغ، والعصب الذي ينبت في الوجه كله، والعضل الذي في الصدغين، والعضل الذي به يكون المضغ، والعضل الذي يحرك الخدين والشفتين واللسان، وما يحركه من العضل، والعضل الذي يحرك العينين، ويذكر الفم والشفتين، واللسان، واللثة، واللهاة، وطبق الحلقوم، والنغانغ، والأنف، والمنخرين، والأذنين، والرقبة، والعضل الذي فيها، والعضلة التي على الأصابع، والعضلة التي تحت الترقوة، وطبيعة الرقبة، وعضل الحجاب والساعد، ويقول في التشريح قولا هذا غرضه فيه.
    ومقالتان في علل النفس.
    وكتاب القوى الطبيعية في الأفعال النفسانية.
    ومقالة في البول من الدم.
    ومقالة في الأدوية المسهلة.
    وكتاب يسميه آراء أبقراط وأفلاطون في قوى النفس الناطقة وهي التخيل، والفكر، والحفظ، ويقول: إن الدماغ مبتدأ العصب، والقلب مبتدأ العروق النابضة، والكبد مبتدأ العروق التي لا تنبض، والقوى التي يقوم بها البدن في عشر مقالات، ومنافع الأعضاء في سبع عشرة مقالة.
    كتاب العناصر يخبر فيه أن الحار والبارد، والرطب واليابس، عناصر عامية لجميع الأجسام التي تقبل الكون، والفساد، والعناصر: الأرض والنار و الهواء والماء، وعناصر بدن الإنسان: دم وبلغم، والمرتان الصفراء والسوداء، والعنصر هو أقصى جزء في الشيء الذي هو له عنصر.
    وكتاب الأمزجة، وهو ثلاث مقالات في تصنيف أمزجة أبدان الناس، وتركيب البدن الفاضل، وخصب البدن، والمزاج الردي الذي ليس يستوي، وقوى الأدوية المركبة والأدوية التي يسهل وجودها.
    وكتاب حفظ الأصحاء.
    وكتاب في الأطعمة.
    وكتاب في الكيموس الجيد والردي.
    وكتاب في التدبير الملطف.
    ومقالة في تصنيف الأمراض.
    ومقالة في علل الأمراض.
    ومقالة في تصنيف الأمراض.
    ومقالة في الغلظ الخارج من الطبيعة.
    ومقالة في الامتلاء.
    ومقالتان في تصنيف الحميات والأمراض الباطنة.
    وكتاب في إزمان الأمراض.
    وكتاب في عسر النفس.
    وكتاب في البحرانات.
    وكتاب في نبض العروق ومعرفة كل واحد من أجناس النبض.
    والأسباب الفاعلة لأصناف النبض. وتقدمه معرفة في ست عشرة مقالة.
    وكتاب حيلة البرء، وهو كتاب بين فيه طريق شفاء جميع الأمراض، واتبع ذلك في هذا الفن. ومقالة في العلل الواصلة، وهي العلل القريبة التي تصل ما بين العلة البعيدة والمريض.
    ومقالة في البول من الدم في البدن.
    وكتاب في فرقة أصحاب الحيل.
    ومقالة في السل.
    ومقالة في علاج صبي يرضع.
    ومقالة في تدبير أبقراط للأمراض الحادة.
    ومقالة في فصد العروق، وفسر كتب أبقراط، في فصل فصل، وقول قول، وبين الحال الحال فيه.
    والذي تلا أبقراط من رؤساء الحكماء سقراط، رأس الحكماء، وأول من لفظ بحكمته ما حفظ عنه وسمع منه.
    وحكي أن طيماوس قال له: أيها المعلم! لم لا تدون لنا حكمتك في المصاحف؟ قال له: يا طيماوس، ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأشد تهمتك للجواهر الحية الخالدة، وكيف وجود العلم من معدن الجهل، والسبب منه من عنصر العقل؟ فقال له إيعطبطش تلميذه: لو أمليت على كتاباً يخلد عنك؟ فقال: الحكمة لا تحتاج إلى جلود الضأن.
    وقال بعض تلامذته: لو زودتنا كتاباً من حكمتك تسبر به عقولنا؟ قال له سقراط: لا ترغبن في تدوين حكمه في جلود الشاء، حتى يكون ذلك أبلغ عندك من علمك ولسانك.
    فلما حضرته الوفاة سأله تلاميذه أن يزودهم حكمة يرجعون إليها، فتكلم في أخلاق النفس، ثم تكلم في الفلك، وقال إنه كري، وكان قد سقي سماً فمات.
    وبعده فيثاغورس، وهو أول من نطق في الأعداد والحساب والهندسة، ووضع الألحان، وعمل العود، وكان في زمن ملك يقال له أغسطس، فهرب منه، فتبعه، وركب فيثاغورس البحر حتى صار إلى هيكل في جزيرة، فأحرقه الملك عليه بالنار.
    وكان لفيثاغورس تلميذ يقال له أرشميدس، فعمل المرايا المحرقة، فأحرقت مراكب العدو في البحر.
    ومنهم بلينوس النجار الذي يقال له اليتيم، وهو صاحب الطلسمات، وهو الذي جعل لكل شيء طلسماً.

    ومنهم أوجانس صاحب الهندسة والقسمة، وأنواع الفلسفة، وكان يقال له ديوجانس الكلب، وقيل له: لأي شيء سميت الكلب؟ قال: لأني أهر على الأشرار، وأبصبص للأخيار، وآوي الأسواق. ومنهم افليمون صاحب مخانيقاً، وهي الحركات التي تكون بالماء مثل الصورة تعمل، فيحركها الماء من غير أن يحرك شيء منها، ويخرجها من موضع، ويحطها في موضع، والآلات التي تحرك بالماء من غير أن تحرك، فتخرج فيبتلعها، وتخرج أيضاً، وترتحل محققة، وله أشكال في ذلك تعمل فتصح.
    ومنهم افليمون صاحب الفراسة، وكتاب بين فيه ما تدل عليه الفراسة في الخلقة والأصوات، والشمائل، وبرهن ذلك.
    ومنهم ديمقراطيس، وهو الذي يزعم أن العالم مركب من هباء، وله كتاب في طبائع الحيوان، وما يوافق منها طبائع الإنسان.
    ومنهم أفلاطون، وكان تلميذاً لسقراط، وهو الذي تكلم في النفس وصفاتها مثل ما تكلم به أبقراط في الجسد وصفاته فقال: إن للنفس ثلاث قوى: إحداها في الدماغ، وبه يكون الفكر و الروية، والثاني في القلب، وبه يكون الغضب والشجاعة، والثالث في الكبد، وبه تكون الشهوة والمحبة، ثم اطرد الكلام في الروح النفسانية حتى وصف الأعضاء كلها، ثم ذكر ما يصلح النفس وما يفسدها، فقال: إن كل عيب مضاد خلاص النفس، فلا ينبغي أن نعد الحياة صالحة فقط، ولكن موتاً صالحاً، وينبغي أن نعد الحياة والموت صالحين.
    ومنهم إقليدس صاحب كتاب إقليدس في الحساب، وتفسير إقليدس: المفتاح، على ما قال بطليموس، إنه تقدمه لمعرفة الحساب، ومفتاح علم كتاب المجسطي في النجوم، ومعرفة الأوتار التي تقع على قسي قطع الدوائر التي هي أفلاك الكواكب، التي يسميها المنجمون الكردجات، لتعديل مسير الكواكب في الطول والعرض، وسرعتها، وإبطائها، واستقامتها، ورجوعها، و تشريقها، وتغريبها، ومساقط شعاعها، وعلم ساعات الليل والنهار، ومطالع البروج، واختلاف ذلك في أقاليم الأرض، وحساب القران والاستقبال، وكسوف الشمس والقمر، واختلاف النظر من آفاق الأرض في جميع نواحي السماء.
    وكتاب إقليدس ثلاث عشرة مقالة، ولها من الأشكال في هذه الثلاث عشرة مقالة أربعمائة واثنان وخمسون شكلاً بالبرهان والشرح الذي، إذا فهمه من يطلب علم الحساب، سهل عليه كل باب من الحساب، وانفتح له. فيبتدىء بذكر الأسباب التي منها يزلف العلم، وبمعرفتها يحاط بالمعلوم، وهي: الخبر، والمثال، والخلف، والترتيب، والفصل، والبرهان، والتمام، فأما الخبر، فهو خبر المقدم على الجملة، قبل التفسير، وأما المثال، فهو صورة الأشكال المخبر عنها، المدلول بصفتها على معنى الخبر، وأما الخلف، فهو خلاف المثال، وصرف الخبر إلى ما لا يمكن، وأما الترتيب، فهو تأليف العمل المتفق على مراتبه في العلم، وأما الفصل، فهو الفصل بين الخبر الممكن وغير الممكن، وأما البرهان، فهو الحجة على تحقيق الخبر، وأما التمام، فهو تمام العلم بالمعلوم. والمقالة الأولى في النقطة التي لا جزء لها، والخط الذي هو طول بلا عرض، وهو سبعة وأربعون شكلاً.
    المقالة الثانية في كل سطح متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، يحيط به الخطان المحيطان بالزاوية القائمة، وهي أربعة وأربعون شكلاً.
    المقالة الثالثة في الدوائر المتساوية التي أقطارها متساوية، والخطوط التي تخرج من مراكزها إلى الخطوط المحيطة بها، والخط المماس الدائرة الذي يجوزها، ولا يقطعها، وهي خمسة وثلاثون شكلاً.
    المقالة الرابعة إذا كان شكل في شكل، وكانت زوايا الشكل الداخل تماس أضلاع الشكل الخارج وهي ستة عشر شكلاً.
    المقالة الخامسة في الجزء الذي هو مقدار الأكبر من المقدار الأصغر من الأعظم، إذا كان يعده، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
    المقالة السادسة في السطوح المتساوية التي زوايا كل سطح منها مساوية لزوايا السطح الآخر، والأضلاع التي تكون تحيط بالزوايا المتساوية متناسبة، والسطوح المتكافية الأضلاع التي تكون أضلاعها متناسبة، وهي اثنان وثلاثون شكلاً.
    المقالة السابعة في الواحد والعدد الزوج الذي ينقسم بقسمين متساويين.
    والعدد الفرد الذي لا ينقسم بقسمين متساويين، ويزيد على الزوج بواحد.
    والعدد الذي يسمى زوج الزوج، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها زوج.
    والعدد الذي يسمى زوج الفرد، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها فرد.

    والعدد الذي يسمى فرد الفرد، وهو الذي كل فرد يعده بعدة مرات عددها فرد.
    والعدد الذي يسمى أول هو الذي يعده الواحد فقط.
    والأعداد التي كل واحد منها أول عند الآخر، هي التي ليس بها عدد مشترك يعدها جميعاً إلا الواحد فقط. والعدد المركب هو الذي يعده عدد آخر.
    و الأعداد التي كل واحد منها مركب عند الآخر هي التي يعدها عدد آخر مشترك لها.
    والعدد المضروب في عدد آخر هو الذي يضاعف بعده ما في المضروب فيه من الآحاد، ويكون ما اجتمع عدداً آخر.
    والعدد المربع هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ويحيط به عددان متساويان.
    والعدد المكعب هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ثم في نفسه، ويحيط به ثلاثة أعداد متساوية.
    والعدد المسطح هو الذي يحيط به عددان. والعدد المصمت هو الذي يحيط به ثلاثة أعداد. والعدد التام هو المساوي لجميع أجزائه.
    والأعداد المتناسبة هي التي يكون في الأول منها من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع.
    والأعداد المسطحة والمصمتة المتشابهة هي التي أضلاعها متناسبة، وهذه المقالة تسعة وثلاثون شكلاً.
    المقالة الثامنة في الأعداد التي تلي بعضها بعضاً والطرفين اللذين كل واحد منهما أول عند الآخر، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
    المقالة التاسعة في ضرب الأعداد المسطحة المتشابهة، وما يكون من ضرب العدد في العدد المربع.
    والأعداد التي يعد بعضها بعضاً.
    والعدد المكعب في العدد المكعب، وما يكون من ضرب المكعب في عدد غير مكعب، وما يكون من الأعداد المؤلفة على نسب يتلو بعضها بعضاً من المربع، وكيف يكون المكعب وما يكون في الأعداد المتناسبات من المصمت المكعب والمسطح.
    والأعداد التي يعد بعضها بعضاً وكيف تنتقض الأزواج من الأزواج، والأفراد من الأفراد، والأزواج من الأفراد، والأفراد من الأزواج، وهي ثمانية وثلاثون شكلاً.
    المقالة العاشرة في الخطوط التي يكون لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، يقال لها المتقادرات، والخطوط المتباينات التي ليس لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، والخطوط المتقادرات التي يكون لمربعاتها سطح واحد يكون مقداراً لها يقدرها، وهي مائة وأربعة أشكال. المقالة الحادية عشرة في المصمت الذي له طول وسمك وسطح، وهي أحد وأربعون شكلاً. المقالة الثانية عشرة في السطح الكثير الزوايا المتشابهة التي قدر بعضها عند بعض في الدوائر، كعدد المربعات التي تكون من أقطار الدوائر، وهي خمسة عشر شكلاً.
    المقالة الثالثة عشرة وهي آخر مقالات إقليدس في خط يقسم على ذات وسط وطرفين، وهي واحد وعشرون شكلاً.
    ولأقليدس هذا كتاب في المناظر، واختلافها من مخارج العيون والشعاع، يقول فيه: إن الشعاع يخرج من العين على خطوط مستقيمة، وتحدث بعد سموت لا نهاية لكثرتها، فإن الأشياء التي يقع عليها الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها الشعاع لا تبصر، ويمثل في ذلك أشكالاً مختلفة يبين بها مخرج النظر، وكيف تختلف عدة الأشكال التي يبين بها ذلك وهي أربعة وستون شكلاً.
    ومنهم نيقوماخس الحكيم الفيثاغوري، وهو الذي يسمى القاهر عند المفاضلة، وهو أبو أرسطاطاليس، وله كتاب الأرثماطيقي الذي قصد فيه لإبانة الأعداد، وذكر ما تقدمت به الفلاسفة.
    فقال نيقوماخس: إن القدماء الأولين الذين أظهروا العلم ونفذوا فيه، وكان أولهم فيثاغورس، حدوا بأن قالوا: إن الفلسفة معناها الحكمة، وإن اسمها مشتق منها، فقالوا: الحكمة حقيقة العلم بالأشياء الدائمة، وأفتن في صدر الكتاب في ذكر الحكمة وفضلها، وما قالته الحكماء في فضيلة العلم، ثم افتتح كتابه فقال:

    إن جميع ما في الدنيا من الأشياء المحكم في الطبيعة تقديرها، إنما هو بالعدد، وقد يحقق القياس قولنا: إن العدد بمنزلة المثال الذي يحتذي عليه، وهو كله بكماله معقول، وهذه الأشياء التي تلحقها كلمة الكمية، وهي أشياء مختلفة، فمن الاضطرار أن يكون هذا العدد اللازم بهذه الأشياء مؤلفاً مقدراً على حدته لا من أجل غيره، فإن كل مؤلف إنما هو من أشياء مختلفة لا محالة، ومن أشياء موجودة، فإن التي ليست بموجودة لا يقدر على تأليفها، وما كان منها موجوداً، إلا أنها غير متشاكلة، يمكن تأليفها، والأشياء المؤتلفة إنما تألفت من أشياء موجودة مختلفة متشاكلة، لأنه إن لم يكن مختلفاً، فهو واحد لا يحتاج إلى ائتلاف، فإن لم يكن متشاكلا فليس بمتجانس، وإن ليس متجانساً، فإنما هو متضاد لا يقع به ائتلاف.
    والعدد هو من هذه الأشياء، فإن فيه نوعين مختلفين، متشاكلين، متجانسين، وهو الزوج والفرد فإن ائتلافهما على حسب اختلافهما يعد تألفا مشتبكاً لا انقضاء له.
    فالقول الأول من الأرثماطيقي في أبواب أحدها حدود العدد، وهو ينقسم قسمين يقال لأحدهما الفرد، والآخر الزوج، فالفرد ينقسم ثلاثة أقسام: منه أول غير مركب، وهو الذي لا يعده عدد مثل سبعة، وأحد عشر.
    ومنه ثان مركب، وهو الذي له عدد مثل: تسعة، وخمسة عشر.
    ومنه ثالث مركب بطبعه، وعند الإضافة إلى مركب آخر أول، وهما اللذان لكل واحد منهما عدد يعده، وليس لهما عند المقايسة عدد مشترك مثل: تسعة إلى خمسة وعشرين.
    والزوج ينقسم ثلاثة أقسام منه زوج الزوج، وهو المنقسم أزواجاً إلى الوحدانية، مثل: أربعة وستين.
    ومنه زوج الفرد، وهو المنقسم مرة واحدة بنصفين، ثم يقف مثل: أربع عشرة وثماني عشرة. ومنه زوج الزوج والفرد، وهو الذي لا ينقسم نصفين أكثر من مرة، ولا ينتهي إلى الوحدانية، وتكلم في هذا بكلام مشروح.
    والقول الثاني في الكمية المفردة، وهو العدد الزائد والعدد المعتدل والناقص، فأما الزائد، فهو الذي تزيد جملة أجزائه على جملته إذا اجتمعت الأجزاء مثل: اثني عشر، وأربعة وعشرين، فإن الاثني عشر لها نصف وثلث وربع وسدس، وجزء من اثني عشر، فإذا جمعتها زاد العدد و المعتدل الذي تعادل جملة أجزائه جملته مثل: ستة، وثمانية وعشرين، فإن لستة نصفاً وثلثاً وسدساً، فيكون مبلغه، إذا جمع، ستة سواء، والناقص الذي تنقص جملة أجزائه من جملته مثل ثمانية، وأربعة وعشرين، فإن الثمانية لها نصف وربع وثمن، فإذا اجتمع كان سبعة ونقص واحداً وجعل في ذلك أشكالاً.
    وأصح القول القول الثالث في الكمية المضافة، وهي تنقسم قسمين: أحدهما المعادلة لما أضيف إليها مثل المائة المعادلة للمائة، والعشرة المعادلة للعشرة، ومنه الخروج عن الاعتدال، وينقسم قسمين: أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير ينقسم خمسة أقسام، فمنه: المتضاعف مثل اثنين من أربعة، وأربعة من ثمانية، ومنه الزائد جزءا مثل ثلاثة عند أربعة، فإن الأربعة مثلها و مثل ثلثها، ومنه الزائد جزءين مثل ثلاثة، وهي أول الأفراد، إلى الخمسة، وهي الثانية من الأفراد، فتحدث زيادة جزءين، ثم على هذا الترتيب تحدث زيادة أجزاء، ومنه المضاعف الزائد جزءا، وهو يظهر بين عددين: أحدهما مثل الآخر ومثل جزء منه كالخمسة، إذا أضيفت إلى الاثنين، فإنه مثل مضاعف الاثنين و زيادة جزء، ومنه المضاعف الزائد جزءين مثل أربعة عند واحد، والصغير ينقسم على خمسة أقسام: منه تحت المضاعف، ومنه تحت الزائد جزء، ومنه تحت الزائد أجزاء، ومنه تحت المضاعف أجزاء.
    ثم يقول في الأعداد الثلاثة التي أحدها كبير والآخر وسط والثالث صغير، فإذا طلب اعتدالها ألقي من الأوسط مثل الأصغر، ومن الأعظم مثل ما بقي من الأوسط، ومثل الأصغر، فإذا تعادلت الأعداد فقد تمت إضافتها.

    ثم يقول فيما يزيد من الأعداد وينقص في المضاعفات، ويجعل لذلك شكلاً مثلياً بركنين، وفي الشكل واحد وعشرون بيتاً: فالأول ستة أبيات، و أوله واحد، ثم يضعفه إلى اثنين وثلاثين، والثاني خمسة أبيات، وأوله ثلاثة، ثم يضعفه إلى ثمانية وأربعين، والثالث أربعة أبيات، وأوله تسعة، ثم يضعفه إلى اثنين وسبعين، والرابع ثلاثة أبيات، وأوله سبعة وعشرون، ثم يضعفه إلى مائة وثمانية، والخامس بيتان أوله واحد وثمانون، ويضعفه فيصير مائة واثنين وستين، والسادس بيت، وهو آخره، مائتان وثلاثة وأربعون.
    ثم يقول في العدد المربع الذي يزيد عليه ضعفه، ثم يتكلم في السطوح والخطوط والنقط، ويصف السطوح المثلثة والمربعة والمسدسة، والأضلاع التي يقوم بها السطوح ومسائحها.
    ثم يقول في العدد المخمس ذي الأضلاع المعتدلة المخمسة، وكيف نموها، ثم المسدسة، ثم المسبعة، ثم المثمنة، ثم يصف كيف تركيبها، ويضرب لها جدولاً خمسة في تسعة، ويتكلم في أجزاء من المثلثات والمربعات والمخمسات والمسدسات مما له جرم بلا سطح، وما له جرم وسطح.
    ثم يقول في تركيب الأشياء التي تركب من أخلاط شتى.
    ثم يقول في الوسائط التي هي ثلاثة أنواع: واحد للحساب، والثاني للمساحة، والثالث لتأليف اللحون، ويقول إن بعض الأولين جعلوها عشراً، وبين وسائط الحساب، ووسائط المساحة، ووسائط اللحون، ويتكلم في كل نوع منها بكلام مشروح وبرهان بين.
    ومنهم اراطس الذي عمل صورة الفلك كهيئة البيضة، فحكى بها الفلك، وصور فيها البروج.
    ومنهم أرسطاطاليس بن نيقوماخس الجهراسيني، وكان تلميذاً لأفلاطون، فتكلم في العالم العلوي والسفلى، في صلاح العالم وفساده، وفي أخلاق النفس، وفي حقيقة المنطق، ووضع أصول الحكمة وانقسامها وتشعبها، فأول كتبه: كتاب المدخل إلى علم الفلسفة، وهو الذي يسمى باليونانية إيساغوجي، فأوله ذكر الحد، وما قوام الحد، ومن أين اشتق اسم الحد، وما فضيلة الحد، وما فيه فساد الحد، والفرقة بين الحد والمحدود.
    والثاني ذكر الفلسفة، وكيف اشتقت. والثالث كتاب قوى النفس التي هي بالفكر والغضب والشهوة، فما خرج عن هذا الاعتدال كان فاسداً.
    والكتاب الرابع في المنطق الذي هو أصل الفلسفة.
    والكتاب الخامس يذكر فيه انقسام الأشياء ضربين: ما لا بد منه، كالغذاء، وما منه بد، كتنظيف الثوب.
    والكتاب السادس في الأمور، وهي ثلاثة: واجبة كقولك: النار حارة، وممكنة كقولك: زيد كاتب، وممتنعة كقولك: النار باردة.
    والكتاب السابع في الجنس، وهو ثلاثة أقسام: جنس العادة، وجنس الطبيعة والكتاب الثامن يذكر فيه ما لا يتجزأ، وهو ينقسم على أربعة: إما لأنه لا أجزاء له كالنقطة، و إما لصغره كحبة الخردل، وإما لصلابته كالحجر، وإما أنه لا على أجزاء.
    والكتاب التاسع في المناسبة، وهو على أربعة: إما طبيعة كمناسبة الأب لابنه، وإما مهنة كمناسبة التلميذ معلمة، وإما مشيئة كمناسبة الصديق صديقه، وإما عرضية كمناسبة العبد سيده. ثم كتبه بعد ذلك في أربعة أنواع: أحدها المنطقيات، والثاني في الطبائع، والثالث فيما يوجد مع الأجسام ويواصلها، و الرابع فيما لا يوجد مع الأجسام ولا يواصلها.
    وكتبه في المنطق ثمانية: فالأول سمي بقاطيغورياس، وغرضه فيه القول على المقولات المفردة العشر، ورسمها بما يميز به كل واحد منها من غيره، وما يعمها ويعم العدة منها، و ما يخص كل واحد منها، فحد الأشياء التي تقدمها في الوصف والشبه منها: أن جوهراً محمولاً، وجوهراً حاملاً ليس بجوهري فيه بل عرضي، وأن عرضاً حاملاً وعرضاً محمولاً عليه أي منقولاً عليه ليبين أن جواهر محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، وأعراضاً محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، ويبين عن العشرة بأعيانها، وبرسومها، وعوامها، وخواصها، وهذه العشرة: الجوهر، ثم الكمية، ثم الكيفية، ثم المضاف، ثم الأين، ثم المتى، ثم الفاعل، ثم المفعول، ثم الوضع، ثم الجد.
    وإنما سمي كتاب المقولات لأن هذه الأسماء أجناس، وهي مقولة من الأنواع، والواحد

    بمنزلة الجوهر، فإنه مقول على الجسم، والجسم مقول على المتنفس وغير المتنفس، والمتنفس مقول على الحيوان والنبات، والحيوان مقول على الإنسان والفرس والأسد، والإنسان مقول على زيد وعمرو وخالد التي هي غير متجزئة، والفرس على هذا الفرس بالإشارة، وذلك الفرس بالشبه والكمية مقولة على المتصلة والمنفصلة وسائر أجزائها، وكذلك سائر الأجناس. والثاني هو المسمى بكتاب التفسير، وغرضه فيه القول على التفسير للقضايا المقدمات للمقاييس العلمية، أعني الجوامع التي هي أخبار موجبة أو سالبة أو ما في أوله، فبين عما منه تكون القضايا من الاسم، والحرف، والقول، والتصريف، والمخبر عن القول، وعن القضايا المؤلفة من اسم وحرف، وثالث ورابع كقولنا: النار هي حارة، وما يعرض في ذلك، وفي الفحص عن أي القضايا أشد تناسباً الموجبة لسالبها أم الموجبة للموجبة المضادة لها.
    وإنما سماه كتاب التفسير لأنه أراد المقالة على الجزم، والبسيط المقول، الذي ليس فيه اشتراك اسم، وأراد أن يفصل بينه وبين القول الذي ليس بجازم، الذي يكذب ولا يصدق، وهو تسعة: الاستخبار كقولك: من أين جئت؟ والدعاء كقولك: يا فلان أقبل! والراغب كقولك في الأمر: إني أطلب إليك أن تفعل كذا وكذا، والتعجب كقولك في الأمر: ما الذي يكون من هذا؟ والقسم كقولك: أقسمت بالله لتذهبن، والشك كقولك: لعل الأمر على ما قيل، والوضع كقولك: تكون هذه الضيعة وقفاً على المساكين، والمجازي كقولك: إن فعلت كذا وكذا أجزتك بكذا. والمقالة قد تلقب ألقاباً شتى في جهات مختلفة، فإذا كان القول يوجب شيئاً لشيء سمي موجبة، وإذا كان يفلت شيئاً من شيء سمي سالبة، وإذا كان مقدما ليستخرج منه شيء سمي مقدمه، فإذا كان مستخرجاً من مقدمات قبله سمي نتيجة، وإذا كانت مقدمات ونتيجتها معها سمي صيغة.
    والثالث المسمى أنوليطيقا ومعناه النقائض، وغرضه فيه الإبانة عن الجوامع المرسلة، أعني ما هي، وكيف هي، ولم هي، وغرضه النوع الجامع للمعاني الثلاثة، وما قيل على الجامعة المرسلة، ووجود الجامعة، وكيف تركيب الجوامع، ولكم نوع يكون، وما الذي يظهر من صوادقها بذاته، وما الذي يظهر من الحركة. والكتاب الرابع المسمى أبودقطيقا ومعناه الإصلاح، وغرضه فيه الإبانة عن الأمور المتضحة البرهانية، وكيف هي، وما ذا ينبغي أن يؤلف، ويسمى هذا الكتاب البيان والبرهان، لأنه يصف فيه التمييز الذي يميز به الحق من الباطل، والصدق من الكذب، فيقول: إن المقدمات على جهة المقدمة المجتمعة عليها، المعروفة عند العامة، المركبة من الجزئين السابقين في العلم، بمنزلة قول القائل: كل إنسان حي.
    والثانية الموجبة للمجادلة، فإنها، وإن كانت صحيحة في نفسها، مجهولة عند العامة، وهي تحتاج إلى وساطة يعرف بها صحتها، بمنزلة قولنا: كل إنسان جوهر.
    فأما كتابه الخامس المسمى طوبيقا فغرضه فيه الإبانة عن الأسماء الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، عن الحد، فتعرف ماهية الجنس، وماهية النوع، لئلا يذهب عن أحدها الجنس والنوع، فإنما يعرف هذا بالفصل الذي يفصل بين النوع و الجنس، وما خاصية كل واحد منهما، أو ما الأعراض من الجواهر.
    وأما كتابه السادس، وهو المسمى سوفسطيقا، فغرضه فيه القول على المغالطة، ويقول كم نوعا تكون المغالطة، ويخبر كيف الاحتراس من قبول تلك الأغاليط، وهو الذي رد فيه على السوفسطائية.
    وأما كتابه السابع، وهو المسمى ريطوريقا، ومعناه البلاغة، فغرضه فيه القول في الأنواع الثلاثة: في الحكومة، وفي المشورة، وفي الحمد، وفي الذم، والجامع لها التقريظ.
    وأما كتابه الثامن، وهو المسمى فوايطيقا، فغرضه فيه القول على صناعة الشعر، وما يجوز فيه الشعر، وما يستعمل من الأوزان، وكل نوع فهذه أغراضه في كتبه المنطقيات الأربعة المقدمة، والأربعة الثانية.
    فأما كتبه الطبيعية فالأول كتاب سمع الكيان، وهو الخبر الطبيعي بين فيه عن الأشياء الطبيعية، وهي خمسة، المشتملة على الطبائع كلها التي لا وجود لشيء من الطبائع دونها، وهي:

    العنصر، والصورة، والمكان، والحركة، والزمان، فإنه لا وجود لزمان إلا بحركة، ولا وجود لحركة إلا بمكان، ولا وجود لمكان إلا بصورة، ولا وجود لصورة إلا بعنصر، وهذه الخمسة منها اثنان جوهران، وهما: العنصر والصورة، وثلاثة أعراض جوهرية.
    والثاني هو المسمى كتاب السماء والعالم، وغرضه فيه الإبانة عن الأشياء الفلكية غير ذوات الفساد، وهي صنفان: أحدهما صنف مستدير الصنعة، وحركته الاستدارة، وهو الفلك المحيط بالأشياء، وهو ركن خامس لا يلزمه الكون، ولا الفساد، والصنف الثاني الفلكي المستدير بالتكوين، وإن لم يكن مستديراً بالحركة، وهي الأربعة الأركان: النار والهواء والأرض والماء، فإن هذه ليست بمستديرة الحركة بل مستقيمة الحركة، مستديرة بالكون، والمستديرة الكون هي التي يكون بعضها من بعض، بالانقلاب، بمنزلة الشيء الذي يستدير وينقلب، بمنزلة النار التي تستدير وتنقلب فتكون من الهواء، والهواء من الماء، والماء من الأرض، وكل واحد من هذه الأركان يستدير بالكون بعضه على بعض، فالنار والهواء إلى فوق، والماء والأرض إلى أسفل. وكتابه الثالث هو المسمى كتاب الكون والفساد، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية الكون والفساد، ككون الماء هواء، والهواء ماء، وكيف يكون، وكيف يفسد بالطبيعة.
    والكتاب الرابع في الشرائع، وهو كتاب المنطق في الآثار العلوية، وغرضه فيه الإبانة عن عرض الكون والفساد، وكون كل كائن وفساده، مما بين نهاية فلك القمر إلى مركز الأرض، فيما بين الجو وما على الأرض، وما في بطنها، وعن الآثار العارضة فيها: كالسحاب، والضباب، والرعد، والبرق، والريح، والثلج، والمطر، وغير ذلك.
    وكتاب في المعادن، وهو الخامس، وغرضه فيه الإبانة عن كون الأجرام المتكونة في باطن الأرض، وكيفياتها، وخواصها، وعوامها، والمواضع الخاصة بها.
    والكتاب السادس في الإبانة عن علل النبات، وكيفياته، وخواصه، وعوامه، وعلل أعضائه، والمواضع الخاصة به، وحركاته، فهذه أغراضه في كتبه الطبيعية.
    فأما كتبه النفسانية، فهما كتابان: فكتابه الأول منهما كتاب النفس، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية النفس، وقوامها، وفصولها، وتفصيل الحس، وتعديد أنواعه، وفضائل النفس وعاداتها، والأمور المحمودة منها، والأمور المذمومة منها، فالمحمودة: المنطق، والعدل، والحكمة، والحكم، والحلم، والشجاعة، والقوة، والجرأة، وشرف النفس، والتحرج، والأمور المذمومة منها: الجور، والفسق، والنفاق، والغش، والكذب، والنميمة، والخيانة.
    والكتاب الثاني في الحس والمحسوس والإبانة عن علل الحس للمحسوس، وغرضه فيه أن يخبر ما الحس والمحسوس، وكيف يقبل الحس الأشياء المحسوسة، وكيف يكون الحس والمحسوس شيئاً واحدا، وهما مختلفان في الأدوات، وهل الأشياء بذواتها وأجرامها أم بذواتها دون أجرامها.
    ثم كتابه في الكلام الروحاني، وغرضه فيه ذكر الصورة المجردة من الهيولى، التي في العالم الأعلى، والقوى الروحانية، ومعرفة اتصال قوى تلك الصور بالقوى الطبيعية، وهل هي بحركة، أو بلا حركة، وكيف تدير تلك القوى هذه القوى، وأن كل واحد من القوى الجرمية الغليظة جزء من تلك الأشياء الشريفة، وبين ما العقل، وما المعقول، وما النفس الكلية، وما هبوطها وطلوعها.
    ثم كتابه في التوحيد، فقال: إن العلية الثانية علة العلل، والدهر تحتها، وهي مبدعة الأشياء، والإبداع لها، وقال في هذا قولا بين فيه التوحيد.
    فأما كتبه في الخلق والإبانة عن أخلاق النفس، والسعادة في النفس والبدن، وتدبير العامة و الخاصة، وتدبير الرجل امرأته، والسياسة، و تدبير المدن، وقصص أهل التدبير للمدن، فهذه أغراض كتب أرسطاطاليس الحكيم المذكورة الشريفة، وما بعدها من الكتب فتبع لها.

    ومن حكماء اليونانيين بطليموس وهو الذي وضع كتاب المجسطي، وكتاب ذات الحلق، وذات الصفائح، وهي الأسطرلاب والقانون، فأما كتاب المجسطي، ففي علم النجوم، والحركات، وتفسير المجسطي الكتاب الأكبر، وهو ثلاث عشرة مقالة، فابتدأ المقالة الأولى من المجسطي بذكر الشمس، لأنها الأس لا يوصل إلى علم شيء من حركات الفلك إلا بها، فقال في الباب الأول: إن الشمس فلك خارج المركز عن مركز العالم قد سمت ناحية منه، مصعدة نحو ما يحاذي بها من فلك البروج، متباعدة عن مركز الأرض، ودنت الناحية الأخرى منه، منحدرة نحو الأرض، متباعدة عما يحاذي بها من فلك البروج، فموضع السمو هو الموضع الذي فيه تبطىء الشمس، وموضع الدنو هو الذي فيه تسرع، ثم تكلم في ذلك بقول واضح.
    والباب الثاني في قدر كلية الأرض عند كلية السماء ووضعت وضع الفلك المائل، وموضع عمران الأرض، ومقادير ساعاتها فيما بين خط الاستواء إلى القطب الشمالي، واختلاف ما بين هذين الموضعين، وقدر ذلك الاختلاف في نواحي الأفق من قبل اختلاف مواضع أهل الأرض، وحركة الشمس والقمر.
    والباب الثالث في الكرة المستقيمة مع قسي فلك البروج المفروضة.
    والمقالة الثانية ثلاثة عشر باباً: الباب الأول في المواضع المسكونة من الأرض.
    الباب الثاني في معرفة مقدار ما بين الفلك المستقيم وبين مطلع الفلك المائل من تقويس دائر أفق المطلع، ومقادير النهار في كل يوم في طوله وقصره.
    الباب الثالث في معرفة ارتفاع القطب وانخفاض الأخرى التي هي مقابلته، وهو عرض الإقليم من الصفة والرسوم قبل ارتفاع القطب، وما بقي إلى منتهى سمت الرءوس التي في تدوير وسط السماء.
    الباب الرابع في معرفة مر الشمس في سمت رؤوس أهل البلاد أين يكون ذلك، ومتى يكون، وفي أي موضع من أجزاء البروج تكون الشمس يومئذ فوق رؤوسهم.
    الباب الخامس في مقدار الظل نصف النهار في برجي الاستواء، وبرجي التغير.
    الباب السادس في خواص المواضع من طريق ما بين المشرق والمغرب، والخطوط التي يوازي بعضها بعضاً في استواء ما بينها من العرض.
    الباب السابع في اختلاف مطالع الفلك المائل عن طلوع الفلك المستقيم. الباب الثامن في جدوله مطالع خطوط أقاليم الأرض ومطلع طريقه خطاً خطاً.
    الباب التاسع في معرفة طول الليل والنهار من أزمان ساعات الأقاليم، ومعرفة مطالع أجزاء البروج، والجزء الطالع، والجزء المتوسط السماء.
    الباب العاشر في الزوايا التي تقع فيما بين الفلك المائل، وبين تدوير منتصف النهار الذي في وسط السماء.
    الباب الحادي عشر في الزوايا التي تقع بين الفلك المائل، وتدوير أفق المطلع إلى حد الجنوب من ربع الدوائر في كل إقليم من الأقاليم.
    الباب الثاني عشر في الزوايا والتقاويس التي تكون في دائرة الأفق التي تدور على قطب دائرة الأفق، في مواضع الأقاليم.
    الباب الثالث عشر في وضع جداول القسي والزوايا التي في أقاليم الأرض، فهذه أبواب المقالة الثانية.
    المقالة الثالثة من المجسطي عشرة أبواب، فالباب الأول في معرفة مقدار طول السنة، وعدد أيامها.
    الباب الثاني في وضع الجداول لحركة الشمس الوسطى.
    الباب الثالث في معرفة جهات الحركة المستديرة المتفقة.
    الباب الرابع في معرفة ما يظهر من اختلاف حركة الشمس في المنظر والرؤية.
    الباب الخامس في الأبحاث الجزئية عن الاختلاف.
    الباب السادس في صنعة فصول جداول القطع الجزئية الاختلاف.
    الباب السابع في وضع جداول اختلاف حركة الشمس.
    الباب الثامن في معرفة موضع الشمس في مسيرها الأوسط.
    الباب التاسع في حساب الشمس ومعرفة حقيقة موضعها.
    الباب العاشر في معرفة اختلاف الأيام ما بين نهار يوم وليلته وبين نهار يوم آخر وليلته. المقالة الرابعة من المجسطي أحد عشر باباً، فالباب الأول: من أي الأرصاد ينبغي أن يكون البحث عن القمر.
    الباب الثاني في معرفة أزمان أدوار القمر.
    الباب الثالث في معرفة تقسيم حركات القمر الوسطى.
    الباب الرابع في وضع جداول تكون فيها حركات القمر الوسطى.
    الباب الخامس في أن الجهتين جهة مركز الخارج وجهة فلك التدوير، في حركات القمر، تدلان على أمر واحد.
    الباب السادس في برهان اختلاف حركة القمر الأولى المفردة.
    الباب السابع في تقويم مسير القمر في الطول والاختلاف.

    الباب الثامن في معرفة موضع حركات القمر الوسطى في الطول والاختلاف.
    الباب التاسع في تقويم مسير القمر الأوسط في العرض وفي ابتدائه.
    الباب العاشر في وضع جداول اختلاف القمر المفرد.
    الباب الحادي عشر في أي مقدار يكون اختلاف القمر.
    فهذه الأربع المقالات تجزي عن جميع ما يحتاج إليه من كتاب المجسطي، وتسع مقالات بعدها في صفة المراكز، وتقديم حركة التدوير، وصنعة جداول الحركة، وجداول طول الكواكب.
    وأما كتاب: في ذات الحلق، فإنه ابتدأ بذكر عمل ذات الحلق، وهي تسع حلقات، بعضها في جوف بعض، إحداهن ذات علاقة، والثانية المعترضة فيها من المشرق والمغرب، والثالثة الحلقة التي تدور بهاتين الحلقتين على ما بين أسفلها إلى أعلاها، والرابعة الجارية تحت الحلقة ذات العلاقة، والخامسة حاملة نطاق البروج، وفيها تركيب المحور، والسادسة حاملة نطاق البروج الاثني عشر، والسابعة تحت حلقتي الفلك، وهي حلقة مركبة في المحور ليؤخذ بها عرض الكواكب الثابتة، الجارية فيما بين أرباع الفلك، والحلقة الثامنة جارية في حجري المحور، والحلقة التاسعة مركبة في الحلقة الثانية لمجرى الفلك المستقيم يحط في الجنوب، ويرفع السماء على قدر انتقال الفلك المستقيم، ويذكر فيه كيف يبتدأ بعملها، وكيف يكتب عليها، وكيف تركب كل واحدة في الأخرى، وكيف تجزى وتخطط وتسمر حتى لا تزول، وكيف تنصب.
    ثم يذكر العمل بها في تسعة وثلاثين باباً، فالباب الأول من أبواب مواضع العمل في ذات الحلق والتداوير التي فيها. الباب الثاني في امتحانها.
    الباب الثالث في أخذ ظل الشمس بها.
    الباب الرابع إذا أردت أن تأخذ بها عرض إقليم، أو مدينة، أو موضع.
    الباب الخامس إذا أردت أن تأخذ بها عرض كل إقليم ما هو.
    الباب السادس إذا أردت أن تعرف النهار كيف يقصر ويطول في السرطان.
    الباب السابع إذا أردت معرفة مقدار كل يوم من أيام السنة.
    الباب الثامن إذا أردت معرفة استواء الليل والنهار في الإقليم الأول.
    الباب التاسع إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج في الأقاليم بأقل من ثلاثين جزءاً أو أكثر. الباب العاشر علم رد أجزاء البروج إلى جزء الفلك المستقيم.
    الباب الحادي عشر في معرفة كل برج، وكيف يغيب بمطلع نظيره، ويطلع بمغيبه في الأجزاء. الباب الثاني عشر إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج وسط السماء على اختلاف من أجزائها. الباب الثالث عشر إذا أردت معرفة كل برج منها.
    الباب الرابع عشر إذا أردت معرفة الطالع والأوتاد الأربعة بالنهار من قبل الشمس.
    الباب الخامس عشر إذا أردت معرفة الطالع بالليل من القمر والكواكب.
    الباب السادس عشر إذا أردت أن تعلم كم ساعة مضت من النهار.
    الباب السابع عشر إذا أردت أن تعلم أي ساعة يظهر القمر، أو كوكب من الكواكب الثابتة. الباب الثامن عشر إذا أردت أن تعلم ساعات القرانات.
    الباب التاسع عشر إذا أردت أن تعرف مقدار المشرقين والمغربين في كل بلد.
    الباب العشرون إذا أردت أن تعلم لكل برج مقدار مطلعه من المشرق، ومغربه من المغرب.
    الباب الحادي والعشرون إذا أردت أن تعلم الكواكب التي تغيب في كل بلد.
    الباب الثاني والعشرون إذا أردت أن تعلم الطرائق الخمس التي ذكرها الحكماء في الفلك في كل بلد.
    الباب الثالث والعشرون إذا أردت أن تعرف الأقاليم السبعة.
    الباب الرابع والعشرون إذا أردت معرفة كل إقليم منها.
    الباب الخامس والعشرون إذا أردت أن تعرف كيف يكون النهار الأقصر، إذا صارت الشمس في الجدي، في الموضع الذي يكون عرضه ثلاثة وستين جزءاً، وذلك أقصى ما يسكن من ناحية الشمال، ويكون النهار أربع ساعات ونحوها، وليلة عشرين ساعة، ويكون النهار الأطول فيه عشرين ساعة، وليلة أربع ساعات، وهي جزيرة يقال لها جزيرة تولى من أرض أوريبا، وهي شمالي أرض الروم.
    الباب السادس والعشرون إذا أردت أن تعرف المواضع التي تغيب عنها الشمس ستة أشهر، فيكون ظلمة راتبة، وتطلع عليه الشمس ستة أشهر، فيكون ضوءاً راتباً، وهو الموضع الذي يحاذي محور الشمال.
    الباب السابع والعشرون إذا أردت أن تعلم كل كوكب من الكواكب الثابتة من أي جزء من أجزاء البروج التي تطلع في كل موضع تريد من الأرض.

    الباب الثامن والعشرون إذا أردت أن تعلم كم جزءاً بين رأس الحمل والطالع من أجزاء المطالع في كل بلد.
    الباب التاسع والعشرون إذا أردت أن تعلم لكل مدينة وبلد من أي الأقاليم هي.
    الباب الثلاثون إذا أردت أن تعلم عرض القمر، أو كوكب من الكواكب.
    الباب الحادي والثلاثون إذا أردت أن تقوم خط وسط السماء في موضعه من سمت كل بلد. الباب الثاني والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول الكواكب وعرضها بعد معرفتك بجري وسط السماء.
    الباب الثالث والثلاثون إذا أردت أن تعرف موضع رأس التنين وذنبه، وهل تلتقي بفلكي الشمس والقمر.
    الباب الرابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف المطالع من قبل ساعات الما.
    الباب الخامس والثلاثون إذا أردت أن تعرف مجرى الفلك الذي فيه الكواكب الث
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:10 am

    ثم ملك هيلوس أنطونينوس ثلاثاً وثلاثين سنة.
    ثم ملك مرقس أنطونينوس خمساً وعشرين سنة.
    ثم ملك الإسكندر بن ماميا ثلاث عشرة سنة.
    ثم ملك مكسيميانوس ثلاث سنين.
    ثم ملك جورديانوس ثلاث سنين.

    ثم ملك فيلفوس سنتين.
    ثم ملك ديقيوس سنة واحدة.
    ثم ملك جالوس ثلاث سنين.
    ثم ملك ولريانوس ست سنين.
    ثم ملك قروس سبع سنين.
    ثم ملك دقليطيانوس عشرين سنة.
    ثم ملك قسطنطين ومكنيوس عشر سنين.
    وكانت ملوك اليونانيين، ومن ملك بعدهم من الروم، مختلفة، فطائفة منهم على دين الصابئين، وكانوا يسمون الحنفاء، وهم الذين يقرون ويعترفون بخالق، ويزعمون أن لهم نبياً مثل اوراني، وعابيديمون، وهرمس، وهو المثلث بالنعمة، ويقال إنه إدريس النبي، وهو أول من خط بالقلم، وعلم علم النجوم، ويقولون في الخالق، جل وعز، على قول هرمس: أما أن يعقل الله، فعسر، وأن ينطق به، فلا يمكن، وإن الله علة العلل، المكون للعالم جملة واحدة.
    وطائفة منهم أصحاب زينون، وهم السوفسطائية، وتفسير هذا الاسم باليونانية المغالطة، وبالعربية التناقضية، يقولون: لا علم ولا معلوم، واحتجوا باختلاف الناس وانتصاف بعضهم من بعض، وقالوا: نظرنا في قول الناس المختلفين، فوجدناها مختلفة غير متفقة، وأصبناهم في اختلافهم مجتمعين على أن الحق مؤتلف غير مختلف، وأن الباطل مختلف غير مؤتلف، وكان في اجتماعهم شاهد لهم انهم لم يعملوا بالصواب، فلما أقروا بهذا لم يبق للحق موضع يطمع في إصابته إلا في الخاصة منهم، فعلمنا أن ذلك لا يوجد إلا بأحد وجهين: إما بالتسليم للمدعي، وإما بالكشف لدعواه، فنظرنا في الدعوى فأصبنا بما يعمهم، فلم نجز تصديقهم لخلتين: إحداهما أن يكذب بعضهم بعضا، والأخرى إجماعهم على انهم لم يعلموا بالصواب. فلم يبق إلا كشف الدعوى، ففعلنا، فأصبناهم أهل تكافؤ وتجار بدور الغلبة عليهم جميعاً بالاستواء بينهم، تقوى هذه مرة، ومخالفتها أخرى، فلم نصب عند طائفة منهم فضلاً، ولا تشارك فيه، ولا حجة، ولا تساوي بها، ولا تجارى فيها، فلما أعوز وجود الحق في عامتها وخاصتها بالدعوى بالمناظرة لم يبق للعلم موضع يوجد فيه، ولا للحق مذهب يصاب منه، فقضينا أنه لا علم، ولا معرفة، لأن الشيء إذا كان ثابتاً لا محالة، فلا بد من الإحاطة في الاتفاق، أو في الاختلاف، فلا يذكر ذاكر، وهو غائب، فقال: فلان غائب، فأصابه، فلو قال هو أو غيره: فلان حاضر، وليس بحاضر، فخرج من الصدق، ثم خالفه مخالف، فقال: بل هو غائب، فكان أحدهما صادقاً لا محالة، لأنه لا يعدو إذا كان الشيء ثابتاً حقاً أن يكون حاضراً أو غائباً، فإذا لم يكن شيئاً، فكلاهما كاذب فيما قال من أنه حاضر أو غائب، لأن الحاضر شيء، والغائب شيء، فإن لم يكن شيئاً، فليس بحاضر ولا غائب.
    واحتجوا بنحو هذا آخر فقالوا: إن كانت الأشياء كلها تدرك بالعلم والعلم بالعلم فإلى نهاية أو إلى لا نهاية، فإن تناهى، فإلى غير معلوم، وما لم يكن معلوماً، فهو مجهول، فإني تعلم الأشياء بمجهول، فإن لم تتناه، ولم تكن لذلك غاية، فلا إحاطة به، وما لم يحط به، فمجهول أيضاً، فكان الوجهان في هذا القياس مجهولين غير معلومين، فأنى يعلم شيء مجهول دون أن يعلم جميع الأشياء، وذلك أبعد.
    وشققوا في هذين النوعين، وكثر سعيهم، وعظمت مؤنتهم، وقالت طائفة تسمى الدهرية: لا دين، ولا رب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا معاد، ولا جزاء بخير، ولا بشر، و لا ابتداء لشيء، ولا انقضاء له، ولا حدوث، ولا عطب، وإنما حدوث ما سمي حدثاً تركيبه بعد الافتراق، وعطبه تفريقه بعد الاجتماع، وجميع الوجهين في الحقيقة حضور غائب ومغيب حاضر.
    وإنما سميت الدهرية لزعمها أن الإنسان لم يزل، ولن يزول، وأن الدهر دائر لا أول له، ولا آخر، واحتجوا فيما ادعوا بأن قالوا: إنما يعرف في وجود الشيء وفقده حالان لا ثالث لهما: حال الشيء فيها موجود، فأنى يحدث ما قد كان ووجد، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون الشيء في حال لا تشبيه لها، وذلك أبعد.
    وكذلك القول في المدعي العطب فهو لا يعرف غير حالين: حال الشيء فيها قائم، فمحال قول من ادعى العطب للشيء في حال كونه وقيامه، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون العطب الأدنى، وذلك محال، فإن أقر مخالفونا بصدقنا دخلوا في قولنا ونقضوا قولهم، وإن أنكروا قولنا ادعوا حالاً ثالثة لا عدم فيها ولا وجود، فذلك أقبح الثلاثة حالة.
    وقالت فرقة منهم: إن أصل الأشياء في الأزلية حبة كانت، فانفلقت، فبدأ منها العالم على

    ما ترى من اختلافه في ألوانه وإحساسه، وزعم بعضهم أنه غير مختلف في معانيه، وإنما ختلف معانيه من جهة إحساسه، وأنكر بعضهم ذلك، وأثبتوا له اختلافاً في معانيه وتحقيقه، وقالت المنكرة لتحقيق الاختلاف: الأشياء إنما تختلف باختلاف الإحساس لها، وإنه لا حقيقة لشيء منها تبين بها دون غيرها.
    وادعوا من الدلالات في ذلك أن أهل المرض الحادث من الصفراء مثل أصحاب اليرقان، إذا ذاق أحد منهم العسل وجده مراً، وأهل السلامة من هذا الداء يجدونه حلواً، وإن الخفاش يغشيه ضوء النهار، ويذكي بصره الليل، فإن كان النور يزيد الأبصار نوراً، والظلمة مغشية لها، وجب أن يكون نور النهار الظلمة للخفاش وغيره، تغشى بصره النار، وقد يوجد ذلك في بعض الناس وغيرهم من الحيوان والطير وغيره، وإن الليل إذا كان مذكياً للأبصار على ما وصفنا، فليلها نور، كما أن النهار نور لمن خالفها، والليل ظلمة لها، فإن قلتم: إن ذلك لآفة دخلت على هذه الأصناف، قلنا لكم: عند من خالفهم أو عند من وافقهم؟ فإن قلتم: عند من خالفهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من وافقهم، فإن قلتم: عند من وافقهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من خالفهم عندهم، فلا فضل لأحد الصنفين على أحد.
    وقالوا: ألا ترون الكاتب يكتب الكتاب عدلاً مستقيماً، فيراه كذلك من قبل وجهه، فإن نظر إليه من خلفه رآه بخلاف ما كان يعرف، وإن أزور عنه معوجاً أو خالفه رآه مخالفاً، كما تكتب الألف في صورة تميز من جميع الحروف، فإذا استقبلتها رأيتها ألفاً، وإذا استدبرتها رأيتها كالباء، وإذا انحرفت عنها رأيتها كالنون، أو كالباء، وإن الغائب عن موضعه حاضر موضعاً آخر.
    وكذلك القول في الألوان والأصوات والطعوم والأعيان والملابس، كما ترى الشخص من قرب كبيراً، وصغيراً من بعد، كلما قرب الداني منه ازداد كبراً، وكلما بعد منه ازداد صغراً في عينه.
    وكذلك الصوت يسمع من قريب قوياً ومن بعيد خفياً.
    وكذلك الطعم تذوق الشيء قليلاً، فتجده قليل الحلاوة، فإذا زدت منه كان طعمه كثير الحلاوة. وكذلك اللمس تحس الشيء قليلا، فتجده فاتراً، وتلمسه شديداً، فتجده حاراً، وترى الصورة من قريب ثابتة مختلفة، فيزداد الرائي لها بعداً، فيرى أنها مستوية غير مختلفة.
    وزعموا أن جميع الأشياء تدور على التكافؤ والتجاري، وكادوا أن يحلفوا بالسوفسطائية.
    وقالت طائفة أخرى: إن الأشياء فروع لأصول أربعة لم تزل ولا تزول، فولدت وظهر العالم منها، وهي: الأفراد السواذج: الحر والبرد، والرطوبة واليبس، تنبت بأنفسها لا باعتماد، ولا إرادة، ولا مشيئة.
    وقالت طائفة أخرى: إن الأصول أربعة، وهي أمهات ما في العالم، ومعها خامس لم يزل ولا يزول يدبرها ويؤلف بينها بإرادة، ومشيئة، وحكمة، ويؤلف بين زوجاتها وتتولد نتائجها عنه، لا يمنع أضدادها من القرب بعضها من بعض، وهو العلم.
    وقالت طائفة، وهم أصحاب الجوهر، وهم الأرسطاطاليسية: إن الأشياء شيئاًن: جوهر وعرض، والجوهر ينقسم قسمين: حي ولا حي، وحده: القائم بنفسه، وافتراقه في الخاصة لا في الحد، والعرض تسعة فمنها: الكمية، وهو العدد، وصورها أربع: الكيل، والمساحة، والوزن، والقول.
    ثم الكيفية، وصورها ثمان: الكون، والفساد، والهيئة، والحيلة، والقوة، والضعف، والإلف، والمألوف.
    ثم الإضافة، وصورها أربع: طبيعي، وصناعي، واستحسان، ومودة.
    ثم متى، وهي الواقعة على الوقت، يعني بالوقت الزمان، وصور الزمان ثلاث: الماضي، والمستقبل، والدائم.
    ثم إني، وهي الواقعة على المكان وهو الست جهات يعني: أمام، وخلف، وأعلى، وأسفل، ويمين، ويسار.
    ثم الجدة، وهي الملك، وصورة الملك قسمان: إما خارج، وإما داخل، فمعنى خارج مثل المملوك والدار والأثاث ونحوه، ومعنى داخل مثل العلم والحكمة.
    ثم النصبة، ومعنى النصبة هيئة الشيء كقول القائل: فلان قائم، وفلان قاعد، وفلان ذاهب، وفلان جاء.
    ثم الفاعل وهو قسمان: إما أن يفعل بالاختيار، وإما أن يفعل بالطبع، فالمختار مثل الحي، الباقي، الآكل، الشارب، والفاعل بالطبع كحركة العناصر الأربعة مثل النار تسمو من الوسط إلى العلو تكرر وإن كان دون النار، وكالأرض من العلو إلى الوسط، إلى مركزها الأخص بها، والماء من العلو إلى دون الأرض.

    ثم المنفعل، وهو القابل للتأثير الفاعل فيه حال طينته المحتملة لأن يديرها ويربعها في جميع الأشكال، فهذه مقالات اليونانيين ومن تلاهم من الروم، ومذاهب متكلميهم وفلاسفتهم وحكمائهم وأهل النظر منهم.
    ملوك الروم المتنصرةوكان أول من ملك من ملوك الروم، فخرج من مقالة اليونانية إلى النصرانية: قسطنطين، وكان سبب ذلك أنه كان يحارب قوماً، فرأى في منامه كان رماحاً نزل بها من السماء عليها صلبان، فلما أصبح حمل على رماحه الصلبان. ثم حارب، فظفر، وكان ذلك سبب تنصره، فقام بدين النصرانية، وبنى الكنائس، وجمع الأساقفة من كل بلد لإقامة دين النصرانية، فكان أول اجتماع لهم واجتمع بنيقيه ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، وأربعة بطارخة: بطرخ الإسكندرية، وبطرخ رومية، وبطرخ أنطاكية، وبطرخ القسطنطينية.
    وكان سبب جمع قسطنطين هؤلاء أنه لما تنصر، وحلت النصرانية بقلبه، أراد أن يستقصي علمها، فأحصى مقالات أهلها، فوجد ثلاث عشرة مقالة، فمنها قول من قال إن المسيح وأمه كانا الهين، ومنها قول من قال إنه من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى انفصال الثانية، ومنها مقالة من قال بتألهه، ومنها مقالة من قال بتعبيده، ومنها مقالة من قال: إن جسده كان خيالاً مثل متى وأصحابه، ومنها مقالة من قال: هو الكلمة، ومنها قول من قال: هو الابن، ومنها مقالة من قال: هو روح قديمه، ومنها مقالة من قال: هو ابن يوسف، ومنها مقالة من قال: هو نبي من الأنبياء، ومنها مقالة من قال: هو لاهوتي وناسوتي، فجمع قسطنطين ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً وأربعة بطارخة ولم يكن في ذلك العصر غيرهم.
    وكان بطرخ الإسكندرية يقول: إن المسيح مألوه مخلوق، فلما اجتمعوا ناظروه في ذلك، فأجمع مقالة القوم جميعاً أن قالوا: إن المسيح ولد من الأب قبل كون الخلائق، وهو من طبيعة الأب، ولم يذكروا روح القدس، ولا أثبتوه خالقاً ولا مخلوقاً، ولكن وافقوا على أن الأب الإله والابن إله منه، وخرجوا من نيقية، وكان ملك قسطنطين خمساً وخمسين سنة.
    ثم ملك يوليانوس سنة واحدة، ثم ملك دسيوس سنة واحدة، وفي أيامه ظهر أصحاب الكهف بعد أن كانوا قد ماتوا بعد دهر طويل، وكانوا عدة نفر وراع، ومعهم كلب الراعي، وأسماؤهم: مكسلمينا، ومراطوس، وشاه بونبوش، وبطريوش، ودواس، ويوالس، وكنيفرطو، وسوطر، والراعي مليخا، وهو صاحب الكلب، واسم الكلب قطمير، فخرجوا بعد مائة سنة، ويقال: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وبعثوا بعضهم ومعه دراهم يمتار لهم طعاماً، فأنكرت السوقة ضرب دراهمه، ثم اتبعوه حتى صاروا إلى المغارة، فعمى أمرهم على القوم، وبني على المغارة مسجد يصلى فيه. ثم ملك والنطيانوس أربع سنين، ثم ملك تيدوسوس الأكبر، وكان في عصره الاجتماع الثاني للنصرانية، فاجتمع له بالقسطنطينية مائة وخمسون أسقفاً وثلاثة بطارخة، ولم يحضرها بطرخ رومية، فوضعوا صحيفة الأمانة، وأثبتوا روح القدس، وكانت صحيفة الأمانة التي وضعوها: أومن بالله الواحد الأب، ملك كل شيء، خالق السماوات والأرض، وما يرى وما لا يرى، وبالرب المسيح ابن الله الذي ولد قبل الدهر، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود ليس بمخلوق، ومن سوس الأب، به كان كل شيء، من أجلنا البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بروح القدس ومن مريم العذراء، فصار بشراً، وصلب من أجلنا على عهد بلاطس البنطي، وأصيب، وقبر، وقام لثلاثة أيام، كما هو في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب الذي ليس لملكه فناء، وبروح القدس الرب الذي من الأب اشتق الذي تكلم فيه الأنبياء، وبواحدة القدسية الكنيسة السليحية للحواريين، أومن بمعمودية واحدة، بمغفرة الخطايا وقيام الأموات، وحرموا من قال بعد هذا شيئاً، وافترقوا من القسطنطينية، وكان ملك تيدوسوس سبع عشرة سنة.

    ثم ملك بعده ابن أخيه تيدوسوس الأصغر ووالنطيانوس، وكان الجمع الثالث للنصرانية، فاجتمع بافسس، وحضر مائتا أسقف، وخالف نسطور على القوم جميعاً، وقال: إن المسيح جوهران وكيانان، إله تام بجوهره وكيانه، فالأب ولد الإله، ولم يلد إنساناً، والأم ولدت إنساناً، ولم تلد الإله، فقال له قريلس: إن كان الأمر كما قلت، فمن عبد المسيح، فهو مسيء، لأنه قد يكون عبد قديماً ومحدثاً، ومن ترك عبادته، فقد كفر، لأنه يكون قد ترك عبادة القديم كما ترك عبادة المحدث، ومن عبد الإله دون الإنسان، فلم يعبد المسيح، إذ كان لا يستحق أن يقال مسيحاً من إحدى جهتيه دون الأخرى، فأوجب ذلك على من حضر، وخالفه بطرخ أنطاكية، فقال نسطور: بطرخ أنطاكية يقول بمثل قولي.
    وهرب نسطور إلى أرض العراق، فصارت النسطورية بالعراق، وصيروا رئيسهم، مكان البطرخ، جاثليق، فافترقوا على هذا، وكان ملك تيدوسوس الأصغر سبعاً وعشرين سنة.
    ثم ملك مرقيانوس، وكان في عهده الاجتماع الرابع، وكان سبب ذلك أن طرسيوس، صاحب اليعقوبية، قال: إن المسيح جوهر واحد وطبيعة واحدة، فأنكرته النصارى، فاجتمع ستمائة وثلاثون أسقفاً بالقسطنطينية، وناظروا طرسيوس، فقالوا له: إن كان المسيح، كما زعمت، طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم من المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، فلم يرجع عن مقالته، فحرموه، فصار إلى أرض مصر والإسكندرية، وكان طبيبا، فأقام بها. وكان ملك مرقيانوس خمس سنين.
    ثم ملك بعده أليون وأنيموس سبع عشرة سنة، ثم ملك زينون ثماني عشرة سنة، ثم ملك أنسطاسيوس، وكان الجمع الخامس للنصرانية في عصره، وذلك أن قوماً من رؤساء النصارى قالوا: إن جسد المسيح كان خيالاً على غير حقيقة، فاجتمعوا لذلك وقالوا: إن كان جسده خيالاً، فيجب أن يكون فعله خيالاً على غير حقيقة، وهذا بقول السوفسطائية أشبه منه بقول النصارى، ولعن أولئك الذين قالوا هذا، وبرئت النصارى منهم. وكان ملك أنسطاسيوس سبعاً وعشرين سنة.
    ثم ملك يوسطوس الثاني تسعاً وعشرين سنة، وفي عصره ولد محمد رسول الله، ثم ملك يوسطوس الثالث عشرين سنة، ثم ملك طيبريوس أربع سنين، ثم ملك هرقل وقسطنطين ابنه، وكان في أيامه الجمع السادس للنصرانية، وذلك أن قورس الإسكندراني زعم أن المسيح مشيئة واحدة وفعل واحد فقال: وهذا شبيه بقول اليعقوبية، فاجتمعوا لذلك، ورضوا ببطرخ رومية، وكتب كتاباً ولم يحضر، ولم يكن للنصرانية جمع بعدها. وكان ملك هرقل وقسطنطين ابنه اثنتين وثلاثين سنة.
    ثم ملك قسطنطينوس ثماني عشرة سنة، ثم ملك بطرخ رومية ثلاث سنين، ثم ملك فلسعرربى أربع سنين، ثم ملك أليون وقسطنطين ابنه تسعاً وعشرين سنة.
    وكانت شهور الروم التي يجرون عليها حسابهم وتاريخاتهم اثني عشر شهراً، أولها: كانون الآخر، وهو الشهر الذي يسمونه بالرومية ينوارس، وهو رأس السنة عندهم. وهذه أسماء شهورهم: ينوارس، وهو كانون الآخر، ويلياس، وهو شباط، ونرلس وهو آذار، وأبرلس، وهو نيسان، ومايس، وهو أيار، ويولس، وهو حزيران، وأغسطس، وهو تموز، وستنبرس، وهو آب، وأقطبرس، وهو أيلول، ونونبرس، وهو تشرين الأول، وأكبرس وهو تشرين الآخر، ومورس، وهو كانون الأول.
    وكانت مملكتهم من حد الفرات إلى حد الإسكندرية، مما صار في أرض الإسلام، سوى ما بأرض الروم، مما هو في أيديهم إلى هذه الغاية.
    وكانت أعظم مدائنهم: الرها من أرض الجزيرة، وهي من ديار مضر، ثم أنطاكية، وبها كرسي بطرس وكف يحيى بن زكرياء في كنيسة القسيان، وهي الكرسي الرابع، والبطرك الكبير. فما كان في مملكة الروم، وصار في الإسلام: أرض الجزيرة من حران والرها وسائر كورها، وبالس، وسميساط، وملطية، وأذنة، وطرسوس، وجند قنسرين، والعواصم وسائر كورها، وجند حمص، ومدينة حمص إحدى المدن المعدودة في مملكة الروم، ثم اللاذقية، وهي من حمص أيضا، وجند دمشق، وكان عمال ملك الروم بها آل جفنة من غسان، وجند الأردن، وكانت إليهم أيضا، وعمالها من قبل ملك الروم من آل جفنة الغسانيين، وجند فلسطين بكورة، وتنيس، ودمياط، والإسكندرية، فهذه مملكة الروم الخالصة مما صارت في أرض الإسلام.

    ثم لهم ما خلف الدرب إلى بلاد الصقالبة والألان والأفرنج، ومن المدن التي في بلاد الروم المشهورة المعروفة مثل: رومية، ونيقية، وقسطنطينية، وأماسية، وخرشنة، وقرة، وعمورية، وصملة، والقلمة، وسلندوا، وهرقلة، وصقلية، وفلطنة، وأنطاكية المحترقة، ودهبرناطة، وملوية، وسلوقية، وأمربه، وقونية، وجنوس، وبلوس، وبراوعس، وسلنيقة.
    ملوك فارسفارس تدعي لملوكها أموراً كثيرة، مما لا يقبل مثلها، من الزيادة في الخلقة، حتى يكون للواحد عدة أفواه وعيون، ويكون للآخر وجه من نحاس، ويكون على كتفي آخر حيتان تطعمان أدمغة الرجال، وطول المدة في العمر، ودفع الموت عن الناس، وأشباه ذلك مما تدفعه العقول ويجري فيه مجرى اللعبات والهزل، ومما لا حقيقة له ولم يزل أهل العقول والمعرفة من العجم، ومن له شرف، والبيت الرفيع من أبناء ملوكهم ودهاقينهم، وذوي الرواية والأدب، لا يحققون هذا، ولا يصححونه، ولا يقولونه.
    ووجدناهم إنما يحسبون ملك فارس من لدن أردشير بابكان، فمن كان عندهم من أول ملوكهم والمملكة الأولى قبل أردشير: شيومرث سبعين سنة، أوشهنج فيشداد أربعين سنة، طهمورث ثلاثين سنة، جمشاد سبعمائة سنة، الضحاك ألف سنة، أفريدون خمسمائة سنة، منوجهر مائة وعشرين سنة، أفراسياب، ملك الترك، مائة وعشرين سنة، زوطهماسب خمس سنين، كيقباذ مائة سنة، كي كاووس مائة وعشرين سنة، كي خسرو ستين سنة، كي لهراسب مائة وعشرين سنة، كي بشتاسب مائة واثنتي عشرة سنة، كي أردشير مائة واثنتي عشرة سنة، خماني بنت جهرزاد ثلاثين سنة، دارا بن جهرزاد اثنتي عشرة سنة، ثم قتله الإسكندر الذي يقال له ذو القرنين، فافترق ملك فارس، وملك ملوك يسمون ملوك الطوائف، وهؤلاء كان ملكهم ببلخ. ويزعم النسابون انهم من ولد عامورا بن يافث بن نوح، و كانوا على دين الصابئين، يعظمون الشمس والقمر والنار والنجوم السبعة، و لم يكونوا مجوساً، و لكنهم كانوا على شرائع الصابئين، وكان كلامهم السرياني، به يتكلمون، وبه يكتبون، وهذا رسم خط السرياني، ولهم أخبار قد أثبتت رأينا أكثر الناس ينكرونها ويستبشعونها، فتركناها، لأن مذهبنا حذف كل مستبشع.
    المملكة الثانية من أردشير بابكانوملك أردشير، وهو أول ملوك الفرس المتمجسة، وكان ملكه بإصطخر، وامتنع عليه بعض كور فارس، فحاربهم حتى فتحها، ثم صار إلى أصبهان، ثم صار إلى الأهواز، ثم إلى ميسان، ثم رجع إلى فارس، فحارب ملكا يقال له أردوان، فقتله، وسمى أردشير شاهنشاه، وبنى بيت نار بأردشير خره، ثم صار إلى الجزيرة وأرمينية واذربيجان، ثم صار إلى سواد العراق، فسكنه، وصار إلى خراسان، فافتتح كوراً منها، ولما دوخ البلاد عقد لابنه سابور الملك بعده، وتوجه، وسماه الملك. وتوفي أردشير، وكان ملكه أربع عشرة سنة.
    وملك سابور بن أردشير، فغزا بلاد الروم، وفتح منها عدة بلدان، وأسر خلقا من الروم، فبنى مدينة جنديسابور، وأسكنها سبي الروم، وهندس له رئيس الروم القنطرة التي على نهر تستر، وعرضه ألف ذراع.
    وفي أيام سابور بن أردشير ظهر ماني بن حماد الزنديق، فدعا سابور إلى الثنوية، وعاب مذهبه، فمال سابور إليه، وقال ماني: إن مدبر العالم اثنان، وهما شيئان قديمان: نور وظلمة، خالقان، فخالق خير، وخالق شر، فالظلمة والنور كل واحد منهما في نفسه اسم لخمسة معان: اللون، والطعم، و الرائحة، والمجسة، والصوت، وإنهما سميعان بصيران عالمان، وإنه ما كان من خير ومنفعة، فهو من قبل النور، وما كان من ضرر وبلاء، فهو من قبل الظلمة، وإنهما كانا غير ممتزجين، ثم امتزجا، والدليل على ذلك أنه لم تكن صورة ثم حدثت، وإن الظلمة هي بدأت للنور بالممازجة، وإنهما كانا متماسين على مثال الظل والشمس، والدليل على ذلك استحالة كون شيء لا من شيء، الدليل على أن الظلمة بدأت للنور بالممازجة، أنه لما كانت مخالطة الظلام للنور مفسدة له كان محالاً أن يكون النور بدأها لأن النور من شأنه الخير. والدليل على أنهما اثنان قديمان خير وشر أنه لما وجدت المادة الواحدة لا يكون منها فعلان مختلفان مثل النار الحارة المحرقة لا يكون منها التبريد، والذي يكون منه التبريد لا يكون منه التسخين، فذلك الذي يكون منه الخير لا يكون منه الشر، والذي يكون منه الشر لا يكون منه الخير.

    والدليل على أنهما حيان فاعلان أن الخير تثبت له فعلاً، والشر تثبت له فعلاً.
    فأجابه سابور إلى هذه المقالة، وأخذ بها أهل مملكته، فعظم ذلك عليهم، فاجتمع حكماء أهل مملكته ليصدوه عن ذلك، فلم يفعل.
    ووضع ماني كتباً يثبت بها الاثنين، ومما وضع كتابه الذي يسميه كنز الإحياء يصف ما في النفس من الخلاص النوري والفساد الظلمي، وينسب الأفعال الردية إلى الظلمة.
    وكتاب يسميه الشابرقان يصف فيه النفس الخالصة والمختلطة بالشياطين، والعلل، ويجعل الفلك مسطوحاً، ويقول: إن العلم على جبل مائل يدور عليه الفلك العلوي.
    وكتاب يسميه كتاب الهدى والتدبير، واثنا عشر إنجيلاً يسمى كل انجيل منها بحرف من الحروف، ويذكر الصلاة وما ينبغي أن يستعمل لخلاص الروح.
    وكتاب سفر الأسرار الذي يطعن فيه على آيات الأنبياء.
    وكتاب سفر الجبابرة، وله كتب كثيرة ورسائل.
    فأقام سابور على هذه المقالة بضع عشرة سنة، ثم أتاه الموبذ، فقال: إن هذا قد أفسد عليك دينك، فاجمع بيني وبينه لأناظره! فجمع بينهما، فظهر عليه الموبذ بالحجة، فرجع سابور عن الثنوية إلى المجوسية، وهم بقتل ماني، فهرب، فأتى إلى بلاد الهند، فأقام بها حتى مات سابور. ثم ملك بعد سابور هرمز بن سابور، وكان رجلاً شجاعاً، وهو الذي بنى مدينة رامهرمز، ولم تطل أيامه، وكان ملكه سنة واحدة.
    ثم ملك بهرام بن هرمز وكان مشغوفاً بالعبيد والملاهي، وكتب تلاميذ ماني إليه: أن قد ملك ملك حديث السن، كثير التشاغل، فقدم إلى أرض فارس، واشتهر أمره، وظهر موضعه، فأحضره بهرام، فسأله عن أمره، فذكر له حاله، فجمع بينه وبين الموبذ، فناظره، ثم قال له الموبذ: يذاب لي ولك رصاص يصب على معدتي ومعدتك، فأينا لم يضره ذلك، فهو على الحق. فقال: هذا فعل الظلمة! فأمر به بهرام فحبس، وقال له: إذا أصبحت دعوت بك، فقتلتك قتلة ما قتل بها أحد قبلك، فلم يزل ماني ليلة يسلح حتى خرجت نفسه، وأصبح بهرام، فدعا به، فوجدوه قد مات، فأمر بحز رأسه، وحشا جسده بالتبن، وتتبع أصحابه، فقتل منهم خلقاً عظيماً. وكان ملك بهرام بن هرمز ثلاث سنين.
    ثم ملك بهرام بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، فكان ملكه أربع سنين، ثم ملك أخوه نرسى بن بهرام تسع سنين.
    ثم ملك هرمز بن نرسى تسع سنين، وولد له ابن سماه سابور، وعقد له الملك، ومات هرمز وسابور صبي في المهد، فأقام أهل مملكته متلومين عليه، حتى ترعرع وشب، ثم ظهر منه عتو وجبرية، فغزا بلاد العرب، وغور عليهم المياه، وغزاه ملك الروم، وهو اليانوس، فأعانته العرب من جميع القبائل، ثم تسرعت قبائل العرب إلى سابور، فأوقعت به في دار ملكه، حتى هرب، وخلا ملكه فانتهبت مدينته وخزائنه، ثم جاء سهم غرب فقتل اليانوس ملك الروم، فملكت الروم يوبنيانوس، فصالح سابور.
    وأقام سابور على معاداة العرب لا يظفر بأحد منهم إلا خلع كتفه، فلذلك سمي سابور ذا الأكتاف. وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة.
    ثم ملك أردشير بن هرمز أخو سابور، فساءت سيرته، وقتل الأشراف والعظماء منهم، فخلع بعد أن ملك أربع سنين. وملكت الفرس سابور بن سابور، فخضع له أردشير المخلوع ومنحه الطاعة، وسقط على سابور فسطاط فقتله، وكان ملكه خمس سنين.
    وملك بعد سابور بهرام بن سابور، وكتب إلى الآفاق يعدهم العدل، والنصفة، والإحسان، وأقام على ملكه إحدى عشرة سنة، ثم ثار عليه قوم فقتلوه.
    ثم ملك يزدجرد بن سابور، وكان فظاً، غليظاً، مستطيلاً، سيء السيرة، قليل الخير، كثير الشر، فسامهم سوء العذاب، ثم رمحه فرس، فقتله. وكان ملكه إحدى وعشرين سنة.
    ثم ملك بهرام جور بن يزدجرد، وكان قد نشأ بأرض العرب، وكان أبوه قد دفعه إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة.

    وقد كان لما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنا له لسوء مذهبه، وقالوا: بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب، لا علم له بالملك! وأجمعوا على أن يملكوا رجلاً غيره ، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس هابته، فأخذوا تاج الملك والزينة التي تلبسها الملوك، فوضعوهما بين أسدين، وقالوا لبهرام ولكسرى: أيكما أخذ التاج والزينة من بين هذين الأسدين، فهو الملك. فقالوا لبهرام، فأخذ جرزاً، وتقدم، فضرب الأسدين حتى قتلهما، وأخذ التاج والزينة، فأذعنوا له، وأعطوه الطاعة، فوعدهم من نفسه خيراً، وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك، ويعلمهم ما هو عليه من العدل، وتوخي عمارة البلاد، وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته.
    وكان بهرام رجلاً مؤثراً للهو، متشاغلاً عن الرعية، ثم صار لطلب الصيد واللهو، واستخلف أخاه نرسى على المملكة، فلما بلغ خاقان ملك الترك حال بهرام طمع فيه، فأراد أن يسير نحوه، فبلغ بهرام ذلك، فسار إليه حتى قتله، وكتب إلى رعيته بالفتح، ثم خرج يوما يتصيد، فأمعن في طلب عير، ثم طرحه فرسه في موضع حماة، فمات، فكان ملكه تسع عشرة سنة.
    ثم ملك يزدجرد بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان ليزدجرد هذا ابنان يقال لأحدهما هرمز والآخر فيروز، فغلب هرمز على الملك بعد أبيه، فهرب فيروز، ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته، وبمذاهب أخيه وجوره، فأمده بجيش، فأقبل بهم، وقاتل أخاه فقتله، وشتت جمعه. وملك فيروز، فنال الناس في أيامه جدب وقحط، ومجاعة شديدة، وغاضت الأنهار والعيون، فلم يزل على تلك حالهم ثلاث سنين، ثم خصبت البلاد.
    وسار فيروز إلى بلاد الترك ليحارب ملكها، وقد كان الصلح وقع بين الفرس والترك، فلما قرب من البلاد أرسل إليه ملك الترك يسأله الرجوع، ويعظم عليه ترك الوفاء، فلم يقبل، فحفر له خندقاً عميقاً، ثم عماه، فلما قرب منه عبا عسكره واقتحمه، فسقط وجميع جنده في ذلك الخندق، فمات، وحوى ملك الترك أمواله، وأخذ أختاً له. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
    فلما بلغ الفرس مقتل فيروز أعظموه، فسار رئيس من رؤسائهم يقال له سوخرا في جمع وعدة، حتى لقي ملك الترك، فحاربه، ونال منه، فدعاه ملك الترك إلى الصلح على أن يدفع إليه كل ما حواه من خزائن فيروز، ويرد أخته، ومن في يده من أصحابه، ففعل ذلك، وانصرف عنه. وملك بلاش بن فيروز، وكانت مدته أربع سنين، ثم ملك أخوه قباذ بن فيروز، وكان صغير السن، فترك لسوخرا تدبير المملكة، فلما بلغ وصار في حد الرجال لم يرض بتدبير سوخرا، فقتله، وقدم مهران، ثم إن الفرس أزالت قباذ عن ملكه، وحبسته، وملكت أخاه جامسب بن فيروز، فأقام قباذ في الحبس، وأخوه الملك.
    ثم إن أختاً لقباذ دخلت الحبس، فتعرض لها صاحب الحبس، وأطمعته في نفسها، وقالت إنها طامث، ثم دخلت، فأقامت عند قباذ يوماً، ثم لفته في بساط، وأخرجته على عنق غلام جلد، فهرب قباذ يريد ملك الهياطلة، فلما صار بأبر شهر نزل برجل، فأقام عنده، ثم سأله أن يطلب له امرأة، فأتاه بجارية، فوقع عليها، وأعجبه حسنها وجمالها، ثم مضى إلى ملك الهياطلة، فأقام عنده سنة، ثم بعث معه جيشاً، فلما رجع بأبر شهر قال للرجل الذي نزل عنده: ما فعلت تلك الجارية؟ فأتى بها، وقد ولدت صبياً كأحسن ما يكون من الصبيان، فسماه كسرى أنوشروان. وزحف قباذ إلى بلاده، فغلب على الملك، وقوي أمره، واشتدت شوكته، وغزا بلاد الروم، و كور الكور والطساسيج، وعقد لابنه أنوشروان الملك، ودعاه، فأوصاه بأحسن الوصية وعرفه كل ما يحتاج إليه. وكان ملك قباذ ثلاثا وأربعين سنة.
    ثم ملك أنوشروان بن قباذ، فكتب إلى أهل مملكته يذكر لهم وفاة قباذ، ويعدهم من نفسه خيراً، ويأمرهم بما لهم فيه الحظ، ويوعز إليهم في الطاعة والمناصحة، وعفا عن قوم كانوا يتحملون عليه، وقتل مزدق الذي كان أمر الناس بأن يتساووا في الأموال والحرم، وقتل زراذشت بن خركان لما ابتدع في المجوسية، وقتل أصحابهما، وقدم أهل المملكة والشرف، وغزا بلدانا عدة مما لم يكن في مملكة الفرس، فضمها إلى ملكه.

    وجرى بينه وبين يخطيانوس ملك الروم، فغزا أنوشروان بلاد الروم، فقتل وسبى، وغلب على مدن كثيرة من الجزيرة والشام منها: الرها، ومنبج، وقنسرين، والعواصم، وحلب، وأنطاكية، وأفامية، وحمص وغيرها، وأعجبته أنطاكية، فبنى مدينة مثلها لم يخرم منها شيئاً، ثم جاء بسبي أنطاكية، فأرسلهم فيها، فلم ينكروا شيئاً.
    ومسح أنوشروان البلاد، ووضع عليها الخراج، وألزم كل جريب من الغلات بقدر احتماله، فلم تزل السنة جارية على ذلك، والبلاد عامرة.
    ورتب لديوان المقاتلة رجلاً رضي حزمه وعزمه، وأخذ مقاتلته مما يحتاج إليه من السلاح، و جعل ديوان العطاء، ودفاتر الأسماء والحلي، وسمات الدواب، وديوان العرض على مثل ذلك. وكان أنوشروان نبيلاً، كريماً، ظاهر العدل، لا يسأله إنسان شيئاً إلا أجابه، فسار إليه سيف بن ذي يزن، فأعلمه أن الحبشة قدمت بلاد اليمن، وغلبت عليها، وأنه صار إلى هرقل ملك الروم، فلم يجد عنده ما يحب، فبعث معه بأهل السجون في البحر، وقود عليهم رجلاً من مشيخة قواده شجاعاً مجرباً يقال له وهرز، فصار إلى بلاد اليمن، حتى قتل الحبشة، وأفناهم، ورمى ملكهم أبرهة فقتله، وأقام في البلد وملك سيف بن ذي يزن.
    وعقد أنوشروان لابنه هرمز الملك من بعده، وكانت أم هرمز بنت خاقان ملك الترك. وكتب له في ذلك كتاباً بالعهد، وأمره فيه بما يأمر به مثله، وأوصاه أحسن الوصايا، وامتحنه، فوجده بحيث يحب، وأجابه على كل ما قال له بجواب سديد، وتنكر، ولا يأتيه إلا بقول حسن لطيف، وهلك أنوشروان، وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة .
    ثم ملك هرمز بن أنوشروان، فقرأ على الناس كتاباً عاماً يعد فيه بالعدل والإنصاف، والعفو والإحسان، ويأمرهم بما فيه الصالح، ونال ظفراً وعزاً، ففتح عدة مدائن، ثم اجترأ أعاديه عليه، وغزوا بلاده، وكان أغلظ الأعداء عليه شابه ملك الترك، فإنه زحف في خلق عظيم حتى دخل بلاد خراسان، وكاد أن يحتوي عليها.
    وأقبل ملك الخزر في جموع حتى نزل آذربيجان، فعظم ذلك عليه، وخاف ألا يكون له طاقة بصاحب الترك، فأتاه رجل من قواده يقال له بهزاد، فأعلمه أن عنده رجلاً يقال له مهران ستاد عالماً، وأن خاتون امرأته سألت عما قبلهم، فأخبرها أن ابنتها تلد من ملك الفرس ابنا يلي الملك بعد أبيه، وإنه يزحف إليه ملك الترك في خلق عظيم، فيوجه إليه بإنسان ليس بالنبيه يقال له: بهرام شوبين، في شرذمة من الجند، ويقتل ذلك الملك، ويصطلم ملكه.
    فلما سمع هرمز ذلك سره، ثم طلب بهرام شوبين، فقيل له: ما نعرف هذا إلا رجلاً من أهل الري هو باذربيجان! فوجه إليه، فأقدمه، ثم وجهه إلى شابه ملك الترك في اثني عشر ألف مقاتل، فقال موبذان موبذ لهرمز: ما أخلقه أن ينال ظفراً، غير أن في قرنه حاجبه دليلا على ثلمة يثلمها في ملكك.
    وقال له زاجر، كان له، مثل ذلك، فكتب هرمز إلى بهرام أن يرجع، فلم يرجع، ووافاه بهرام بهراة، وشابه مغتر، وكان عند شابه رجل وجه به هرمز ليخدعه يقال له هرمز جرابزين، حتى فر منه، ثم ارتحل عنه، فأرسل شابه من عرف خبر بهرام، فانصرف إليه، فأعلمه حاله، فأرسل إليه شابه في الرجوع، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، ثم لقيه وقد عبا جنده، وقد كان مع شابه قوم عرافون وسحرة، وكانوا يلبسون على أصحاب بهرام، ثم التحمت الحرب، فاستحر القتل في أصحاب شابه، حتى قتل منهم خلق عظيم، فولوا منهزمين، وقتل بهرام منهم مقتلة عظيمة، ولحق شابه، فرماه بحربة طويلة، فقتله، وأخذ ساحراً كان مع صاحب الترك، فأراد بهرام أن يستبقيه، فيكون عدة له في حروبه، ثم رأى أن قتله أصلح، فكتب بالفتح إلى هرمز، فسر به، و كتب به إلى الآفاق.
    ثم خرج برموذة بن شابه، فلقي بهرام، فحاربه وبيته، وكانت بينهما حرب شديدة، ثم بيته

    بهرام، فهزمه، ولحقه، فحصره في حصن، فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام إلى هرمز، فأجابه، وكتب له كتاب أمان، وكتب إلى بهرام أن يسرحه إليه، فخرج برموذة بن شابه من الحصن، وكان هرمز قد وجه ناساً إلى بهرام شوبين، فصار برموذة إلى هرمز، فأكرمه هرمز، وبره، وأجلسه معه على السرير، وأخبره برموذة بما صار إلى بهرام من الأموال العظام والكنوز، وأنه قد كتم ذلك عن أمنائه، وأخبر أمناؤه بمثل ذلك، وأن الذي بعث به قليل من كثير، فكتب هرمز إلى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال، فغلظ ذلك على بهرام، وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعه هو وجميع جنده.
    فلما بلغ ذلك هرمز اغتم له، وكتب إلى بهرام يعتذر إليه وإلى جنده من مثل ذلك، فلم يقبل بهرام ولا جنده قول هرمز، وبعث بهرام إلى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرءوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى، فقطع أطراف السكاكين، وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فأرسل إلى خاقان ملك الترك يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده. وسار بهرام حتى صار إلى الري، ثم دبر أن يوقع بين هرمز وبين ابنه كسرى أبرويز شراً وكان هرمز متهما لابنه، وكان قد بلغه أن قوما قد حملوه على أن يثب بأبيه، فضرب دراهم كثيرة، وصير عليها اسم كسرى أبرويز، وبعث بها إلى مدينة هرمز، فكثرت في أيدي الناس، ولما بلغ هرمز خبرها اشتد غمه، فأراد أن يحبس ابنه كسرى أبرويز، فلما بلغ أبرويز الخبر هرب إلى آذربيجان، فاجتمع إليه من بها من مرازبتها ورؤسائها، وعاقدوه، وبايعوه.
    ووجه هرمز إلى بهرام بجيش مع رجل يقال له آذينجشنس، فلما صار في بعض الطريق قتله رجل حواري كان آذينجشنس أخرجه من الحبس، وضمه إلى نفسه، وافترق أصحابه، فلما قتل آذينجشنس ضعف أمر هرمز، واجترأ عليه جنده، وكانوا متغضبين له كارهين لولايته. فكتبوا إلى ابنه أبرويز، فقدم بجيش من آذربيجان، فخلعوا هرمز، وملكوا أبرويز، وأخذ هرمز فحبس، وسملت عيناه، فأقام في الحبس أياما، ثم دخل إليه ابنه، فكلمه فقال له هرمز: اقتل من صنع بي هذا. وكان قد احتوى على تدبير الملك بندي وبسطام خالا أبرويز، وكان ملك هرمز اثنتي عشرة سنة.
    فلما استقام أمر أبرويز، وبلغه مسير بهرام شوبين إليه، خرج في جيشه، ومعه بندي وبسطام، حتى وقف على بهرام بالنهروان، وكلمه وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، وكان كردويه أخو بهرام مع كسرى أبرويز، وألحقه بهرام، وانكشف عن كسرى جنده، وأسلمه أصحابه، فمر هاربا، فلما كان في بعض الطريق، رجع بندي وبسطام خالاه، فقتلا هرمز أباه، ولحقاه في بعض الطريق، واستمر به الهرب حتى ساءت حالته، واشتد بؤسه وجزعه، فطلب طعاما فلم يجد إلا خبز شعير.
    ولحقته خيل بهرام، فاحتال له خاله بندي حتى نجاه، فمضى حتى صار إلى الرها، فأخذ بندي، فأتى به بهرام، فحبسه، ثم أفلت من الحبس، فصار إلى آذربيجان، وصار كسرى إلى الرها يريد مورق ملك الروم، فحبسه صاحب الرها، وكتب إلى مورق ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره، فاستشار ملك الروم أصحابه في أمره، فأشار بعضهم بأن لا يجاب، وأشار بعضهم بأن يجاب، فأجابه ملك الروم، وزوجه ابنته، ووجه معه بجيش عظيم، وشرط عليه الشروط، إذا تم له نصره، ووجه إليه كسرى بثلاثة نفر من أصحابه، فشرط عليهم كل ما أراد، ووجه بابنته وبالجيش وعليهم أخ له يقال له ثيادوس، ومعه رجل يجري مجرى ألف رجل، فسار كسرى بجيشه، بعد ابتنائه بابنة ملك الروم، إلى ناحية آذربيجان، وكان بندي خاله قد صار إليها، فلما علم بمكانه لقيه في جيش عظيم.
    ولما علم بهرام شوبين بما اجتمع لكسرى كتب إلى وجوه أصحابه يخبرهم بسوء مذهب آل

    ساسان، ويصف سيرة ملك ملك، ويدعوهم إلى نفسه، ووقعت الكتب في يد كسرى قبل أن تصل إلى القوم، فكتب إليه بأغلظ الجواب عن القوم، ورد إليه الرسول، فزحف إليهم بهرام حتى صار إلى آذربيجان، فحاربه محاربة شديدة، وأخذت الحرب من الفريقين، وخرج الرومي الذي كان يجري مجرى ألف رجل. فقال لكسرى: أين عبدك هذا الذي غصبك ملكك، حتى أقتله؟ فقال: هو صاحب الأبلق، فحمل عليه وتراجع بهرام إلى ورائه، ثم تراجع عليه. فضربه بسيفه فقده نصفين، فضحك كسرى، وقال: زه، فغضب أخو ملك الروم، وقال: سررت أن قتل رجلنا وصاحبنا؟ فقال: لا ولكن صاحبكم قال لي: أين العبد الذي غصبك وغلبك ملكك، فأردت أن تعلم أن العبد يضرب في كل يوم عدة ضربات كلا مثل هذه.
    واشتدت الحرب حتى انهزم كسرى، وصعد في جبل، فكاد يهلك، ثم ثاب جند كسرى، وانهزم بهرام شوبين، فمضى منصرفاً لا يلوي على شيء، متوجها إلى ملك الترك.
    واستقام الأمر لكسرى أبرويز، فكتب إلى صاحب الروم بذلك، وأهدى له ملك الروم ثوبين فيهما الصلب، فلبسهما، فقال الفرس: قد تنصر، ثم كتب في النصارى أن يكرموا، ويقدموا، ويبرزوا، ويخبر بما قد جرى بينه وبين الرومي من العصمة، واللحمة، والموادعة، وأنه لم يقل هذا ملك من الملوك قبله.
    ووثب بندي خال كسرى بثيادوس أخي ملك الروم، فصمه، فوقع الشر، وقال أخو ملك الروم: إما أن تدفع إلى بندي، وإما أن يعود الشر، فسكنه كسرى.
    وورد بهرام شوبين بلاد الترك، فأكرمه خاقان وبره، وكان لخاقان أخ يقال له بفارس يداريه خاقان، فرآه بهرام، فقال لخاقان: كيف اجترأ هذا عليك هذه الجرأة؟ فسمع أخو خاقان الكلام، فتوعده، فقال بهرام: متى شئت فابرز، فدفع خاقان ملك الترك إلى أخيه نشابة وإلى بهرام نشابة، ثم أخرجهما إلى الصحراء، فرمى أخو خاقان بهرام، فأصابه، فشك سلاحه، ورماه بهرام، فقتله، فسر خاقان بقتل أخيه لمعاندته له، ولما كان يخافه منه.
    وكان كسرى يرهب مكان بهرام شوبين مع خاقان، ولا يأمن أن يجري عليه شراً، فوجه برجل من وجوه الفرس يقال له بهرام جرابزين، وكان كبيراً في الفرس، ووجه معه إلى خاقان بهدايا ويسأله أن يبعث إليه بهرام شوبين، وأمر جرابزين أن يتلطف في أمره، فقدم على خاقان بالهدايا، وذكر له أمر بهرام، فلم يجد عنده الذي يحب، فتلطف بخاتون امرأة خاقان، وأهدى لها جوهراً ومتاعاً، وسألها في أمر بهرام، فوجهت برجل من أصحابها له إقدام وجرأة قلب، وقالت له: ادخل إلى بهرام شوبين فاقتله! فانطلق حتى استأذن عليه، وكان نوم بهرام، فلم يأذن له، فقال: أن الملك خاقان وجهني في أمر مهم، فأذن له، فلما دخل عليه قال: أن الملك حملني رسالة أخبرك بها سراً من غير حضور أحد. فقام من مجلسه، ودنا منه كأنه يساره، ووجاه بخنجر معه تحت إبطه، وخرج التركي مسرعا، فركب دابته.
    ودخل أصحاب بهرام، فرأوه بتلك الحال، فقالوا: أيها الليث الضرغام! من أقصدك؟ وأيها الجبل المنيف! من هدك؟ فقص عليهم القصة، وكتب إلى خاقان يعلمه أنه لا وفاء له، ولا شكر، و مات بهرام، فحمل إلى الناووس، ولما علم جرابزين بموته ارتحل إلى كسرى، فأخبره، فسر به، وأظهره في مملكته، وكتب به إلى آفاقه. ولما مات بهرام بعث ملك الترك إلى كردية امرأة بهرام وأصحابه يخبرهم بغمه، وأنه قد قتل كل من شرك في قتله، ووجه بأخيه نطرا إليهم، وكتب إلى كردية امرأة بهرام شوبين أنه يرغب فيها، ويأمرها أن تتزوج نطرا، فحملت كردية امرأة بهرام جند أخيها، وارتحلت بأصحابها ومن معها تريد بلاد الفرس، فلحقها نطرا أخو خاقان، فبرزت إليه في السلاح، وقالت: لا أتزوج إلا من كان في الشجاعة والقوة مثل بهرام، فابرز إلي! فبرز إليها أخو خاقان، فقتلته، ومضت لوجهها.
    وكان كسرى قد غضب على خاله بندي، فسمل عينيه، وقطع يديه ورجليه وصلبه حياً لما فعل بأبيه، فلما علم بسطام أخو بندي ما فعل كسرى بأخيه خلع كسرى، وصار إلى الري وجمع

    وبلغه أن كردية أخت بهرام وامرأته قد أقبلت من بلاد الترك، فتلقاها ومن معها، فذم إليها كسرى، وخبرها بغدره وفجوره، وسألها أن تقيم عنده بمن معها، وأن تزوجه نفسها، ففعلت، وكتبت إلى أخيها كردي تعلمه ذلك، وتسأله أن يأخذ لها ولمن معها أمانا من كسرى، فأخبر كسرى بمصير كردية، بمن معها من جند بهرام وأصحابه، إلى الري، وتزوج بسطام خاله بها، ومقامها معه، فعلم ذلك كسرى، ودعا كردي أخاها، فسأله أن يتلطف بها حتى تقتل بسطام وتقدم فيتزوجها. فوجه كردي أبرخة امرأته إلى كردية أخته بما ذكر له الملك، وأنفذ إليها كتب الأمانات لها ولمن معها بأوثق ما يكون من العهود، فقبل أصحابها، ووثبوا على بسطام فقتلوه. وقدمت كردية على كسرى، فتزوجها، وأحلها محلاً رفيعاً، فاستقامت لكسرى أموره، ودانت له بلاده. ثم وثبت الروم بمورق ملكها، فقتلوه، وملكوا غيره، وصار إليه ابن مورق، فوجه معه جيشاً، ثم قتل ابن مورق، وملك هرقل، فغزا أصحاب كسرى، فقتلهم وشردهم، وزحف إليهم حتى هزم شهربراز صاحب كسرى.
    وكان كسرى لما اشتد ملكه قد طغى، وبغى، وعتا، وظلم، وجار، وأخذ أموال الناس، وسفك الدم، فمقته الناس لما نال منهم ولاحتقاره إياهم، وإن عظماء الفرس لما رأوا ما هم فيه من الذل والبلاء والمكروه من كسرى خلعوه، وجاءوا بابن له يقال له شيرويه، فملكوه، وأدخلوه المدينة، ونادوا شيرويه شاهنشاه، وأخرجوا من في السجون ممن كان كسرى يريد قتلهم، فهرب كسرى، حتى دخل بستاناً له، فأخذوه، فحبسوه ، ثم قالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم الملك، وأن يكون أبرويز حياً، فاقتله وإلا خلعناك! فوجه شيرويه إلى أبيه برسالة غليظة يعنفه فيها على فعله، ويذكر له ما نال من أهل مملكته، وما كان من سوء سيرته، فأجابه بجواب تفنيد و تجهيل له، فوجه إليه برجل كان كسرى أبرويز قطع يد أبيه بغير سبب ولا جرم، إلا أنه قيل له إن ابن هذا يقتلك، فقطع يده، وكان من خاصته، فلما دخل عليه سأله عن اسمه قال له: شأنك وما أمرت به، فضربه، حتى قتله، ثم إن شيرويه حمل أباه إلى الناووس، وقتل قاتله. وكان ملك كسرى أبرويز ثمانياً وثلاثين سنة.
    ولما ملك شيرويه بن أبرويز أطلق من في المحابس، وتزوج بنساء أبيه، وقتل سبعة عشر أخاً له ظلماً واعتداء، فلم يستقم ملكه، ولم يصلح حاله، فاشتد سقمه، ومات بعد ثمانية أشهر، وملكت الفرس ابنا لشيرويه طفلاً يقال له أردشير، واختاروا له رجلاً يقال له مه آذرجشنس، فحضنوه إياه ليقوم بتدبير الملك، فأحسن التدبير، وقام بالأمر قياماً محموداً، وجرت أمور المملكة.
    وكان شهربراز الموجه لحرب الروم، قد عظم أمره، فكره موضع مه آذرجشنس، وكتب إلى الفرس أن يوجهوا إليه برجال سماهم، وإلا أقبل إليهم حتى يحاربهم، فلم يفعلوا، فأقبل شهربراز في ستة آلاف إلى جانب مدينة المملكة، وحاصر من فيها، وقاتلهم، ثم فكر، فاحتال حتى دخل المدينة، فأخذ عظماء الفرس، فقتلهم، وفضح نساءهم، وقتل أردشير الملك. وكان ملك أردشير سنة وستة أشهر.
    وجلس شهربراز على سرير الملك، ودعا نفسه ملكاً، فلما رأت الفرس فعل شهربراز أعظمته، وقالت: مثل هذا لا يملك علينا! فوثبوا به، وقتلوه، وجروا برجله.
    ولما قتلت الفرس شهربراز طلبوا رجلاً من أهل الملك، فلم يجدوه، فملكوا بوران بنت كسرى، فأحسنت السيرة، وبسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، و تأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم، وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى، واستقام أمرها، فقال فرخهرمزد أصبهبذ خراسان: أنا اليوم قريع الناس، وعماد مملكة فارس، فزوجيني نفسك! فقالت: لا يجوز لملكة أن تزوج نفسها، ولكن إذا أردت أن تصل إلي، فأتني بالليل! فرضي بذلك، فأمرت صاحب حرسها أن يرصده حتى يدخل، ثم يقتله، فلما كان الليل أتى، فدخل وبصر به صاحب الحرس، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فرخهرمزد! فقال: وما تصنع في مثل هذا الوقت في موضع لا يدخله مثلك؟ فضربه حتى قتله، وطرحه في الرحبة، فلما غدا الناس رأوه قتيلاً، فرفعوا خبره، وكان ابنه رستم، الذي لقي سعد بن أبي وقاص بالقادسية، بخراسان، فقدم، فقتل آزرميدخت، وكان ملكها ستة أشهر.

    ثم ملك رجل من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى بن مهرجشنس، وقد كان دعي إلى الملك قبل ذلك، فامتنع منه، وكان مقامه بالأهواز، فلما ملك لبس التاج، وجلس على السرير، فقتلوه بعد أيام، فلم يتم له شهر، فأعوز عظماء الفرس من يملكونه من أهل بيت المملكة، ثم وجدوا رجلاً يقال له فيروز قد أولده أنوشروان من قبل أمه فملكوه ضرورة، فلما أجلس ليتوج، وكان ضخم الرأس، قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيرت عظماء الفرس من قوله، فقتلوه.
    وأقبل ابن لكسرى كان قد هرب إلى نصيبين لما قتل شيرويه يقال له فرخزاد خسرو، فتوج وملك، وكان نبيلاً، فملك سنة، ثم وجدوا يزدجرد بن كسرى، وكانت أمه حجامة وقع عليها كسرى، فجاءت بيز
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:11 am

    وكانت البلاد التي تملكها الفرس، ويحوز سلطانها فيها، من كور خراسان: نيسابور، وهراة، ومرو، ومرو الروذ، والفارياب، والطالقان، وبلخ، وبخارى، وباذغيس، وبأورد، وغرشستان، وطوس، وسرخس، وجرجان، وكان على هذه الكور عامل تسميه أصبهبذ خراسان.
    ومن كور الجبل: طبرستان والري، وقزوين، وزنجان، وقم، وأصبهان، وهمذان، ونهاوند، والدينور، وحلوان، وماسبذان، ومهر جانقذق، وشهرزور، والصامغان، وآذربيجان، وكان لهذه الكور أصبهبذ يقال له أصبهبذ آذربيجان، وكرمان. وفارس، وكورها: إصطخر، وشيراز، والرجان، والنوبندجان، وجور، وكازرون، وفسا، ودارابجرد، وأردشيرخره، وسابور. والأهواز، وكورها: جنديسابور، والسوس، ونهر تيري، ومناذر، وتستر، وإيذج، ورامهرمز، وعلى هذه أصبهبذ يقال له أصبهبذ فارس.
    وكور العراق، ولها ثمانية وأربعون طسوجا على الفرات ودجلة، فسقى الفرات: بادوريا، والأنبار، وبهرسير، والرومقان، والزاب الأعلى، والزاب الأسفل، والزاب الأوسط، وزندورد، وميسان، وكوثى، ونهر درقيط، ونهر جوبر، والفلوجة العليا، والفلوجة السفلى، وبابل، وخطرنية، والجبة، والبداة، والسيلحين، وفرات بادقلى، وسورا، وبربسما، ونهر الملك، وباروسما، ونستر.
    وسقى دجلة: نهر بوق، ونهر بين، وبزرجسابور، والراذان الأعلى، والراذان الأسفل، والزابيين، والدسكرة، وبرازروز، وسلسل، ومهروذ، وجلولاء، والنهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل، و جازر، والمدائن، والبندنجين، ورستقباذ، وأبزقباذ، والمبارك، وبادرايا، وباكسايا، ولهم أصبهبذ رابع يسمى أصبهبذ المغرب.
    وكانت آخر مسالح الفرس مما يلي الفرات: الأنبار، ثم تصير إلى مسالح الروم، ومما يلي دجلة ثم تصير إلى مسالح الروم، إلا أن يتعاور القوم، فيدخل الفرس بلاد الروم على المخالبة، وربما دخل الروم بلاد الفرس. وكل الاسم الواقع على كل ملك للفرس: كسرى، وكانوا إن سموه و ذكروه قالوا: كسرى شاهنشاه، معناه ملك الملوك، وكانت تسمى الوزير: بزرجفرمذار، معناه متقلد الأمور، وكانت تسمى العالم القيم بشرائع دينهم: موبذ موبذان، ومعناه عالم العلماء، وأول من رفع عليه منها الاسم: زراذشت، وكانت تسمى قيم النار: الهربذ، وكانت تسمى الكاتب: دبيربذ، وكانت تسمى العظيم منهم: الإصبهبذ، ومعناه الرئيس، والذي دونه: الفادوسبان، و معناه دافع الأعداء، وتسمى رئيس البلد: المرزبان، وتسمى رئيس الكور: الشهريج، وتسمى أصحاب الحروب وقواد الجيوش: الأساورة، وتسمى صاحب المظالم: شاهريشت، وتسمى صاحب الديوان: المردمارعد.
    ممالك الجربىوكان ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لما قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح خرجوا في يسرة المشرق، فقطع قوم منهم ولد ناعوما ناحية الجربى على سمت الشمال، فانتشروا في البلاد، فصاروا عدة ممالك، وهم: البرجان، والديلم، والتبر، والطيلسان، وجيلان، وفيلان، واللان، والخزر، والدودانية، والأرمن، وكانت الخزر المتغلبة على عامة بلاد أرمينية، وعليها ملك يقال له خاقان، وله خليفة يقال له يزيد بلاش على الران، وجرزان، والبسفرجان، والسيسجان، وكانت هذه الكور تسمى أرمينية الرابعة التي افتتحها قباذ ملك الفرس، فصارت إلى أنوشروان، إلى باب اللان، مائة فرسخ، وفيها ثلاثمائة وستون مدينة. وغلب ملك الفرس على الباب والأبواب، وطبرسران، والبلنجر، و بنى مدينة قاليقلا، ومدناً كثيرة، فأسكنها قوماً من أهل فارس، ثم غلبت الخزر على ما كانت فارس غلبتهم عليه، فأقام في أيديهم حيناً، ثم غلبتهم الروم، فملكت على أرمينية الرابعة ملكاً يقال له الموريان، وافترقوا عدة رياسات كل رئيس منهم في قلعته وحصنه، فهي لهم ممالك معروفة.
    وقطع قوم من ولد عامور ما وراء النهر، ثم افترقوا في البلاد، فصارت ممالك مفترقة وأمم كثيرة، فمنهم: الختل، والقواديان، والأشروسنة، والسغد، والفرغانة، والشاش، والترك، والخرلخية، والتغزغز، والترك الكيماكية، والتبت، وفي الترك قوم أصحاب مدر ومدن وحصون، وفيهم قوم في رؤوس الجبال والصحاري كالبدو، ولهم شعور طوال، ومنازلهم خيام اللبود، فإذا غزوا كان في الخيمة الواحدة عشرون مقاتلاً، ويرمون فلا يخطئون، وبيوتهم متصلة من أول كور خراسان إلى جبال التبت وجبال الصين.

    وأما التبت، فبلد واسع أعظم من الصين، ومملكتهم جليلة، وهم أصحاب منعه وحكمة يضاهون صنعة الصين، وفي بلادهم غزلان سررها المسك، وهم عبدة أصنام، ولهم بيوت نيران، وشوكتهم شديدة، فليس يحاربهم أحد.
    ملوك الصينذكرت الرواة وأهل العلم ومن صار إلى بلاد الصين، فأقام بها الدهر الطويل، حتى فهم أمرهم، وقرأ كتبهم، وعرف أخبار المتقدمين منهم، ورأوه في كتبهم، وسمعوه من أخبارهم، ومكتوب على أبواب مدنهم وبيوت أصنامهم، ومنقور في الحجارة قد أجرى فيه الذهب: إن أول من ملك الصين صاين بن باعور بن يرج بن عامور بن يافث بن نوح بن لمك، فإنه كان عمل فلكاً حكى به فلك نوح، فركب فيه، ومعه جماعة من ولده وأهله، حتى قطع البحر، فصار إلى موضع استحسنه، وأقام به، فسمي ذلك الموضع الصين باسمه، فكثر ولده، وتناسلت ذريته، فكانت ذريته على دين قومه، واتصل ملكه ثلاثمائة سنة.
    ومنهم عرون الذي شيد البنيان، وعمل الصنعة، واتخذ الهياكل المذهبة، وعمل فيها صورة أبيه، وجعلها في صدر الهيكل، فكان إذا دخل سجد لتلك الصورة تعظيماً لصورة أبيه، وكان لصاين اسم تفسيره بالعربية ابن السماء، فمن ذلك الزمان صارت الأوثان تعبد في بلاد الصين، وكان ملك عرون مائة وأربعين سنة.
    ومنهم عير الذي سار في بلاد الصين طولاً وعرضاً، وبنى المدن العظام، وشيد القباب من الجزلان والنحاس المذهب، وعمل صورة أبيه من ذهب مكلل بالجوهر والرصاص والنحاس المزوق، فاتخذها أهل مملكته جميعاً في مدنهم وبلدانهم، وقالوا: ينبغي للرعية أن تعمل صورة ملك قد ملكها من السماء، وعدل فيها، واتصل ملك عير مائة وثلاثين سنة.
    ومنهم عينان الذي سام أهل مملكته سوء العذاب، ونفاهم إلى جزائر البحر، فكانوا يصيرون من تلك الجزائر إلى مواضع فيها الثمار ليأكلوا منها، فيجدون بها الوحوش، ولم يزالوا كذلك حتى أنسوا بالوحوش، وأنست بهم، وكانوا ينزون عليها، وربما نزت تلك على نسائهم فتأتي بينهم الخلق المشوهة.
    وباد القرن الأول وأتى قرن بعد قرن، فذهبت عنهم لغاتهم، وصاروا يتكلمون ما لا يفهم، ففي الجزائر التي تجتاز منها إلى أرض الصين أمر عظيم من هذا الضرب، وأمم كثيرة، وكان يسمى عينان اسماً تفسيره بالعربية خلقة الشر.
    وكان ملكه مائة سنة.
    ومنهم خرابات الذي ملك وهو حدث السن، ثم احتنكت سنة، فعلا أمره، وحسن تدبيره، ووجه بوفد من قبله إلى أرض بابل وما اتصل بها من بلاد الروم يتعرفون ما فيها من الحكمة و الصنعة، وحمل معهم من صنعة الصين وما يعمل بها من ثياب الحرير وغيره، وما يؤتى به من تلك البلاد من الآلات وغيرها، وأمرهم أن يحملوا إليه كل صنعة وظريفة من أرض بابل وبلاد الروم، وأن يتعرفوا شرائع دين القوم، فكان ذلك أول ما دخل من متاع الصين إلى أرض العراق وما اتصل بها، وركب التجار بحر الصين للتجارة، وذلك أن الملوك استظرفت ما أتاهم من متاع الصين، فعملوا المراكب، وحملوا فيها التجارة، فكان ذلك أول دخول التجار إلى الصين. وكان ملك خرابات ستين سنة.
    ومنهم توتال، وأهل الصين يقولون إنهم وجدوا مكتوباً على أبواب مدنهم: أنه لم يملكهم ملك قط مثله، ورضوا به رضا لم يرضوا مثله بأحد قط، وهو الذي سن لهم كل سنة هم عليها في أديانهم، وأفعالهم، وصناعاتهم، وشرائعهم وأحكامهم. وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة، فلما مات أقاموا يبكون عليه زماناً طويلًا، ويحملونه على أسره الذهب وعجل الفضة، ثم جمعوا له العود والعنبر والصندل وسائر الطيب، وألهبوه بالنار، وطرحوه فيها، وجعل خاصته يلقون أنفسهم في تلك النار أسفاً عليه ووفاء له، وصار هذا سنة فيهم، وجعلوا صورته على دنانيرهم، وهم يسمون الدنانير الكونح، وعلى أبواب منازلهم الصور.
    وبلاد الصين بلاد واسعة، فمن أراد الصين في البحر قطع سبعة أبحر، كل بحر منها له لون وريح وسمك ونسيم ليس هو في البحر الذي يليه، فأولها بحر فارس الذي يركب فيه من سيراف، وآخره رأس الجمحة، وهو ضيق فيه مغائص اللؤلؤ.
    والبحر الثاني الذي مبتدأه من رأس الجمحة يقال له لاروي، وهو بحر عظيم، وفيه جزائر الوقواق، وغيرهم من الزنج، وفي تلك الجزائر ملوك، وإنما يسار في هذا البحر بالنجوم، وله سمك عظيم، وفيه عجائب كثيرة وأمور لا توصف.

    ثم البحر الثالث الذي يقال له هركند، وفيه جزيرة سرنديب، وفيه الجوهر والياقوت وغيره، ولها جزائر فيها ملوك، ولهم ملك عليهم، وفي جزائر هذا البحر الخيزران والقنا.
    والبحر الرابع يقال له كلاهبار، وهو بحر قليل الماء، وفيه حيات عظام، وربما ركبت الريح فيه، فقطعت المراكب، وفيه جزائر فيها شجر الكافور.
    والبحر الخامس يقال له سلاهط، وهو بحر عظيم كثير العجائب.
    والبحر السادس يقال له كردنج، وهو كثير الأمطار. والبحر السابع يقال له بحر صنجي، و يقال له أيضاً كنجلى، وهو بحر الصين، وإنما يسار فيه بريح الجنوب، حتى يصيروا إلى بحر عذب عليه المسالح والعمران، حتى ينتهوا إلى مدينة خانفو.
    ومن أراد الصين على البر سار في نهر بلخ، وقطع بلاد السغد، وفرغانة، والشاش، والتبت، حتى يصير إليها، والملك في حصن له منفرد، وصاحب شرطته خادم، وصاحب خراجه خادم، وصاحب حرسه خادم، وصاحب أخباره خادم، وأكثر أعوانه الخدم، وهم ثقاته، وخراجهم من رؤوس الرجال يوجبون على كل رجل بالغ جزية، لأنهم لا يدعون رجلاً بغير صناعة، فإذا تعطل عن العمل بعلة، أو هرم، أنفقوا عليه من مال الملك.
    وهم يعظمون أمواتهم، ويطول حزنهم عليهم، وأكثر عقوباتهم القتل، فهم يقتلون على الكذب، ويقتلون على السرقة، ويقتلون على الزنا إلا قوماً معروفين، ومن تظلم من عامل الأعمال، فصحت مظلمته، قتل ذلك العامل، وإلا قتل المتظلم منه إن كان كاذباً مبطلاً.
    وحدود الصين من البر ثلاثة حدود، ومن البحر حد واحد، فالحد الأول: الترك، والتغزغز، ولم تزل بينهم حروب متصلة، ثم اصطلحوا، وتصاهروا. والحد الثاني: التبت، وبين التبت والصين جبل عليه مسالح للصين يحترسون من التبت، ومسالح للتبت يحترسون من الصين، وهم ما بين حد البلدين.
    والحد الثالث: إلى قوم يقال لهم المانساس، لهم مملكة منفردة، وهم في بلاد واسعة، ويقال إن سعة بلادهم طول عدة سنين في عرض مثل ذلك لا يعرف أحد من وراءهم، وهم قوم يقاربون أهل الصين.
    والحد الواحد الذي يلي البحر، فمنه يأتي المسلمون، على ما ذكرنا من عدد البحور.
    وديانتهم عبادة الأوثان والشمس والقمر، ولهم أعياد لأصنامهم، أعظمها عيد في أول السنة يقال له الزارار، يخرجون إلى مجمع، ويعدون فيه الأطعمة والأشربة، ثم يأتون برجل قد حبس نفسه على ذلك الصنم العظيم، وعلى جميع شهواته، وتمكن من كل ما يريد، فتقدم إلى ذلك الصنم، وقد صير على أصابع يده شيئاً يشعل بالنار، ثم يحرق أصابعه بالنار ويسرجها بين يدي ذلك الصنم، حتى يحترق، ويقع منها ميتاً، فيقطع، فمن نال منه شظية، أو خرقة من ثيابه، فقد فاز، ثم يأتون برجل آخر يريد أن يحبس نفسه للصنم للسنة المجدودة، فيقف موضعه، ويلبس الثياب، ويضرب عليه بالصنوج، ثم يفترقون، فيأكلون ويشربون، ويقيمون أسبوعاً، وينصرفون.
    وهذا الشهر الذي هذا العيد فيه تسميه جناح، وهو أول يوم من حزيران، وللصين حساب أيضاً، وتسمى الشهور بأسماء مختلفة على حساب قد فهموه، فأولها: جناح، ورداح، ورايح، ومالح، وكسران، وبارد، ونمرود، وكنعان، وزاغ، وهراة، وهرهر، وباهر.
    ملوك مصرمن القبط وغيرهم وكان بيصر بن حام بن نوح، لما خرج من بابل بولده وأهل بيته، وكانوا ثلاثين نفساً، أربعة أولاد له، وهم: مصر، وفارق، وماح، وياح، ونساؤهم، وأولادهم قد سار بهم إلى منف، وكان بيصر قد كبر وضعف، وكان مصر أكبر ولده وأحبهم إليه، فاستخلفه، وأوصاه بإخوته، واقتطع مصر لنفسه وولده، مسيرة شهرين من أربعة أوجه، وكان منتهى ذلك من الشجرتين بين رفح والعريش إلى أسوان طولاً، ومن برقة إلى أيلة عرضاً.
    وأقام مصر متملكاً بعد أبيه دهراً، وكان له أربعة أولاد، وهم: قفط، وأشمن، واتريب، وصا، فقسم لهم شط النيل، وقطع لكل واحد قطيعة يحوزها هو وولده.
    ثم ملك بعد مصر قفط بن مصر، ثم ملك أشمن بن مصر، ثم ملك اتريب بن مصر، ثم ملك صا بن مصر، ثم ملك تدارس بن صا، ثم ملك ماليق ابن تدارس، ثم ملك حرايا بن ماليق، ثم ملك أخوه ماليا بن حرايا، ثم ملك لوطس بن ماليا، فلما حضرت لوطس الوفاة ملكت ابنته حوريا، فلما حضرت حوريا الوفاة ملكت بنت عم لها يقال لها زالفا بنت مأموم.
    وكان أولاد بيصر قد كثروا وامتلأت البلاد منهم، فلما ملكوا النساء طمعت فيهم العمالقة ملوك

    الشام، فغزاهم ملك العمالقة، وهو يومئذ الوليد ابن دومع، ووطىء البلاد، فرضوا أن يملكوه عليهم، فأقام دهراً طويلاً. ثم ملك بعده آخر من العمالقة يقال له الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف.
    ثم ملك آخر من العمالقة يقال له دارم بن الريان.
    ثم ملك بعده كاسم بن معدان.
    ثم ملك فرعون موسى، وهو الوليد بن مصعب، فاختلفت الرواة في نسبه، فقالوا: هو رجل من لخم، وقالوا من غيرها من قبائل اليمن، وقالوا من العمالقة، وقالوا من قبط مصر يقال له ظلماً، وهو الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصة الله جل وعز، فعاش عمراً طويلاً، وعتا وبغى، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، ثم غرقه الله وجنوده في بحر القلزم، فلما غرق الله فرعون ومن معه لم يبق في البلد إلا الذرية والعبيد والنساء، فاجتمع رأيهم على أن يملكوا امرأة يقال لها دلوكة، فخافت أن يتخطى إليها ملوك الأرض، فبنت حائطاً يحيط بأرض مصر من القرى والمزارع والمدن، وعملت أعمالا كثيرة، وكان ملكها عشرين سنة.
    ثم ملكت دركون بن بلوطس.
    ثم ملك بودس بن دركون.
    ثم ملك لقاس بن بودس.
    ثم ملك دنيا بن بودس.
    ثم نمادس بن مرينا، فطغى وعتا، فقتلوه.
    ثم ملك بلوطس بن مناكيل.
    ثم ملك ماليس بن بلوطس.
    ثم ملك نولة بن مناكيل، وهو فرعون الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وصنع ببني إسرائيل ما لم يصنعه أحد، وعتا، وبلغ مبلغاً لم يبلغه أحد قبله بعد فرعون، فصرعته دابته، فدقت عنقه.
    ثم ملك مرينوس.
    ثم ملك نقاس بن مرينوس.
    ثم ملك قومس بن نقاس.
    ثم ملك مناكيل اددامه الأعرج، وهو لحسابرسر الذي غزاه بخت نصر، فهزمه، وخرب مصر، وسبى أهلها، فأقاموا بعد ذلك يملكهم الروم، فتنصروا في ذلك الوقت.
    ثم غلبت فارس على الشام في أيام أنوشروان، فملكوهم عشر سنين، ثم ظهرت الروم، فكان أهل مصر يؤدون إلى الروم خراجاً وإلى فارس خراجاً، يدفعون شر الفريقين.
    ثم خرجت فارس عن الشام، وصار أمرهم إلى الروم، فدانوا بدين النصرانية.
    وكان حكيم القبط هرمس القبطي، وهم أصحاب البرابي الذين يكتبون بخط البرابي، وهو ذا الخط الموجود وفي دهرنا قد عدم الناس معرفة قراءته، والسبب في ذلك أنه لم يكن يكتب به منهم إلا الخواص، وكانوا يمنعون العوام، والذين يقومون به منهم حكماؤهم وكهانهم، وكانت فيه أسرار دينهم وأصول مقالتهم التي لا يطلعون عليها إلا كهانهم، ولا يعلمون بها أحداً إلا أن يأمر الملك بتعليمه.
    فلما قهرتهم الروم، وملكتهم بسطوه شديدة وسلطان، أبطلوا ما كانوا يقومون به من سعيهم وأعمالهم، وحملوهم في بدء أمورهم على شرائع اليونانيين، حتى فسدت لغتهم، ومازج كلامهم كلام الروم، ثم تنصرت الروم، فحملوهم على التنصر، فدرس جميع ما كانوا فيه من أمر دينهم وسنتهم، وقتل الروم كهانهم وعلماءهم، فهلك من كان يفهم ذلك الكتاب، ومنع من بقي منهم من تعليمه والنظر فيه، فلذلك ليس يوجد أحد يقرأه منهم ولا غيرهم. وكانت ديانتهم عبادة الكواكب، والقول بأنها مدبرة مختارة، وهم أصحاب القضايا بالنجوم، وإنها تسعد وتنحس، لأنهم زعموا أنها آلهتهم التي تحييهم، وتميتهم، وترزقهم، وتسقيهم.
    وكان من قولهم: إن الأرواح قديمة كانت في الفردوس الأعلى، وإنه في كل ستة وثلاثين ألف سنة يفني جميع ما في العالم إما من تراب، يريدون الأرض وزلزلتها وخسوفها، أو من نار وإحراق، وسموم مهلك، وإما من ريح هواء ردي فاسد، غليظ عام، يسد الأنفاس لغلظه، فيهلك الحيوان، ويتلف الحرث والنسل، ثم يحيي الطبيعة من كل جنس من أجناس الحرث والنسل، ويرجع العالم بعد فساده.
    وكانت عندهم من هذه الأرواح آلهة تنزل، فتصير في الأصنام، فتتكلم الأصنام لذلك، وإنما كانوا يخدعون عوامهم بذلك، ويسترون العلة التي بها كانت تتكلم أصنامهم، وهي بصنعة كان كهانهم يصنعونها، وعقاقير يستعملونها، وحيل يحتالونها، حتى تصفر، وتصيح بصنعة يحكون بها من خلقة الصنم كخلقة الطير، أو البهيمة، فيكون صوت ذلك الصنم مثل صوت جنسه من الحيوان، ثم يترجم كهانهم ذلك الصوت من الصنم على ما يريدون القضاء به، مما قد اتفقوا به من حساب النجوم، وعلم الفراسة.
    ويخبرون أن الأرواح، إذا خرجت، صارت إلى هذه الآلهة، التي هي الكواكب، فتغسلها، وتطهرها إن كانت لها ذنوب، ثم تصعد إلى الفردوس حيث كانت.

    ويقولون إن أنبياءهم كانت تكلمهم الكواكب وتعلمهم أن الأرواح تنزل إلى الأصنام، فتسكن فيها، وتخبر بالحادث قبل أن يحدث.
    وكانت لهم فطنة عجيبة دقيقة يوهمون بها العوام انهم يكلمون الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، ولم يكن ذلك إلا لجودة علمهم بالأسرار التي للطوالع، وصحة الفراسة، فلم يكونوا يخطئون إلا القليل، وادعوا علم ذلك عن الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، وهذا باطل غير معقول، ثم ملكهم اليونانيون، فدخلوا في ملتهم، ثم ملكهم الروم، فتنصروا.
    وكانت مملكة القبط أرض مصر من كور الصعيد: منف، ووسيم، والشرقية، والقيس، والبهنسا، وأهناس، ودلاص، والفيوم، وأشمون، وطحا، وأبشاية، وهو، وقفط، والأقصر، وأرمنت، ومن كور أسفل الأرض: اتريب، وعين شمس، وتنوا، وتمي، وبنا، وبوصير، وسمنود، ونوسا، والأوسية، والبجوم، وبسطة، وطرابية، وقربيط، وصان، وإبليل، وسخا، وتيدة، والأفراحون، ونقيزة، والبشرود، وطوة، ومنوف العليا، ومنوف السفلى، ودمسيس، وصا، وشباس، والبذقون وأخنا، ورشيد، وقرطسا، وخربتا، وترنوط، ومصيل، ومليدش.
    والقبط تحسب سنيها على ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورها اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، ولها خمسة أيام تسميها النسيء، فأول شهور القبط الذي يجعلونه رأس سنتهم: توت، ويسمون أول يوم منه نيروز، ويقولون إن فيه ابتداء عمارة الأرض، وهذه أسماء شهورهم: توت، بابه هتور، كيهك، طوبة، إمشير، برمهات، برموذة، بشنش، بونه، ابيب، مسري، وكانت الخمسة الأيام التي ينسئونها بين مسري وتوت. والخط الذي تكتب به القبط بين اليوناني والرومي، وهو على هذا الرسم.
    ممالك البربر والأفارقةوكانت البربر والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جازوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على بلد، حتى انتشروا بأرض المغرب.
    فأول من ملك منهم: لوانة في أرض يقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاتة في أرض يقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد يقال له تورغه، فملكوا هناك، وهم هواره، وسار آخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه، وسار قوم إلى طرابلس يقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس يقال لهم وهيله.
    ثم استعلت بهم الطريق، فأخذ قوم إلى القيروان يقال لهم برقشانه، وأخذ آخرون ذات الشمال، فصاروا إلى تاهرت، وهم الذين يقال لهم كتامة وعجيسة، وأخذ قوم آخرون إلى سجلماسة، و هم الذين يقال لهم نفوسه ولماية، وأخذ قوم إلى جبال هكان، وهم الذين يقال لهم لمطة، ويسمون العيالات، وهم في بادية، في غير مساكن، وأخذ قوم إلى طنجة يقال لهم مكناسة، وأخذ قوم إلى السوس الأقصى، وهم الذين يقال لهم مداسه.
    وقد ذكر قوم من البربر والأفارقة انهم من ولد بربر بن عيلان بن نزار، وقال آخرون: انهم من جذام ولحم، وكانت مساكنهم فلسطين، فأخرجهم بعض الملوك، ولما صاروا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، ثم غربوا، فانتشروا في البلاد، وقال آخرون: إنهم من اليمن نفاهم بعض الملوك من بلد اليمن إلى أقاصي المغرب، وكل قوم ينصرون رواياتهم، والله أعلم بالحق في ذلك.
    ممالك الحبشة والسودانوكان ولد حام بن نوح قصدوا عند تفرق ولد نوح من أرض بابل إلى المغرب، فجازوا من عبر الفرات إلى مسقط الشمس، وافترق ولد كوش بن حام، وهم الحبشة والسودان، لما عبروا نيل مصر فرقتين، فقصدت فرقة منهم التيمن بين المشرق والمغرب، وهم النوبة، والبجة، والحبشة، والزنج، وقصدت فرقة الغرب، وهم زغاوه، والحسن، والقاقو، والمرويون، ومرندة، والكوكو، وغانه.
    فأما النوبة فإنها لما صارت في الجانب الغربي من النيل جاورت مملكة القبط، وهم ولد بيصر بن حام بن نوح تملكوا هناك، فصارت النوبة مملكتين، فإحداهما: مملكة الذين يقال لهم مقرة، وهم في شرق النيل وغربه، ومدينة مملكتهم دنقلة، وهم الذين سالموا المسلمين، وأدوا إليهم البقط، وبلادهم بلاد نخل وكرم وزرع، واتساع المملكة شبيه بشهرين.

    والمملكة الثانية من النوبة الذين يقال لهم علوة، أعظم خطرا من مقرة، ومدينة مملكتهم يقال لها سوبة، ولهم بلاد واسعة شبيهة بثلاثة أشهر، والنيل متشعب عندهم في عدة خلجان.
    مملكة البجةوهم بين النيل والبحر، ولهم عدة ممالك، في كل بلد ملك منفرد. فأول مملكة البجة من حد أسوان، وهي آخر عمل المسلمين من التيمن بين المشرق والمغرب إلى حد بركات، وهم الجنس الذي يقال له: نقيس، ومدينة المملكة يقال لها: هجر، ولهم قبائل وبطون كما تكون للعرب، فمنهم: الحدرات، وحجاب، والعماعر وكوير، ومناسة، ورسفة، وعربرتعة، والزنافج، وفي بلادهم المعادن من التبر والجوهر، والزمرد، وهم مسالمون للمسلمين، والمسلمون يعملون في بلادهم في المعادن.
    والمملكة الثانية من البجة، مملكة يقال لها: بقلين، كثيرة المدن، واسعة يضارعون في دينهم المجوس والثنوية، فيسمون الله، عز وجل، الزنجير الأعلى، ويسمون الشيطان صحي حراقة، وهم الذين ينتفون لحاهم، ويقلعون ثناياهم، ويختتنون، وبلادهم بلاد مطر.
    ثم المملكة الثالثة يقال لها: بازين، وهم يتاخمون مملكة علوة من النوبة، ويتاخمون بقلين من البجة، ويحاربون هؤلاء، وزرعهم الذي يأكلونه، وهو طعامهم واللبن.
    والمملكة الرابعة يقال لها: جارين، ولهم ملك خطير، وملكه ما بين بلد يقال له: باضع، وهو ساحل البحر الأعظم إلى حد بركات من مملكة بقلين، إلى موضع يقال له: حل الدجاج، وهم قوم يقلعون ثناياهم من فوق وأسفل، ويقولون: لا يكون لنا أسنان كأسنان الحمير، وينتفون لحاهم.
    والمملكة الخامسة يقال لها: قطعة، وهي آخر ممالك البجة، ومملكتهم واسعة من حد موضع يقال له: باضع، إلى موضع يقال له: فيكون، ولهم حد شديد، وشوكة صعبة، ولهم دار مقاتلة يقال لها دار السوا، فيها أحداث شباب، جلد، مستعدون للحرب والقتال.
    ثم المملكة السادسة، وهي مملكة النجاشي، وهو بلد واسع، عظيم الشأن، ومدينة المملكة كعبر، ولم تزل العرب تأتي إليها للتجارات، ولهم مدن عظام، وساحلهم دهلك، ومن في بلاد الحبشة من الملوك، فهم من تحت يد الملك الأعظم يعطونه الطاعة، ويؤدون إليه الخراج، والنجاشي على دين النصرانية اليعقوبية، وآخر مملكة الحبشة الزنج، وهم يتصلون بالسند وما ضارع هذه البلدان، ويتصل أيضاً بما دون الزنج مما يتاخم السند والكرك، وهم قوم لهم حساب، واجتماع قلوب.
    وأما السودان الذين غربوا وسلكوا نحو المغرب فإنهم قطعوا البلاد، فصارت لهم عدة ممالك، فأول ممالكهم: الزغاوة، وهم النازلون بالموضع الذي يقال له: كانم، ومنازلهم أخصاص القصب، وليسوا بأصحاب مدن، ويسمى ملكهم كاكرة. ومن الزغاوة صنف يقال لهم: الحوضن، ولهم ملك هو من الزغاوه.
    ثم مملكة أخرى يقال لهم: ملل، وهم يبادون صاحب كانم، ويسمى ملكهم: ميوسي.
    ثم مملكة الحشة، ولهم مدينة يقال لها: ثبير، ويسمى ملك هذه المدينة مرح، ويتصل بهم القاقو، إلا انهم معولون، وملكهم ملك ثبير.
    ثم مملكة الكوكو، وهي أعظم ممالك السودان، وأجلها قدراً، وأعظمها أمراً، و كل الممالك تعطي لملكها الطاعة، والكوكو اسم المدينة، ودون هذا عدة ممالك يعطونه الطاعة، ويقرون له بالرئاسة على انهم ملوك بلدانهم، فمنهم مملكة المرو، وهي مملكة واسعة، وللملك مدينة يقال لها: الحيا، ومملكة مردية، ومملكة الهربر، ومملكة صنهاجة، ومملكة تذكرير، ومملكة الزيانير، ومملكة أرور، ومملكة بقاروت، فهذه كلها تنسب إلى مملكة الكوكو.
    ثم مملكة غانة، وملكها أيضا عظيم الشأن، وفي بلاده معادن الذهب، وتحت يده عدة ملوك، فمنهم مملكة: عام، ومملكة: سامة، وفي هذه البلاد كلها الذهب.
    ملوك اليمنذكرت الرواة، ومن يدعي العلم بالأخبار وأحوال الأمم والقبائل: أن أول من ملك من ولد قحطان بن هود النبي: ابن عابر بن شالح بن أرفخشد ابن سام بن نوح سبا بن يعرب بن قحطان، وكان اسم سبا عبد شمس، لأنه كان أول من ملك من ملوك العرب، وسار في الأرض، وسبى السبايا، وكان يعرب ابن قحطان أول من حيي: بأنعم صباحا وأبيت اللعن.
    ثم ملك بعد سبا حمير بن سبا، واسم حمير زيد، وكان أول ملك لبس التاج من الذهب مفصصاً بالياقوت الأحمر.
    ثم ملك بعد حمير أخوه كهلان بن سبا، فطال عمره حتى هرم.
    ثم ملك بعد كهلان أبو مالك بن عميكرب بن سبا، فدام ملكه ثلاثمائة سنة.

    ثم ملك بعد أبي مالك حنادة بن غالب بن زيد بن كهلان، وكان أول من صنع السيوف المشرفية، وكان يصنع الطعام للجن بالليل، وملك مائة وعشرين سنة.
    وملك بعد حنادة الحارث بن مالك بن إفريقيس بن صيفي بن يشجب بن سبا مائة وأربعين سنة. ثم ملك بعد الحارث بن مالك الرائش، وهو الحارث بن شداد بن ملطاط بن عمرو بن ذي أبين بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ابن حيدان بن قطن بن عريب بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبا، وهو أول من غزا وأصاب الأموال وأدخل اليمن الغنائم من غيرها فسمي الرائش فغلب اسمه، وكان ملكه مائة وخمساً وعشرين سنة.
    ثم ملك بعد الرائش ابنه أبرهة بن الرائش، وهو أبرهة ذو منار، وذلك أنه صار إلى ناحية المغرب، وكان إذا غلب على بلد ضرب عليها النار، وكان ملكه مائة وثمانين سنة.
    ثم ملك بعد أبرهة ابنه إفريقيس بن أبرهة، فسلك سبيل أبيه، وكان ملكه مائة وأربعاً وستين سنة.
    ثم ملك بعد إفريقيس أخوه العبد بن أبرهة، وكان يسمى ذا الأذعار لأنه ذعر العدو، وكان يأتي بقوم عجيبة خلقهم، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
    ثم ملك بعد ذي الأذعار الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وكان ملكه سنة واحدة.
    ثم ملك بعد الهدهاد زيد، وهو تبع الأول بن نيكف، فطال عمره، وطغى، وبغى، وعتا، فيزعم الرواة أنه ملك أربعمائة سنة، ثم قتلته بلقيس.
    وملكت بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل، فكان ملكها مائة وعشرين سنة، ثم كان من أمرها مع سليمان ما كان، فصار ملك اليمن لسليمان بن داود ثلاثمائة وعشرين سنة، ثم ملك رحبعم بن سليمان بن داود عشر سنين، ثم رجع الأمر إلى حمير، فملك ياسر ينعم بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن شرحبيل، واشتد سلطانه، فكان ملكه خمساً وثمانين سنة.
    ثم ملك شمر بن إفريقيس بن أبرهة ثلاثاً وخمسين سنة.
    ثم ملك تبع الأقرن بن شمر بن عميد، فغزا الهند، وأراد أن يغزو الصين، وكان ملكه مائة وثلاثاً وستين سنة.
    ثم ملك ملكيكرب بن تبع، فغزا البلاد، ففرق قومه في أقاصي الأرض، ونقلهم إلى سجستان وخراسان، واجتمعوا عليه، فقتلوه، وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة.
    ثم ملك حسان بن تبع، فأقام زماناً لا يغزو، ثم وقع بين طسم وجديس ما وقع، فسار إليهم تبع، فلما قرب منهم قال له رجل من طسم كان معه: إن معهم امرأة يقال لها اليمامة تنظر فلا تخطىء، فأخاف أن تنذرهم، فأمر أصحابه، فقطعوا من شجر الزيتون وقال: ليحمل كل واحد منكم غصناً عظيماً من الزيتون خلفه! فحمل كل رجل غصناً عظيماً، فلما نظرت قالت: أرى شجراً تمشي! قالوا: وهل تمشي الشجر؟ قالت: نعم ورب كل حجر ومدر، وإنها لخلف رجال حمير! فكذبوها، وصبحهم حسان، فقتلهم.
    وملة قومه، وثقلت عليهم وطأته، فواطئوا أخاه عمرو بن تبع على قتله خلا ذا رعين، فإنه نهى عن ذلك، فقتله، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
    ثم ملك عمرو بن تبع بعد أن قتل أخاه، فذهب عنه النوم، وتنغص عيشه، فقتل كل من أشار بقتل أخيه، حتى بلغ إلى ذي رعين، فقال: قد أشرت عليك أن لا تفعل، فكتبت بيتي شعر هما عندك، وكان قد دفع إليه رقعة فيها:
    ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
    فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
    وكان ملك عمرو أربعاً وستين سنة.
    ثم ملك تبع بن حسان بن بحيلة بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، وهو أسعد أبو كرب، وهو الذي سار من اليمن إلى يثرب، وكان الفطيون قد تملك على الأوس والخزرج، فسامهم سوء العذاب، فخرج مالك بن العجلان الخزرجي، فشكا ذلك إلى تبع، فأعلمه غلبة قريظة والنضير عليهم، فسار تبع إليهم، فقتل قوما من اليهود، وكان تبع خلف ابنا له بين أظهرهم، فقتلوه، فزحف إليهم، وحاربهم.

    وكان رئيس الأنصار عمرو بن طلحة الخزرجي من بني النجار، وكانوا يحاربونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيقول: إن قومنا لكرام. وجمع عظماء اليهود وقال: إني مخرب هذه البلدة، يعني المدينة، فقالت الأحبار وعظماء اليهود: إنك لا تقدر على ذلك! قال: ولم؟ قالوا: لأنها لنبي من بني إسماعيل يكون مخرجه من عند البيت المحرم، فخرج، وأخرج معه قوماً من أحبار اليهود، فلما قرب من مكة أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: إن هذا البيت الذي بمكة فيه أموال وكنوز وجوهر، فلو أتيته فأخذت ما فيه. وإنما أرادوا أن يفعل، فيهلكه الله. وقيل: إنما أشار عليه قوم أن يهدمه، ويحول حجارته إلى اليمن، فيبني بها هناك بيتا تعظمه العرب، فدعا تبع أحبار اليهود، فذكر ذلك لهم، فقالوا: ما نعلم لله بيتاً في الأرض غير هذا البيت، وما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله.
    واعترضته علة في ليلته، فقال له الأحبار: إن كنت أضمرت لهذا البيت مكروها، فارجع عنه، وعظمه، فرجع عما كان أضمر، فأذهب الله عنه العلة، فقتل من أشار عليه بهدمه، وطاف به وعظمه، ونحر، وحلق رأسه، ورأى في النوم أن أكسه، فكساه الخصف، فتجافى، فرأى في نومه أن أكسه، فكساه الملاء المعضد، وقال شعراً فيه:
    وكسونا البيت الذي حرم الل ... ه ملاءً معضداً، وبرودا
    ونحرنا بالشعب ستة آلا ... ف ترى الناس نحوهن ورودا
    وأمرنا أن لا تقرب للكع ... بة ميتاً، ولا دماً مصفوداً
    ثم طفنا بالبيت سبعاً وسبعاً ... وسجدنا عند المقام سجودا
    وأقمنا فيه من الشهر سبعاً ... وجعلنا لبابه إقليدا
    ثم رجع إلى اليمن ومعه الأحبار من اليهود، فتهود هو وقومه، وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة. ثم تفرقت ملوك قحطان، وملكوا أقواماً متفرقين منهم: عمرو بن تبع، ثم نزعوه، وملكوا مرثد بن عبد كلال أخاً تبع لأمه، فأقام أربعين سنة.
    ثم ملك وليعة بن مرثد تسعاً وثلاثين سنة.
    ثم ملك أبرهة بن الصباح، وكان من أحكم ملوك اليمن وأغلظهم، وكان ملكه ثلاثاً وتسعين سنة.
    ثم ملك عمرو بن ذي قيقان.
    ثم ملك ذو الكلاع.
    ثم ملك لخيعة ذو شناتر، فكان من أخبث ملوك حمير وأرداها، وكان يعمل عمل قوم لوط، يبعث إلى الغلام من أبناء الملوك، فيلعب به، ثم يتطلع في غرفة له، وفي فمه السواك، حتى بعث إلى ذي نواس بن أسعد ليلعب به، فدخل، ومعه سكين، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس، وقتله، وحز رأسه، وصيره في الموضع الذي يتطلع منه، فلما خرج صاح به من بالباب من الجيش: يا ذا نواس، لا بأس! فقال: البأس على صاحب الرأس! فنظروا، فإذا به قد قتله، فملكوا ذا نواس. وكان ملك ذي شناتر سبعاً وعشرين سنة.
    وملك ذو نواس بن أسعد، وكان اسمه زرعة، فعتا، وهو صاحب الأخدود، وذلك أنه كان على دين اليهودية، وقدم اليمن رجل يقال له عبد الله بن الثامر، وكان على دين المسيح، فأظهر دينه باليمن، وكان إذا رأى العليل والسقيم قال: أدعو الله لك حتى يشفيك، وترجع عن دين قومك! فيفعل ذلك، فكثر من اتبعه.
    وبلغ ذا نواس، فجعل يطلب من قال بهذا الدين، ويحفر لهم في الأرض الأخدود، ويحرق بالنار، ويقتل بالسيف، حتى أتى عليهم، فسار رجل منهم إلى النجاشي، وهو على دين النصرانية، فوجه النجاشي إلى اليمن بجيش عليهم رجل يقال له أرياط، وهم في سبعين ألفاً، ومع أرياط في جيشه أبرهة الأشرم، فسار إليه ذو نواس، فلما التقوا انهزم ذو نواس فلما رأى ذو نواس افتراق قومه وانهزامهم ضرب فرسه، واقتحم به البحر، فكان آخر العهد به. وكان ملك ذي نواس ثمانياً وستين سنة.
    ودخل أرياط الحبشي اليمن، فأقام بها عدة سنين، ثم نازعه أبرهة الأشرم الأمر، فافترقت الحبشة مع أرياط طائفة، ومع أبرهة طائفة، وخرجا للحرب، وسار كل واحد إلى صاحبه، فلما التقوا قال أبرهة لأرياط: ما نصنع يا أرياط بأن نقتل الناس بيني وبينك؟ ابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده عنه! فبرز كل واحد إلى صاحبه، فضربه أرياط بالحربة، فشرم عينيه، وضربه غلام لأبرهة، فقتله، واجتمعت الحبشة باليمن على أبرهة

    فلما بلغ النجاشي غضب، وحلف ليطأن أرضه برجله، أو ليجزن ناصيته! فحلق أبرهة رأسه، وبعث بها إليه، وبجراب من تراب أرضه، وقال: إنما أنا عبدك، وأرياط عبدك، اختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، فرضي عنه.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:12 am

    وخرج سيف بن ذي يزن إلى قيصر يستجيش على الحبشة، فأقام قبله سبع سنين، ثم رده، وقال: هم قوم على دين النصرانية لا أحاربهم! فسار إلى كسرى، فوجه بأهل السجون، ووجه معهم رئيساً يقال له وهرز، فلما قدم البلد حارب الحبشة، فقتل أبرهة الحبشي، وغلب على البلد، ثم ملك سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح، وسيف الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
    لا يطلب الثأر إلا ابن ذي يزن ... أقام في البحر للأعداء أحوالا
    أتى هرقل، وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده الأمر الذي قالا
    ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعةٍ ... من السنين، لقد أبعدت إيغالا
    حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... اذهب إليك، لقد أسرعت قلقالا
    وكانت ملوك اليمن يدينون بعبادة الأصنام في صدر من ملكهم، ثم دانوا بدين اليهود.
    وتلوا التوراة، وذلك أن أحباراً من اليهود صاروا إليهم، فعلموهم دين اليهودية، ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلا أن يغيروا على البلاد، ثم يرجعون إلى دار ملكهم.
    وكور بلاد اليمن تسمى مخاليف، وهي أربعة وثمانون مخلافاً، وهذه أسماؤها: اليحضبين، ويكلا، وذمار، وطمؤ، وعيان، وطمام، وهمل، وقدم، وخيوان، وسنحان، وريحان، وجرش، وصعدة، والأخروج، ومجيح، وحراز، وهوزن، وقفاعة، والوزيرة، والحجر، والمعافر، وعنه، والشوافي، وجبلان، ووصاب، والسكون، وشرعب، والجند، ومسور، والثجة، والمزدرع، وحيران، ومأرب، وحضور، وعلقان، وريشان، وجيشان، والنهم، وبيش، وضنكان، وقربى، وقنونا، ورنية، وزنيف، والعرش، والخصوف، والساعد، وبلجة، والمهجم، والكدراء، والمعقر، وزبيد، ورمع، والركب، وبني مجيد، ولحج، وأبين، والواديين، والهان، وحضرموت، ومقرى، وحيس، وحرض، والحقلين، وعنس، وبني عامر، وماذن، وحملان، وذي جرة، وخولان، و السرو، والدثينة، وكبيبة، وتبالة.
    ومن السواحل: عدن، وهي: ساحل صنعاء، والمندب، وغلافقة، والحزدة، والشرجة، وعثر، والحمضة، والسرين، وجدة.
    هذه بلاد مملكة اليمن وبلدانها، وكانوا ربما أغاروا على البلدان، فيرجعون إلى بلادهم. واليمن قبائل كثيرة، إذا دخلت فيهم قضاعة، فقد روي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أيما أكثر نزار أو قحطان؟ قال: ما شاب قضاعة، وقضاعة في هذا الوقت مقيمة على أنها ولد ملك بن حمير.
    وهذه جماهير قبائل اليمن مع ما دخل فيهم من نزار من قضاعة، وجذام، ولخم، وبجيلة، وخثعم. وكان أول من ذكر اسمه وعرف قدره: سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن ولده كهلان بن سبا، وحمير بن سبا.
    فمن قبائل كهلان طيء بن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان، والأشعر بن أدد بن زيد، وعنس ابن قيس بن الحارث بن مرة بن أدد، وجذام، ولخم، وعاملة، وهم بنو عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد، ومذحج ابن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان.
    فمن قبائل مذحج سعد العشيرة بن مذحج، ومراد بن مذحج، والنخع ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، وحكم وجعفي ابنا سعد العشيرة بن مذحج، وخولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مذحج، وزبيد بن الصعب بن سعد العشيرة بن مذحج. وهمدان، واسمه أوسلة بن خيار بن ربيعة بن مالك بن زيد بن كهلان.
    وخثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار بن عمرو بن الحبار بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان.
    والأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. فمن قبائل الأزد: عك بن عدنان بن الذنب بن عبد الله بن الأزد، على أن عكا تنسب إلى عدنان ابن أدد، والعتيك بن أسد بن عمرو ابن الأزد، وغسان، وهو مازن ابن الأزد.
    فمن قبائل غسان خزاعة، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن غسان بن وادعه بن عمران بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس، و الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن غسان، قال حسان بن ثابت الأنصاري:
    ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالك ب ... ن زيد بن كهلان وأهل المفاخر
    ومن قبائل حمير قضاعة، وقضاعة، فيما يزعم النسابون، ابن نزار بن معد بن عدنان، وكان

    نزار يكنى أبا قضاعة.
    فمن قبائل قضاعة: نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وجهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وعذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وسليح ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، والقين بن جسر بن الأسد بن وبرة بن تغلب ابن حلوان، وتنوخ، وهو مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان، فهذه جماهير قضاعة.
    ومن حمير بن سبا: الصدف بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن الهميسع ابن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
    والناس في حضرموت مختلفون، وقد ذكر قوم انهم من الأمم الخالية التي تقطعت مثل طسم، وجديس، وعملاق، وعاد، وثمود، وعبس الأولى، وأوبار، وجرهم.
    وكان تفرق أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم بسبب سيل العرم، وكان أول ذلك، على ما حملته الرواة: أن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد كان رئيس القوم، وكان كاهناً، فرأى أن بلاد اليمن تغرق، فأظهر غضبه على بعض ولده، وباع مرباعه، وخرج هو وأهل بيته ، فصار إلى بلاد عك، ثم ارتحلوا إلى نجران، فحاربتهم مذحج، ثم ارتحلوا عن نجران، فمروا بمكة، وبها يومئذ جرهم، فحاربوهم حتى أخرجوهم عن البلد، فصاروا إلى الجحفة، ثم ارتحلوا إلى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ولحق بهم جماعة من الأزد غير ابني حارثة، فصار بعضهم حلفاء، ودخل بعضهم معهم.
    وتفرقت الأزد بيثرب، وكانت يثرب منازل اليهود، فنازعتهم، وغلبتهم اليهود بكثرتهم، وقهروهم، حتى كان الرجل من اليهود ليأتي منزل الأنصاري، فلا يمكنه دفعه عن أهله وماله، حتى دخل رجل منهم يقال له الفطيون إلى دار مالك بن العجلان، فوثب عليه، فقتله، ثم صار إلى بعض ملوك اليمن فشكا إليه ما يلقون من اليهود، فسار ذلك الملك إليهم بجيشه حتى قتل من اليهود مقتلة عظيمة، فصلحت حال الأوس والخزرج وغرس النخل، وأنشأوا المنازل. وسار باقي القوم يؤمون الشام، حتى صاروا إلى أرض السراة، فأقام أزد شنوءة بالسراة وما حولها، وخرج منهم قبائل إلى عمان، فكان أول من صار منهم إلى عمان: مالك بن فهم بن غنم ابن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وتزوج مالك بامرأة من عبد القيس، فولدت له عدة أولاد، فيقال إن أصغر ولده قتله إذ كان معه في إبل له، فقام مالك بن فهم يطوف في الإبل، فرفع رأسه، فتوهمه ابنه سارقاً، فرماه فقتله، وكان يقال لأمه سليمة، فيقال إن مالك ابن فهم قال:
    أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما استد ساعده رماني
    ثم لحق بعد مالك بن فهم جماعة من بطون الأزد منهم: الربيعة وعمران بنو عمرو بن عدي ابن حارثة بن عمرو بن عامر، وهم: بارق، وغالب، ويشكر بن قيس بن صعب بن دهمان، وقوم من عامر، وقوم من حوالة بعمان، فلما صاروا بعمان انتشروا بالبحرين وهجر.
    وكان بأرض تهامة من الأزد الجدرة وهم من ولد عمرو بن خزيمة بن جعثمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، وذلك أن عمرا بنى جدار الكعبة، فسمي الجادر، وسار منهم نفر إلى هراة من أرض خراسان.
    وسارت غسان إلى الشام، حتى نزلت بأرض البلقاء، وكان بالشام قوم من سليح قد دخلوا ذمة الروم، وتنصروا، فسألتهم غسان أن تدخل معهم في ذلك، فكتبوا إلى ملك الروم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، ثم ساء مجاورتهم عامله على دمشق، فحمل عليهم صاحب الروم بجماعة من العرب من قضاعة من قبل ملك الروم ثم إن غسان طلبت الصلح، فأجابهم ملك الروم، وكان رئيس غسان يومئذ جفنة بن علية بن عمرو بن عامر، فتنصرت غسان، فأقامت بالشام مملكة من قبل صاحب الروم وسار ولد حوالة بن الهنو بن الأزد إلى الموصل، فنزلوها، وكان أهل اليمن يرون أن بلدهم يغرق من سد مأرب ، فحصنوه، وحرسوه، فلما بعث الله عليهم سيل العرم دخل عليهم الماء من جحر لجرذ كان يحفر في السد، فغرقهم.
    ملوك الشأم

    وكانت الشام دار ملك بني إسرائيل، فيقال إن أول من ملك بدمشق بالغ بن بعور.
    ثم ملك يوباب، وهو أيوب بن زارح الصديق، وكان من خبره ما قد قصة الله، عز وجل.
    ثم ملك مينسوس، وكانت بنو إسرائيل تحاربهم.
    ثم ملك هوسير من أهل لد.
    ثم انقطعت الممالك، فكانت ملوك بني إسرائيل، حتى انقرضوا.
    وغلبت الروم على ملكها، فخرج القوم عن البلاد، فكانت قضاعة أول من قدم الشأم من العرب، فصارت إلى ملوك الروم فملكوهم، فكان أول الملك لتنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدخلوا في دين النصرانية، فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب، فكان أول من ملك منهم: النعمان بن عمرو بن مالك.
    ثم غلبت بنو سليح، وهم بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأقامت بنو سليح زماناً على ذلك، فلما تفرقت الأزد، وصار من صار منهم إلى تهامة، ومن صار إلى يثرب، ومن صار إلى عمان وغير ذلك من البلدان، فصارت غسان إلى الشأم، فقدموا أرض البلقاء، فسألوا سليحاً أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك الروم، وأن يقيموا في البلاد، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فكتب رئيس سليح، وهو يومئذ دهمان بن العملق، إلى ملك الروم، وهو يومئذ نوشر، وكان منزله أنطاكية، فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم شروطاً، فأقاموا.
    ثم جرى بينهم وبين ملك الروم مشاجرة بسبب الإتاوة التي يقبضها ملك الروم، حتى أن رجلاً من غسان يقال له جذع ضرب رجلاً من أصحاب ملك الروم بسيفه، فقتله، فقال بعضهم: خذ من جذع ما أعطاك! فذهب مثلاً، فحاربهم صاحب الروم، فأقاموا ملياً يحاربونه ببصري من أرض دمشق، ثم صاروا إلى المخفف، فلما رأى ملك الروم صبرهم على الحرب، ومقاومتهم جيوشه، كره أن تكون ثلمة عليهم، وطلب القوم الصلح على أن لا يكون عليهم ملك من غيرهم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، فملك عليهم جفنة ابن علية بن عمرو بن عامر، واستقام الذي بينهم وبين الروم، وصارت أمورهم واحدة.
    وكان أول ملك جل قدره وعلا ذكره من غسان، بعد جفنة بن علية: الحارث بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عدي بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد.
    وملك بعده الحارث الأكبر بن كعب بن علية بن عمرو بن عامر وكعب هو جفنة، وهو ابن مارية، وأمه مارية بنت عاديا بن عامر.
    ثم ملك أخوه الحارث الأعرج فنزل الجولان.
    ثم ملك أخوه الحارث الأصغر.
    ثم ملك جبلة بن المنذر.
    ثم ملك الحارث بن جبلة.
    ثم ملك الأيهم بن جبلة.
    ثم جبلة بن الأيهم.
    وكان الحارث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن، وكان منزل جبلة دمشق، وفي جبلة بن الأيهم وأهله يقول حسان بن ثابت:
    لله در عصابةٍ نادمتهم ... يوماً بجلق، في الزمان الأول
    بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
    أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
    يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
    يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
    ملوك الحيرة من اليمنقالت الرواة، وأهل العلم: إنه لما تفرق أهل اليمن قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس، حتى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف، فأصاب قوماً من العرب من معد وغيرهم بالجزيرة فملكوه عشرين سنة.

    ثم أقبل جذيمة الأبرش، فتكهن، وعمل صنمين يقال لهما الضيزنان، فاستهوى أحياء من أحياء العرب، حتى صار بهم إلى أرض العراق، وبها دار اياد بن نزار، وكانت ديارهم بين أرض الجزيرة إلى أرض البصرة، فحاربوه، حتى إذا صار إلى ناحية يقال لها بقة على شط الفرات، بالقرب من الأنبار، وكان يملك الناحية امرأة يقال لها الزباء، وكانت شديدة الزهادة في الرجال، فلما صار جذيمة إلى أرض الأنبار، واجتمع له من أجناده ما اجتمع، قال لأصحابه: إني قد عزمت على أن أرسل إلى الزباء، فأتزوجها، وأجمع ملكها إلى ملكي! فقال غلام له يقال له قصير: إن الزباء لو كانت ممن تنكح الرجال لسبقت إليها! فكتب إليها، فكتبت إليه: أن أقبل إلى أزوجك نفسي فارتحل إليها، فقال له قصير: لم أر رجلاً يزف إلى امرأة قبلك، وهذه فرسك العصا قد صنعتها، فاركبها، وأنج بنفسك! فلم يفعل، فلما دخل عليها كشفت عن فخذها، فقالت: أدأب عروس ترى؟ قال: دأب فاجرة، بظراء، غادرة. فقطعته الزباء، وركب قصير الفرس العصا ونجا.
    ولما قتل جذيمة ملك مكانه ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، فقال قصير لعمرو: لا تعصني أنت! قال: قل ما بدا لك! قال: أجدع أنفي، واقطع أذني، وخلني! ففعل ذلك، فصار إلى الزباء، وقال: إني كنت من النصح لجذيمة على ما رأيت، ولعمرو ابن أخته، حتى ملكته، فكان جزائي عنده أن فعل بي ما ترين، فجئتك لأكون في خدمتك، ولعل الله أن يجري قتل عمرو على يدك.
    ولم يزل يحتال لها حتى وجهته في تجارة فأتاها بأموال كثيرة مرةً بعد مرة، فأعجبها ذلك، فوثقت به، فلما استحكمت ثقتها به صار إلى عمرو، فقال: أقعد الرجال في الصناديق! فحمل أربعة آلاف رجل على ألفي جمل، معهم السيوف، ثم أدخلهم مدينتها، وفيهم عمرو، وفرق الصناديق في منازل أصحابها، وأدخل عدة منها دارها، فلما كان الليل خرجوا، وقتلوا الزباء وخلقاً من أهل مملكتها. وملك عمرو بن عدي خمساً وخمسين سنة.
    ثم ملك امرؤ القيس بن عمرو خمساً وثلاثين سنة.
    ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو سبعاً وثمانين سنة.
    ثم ملك عمرو بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي أربعين سنة.
    ثم ملك المنذر بن امرىء القيس، وهو محرق، وإنما سمي محرقاً لأنه أخذ قوماً حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقاً.
    ثم ملك النعمان، وهو الذي بنى الخورنق، فبينما هو جالس ينظر منه إلى ما بين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة والأشجار، إذ ذكر الموت، فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا! فتنسك، واعتزل الملك، وإياه عنى عدي بن زيد حيث يقول:
    وتفكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
    سره حاله، وكثرة ما يم ... لك، والبحر معرض، والسدير
    فارعوى قلبه، وقال: وما غب ... طة حيٍ إلى الممات يصير؟
    وملك بعده المنذر بن النعمان ثلاثين سنة.
    ثم ملك عمرو بن المنذر، وهو الذي قتل الحارث بن ظالم عنده خالد بن جعفر بن كلاب، فنذر دمه، وطلبه، فطلب الحارث ابنه، وكان مسترضعاً في آل سنان، فقتله.
    ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني، وهو ابن هند، وكان يلقب مضرط الحجارة، وكان قد جعل الدهر يومين: يوماً يصيد فيه، ويوماً يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه، حتى يرتفع مجلس شرابه، فقال فيه طرفة بن العبد:
    فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً، حول حجرتنا تخور
    قسمت الدهر في زمنٍ رخيٍ ... كذاك الدهر يعدل، أو يجور
    من الزمرات أسبل قادماها ... فضرتها مركنة درور
    لعمرك! إن قابوس بن هندٍ ... ليخلط ملكه نوك كثير
    لنا يوم، وللكروان يوم ... تطير البائسات، ولا نطير
    فأما يومهن، فيوم سوءٍ ... تطاردهن بالخسف الصقور
    وأما يومنا، فنظل ركباً ... وقوفاً لا نحل، ولا نسير
    ولم يزل طرفة يهجوه ويهجو أخاه قابوساً، ويذكرهما بالقبيح، ويشبب بأخت عمرو، ويذكرها بالعظيم، فكان مما قال فيه:
    إن شرار الملوك قد علموا ... طراً، وأدناهم من الدنس
    عمرو، وقابوس، وابن أمهما ... من يأتهم للخنا بمحتبس

    يأت الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس
    يصبح عمرو على الأمور ... وقد خضخض ما للرجال كالفرس
    وكان المتلمس حليفاً لطرفة، فكان يساعده على هجائه، فقال لهما عمرو: قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما إلى عاملي بالبحرين يدفع لكل واحد منكما مائة ألف درهم، فأخذ كل واحد منهما صحيفة، فاستراب المتلمس بأمره، فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاماً عبادياً فقال له المتلمس: أ تحسن أن تقرأ؟ قال: نعم! قال: اقرأ هذه الصحيفة! فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، فطرح الصحيفة، وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا، قال: ليس يجترىء على قومي بهذا، وأنا بذلك البلد أعز منه. فمضى طرفة إلى عامل البحرين، فلما قرأ صحيفته قطع يديه ورجليه، وصلبه.
    ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر.
    ثم ملك المنذر بن المنذر أربع سنين، وكان هؤلاء الملوك من قبل الأكاسرة يؤدون إليهم الطاعة، ويحملون الخراج.
    وكانت قبائل معد مجتمعة عليهم، وكان أشدها امتناعاً غطفان وأسد بن خزيمة، وكان يأتيهم الرجل من معد على جهة الزيارة، فيحيونه ويكرمونه، وكان ضمن إياهم من رؤساء القبائل الربيع بن زياد العبسي، والحارث بن ظالم المري، وسنان بن أبي حارثة والنابغة الذبياني الشاعر، وكانت الملوك تعظم الشعراء، وترفع أقدارهم لما يبقون لهم من المدح والذكر، فكان النابغة مقدماً عند ملوكهم، ثم شبب بامرأة المنذر في قصيدته التي يقول فيها:
    سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
    فنذر المنذر دمه، فهرب إلى الشام إلى ملوك غسان ثم اعتذر إلى المنذر يشعره الذي يقول فيه:
    فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
    ويقول:
    نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسد
    وكان مع المنذر أهل بيت من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، وكان من أهل ذلك البيت عدي بن زيد العبادي، وكان خطيباً شاعراً قد كتب العربية والفارسية، وكان المنذر قد جعل عندهم ابنه النعمان، فأرضعوه، وكان في حجورهم، فكتب كسرى إلى المنذر أن يبعث له بقوم من العرب يترجمون الكتب له، فبعث بعدي بن زيد وأخوين له، فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر قال كسرى لعدي بن زيد: هل بقي أحد من أهل هذا البيت يصلح للملك؟ قال: نعم! إن للمنذر ثلاثة عشر ولداً، كلهم يصلح لما يريد الملك، فبعث، فأقدمهم، وكانوا من أجمل أهل بيت المنذر، إلا ما كان من النعمان، فإنه كان أحمر أبرش قصيراً، فكان أهل بيت عدي بن زيد الذين ربوه، وأمه سبية يقال لها سلمى، يقال إنها من كلب فأنزلهم عدي بن زيد كل واحد على حدته، وكان يفضل أخوه النعمان عليه في النزل، ويريهم أنه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلاً رجلاً، ويقول لهم: إن سألكم الملك هل تكفوني العرب؟ فقولوا له: لن نكفيكهم، إلا النعمان.
    وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم، فأنا عن العرب أعجز.
    وكان من بني المنذر رجل يقال له الأسود، وكانت أمه من بني الرباب، وكان من الرجال، وكان يحضنه أهل بيت من الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافاً، وكان منهم رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، كان مارداً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: أخي النعمان، إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي إليك ورغبتي أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله ما ينصحك أبداً! فلم يلتفت إلى قوله، فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلاً رجلاً، فكان يرى رجالاً ما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون؟ قالوا: لن نكفيك العرب، إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً وسيماً، فكلمه فقال: هل تستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز! فملكه، وكساه وألبسه اللؤلؤ، فلما خرج وقد ملك قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك قد خالفت الرأي.
    ومضى النعمان مملكاً على عدي بن مرينا، فأمر قوماً من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عدي بن زيد عنده، ويقولوا: إنه يزعم أن الملك عامله، وأنه هو ولاه، ولولاه ما ولي، وكلاماً

    نحو هذا، فلم يزالوا يتكلمون بحضرة النعمان، حتى احفظوه واغضبوه على عدي بن زيد، فكتب النعمان إلى عدي: عزمت عليك إلا زرتني! فاستأذن كسرى، وقدم عليه فلما صار إلى النعمان أمر بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد.
    وكان له مع كسرى أخوان يقال لأحدهما أبي والآخر سمي، وكانا عند كسرى، وكان أحدهما يسره هلاكه، والآخر يحب صلاحه، فجعل عدي يقول الشعر في محبسه، ويستعطف النعمان، ويذكر له حرمته، ويغظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك، وجعل أعداؤه من آل مرينا يحملون عليه النعمان، ويقولون له: إن أفلت قتلك، وكان سبب هلاكك، فلما يئس عدي أن يجد عند النعمان خيراً كتب إلى أخيه:
    أبلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
    بان أخاك شقيق الفؤا ... د وكنت به والهاً ما سلم
    لدى ملك موثق بالحدي ... د إما بحق، وأما ظلم
    فلا تلفين كذاك الغلا ... م ألا تجد عارماً يعتزم
    فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حلم
    وكتب إلى ابنه عمرو بن عدي، وكانت له ناحية من كسرى:
    لمن ليل بذي حبس طويل ... عظيم شقه، حزن، دخيل
    وما ظلم امرىء في الجيد غل ... وفي الساقين ذو حلق طويل
    ألا هبلتك أمك، عمرو بعدي ... أتقعد لا أفك، ولا تصول
    ألم يحزنك أن أباك عانٍ ... وأنت مغيب غالتك غول
    تغنيك ابنة القين ابن جسر ... وفي كلب فيصحبك الشمول
    فلو كنت الأسير، ولا تكنه ... إذا علمت معد ما أقول
    وإن أهلك، فقد أبليت قومي ... بلاء كله حسن جميل
    وما قصرت في طلب المعالي ... فتقصرني المنية، أو تطول
    فقام أخوه وابنه ومن معهما إلى كسرى فكلماه في أمره، فكتب كسرى إلى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه في ذلك رسولاً قال: فسأل أبي بن زيد الرسول أن يبتدىء بعدي، فابتدأ الرسول به، فقال عدي: إنك إن فارقتني قتلت! قال: كلا! إنه لا يجترىء النعمان على الملك! فبلغ النعمان مصير رسول كسرى إلى عدي، فلما خرج من عنده، وجه إليه النعمان من قتله، ووضع على وجهه وسادة، حتى مات، ثم قال للرسول: إن عدياً قد مات، وأعطاه وأجازه، وتوثق منه ألا يخبر كسرى إلا أنه وجده ميتاً، وكتب إلى كسرى أنه مات.
    وكان عمرو بن عدي يترجم الكتب لكسرى، وطلب كسرى جارية، ووصف صفتها، فلم توجد له، فقال له عمرو بن عدي بن زيد: أيها الملك! عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على أكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن الملك، ويزعم أنه خير منه، فوجه كسرى إلى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها، فقال النعمان: أما في عين السواد وفارس ما بلغ الملك حاجته؟ فلما انصرف الرسول خبر كسرى بقول النعمان، فقال كسرى: وما يعني بالعين؟ قال عمرو بن عدي بن زيد: أراد البقر، ذهاباً بابنته عن الملك، فغضب كسرى، وقال: رب عبد قد صار إلى أكبر من هذا، ثم صار أمره إلى تباب! فبلغت النعمان، فاستعد.
    وأمسك عنه كسرى شهراً، ثم كتب إليه بالقدوم عليه، فعلم النعمان ما أراد، فحمل سلاحه وما قوي عليه، ولحق بجبلي طي وكانت سعدى بنت حارثة عنده، فسأل طيئاً أن يمنعوه من كسرى، فقالوا: لا قوة لنا به! فانصرف عنهم، وجعلت العرب تمتنع من قبوله، حتى نزل في بطن ذي قار، في بني شيبان، فلقي هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فدفع إليه سلاحه، وأودعه بنته وحرمته، ومضى إلى كسرى، فنزل ببابه، فأمر به فقيد، ثم وجه به إلى خانقين، فلقيه عمرو بن عدي بن زيد، فقال: يا نعيم! تصغيراً به، لقد شددت لك أواخي لا يقلعها إلا المهر الأرن! فقال: أرجو أن تكون قد قرنتها بقارح! فلما مضى به إلى خانقين طرح به تحت الفيلة، فداسته، حتى قتلته، وقرب للأسود فأكلته.
    ووجه كسرى إلى هانىء بن مسعود: أن ابعث إلى مال عبدي الذي عندك وسلاحه وبناته، فلم يفعل هانىء، فوجه إليه كسرى بجيش، فاجتمعت ربيعة، وكانت وقعة ذي قار، فمزقت العرب العجم، وكان أول يوم ظفرت فيه العرب بالعجم.

    ويروي عن رسول الله أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
    حرب كندةوكان بين كندة وحضرموت حروب أفنت عامتهم، وكانت كندة قد اجتمعت على رجلين أحدهما سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب، وكان على بني الحارث بن معاوية عمرو بن زيد، وشرحبيل بن الحارث على السكون، واجتمعت حضرموت على عدة رؤساء منهم: مسعر بن مستعر، وسلامة بن حجر، وشراحيل بن مرة وعدة بعد هؤلاء، فزال هؤلاء كلهم. وطالت الحرب بينهم، وفتنت رجالهم، ودامت حتى ضرستهم، وكثر القتل في كندة.
    وملكت حضرموت علقمة بن ثعلب، وهو يومئذ غلام، فلأنت كندة بعض اللين وكرهت محاربة حضرموت، ودخل أهل اليمن التشتيت والتفريق، فلما افترق أهل اليمن وانتشروا في البلاد ملك كل قوم عظيمهم، وصارت كندة إلى أرض معد، فجاورتهم، ثم ملكوا رجلاً منهم كان أول ملوكهم يقال له مرتع بن معاوية بن ثور، فملك عشرين سنة.
    ثم ملك ابنه ثور بن مرتع، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، فملك بعده معاوية بن ثور.
    ثم ملك الحارث بن معاوية، فكان ملكه أربعين سنة.
    ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة.
    ثم ملك بعده حجر بن عمرو، آكل المرار، ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي حالف بين كندة وربيعة، وكان تحالفهم بالذنائب.
    ثم ملك بعده عمرو بن حجر أربعين سنة، وغزا الشام، ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر، فقتله، فملك بعده الحارث بن عمرو، وأمه ابنة عوف بن محلم الشيباني، ونزل بالحيرة، وفرق ملكه على ولده.
    وكان له أربعة أولاد: حجر، وشرحبيل، وسلمة الغلفاء، ومعديكرب، فملك حجراً في أسد وكنانة، وملك شرحبيل على غنم وطيء والرباب، وملك سلمة الغلفاء على تغلب والنمر بن قاسط، وملك معديكرب على قيس بن عيلان، وكانوا يجاورون ملوك الحيرة فقتل الحارث، وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر، حتى كافأوه.
    فلما رأى المنذر تغلبهم على أرض العرب نفسهم ذلك، وأوقع بينهم الشرور، فوجه إلى سلمة الغلفاء بهدايا، ثم دس إلى شرحبيل من قال له: إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر، فقطع الهدايا، فأخذها، ثم أغرى بينهما، حتى تحاربا، فقتل شرحبيل، فكانت معه تميم وضبة، فلما قتل خاف الناس أن يقولوا لأخيه سلمة: إن أخاك قد قتل، وجعل يسمع قولهم، فجزع لقتل أخيه، وندم على أن المنذر إنما أراد أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال:
    إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب
    من حديث نمى إلي، فما ير ... قأ دمعي، ولا أسيغ شرابي
    وتنكرت بنو أسد بحجر بن عمرو، وساءت سيرته فيهم، وكانت عنده فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل، فولدت له هنداً، فلما خاف على نفسه حملها، فاجتمعت بنو أسد على قتله، فقتلوه، وادعى قبائل من بني أسد قتل حجر، وكان القائم بأمر بني أسد علباء بن الحارث أحد بني ثعلبة.
    وكان امرؤ القيس بن حجر غائباً، فلما بلغه مقتل أبيه جمع جمعاً، وقصد لبني أسد، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمة، فمر ببني أسد، فقالت بنت علباء: ما رأيت كالليلة قطا أكثر! فقال علباء: لو ترك القطا لغفا ونام، فأرسلها مثلاً.
    وعرف أن جيشاً قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس، فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم وجعل يقول: يا للثارات! فقالوا: والله ما نحن إلا من كنانة! فقال:
    ألا يا لهف نفسي، بعد قوم ... هم كانوا الشفاء، فلم يصابوا
    وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
    وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
    وفي هذا الوقت يقول عبيد بن الأبرص الأسدي لامرىء القيس بن حجر في قصيدة طويلة:
    يا ذا المعيرنا بقت ... ل أبيه إذلالاً وحينا
    أزعمت أنك قد قت ... لت سراتنا كذباً ومينا
    هلا على حجر بن أ ... م قطام تبكي لا علينا
    إنا إذا عض الثقا ... ف برأس صعدتنا لوينا
    نحمي حقيقتنا، وبع ... ض القوم يسقط بين بينا
    وفي هذا يقول أيضاً عبيد في قصيدة له طويلة:
    يا أيها السائل عن مجدنا ... إنك مستغبى بنا جاهل

    إن كنت لم تأتك أنباؤنا ... فاسأل بنا يا أيها السائل
    سائل بنا حجراً، غداة الوغى ... يوم يؤتى جمعه الحافل
    يوم لقوا سعداً على مأقط ... وحاولت من خلفه كاهل
    فأوردوا سرباً له ذبلاً ... كأنهن اللهب الشاعل
    ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زماناً، وكان يدمن مع ندامى له، فأشرف يوماً، فإذا براكب مقبل، فسأله من أين أقبلت؟ قال: من نجد! فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة رفع عقيرته، وقال:
    سقينا امرأ القيس بن حجر بن حارثٍ ... كؤوس الشجا حتى تعود بالقهر
    وألهاه شرب ناعمٍ وقراقرٍ ... وأعياه ثأر كان يطلب في حجر
    وذاك لعمري كان أسهل مشرعاً ... عليه من البيض الصوارم والسمر
    ففزع امرؤ القيس لذلك، ثم قال: يا أخا أهل الحجاز! من قائل هذا الشعر؟ قال: عبيد بن الأبرص. قال: صدقت! ثم ركب، واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض معد، فأوقع بقبائل من معد، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيد بني أسد، وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:
    قولا لدودان: عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل
    يا أيها السائل عن شأننا ... ليس الذي يعلم كالجاهل
    حلت لي الخمر، وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل
    وطلب قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم أنه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه، ولم يمكنه الرجوع، سار إلى سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملاً لكسرى على بعض كور العراق، فاستتر عنده حيناً، حتى مات سعد بن الضباب، فلما مات سعد خرج امرؤ القيس إلى جبلي طي، فلقي طريف بن الطائي، فسأله أن يجيره، فقال: والله ما لي من الجبلين إلا موضع ناري! فنزل بقوم من طيء ثم لم يزل ينتقل في طيء مرة، وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة، حتى صار إلى تيماء، فنزل بالسموأل بن عادياء، فسأله أن يجيره، فقال له: أنا لا أجير على الملوك، ولا أطيق حربهم، فأودعه أدراعاً، وانصرف عنه يريد ملك الروم حتى صار إلى قيصر ملك الروم، فاستنصره، فوجه معه تسعمائة من أبناء البطارقة.
    وكان امرؤ القيس قد مدح قيصر فسار الطماح الأسدي إلى قيصر فقال له: إن امرأ القيس شتمك في شعره وزعم أنك علج اغلف، فوجه قيصر إلى امرىء القيس بحلة قد نضح فيها السم، فلما ألبسها تقطع جلده وأيقن بالموت فقال:
    تأوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يزداد دائي، فانكسا
    لقد طمح الطماح، من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
    فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
    وهذه الأبيات في قصيدة له طويلة. وقال أيضاً في حاله تلك:
    ألا أبلغ بني حجر بن عمرو ... وأبلغ ذلك الحي الحريدا
    بأني قد بقيت بقاء نفس ... ولم أخلق سلاماً أو حديداً
    ولو أني هلكت بأرض قومي ... لقلت الموت حق لا خلودا
    ولكني هلكت بأرض قومٍ ... سحيقاً، من دياركم، بعيدا
    بأرض الشأم لا نسب قريب ... ولا شاف فيسعف أو يجودا
    ومات امرؤ القيس بأنقرة من أرض الروم.
    ولد إسماعيل بن إبراهيموإنما أخرنا خبر إسماعيل وولده، وختمنا بهم أخبار الأمم، لأن الله، عز وجل، ختم بهم النبوة والملك، واتصل خبرهم بخبر رسول الله والخلفاء.
    ذكرت الرواة والعلماء: أن إسماعيل بن إبراهيم أول من نطق بالعربية، وعمر بيت الله الحرام بعد أبيه إبراهيم، وقام بالمناسك، وأنه كان أول من ركب الخيل العتاق، وكانت قبل ذلك وحوشاً لا تركب.

    وقال بعضهم: إن إسماعيل أول من شق الله فاه باللسان العربي، فلما شب أعطاه الله القوس العربية، فرمى عنها، وكان لا يرمي شيئاً إلا أصابه، فلما بلغ أخرج الله من البحر مائة فرس، فأقامت ترعى بمكة ما شاء الله، ثم ساقها الله إليه، فأصبح وهي على بابه، فرسنها وركبها، وأنتجها، وكانت دواب الناس البراذين، وركبها إسماعيل وبنوه وولده، وفي إسماعيل يقول بعض شعراء معد:
    أبونا الذي لم تركب الخيل قبله ... ولم يدر شيخ قبله كيف تركب
    ويقال إنما سميت أجياد مكة لأن الخيل كانت فيها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسماعيل أن يأتي الخيل، فأتاها، فلم تبق فرس إلا أمكنته من ناصيتها، فركبها وركبها ولده، فكان إسماعيل أول من ركب الخيل، وأول من اتخذها، وأول من نفى أهل المعاصي عن الحرم، فقال: أعربه! فسميت العربة بذلك.
    وكان ولد جرهم بن عامر، لما صار إخوتهم من بني قحطان بن عامر إلى اليمن فملكوا صاروا هم إلى أرض تهامة فججاوروا إسماعيل بن إبراهيم، فتزوج إسماعيل الحتفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكراً، وهم: قيدار، ونابت، وأدبيل، و مبشام، ومسمع، ودوما، ومسا، وحداد، وتيما، ويطور، ونافس، وقيدما، وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من العبرانية، فلما كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي، فدفن في الحجر، فلما توفي إسماعيل ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل، ويقال وليه قيدار، وبعد قيدار نابت بن إسماعيل.
    وافترق ولد إسماعيل يطلبون السعة في البلاد، وحبس قوم أنفسهم على الحرم، فقالوا: لا نبرح من حرم الله. ولما توفي نابت، وقد تفرق ولد إسماعيل، ولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي، جد ولد إسماعيل، وذلك أن من بقي في الحرم من ولد إسماعيل كانوا صغاراً، فلما ولي المضاض نازعه السميدع بن هوبر، ثم ظهر عليه المضاض، فمضى السميدع إلى الشأم، وهو أحد ملوك العمالقة واستقام الأمر لمضاض حتى توفي.
    ثم ملك بعده الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك المعتسم بن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عداد بن صداد بن جندل بن مضاض ثم ملك فتحص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو وكان آخر من ملك من جرهم.
    وطغت جرهم، وبغت، وظلمت، وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم الذر، فأهلكوا به عن آخرهم، وكان ولد إسماعيل منتشرين في البلاد يقهرون من ناواهم، غير أنهم كانوا يسلمون الملك لجرهم للخؤولة، وكانت جرهم تطيعهم في أيامهم، ولم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة في أيام جرهم غير ولد إسماعيل تعظيماً منهم لهم، ومعرفة بقدرهم، فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين، ثم يشجب بن أمين، ثم الهميسع، ثم أدد، فعظم شأنه في قومه، وجل قدره، وأنكر على جرهم أفعالها، وهلكت جرهم في عصره، ثم عدنان بن أدد، ثم معد بن عدنان، ثم افترق ولد عدنان في البلاد، ولحق قوم منهم باليمن، منهم: عك، والديث، والنعمان، فولد لعك من بنت أرغم بن جماهر الأشعري، ثم هلك، وبقي ولده بعده، فانتموا إلى الأخوال والدار.
    وكان عدنان أول من وضع الأنصاب وكسا الكعبة، وكان معد بن عدنان أشرف ولد إسماعيل في عصره، وكانت أمه من جرهم، ولم يبرح الحرم، فكان له من الولد عشرة أولاد، وهم: نزار، وقضاعة، وعبيد الرماح وقنص، وقناصة، وجنادة، وعوف، وأود، وسلهم، وجنب، وكان معد يكنى أبا قضاعة، فانتسب عامة ولد معد في اليمن، وكان لهم عدد كثير، وانتمت قضاعة إلى ملك حمير، وقضاعة، فيما يقال، ولد على فراش معد، وكان معد أول من وضع رحلاً على جمل وناقة، وأول من زمها بالنسع.
    وكان نزار بن معد سيد بني أبيه وعظيمهم، ومقامه بمكة، وأمه ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب الجرهمية ، وكان له من الولد أربعة: مضر، واياد وربيعة، وأنمار، وأمهم سودة بنت عك بن عدنان، ويقال إن أم مضر وأياد حيية بنت عك بن عدنان، وأم ربيعة وأنمار جدالة بنت وعلان ابن جوشم الجرهمي.

    ولما حضرت نزار الوفاة قسم ميراثه على ولده الأربعة، فأعطى مضر وأيادا وربيعة وأنمارا ماله، فمضر وربيعة: الصريحان من ولد إسماعيل، فأعطى مضر ناقته الحمراء وما أشبهها من الحمرة، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة الفرس وما أشبهها، فسمي ربيعة الفرس، وأعطى إياداً غنمه وعصاه، وكانت الغنم برقاء، فسمي أياد البرقاء ويقال أياد العصا، وأعطى أنماراً جارية له تسمى بجيلة فسمي بها، وأمرهم أن تخالفوا أن يتحاكموا إلى الأفعى بن الأفعى الجرهمي، فكان منزله بنجران، فتحاكموا إليه.
    فأما أنمار بن نزار، فإنه تزوج في اليمن، فانتسب ولده إلى الخؤولة، فمنهم: بجيلة وخثعم لم يخرج من ولد نزار غيرهم.
    وأما ربيعة بن نزار، فإنه فارق إخوته، فصار مما يلي بطن عرق إلى بطن الفرات، فولد له أولاد منهم: أسد، وضبيعة، وأكلب، وتسعة بعدها، ولا ينسبون في اليمن.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:14 am

    وانتشر ولد ربيعة بن نزار وولد ولده حتى كثروا، وامتلأت منهم البلاد، فجماهير قبائل ربيعة: بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، وعنزة بن أسد بن ربيعة، وعبد القيس ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ويشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب ابن أفصى، وحنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط وعجل بن لجيم ابن صعب بن علي بن بكر، وقيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر، وتيم اللات بن ثعلبة بن عكابة.
    وكانت الحكومة والرئاسة من ربيعة في بني ضبيعة ولد بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، ثم تحولت الحكومة والرئاسة في ولد عنزة بن أسد بن ربيعة، ثم تحولت في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ثم سارت عبد القيس، حتى نزلت اليمامة بسبب حرب كانت بينهم وبين بني النمر بن قاسط، وكانت إياد باليمامة، فأجلوهم، ثم صارت الرئاسة في النمر بن قاسط، ثم تحولت من النمر بن قاسط فصارت في بني يشكر بن صعب بن علي بن بكر، ثم تحولت الرئاسة من يشكر بن صعب، فصارت في بني تغلب، ثم صارت في بني شيبان.
    وكانت لربيعة أيام مشهورة وحروب معروفة، فمن مشهور أيامهم: يوم السلان، فإن مذحج أقبلت تريد غزو أهل تهامة ومن بها من أولاد معد، فاجتمع ولد معد لحرب مذحج وكان أكثرهم ربيعة، فرأسوا عليهم ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر، فالتقوا ومذحج بالسلان، فهزموا مذحجاً، وكان لهم الظفر.
    وأما يوم خزاز، فإن اليمن أقبلت، وعليهم سلمة بن الحارث بن عمرو الكندي، فرأست ولد معد كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة، فلما رأى سلمة كثرة القوم استجار ببعض الملوك، فأمده، فالتقوا بخزاز، وعلى ولد معد كليب، ففضت جموع اليمن. وأما يوم الكلاب، فإن سلمة وشرحبيل ابني الحارث بن عمرو الكندي تحاربا، فكان مع سلمة ربيعة ومع شرحبيل قيس، فكثرت ربيعة قيساً، فقتلت شرحبيل بن الحارث بن عمرو، وكان لهم العلو.
    وأما أيام البسوس فإنها بين بني شيبان وتغلب بسبب قتل جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم التغلبي، فاشتبكت الحرب، واتصلت حتى أفنتهم، ودامت أربعين سنة.
    وأما يوم ذي قار، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانىء بن مسعود الشيباني: أن ابعث إلي ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله سلاحه، وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع، فأبى هانىء وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم، فالتقوا بذي قار، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فقلدوه أمرهم، فقالوا لهانىء: ذمتك ذمتنا: ولا نخفر ذمتنا، فحاربوا الفرس، فهزموهم ومن معهم من العرب وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من أخوه معد وقحطان، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى، وأخبره الخبر، فخلع كتفه، فمات، فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم.
    وأما إياد بن نزار، فإنه نزل اليمامة، فولد له أولاد انتسبوا في القبائل، فيقول النسابون: إن ثقيفاً قسي بن النبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن أياد، وانهم انتسبوا إلى قيس.

    وكانت ديار إياد، بعد اليمامة، الحيرة ومنازلهم الخورنق والسدير وبارق، ثم أجلاهم كسرى عن ديارهم، فأنزلهم تكريت، مدينة قديمة على شط دجلة، ثم أخرجهم عن تكريت إلى بلاد الروم، فنزلوا بأنقرة من أرض الروم، ورئيسهم يومئذ كعب بن مامة، ثم خرجوا بعد ذلك، فجماهير قبائل إياد أربعة: مالك، وحذاقة، ويقدم، ونزار، فهذه بطون إياد، وفيهم يقول الأسود ابن يعفر التميمي:
    أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
    الواطئون على صدور نعالهم ... يمشون في الدفني والأبراد
    عفت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
    نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
    بلد تخيرها، لطول مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد
    وذكر أبو دؤاد الأيادي بعض ذلك، وكان أبو دؤاد أشعر شعرائهم، وبعده لقيط بالعراق، فلما بلغه أن كسرى آلى على نفسه أن ينفي إياداً من تكريت، وهي من أرض الموصل، كتب صحيفة بعث بها إليهم، وفيها:
    سلام في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إياد
    فإن الليث يأتيكم بياتاً ... فلا يشغلكم سوق النقاد
    أتاكم منهم سبعون ألفاً ... يزجون الكتائب كالجراد
    وأما مضر بن نزار، فسيد ولد أبيه، وكان كريماً حكيماً، ويروى عنه أنه قال لولده: من يزرع شراً يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها، فيما أفسدكم، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر ووقاية.
    وروي أن رسول الله قال: لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين، وفي حديث آخر: فإنهما كانا على دين إبراهيم، فولد مضر بن نزار إلياس بن مضر وعيلان بن مضر، وأمهما الحنفاء بنت أياد بن معد، فولد عيلان بن مضر قيس بن عيلان، فانتشر ولده وكثروا، و صار فيه العدد والمنعة، فجماهير قبائل قيس بن عيلان: عدوان بن عمرو بن قيس، وفهم بن عمرو بن قيس، ومحارب بن خصفة بن قيس، وباهلة بن أعصر بن سعد بن قيس، وفزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس، وسليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وعامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومازن بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وسلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، وثقيف ينسب إلى أياد بن نزار، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وعقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقشير بن كعب بن ربيعة، والحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر، وعوف بن عامر بن ربيعة بن عامر، والبكاء بن عامر بن ربيعة.
    وكانت الرئاسة والحكومة في قيس، وانتقلت في عدوان، وكان أول من حكم منهم ورأس: عامر ابن الضرب، ثم صارت في فزارة، ثم صارت في عبس، ثم صارت في بني عامر بن صعصعة، ولم تزل فيهم.
    وكانت لقيس أيام مشهورة وحروب متصلة منها: يوم البيداء، ويوم شعب جبلة، ويوم الهباءة، ويوم الرقم، ويوم فيف الريح، ويوم الملبط، ويوم رحرحان، ويوم العرى، ويوم حرب داحس والغبراء بين عبس وفزارة.
    وكان الياس بن مضر قد شرف وبان فضله، وكان أول من أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم، وظهرت منه أمور جميلة، حتى رضوا به رضاً لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد، فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها، وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من وضع الركن بعد هلاك إبراهيم، فكانت العرب تعظم إلياس تعظيم أهل الحكمة، وكان لإلياس من الولد: مدركة، واسمه عامر، وطابخة، واسمه عمرو، وقمعة، واسمه عمير، وأمهم جميعاً خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
    وكان إلياس قد أصابه السل، فقالت خندف امرأته: لئن هلك لا أقمت ببلد مات به! وحلفت ألا يظلها بيت، وأن تسيح في الأرض فلما مات خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزناً.
    وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت تبكيه، وإذا طلعت شمس ذلك اليوم بكت حتى تغيب، فصارت مثلاً.
    وقيل لرجل من أياد هلكت امرأته: ألا تبكيها؟ فقال:
    لو أنه أغنى بكيت كخندف ... على الياس، حتى ملها السر تندب

    إذا مؤنس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى نرى الشمس تغرب
    يعني بقوله مؤنس: يوم الخميس، لأن العرب كانت تسمي الأيام بغير أسمائها في هذا الوقت، فكانت تسمى الأحد الأول، والإثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنساً، و الجمعة عروبة، والسبت شيار، وكانوا يسمون أيام الشهر عشرة أسماء كل ثلاث ليال اسم، فالثلاث التي أول الهلال الغرر، ثم النفل ثم التسع، ثم العشر، ثم البيض، ثم الظلم، ثم الخنس، ثم الحنادس، ثم المحاق، والآخر ليلة السرار، إذا استسر الهلال، وكانوا يسمون المحرم مؤتمراً، وصفراً ناجراً، وربيعاً الأول خوان، وربيعاً الآخر وبصان، وجمادى الأولى حنين، وجمادى الآخرة ربى، ورجباً الأصم، وشعبان العاذل، ورمضان ناتقاً، وشوالاً وعلاً، وذا القعدة ورنة، وذا الحجة بركاً، وكان آخرون من العرب يسمون الثلاث ليال من أول الشهر هلالاً، ثم ثلاث قمر حين يقمر، ثم ثلاث بهر حين يضيء ويبهر لونه، وثلاث نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث ظلم، وثلاث حنادس، وثلاث دآدي، وليلتان محاق، وليلة سرار. وولد لطابخة بن إلياس أد بن طابخة، فتفرقت من ولد أد بن طابخة أربع قبائل، وهي: تميم بن مر بن أد، والرباب وهو عبد مناة بن أد، وضبة بن أد، ومزينة بن أد، وكان العدد في تميم بن مر بن أد، حتى امتلأت منهم البلاد، وافترقت قبائل تميم، فمن جماهير قبائل تميم: كعب بن سعد بن زيد مناة، وحنظلة بن مالك بن زيد مناة، وهم يسمون البراجم، وبنو دارم، وبنو زرارة ابن عدس وبنو أسد، وعمرو بن تميم، فهؤلاء ولد أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفيهم العدد والمنعة والبأس والنجدة والشعر والفصاحة، وكانت الرئاسة في تميم، وكان أول رئيس فيهم: سعد بن زيد مناة بن تميم، ثم حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وكانت لهم أيام مشهورة وحروب معروفة، فمنها يوم الكلاب، ويوم المروت، ويوم جدود، ويوم النسار.
    وكان مدركة بن إلياس سيد ولد نزار قد بان فضله، وظهر مجده، وخرج أخوه قمعة إلى خزاعة، فتزوج فيهم، وصار ينسب ولده معهم، وكان ولده فيهم، وكان من ولده عمرو بن لحي ابن قمعة، وهو أول من غير دين إبراهيم وولد مدركة بن إلياس خزيمة، وهذيلاً، وحارثة، وغالباً، وأمهم سلمى ابنة الأسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ويقال: بنت أسد بن ربيعة بن نزار، وأما حارثة فدرج صغيراً، وأما غالب فانتسبوا في بني خزيمة، وأما هذيل بن مدركة، فإن العدد منهم في بني سعد بن هذيل، ثم تميم بن سعد، ثم في معاوية بن تميم والحارث بن تميم وهذيل شجعان أصحاب حروب وغارات ونجدة وفصاحة وشعر.
    وكان خزيمة أحد حكام العرب، ومن يعد له الفضل والسؤدد، فولد خزيمة بن مدركة كنانة، وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة أخت تميم ابن مر، فأما أسد بن خزيمة، فإن ولده انتشروا في اليمن، وهم: جذام، ولخم، وعاملة بنو عمرو بن أسد، وكانت مضر تدعي جذاماً خاصة، وبنو أسد مقيمون على انهم منهم يواصلونهم على ذلك، ويعدونهم منهم، قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
    صبرنا عن عشيرتنا، فبانوا ... كما صبرت خزيمة عن جذام
    وقال عبد المطلب بن هاشم في شعر له:
    فقل لجذام إن أتيت بلادهم ... وخص بني سعد بها ثم وائل
    أنيلوا، وأدنوا من وسائل قومكم ... فيعطف منكم قبل قطع الوسائل
    وقال عبيد بن الأبرص في شعر له طويل:
    أبلغ جذاماً ولخماً إن عرضت لهم ... والقوم ينفعهم علم إذا علموا
    بأنكم في كتاب الله إخوتنا ... إذا تقسمت الأرحام والنسم
    ويقال: إن هذا الشعر لشمعان بن هبيرة الأسدي، فأما جذام بن عدي بن الحارث، فإنها مقيمة على نسبها في اليمن، فتقول: جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب ابن مالك بن كهلان، وكان لأسد ابن خزيمة من الولد: دودان، وكاهل، وعمرو، وهند، والصعب، وتغلب، وكان العدد في دودان، ومنه افترقت قبائل بني أسد.
    وقبائل بني أسد قعين، وفقعس، ومنقذ ودبان، ووالبة، ولاحق، وحرثان، ورئاب، وبنو الصيداء

    وكانت أسد منتشرة من لدن قصور الحيرة إلى تهامة، وكانت الطيء محالفة متفقة معها، ودارهما تكاد أن تكون واحدة، وكانت محاربة لكندة، حتى قتلت حجر بن الحارث بن عمرو الكندي، وهرب امرؤ القيس، وذلت كندة، ثم حاربت بني فزارة، حتى قتلت بدر ابن عمرو، ثم اختلف الذي بينها وبين طيء، فتحارب الحيان أسد وطيء حتى قتلوا لأم بن عمرو الطائي، وأسروا زيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل، وأخذوا السبايا، وقال زيد الخيل:
    ألا أبلغ الأقياس: قيس بن نوفل ... وقيس بن أهبان وقيس بن جابر
    بني أسد ردوا علينا نساءنا ... وأبناءنا، واستمتعوا بالأباعر
    وبالمال، إن المال أهون هالك ... إذا طرقت إحدى الليالي الغوابر
    ولا تجعلوها سنةً يقتدي بها ... بنو أسد، وأعفوا بأيد قوادر
    فأطلقوه وردوا ظعائنهم لما سمعوا هذا الشعر، وبقي فرس لزيد، وكان زيد يحب الخيل، فقال زيد:
    يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
    عودوا مهري الذي عودته ... دلج الليل، وإيطاء القتيل
    فردوا عليه فرسه، وكانت بنو أسد تقول: قتلنا أربعة كلهم بنو عمرو، وكل سيد قومه، قتلنا حجر بن عمرو ملك كندة ولأم بن عمرو الطائي، وصخر بن عمرو السلمي، وبدر بن عمرو الفزاري.
    والهون بن خزيمة، وهو القارة، وإنما سموا القارة لأن بني كنانة لما خرجت بنو أسد بن خزيمة من تهامة، وخالفوا كنانة، وضموا القليل إلى الكثير، جعلوا بني الهون بن خزيمة قارة بينهم لأحد دون أحد.
    ويقال إن بني الهون نزلوا أرضاً منخفضة، والعرب يسمون الأرض المنخفضة القارة، فقيل لهم: أصحاب القارة، والقارة المرامي، فقال بعضهم: قد أنصف القارة من راماها، ويقال إن حرباً جرت بين الهون بن خزيمة وبين بكر بن كنانة، فقال رجل من بني بكر: أيما أحب إليكم، المراماة، أو المسابقة؟ فقال رجل منهم:
    قد علمت سلم، ومن والاها ... أنا نصد الخيل عن هواها
    قد أنصف القارة من راماها ... أما إذا ما فئة نلقاها
    نردها داميةً كلاها
    وقبائل بني الهون بن خزيمة عضل وديش ابنا ييثع بن الهون بن خزيمة، فأما الحكم بن الهون ابن خزيمة، فإنه صار إلى اليمن، فحل بلاد مذحج، فولد له بها أولاد، ومات، فانتسب ولده إلى حكم بن سعد العشيرة.
    وظهر في كنانة بن خزيمة فضائل لا يحصى شرفها، وعظمته العرب، فروي أن كنانة أتي، وهو نائم في الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الهضيل أو الهدر، أو عمارة الجدر، أو عز الدهر! فقال: كل هذا يا رب! فأعطيه، فولد كنانة بن خزيمة النضر، وحدال، وسعداً، ومالكاً، وعوفاً، ومخرمة، وأمهم هالة بنت سويد بن الغطريف، وهو حارثة بن امرىء القيس ابن ثعلبة بن مازن بن الغوث، وعلياً، وغزوان، وأمهما برة بنت مر، وجرولاً، والحارث، وأمهما من أزد شنوءة، وعبد مناة، وأمه الذفراء، واسمها فكيهة بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فأما مخرمة، فيقال إنهم بنو ساعدة رهط سعد بن عبادة وبنو عبد مناة بن كنانة، فهم عدد كنانة، فمنهم: بنو ليث بن بكر بن عبد مناة، وبنو الدئل بن بكر، وبنو ضمرة بن بكر منهم: بنو غفار بن مليك بن ضمرة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة الذين أصابهم خالد بن الوليد بالغميصاء، وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة.
    ومن بني مالك بن كنانة بن خزيمة: بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة ابن الحارث بن مالك ابن كنانة، ومن بني فقيم كان النسأة، وهم القلامس كانوا ينسئون ويحلون ويحرمون، وكان أولهم حذيفة بن عبد فقيم الذي يسمى القلمس، ثم صار ذلك في ولده، فقام بعده عباد بن حذيفة ابنه، ثم بعد عباد قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن عوف، وهو أبو ثمامة، ومنهم فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، فهذه جماهير قبائل كنانة.
    وأما النضر بن كنانة، فكان أول من سمي القرشي، يقال إنه سمي القرشي لتقرشه وارتفاع همته، وقيل لتجارته ويساره، ويقال لدابة في البحر تسمى القرش، سمته أمه قريشاً تصغير

    قرش، فمن لم يكن من ولد النضر بن كنانة، فليس بقرشي، فولد النضر بن كنانة مالكاً، ويخلد، والصلت، وكان النضر أبا الصلت، وأم ولد النضر عكرشة بنت عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان، وأما يخلد فلم يبق منهم أحد يعرف، وأما ولد الصلت، فصاروا في خزاعة، وكان من ولده كثير بن عبد الرحمن الشاعر، وهو الذي يقول في النسب:
    أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي ... بكل هجان من بني النضر أزهرا
    وكان مالك بن النضر عظيم الشأن، وكان له من الولد: فهر، والحارث، وشيبان، وأمهم جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي، ويقال إن اسم فهر بن مالك: قريش، وإنما فهر لقب، والاسم قريش.
    وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه فلما هلك أبوه قام مقامه، وكان لفهر بن مالك من الولد: غالب، والحارث، ومحارب، وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد ابن هذيل، فمن ولد الحارث ابن فهر ضبة بن الحارث رهط أبي عبيدة بن الجراح، ومن ولد محارب بن فهر شيبان بن محارب: رهط الضحاك بن قيس، وكان غالب بن فهر أفضلهم وأظهرهم مجداً، فيروي أن فهر بن مالك قال لابنه غالب، حين حضرته الوفاة: أي بني! إن في الحذر انغلاق النفس، وإنما الجزع قبل المصائب، فإذا وقعت مصيبة برد حرها، وإنما القلق في غليانها، فإذا قامت، فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وما ترى في آثارها من محق الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير مما أخلق وجهك إن صار إليك، فلما مات فهر شرف غالب ابن فهر وعلا أمره، وكان له من الولد لؤي، وتيم الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة، وتغلب، ووهب، و كثير، وحراق، هؤلاء لا بقية لهم، فأما تيم الأدرم، فإنه أعقب. وكان لؤي بن غالب سيداً شريفاً بين الفضل، يروي أنه قال لأبيه غالب ابن فهر، وهو غلام حدث: يا أبه! رب معروف قل أخلافه، ونصر، يا أبه، من أخلفه أخمله، وإذا أخمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيرة وستره فقال له أبوه: يا بني إني أستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعي به الطول لك في قومك، فإن ظفرت بطول، فعد علي قومك، وأكف غرب جهلهم بحلمك، والمم شعثهم برفقك، فإنما يفضل الرجال الرجال بأفعالهم، فإنها على أوزانها، وأسقط الفضل ومن لم تعل له درجة على آخر لم يكن له فضل، وللعليا أبداً على السفلى فضل. فلما مات غالب بن فهر قام لؤي بن غالب مقامه.
    وكان للؤي من الولد: كعب، وعامر، وسامة، وخزيمة، وأمهم عائذة، وعوف والحارث، وجشم، وأمهم ماوية بنت كعب بن القين، وسعد بن لؤي، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة، فأما سامة بن لؤي، فإنه هرب من أخيه عامر بن لؤي، وذلك أنه كان بينهما شر، فوثب سامة على عامر ففقأ عينه، فأخافه عامر، فهرب منه، فصار إلى عمان، فيقال إنه مر ذات يوم على ناقة له، فوضعت الناقة مشفرها في الأرض، فعلقتها أفعى ونفضتها، فوقعت على سامة، فنهشت الأفعى ساقه، فقتلته، فقال فيما يزعمون، حين أحس بالموت:
    عين فأبكى لسامة بن لؤي ... علقت ما بساقه العلاقه
    لم يروا مثل سامة بن لؤي ... يوم حلوا به، قتيلاً لناقه
    بلغا عامراً وكعباً رسولاً ... أن نفسي إليهما مشتاقه
    إن تكن في عمان داري، فإني ... ماجد قد خرجت من غير فاقه
    رب كأس هرقت يا بن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه
    رمت دفع الحتوف، يا بن لؤي ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقه
    فأما خزيمة بن لؤي، وهو عائذة، فإنه نزل في شيبان، فانتسب ولده في ربيعة، وأما الحارث وهو جشم وسعد، فإنهم نزلوا في هزان فانتسبوا فيهم، وفيهم يقول جرير بن الخطفى:
    بني جشم لستم لهزان، فانتموا ... لأعلى الروابي من لؤي بن غالب
    وأما عوف بن لؤي، فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش، حتى إذا كان في أرض غطفان أبطأ به بعيره، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فاحتبسه، وجعله له أخاً، فصار نسبه في عوف بن سعد بن ذبيان قال الحارث بن ظالم، وهو من بني مرة بن عوف:

    وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
    وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا مضر الضرابا
    سفهنا باتباع بني بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا
    وقال الحارث بن ظالم في ذلك أيضاً:
    إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤي
    إلى نسب كريم غير ... وحي هم أكارم كل حي
    فإن يبعد بهم نسبي، فمنهم ... قرابين الإله بنو قصي
    وللحارث بن ظالم في هذا شعر كثير، وقد كان عمر بن الخطاب دعا بني عوف إلى أن يردهم إلى نسبهم في قريش، فشاوروا علي بن أبي طالب، فقال لهم: أنتم أشراف في قومكم، فلا تكونوا مستلحقين في قريش، فأما عامر بن لؤي فإنه كان له من الولد حسل بن عامر، و معيص بن عامر، وعويص بن عامر، وأمهم امرأة من قرن، وليس لعويص بن عامر بقية، والبقية في حسل ومعيص.
    فأما كعب بن لؤي، فكان أعظم ولد أبيه قدراً، وأعظمهم شرفاً، وكان أول من سمي يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه عروبة، فجمعهم فيه، وكان يخطب عليهم، فيقول: اسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا أن الليل ساج، والنهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء عماد، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأبناء ذكر، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، وحرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به، فسيأتي نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول:
    نهار وليل كل يؤوب بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها
    يؤوبان بالأحداث حين يؤوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها
    صروف، وأنباء تغلب أهلها ... لها عقد ما يستحل مريرها
    على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
    ثم يقول: يا ليتني شاهد نجوى دعوته، لو كنت ذا سمع، وذا بصر ويد ورجل تنصبت له تنصب العجل، وأرقلت إرقال الجمل، فرحاً بدعوته، جذلاً بصرخته، فلما مات كعب أرخت قريش من موت كعب.
    وكان لكعب من الولد: مرة، وهصيص، وأمهما وحشية ابنه شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، وعدي بن كعب، وأمه حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، فعدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب، وولد هصيص بن كعب سهماً وجمحاً.
    وكان مرة بن كعب سيداً هماماً، فتزوج هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وكان سرير أول من نسأ الشهور، فولدت هند لمرة كلابا، ثم تزوج مرة بنت سعد بن بارق، فولدت له تيما ويقظة، فتيم بن مرة رهط أبي بكر، ومخزوم بن يقظة بن مرة رهطه أيضاً. وشرف كلاب بن مرة، وجل قدره، واجتمع له شرف الأب والجد من قبل الأم لأنهم كانوا يجيزون الحج، ويحرمون الشهور، ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس، وكان لكلاب بن مرة من الولد: قصي، وزهرة، وفيهما قال رسول الله: صريحا قريش بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وكان سعد بن سيل أول من حليت له السيوف بالذهب والفضة، وله يقول الشاعر:
    لا أرى في الناس شخصاً واحداً ... فاعلموا ذاك، كسعد بن سيل
    فلما مات كلاب تزوجت فاطمة بنت سعد بن سيل ربيعة بن حرام العذري، فخرج بها إلى بلاد قومه، فحملت قصياً معها، وكان اسمه زيداً، فلما بعد من دار قومه سمته قصياً، فلما شب قصي، وهو في حجر ربيعة، قال له رجل من بني عذرة: الحق بقومك، فإنك لست منا! فقال: ممن أنا؟ فقال: سل أمك! فسألها، فقالت: أنت أكرم منه نفساً، وولداً، ونسباً! أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك آل الله، وفي حرمه.
    وكانت قريش لم تفارق مكة إلا انهم لما كثروا قلت المياه عليهم، فتفرقوا في الشعاب، فكره قصي الغربة، وأحب أن يخرج إلى قومه، فقالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام، فتخرج في حجاج قضاعة فإني أخاف عليك! فلما دخل الشهر الحرام شخص معهم حتى قدم مكة، وأقام قصي بمكة، حتى شرف وعز وولد له الأولاد.

    وكانت حجابه البيت إلى خزاعة، وذلك أن الحجابة كانت إلى أياد، فلما أرادوا الرحيل عن مكة حملوا الركن على جمل، فلم ينهض الجمل، فدفنوه، وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه، فلما بعدت أياد اشتد ذلك على مضر، وأعظمته قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها: اشرطوا على قريش وسائر مضر أن يصيروا إليكم حجابه البيت، حتى أدلكم على الركن، ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركن صيروا إليهم الحجابة، فقدم قصي بن كلاب مكة، والحجابة إلى خزاعة، والإجازة إلى صوفة، وهو الغوث بن مر أخي تميم وكان الحج وإجازة الناس من عرفات إليه، ثم صارت إلى عقبه من بعده، وبنو القيس بن كنانة ينسئون الشهور، ويحلون، ويحرمون، فلما رأى قصي ذلك جمع إليه قومه من بني فهر بن مالك، وحازهم إليه، فلما حضر الحج حال بين صوفة وبين الإجازة، وقامت معه خزاعة وبنو بكر، وعلموا أن قصيا سيصنع بهم كما صنع بصوفه، وأنه سيحول بينهم وبين أمر مكة وحجابه البيت، وانحازوا عنه، وصاروا عليه، فلما رأى ذلك أجمع لحربهم، وبعث إلى أخيه من أمه دراج بن ربيعة العذري، فأتاه أخوه بمن قدر عليه من قضاعة، وقيل: وافى دراج، وقصي قد نصب لحرب القوم، ودراج يريد البيت، فأعان أخاه بنفسه وقومه، فاقتتلوا قتالاً شديداً بالأبطح، حتى كثرت القتلى في الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح، وأن يحكم ما بينهم رجل من العرب فيما اختلفوا فيه، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن ليث ابن بكر بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمساً و عشرين بدنة وثلاثين حرجاً، وأن يخلوا بين قصي وبين البيت ومكة، فسمي يعمر الشداخ.
    ولم يكن بمكة بيت في الحرم، إنما كانوا يكونون بها نهاراً، فإذا أمسوا خرجوا، فلما جمع قصي قريشاً، وكان أدهى من رئي من العرب، أنزل قريشاً الحرم، وجمعهم ليلاً، وأصبح بهم حول الكعبة، فمشت إليه أشراف بني كنانة وقالوا: إن هذا عظيم عند العرب، ولو تركناك ما تركتك العرب. فقال: والله لا أخرج منه، فثبت.
    وحضر الحج، فقال لقريش: قد حضر الحج، وقد سمعت العرب ما صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجاً! ففعلوا، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزوراً، ونحر بمكة، وجعل حظيرة، فجعل فيها الطعام من الخبز واللجم، وسقى الماء واللبن، وغدا على البيت، فجعل له مفتاحاً وحجبة، وحال بين خزاعة وبينه، فثبت البيت في يد قصي، ثم بنى داره بمكة، وهي أول دار بنيت بمكة، وهي دار الندوة.
    وروى بعضهم أنه لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي حبي ابنته، وولدت له، أوصى حليلاً عند موته بولاية البيت إلى قصي، وقال: إنما ولدك ولدي، وأنت أحق بالبيت، وكانت حبى بنت حليل بن حبشية قد ولدت لقصي بن كلاب، عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد قصي، وقال آخرون: دفع حليل بن حبشية المفتاح إلى أبي غبشان، وهو سليمان ابن عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشتراه قصي منه وولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل: أخس من صفقة أبي غبشان، ووثبت خزاعة، فقالت: لا نرضى بما صنع أبو غبشان، فوقعت بينهم الحرب، فقال بعضهم:
    أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة
    فلا تلحوا قصياً في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
    فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم، وجمع قبائل قريش، فأمر لهم بأبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال، فقسم منازلهم بينهم، فسمي مجمعاً، وفيهم يقول الشاعر:
    أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
    وملكه قومه عليهم، فكان قصي أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، فلما قسم أبطح مكة أرباعاً بين قريش، هابوا أن يقطعوا شجر الحرم ليبنوا منازلهم، فقطعها قصي بيده، ثم استمروا على ذلك.
    وكان قصي أول من أعز قريشاً، وظهر به فخرها، ومجدها، وسناها، وتقرشها، فجمعها، و أسكنها مكة، وكانت قبل متفرقة الدار، قليلة العز، ذليلة البقاع، حتى جمع الله ألفتها، وأكرم دارها، وأعز مثواها.

    وكانت قريش كلها بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابني فهر، ومن بني تيم بن غالب، وهو الأدرم، وبني عامر بن لؤي، فإنهم نزلوا الظواهر، ولما حاز قصي شرف مكة كلها، وقسمها بين قريش، واستقامت له الأمور، ونفى خزاعة، هدم البيت، ثم بناه بنياناً لم يبنه أحد، وكان طول جدرانه تسع أذرع، فجعله ثماني عشرة ذراعاً، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وبنى دار الندوة. وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاماً، إلا في دار الندوة، وكانت قريش في حياته، وبعد وفاته، يرون أمره كالدين المتبع، وكان أول من حفر بمكة بعد إسماعيل بن إبراهيم، فحفر العجول في أيام حياته، و بعد وفاته، ويقال إنها في دار أم هانىء بنت أبي طالب.
    وكان قصي أول من سمي الدابة الفرس، وكانت له دابة يقال لها العقاب السوداء، وكان لقصي من الولد عبد مناف، وكان يدعى القمر، وهو السيد النهر، واسمه المغيرة، وعبد الدار وعبد العزى، وعبد قصي، ويقال إن قصياً قال: سميت اثنين بإلهي، وآخر بداري، وآخر بنفسي. وقسم قصي بين ولده، فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي، وقال قصي لولده: من عظم لئيماً شاركه في لؤمه، ومن استحسن مستقبحاً شركه فيه، ومن لم تصلحه كرامتكم، فدلوه بهوانه، فالدواء يحسم الداء. ومات قصي، فدفن بالحجون، ورأس عبد مناف بن قصي، وجل قدره، وعظم شرفه ولما كبر أمر عبد مناف ابنه جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش، وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف: عمرو بن هلل بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن: يقوم رجل من قريش وآخر من الأحابيش، فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل، وحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعاً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد، وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً ما بل بحر صوفة، وما قام حري وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش. فولد عبد مناف بن قصي هاشماً، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشماً، لأنه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشاً، وعبد شمس، والمطلب، ونوفلاً، وأبا عمرو، وحنة، وتماضر، وأم الأخثم، وأم سفيان، وهالة، و قلابة، وأمهم جميعاً، إلا نوفلاً وأبا عمرو: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم، فولدت له هؤلاء، وهي التي جرت حلف الأحابيش وأم نوفل وأبي عمرو: وافدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم من بني عامر بن صعصعة، ويقال إن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، فخرج هاشم، وتلاه عبد شمس، وعقبه ملتصق بعقبه، فقطع بينهما بموسى، فقيل: ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد.
    وشرف هاشم بعد أبيه، وجل أمره، واصطلحت قريش على أن يولي هاشم بن عبد مناف الرئاسة والسقاية والرفادة فكان إذا حضر الحج قام في قريش خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وأنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيركم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أعيوا وتفلوا، وقملوا، وأرملوا، فأقروهم، وأغنوهم! فكانت قريش ترافد على ذلك.
    وكان هاشم يخرج مالاً كثيراً، ويأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجمع، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه، حتى يتفرق الناس إلى بلادهم، فسمي هاشماً.
    وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي، وذلك أن تجارة قريش لا تعدو مكة، فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم إلى الشام، فنزل بقيصر، فكان يذبح في كل يوم شاة، ويضع جفنة بين يديه، ويدعو من حواليه.

    وكان من أحسن الناس وأجملهم، فذكر لقيصر، فأرسل إليه، فلما رآه، وسمع كلامه، أعجبه، وجعل يرسل إليه، فقال هاشم: أيها الملك إن لي قوماً، وهم تجار العرب، فتكتب لهم كتاباً يؤمنهم ويؤمن تجاراتهم، حتى يأتوا بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، ففعل قيصر ذلك، وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذوا الإيلاف من مكة والشام.
    قال الأسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفاً لعقيله من عقائل الحي اركب الصعبة والذلول، لا أليق مطرحاً من البلاد أرتجي فيه ربحاً من الأموال، إلا يرغب إليه من الشام بخرثيه، وأثاثه، أريد كبة العرب، فعدت، ودهم الموسم فدفعت إليها مسدفاً، فحبست الركاب، حتى انجلى عني قميص الليل، فإذا قباب سامية مضروبة من أدم الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق وأكله وجبنه على الظهار إلا عجلوا ! فبهرني ما رأيت، فتقدمت أريد عميدهم، وعرف رجل شأني، فقال: إمامك! فدنوت، فإذا رجل على عرش سام تحته نمرقة قد كار عمامة سوداء، واخرج من ملاثمها جمة فينانه، كان الشعرى تطلع من جبينه، وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جله منكسو الأذقان، ما منهم أحد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون إلى أنصاف، وإذا برجل مجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، هلموا الغداء! وانسيان على طريق من طعم يناديان: يا وفد الله! من تغدى فليرجع إلى العشاء! وقد كان نمى إلى من حبر من أحبار اليهود: إن النبي الأمي هذا أوان توكفه، فقلت: لأعرف ما عنده، يا نبي الله! فقال: مه، وكان قد له، فقلت لرجل كان إلى جانبي: من هذا؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف، فخرجت، وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة، ومر مطرود بن كعب الخزاعي برجل مجاور في بني هاشم، وبنات له وامرأة في سنة شديدة، فخرج يحمل متاعه ورحله هو وولده وامرأته لا يؤويه أحد، فقال مطرود الخزاعي:
    يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف؟
    هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
    عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
    نسبوا إليه الرحلتين كليهما ... عند الشتاء ورحلة الأصياف
    الآخذون العهد في آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
    وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات، ولا يلزمهم لها مؤونة، حتى صار إلى غزة، فتوفي بها ولما هلك هاشم بن عبد مناف جزعت قريش، وخافت أن تغلبها العرب، فخرج عبد شمس إلى النجاشي ملك الحبشة فجدد بينه وبينه العهد، ثم انصرف، فلم يلبث أن مات بمكة، ودفن بالحجون، وخرج نوفل إلى العراق، وأخذ عهدا من كسرى، ثم أقبل، فمات بموضع يقال له سلمان، وقام بأمر مكة المطلب بن عبد مناف. وكان لهاشم من الولد عبد المطلب، والشفاء، وأمهما سلمى بنت عمرو بن زيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ونضلة ابن هاشم وأمه أميمة بنت عدي بن عبد الله، وأسد أبو فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وأمه قيلة بنت عامر ابن مالك بن المطلب، وأبو صيفي انقرض نسله، إلا من رقيقة بنت أبي صيفي، وصيفي درج صغيراً، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الخزرج، وضعيفة وخالدة، وأمهما واقده بنت أبي عدي، وحنة بنت هاشم، وأمها أم عدي بنت حبيب بن الحارث الثقفية. وكان هاشم لما أراد الخروج إلى الشام حمل امرأته سلمى بنت عمرو إلى المدينة لتكون عند أبيها وأهلها، ومعه ابنه عبد المطلب، فلما توفي أقامت بالمدينة.
    وكان المطلب بن عبد مناف قد قام بأمر مكة بعد أخيه هاشم، فلما كبر عبد المطلب بلغ المطلب مكانه ووصف له حاله، ومر رجل من تهامة بالمدينة، فإذا غلمان يتناضلون، وإذا غلام فيهم

    إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء! فقال له الرجل: من أنت يا غلام؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فانصرف الرجل، حتى قدم مكة فوجد المطلب بن عبد مناف جالساً في الحجر، فقال: يا أبا الحارث، علمت أني جئت من يثرب، فوجدت غلماناً يتناضلون. وقص عليه ما رأى من عبد المطلب قال: و إذا أظرف غلام ما رأيته قط. قال المطلب: أغفلته، أما والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتيه! فخرج المطلب حتى أتى المدينة عشاء، ثم خرج على راحلته حتى أتى بني عدي بن النجار، فلما نظر إلى ابن أخيه قال: هذا ابن هاشم؟ قال القوم: نعم! وعرف القوم المطلب، قالوا: هذا ابن أخيك، فإن أردت أخذه الساعة لا تعلم أمه، فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه. فأناخ راحلته، ثم دعاه: يا ابن أخي! أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، فاركب! فما كذب عبد المطلب أن جلس على عجز الراحلة، وجلس المطلب على الرحل، ثم بعثها، فانطلقت، فلما علمت أمه علقت تدعو حربها، فأخبرت أن عمه ذهب به.
    ودخل المطلب مكة، وهو خلفه، والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحبون به، ويحيونه، ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب، ثم خرج حتى أتى الحزورة، فابتاع له حلة، ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فلما كان العشي ألبسه، ثم جلس في مجلس بني عبد مناف، وأخبرهم خبره، وجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة، فيطوف في سكك مكة، وكان أحسن الناس، فتقول قريش: هذا عبد المطلب! فلج اسمه عبد المطلب، وترك شيبة. ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبد المطلب: أنت يا ابن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة. فقام مقام المطلب، فتوفي المطلب في سفره ذلك بردمان، فقام عبد المطلب بأمر مكة، وشرف وساد، وأطعم الطعام، وسقى اللبن والعسل، حتى علا اسمه، وظهر فضله، وأقرت له قريش بالشرف، فلم يزل كذلك.
    قال محمد بن الحسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل، رأى، وهو نائم في الحجر، آتيا أتاه، فقال له: قم يا أبا البطحاء، واحفر زمزم حفيرة الشيخ الأعظم. فاستيقظ، فقال: اللهم بين لي في المنام مرة أخرى، فرآه يقول: قم فاحفر برة! قال: وما برة؟ قال: مضنة ضن بها على العالمين، وأعطيتها، ثم رأى قائلا يقول له: قم يا أبا الحارث، فاحفر زمزم لا تنزف ولا تذم، تروى الحج الأعظم، ثم رأى ثالثة: قم فاحفر! قال: وما أحفر؟ قال: احفر بين الفرث والدم عند مبحث الغراب الأعصم وقرية النمل، فإذا أبصرت الماء، فقل: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا فلما استيقن عبد المطلب أنه قد صدق جلس عند البيت مفكرا في أمره، وذبحت بقرة بالحزورة، فأفلتت، وأقبلت تسعى، حتى طرحت نفسها موضع زمزم، فسلخت هناك، وقسم لحمها، وبقي الفرث والدم، فقال عبد المطلب: الله أكبر! ثم سعى لينظر، فإذا قرية نمل مجتمع في الأرض، فانطلق، فأتى بمعول، وابنه الحارث وحيده، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما هذه؟ قال: أمرني ربي أن أحفر ما يروي الحجيج الأعظم! فقالوا له: أمر ربك بالجهل، لم لا تحفر في مسجدنا؟ قال: بذلك أمرني ربي. فلم يحفر إلا قليلاً، حتى بدا الطي، فكبر، واجتمعت قريش، فعلمت لما رأت الطي أنه قد صدق، وليس له من الولد يومئذ إلا الحارث، فلما رأى وحدته قال: اللهم! إن لك علي نذراً، إن وهبت لي عشرة ذكوراً، أن أنحر لك أحدهم وحفر حتى وجد سيوفاً، وسلاحاً، وغزالاً من ذهب مقرطاً، مجزعاً، ذهباً وفضة، فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث من فوق الأرض ومن تحتها، فأعطنا هذا المال الذي أعطاك الله، فإنها بئر أبينا إسماعيل، فأشركنا معك! فقال: إني لم أؤمر بالمال إنما أمرت بالماء، فأمهلوني! فلم يزل يحفر حتى بدا الماء، فكثر، ثم قال: بحرها لا تنزف، وبنى عليها حوضاً وملأه ماء، ونادى: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا. وكانت قريش تفسد ذلك الحوض وتكسره، فرأى في المنام: أن قم، فقل: اللهم! إني لا أحله لمغتسل، ولكن لشارب حل، فقام عبد المطلب، فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد إلا رمي بداء من ساعته، فتركوه.
    ولما استقام له الماء دعا ستة قداح، فجعل لله قدحين أسودين، وجعل للكعبة قدحين أبيضين، وجعل لقريش قدحين أحمرين، ثم أخذها بيده، واستقبل الكعبة، ثم أفاض، وهو يقول:

    يا رب أنت الأحد الفرد الصمد ... إن شئت ألهمت الصواب والرشد
    وزدت في المال، وأكثرت الولد ... إني مولاك على رغم معد
    ثم ضرب فخرج الأسودان لله، فقال قال ربكم: هو مالي، ثم أفاض، وهو يقول:
    لهم أنت الملك المحمود ... وأنت ربي المبدىء المعيد
    من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت بما تريد
    فخرج الأبيضان للكعبة، فقال: أخبرني ربي أن المال كله له، فحلى به الكعبة، وجعله صفائح على باب الكعبة، وكان أول من حلي الكعبة.
    ولما رأت قريش ما أعطيه نفست ذلك عليه، فقالت: أنا لشركاء معك لأنها بئر أبينا إسماعيل، فقال: هذا شيء خصصت به دونكم، فنافروه إلى كاهنة بني سعد، فقضت له عليهم.
    وروى بعضهم أن ماء عبد المطلب نفد في الطريق ومياه القوم، فخافوا الهلكة، فقال عبد المطلب: ليحفر كل رجل منا لنفسه حفيراً، ثم ليقعد فيه، حتى يأتيه الموت، ففعلوا، ثم قال: إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، فلو ركبنا وطلبنا الماء! فلما استوى على راحلته انفجرت تحت صدرها عين ماء، فقال: ردوا الماء! فقالوا: لقد قضى لك الله علينا، ولا حاجة في أن نناوئك، فانصرفوا.
    ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم، فقالوا: امنعونا من بني عبد مناف! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف اجتمعوا، خلا بني عبد شمس، فإن الزبيري قال: لم يكن ولد عبد شمس في حلف المطيبين، ولا ولد عبد مناف، وإنما كان فيهم هاشم، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وقال آخرون: كانت بنو عبد شمس معهم، فأخرجت لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب طيباً في جفنة، ثم وضعتها في الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين، فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرة، وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة، وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلة قبيلة.
    وكان عبد المطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئرا يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً، فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة، فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب، وبنو الرباب، فقال عبد المطلب: الماء مائي، وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا، ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبد المطلب، فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبد المطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبد المطلب مائة من الإبل للقوم، وعشرون لسطيح، فانطلقوا، وانطلق عبد المطلب بعشرة نفر من قريش، فيهم حرب بن أمية، فجعل عبد المطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزورا وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن، جليل القدر، شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا، فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبىء له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه، وإلا لم نرض به.
    فبينا عبد المطلب في بعض الطريق إذ فنى ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم، فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبد المطلب: أيهلك عشرة من قريش، وأنا حي؟ لأطلبن لهم الماء، حتى ينقطع خيط

    عنقي، وأبلي عذراً، فركب راحلته، وأخذ الفلاة، فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبد المطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه، وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه، وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب، روي، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله، ألستم الذين منعتمونا فضل مائكم؟ فقال عبد المطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضي له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال، فسمك، ثم أينع، فما هلك، ألق التمرة من يدك! فقالوا: قاتله الله! اخبئوا له خبأ هو أخفى منه، فأخذ إنسان جرادة، فقالوا له: إنا قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي ما رجله كالمنشار، وعينه كالدينار، قالوا: إي. قال: ما طار، فسطع، ثم قبض، فوقع، فترك الصيد أنفع. قالوا: ما له، قاتله الله؟ اخبئوا له خبأ هو أخفى من هذا! فأخذوا رأس جرادة، فجعلوه في خرز مزادة، ثم علقوه في عنق كلب لهم يقال له سوار، ثم ضربوه حتى ذهب، ثم رجع على الطريق، فقالوا: قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي رأس جرادة، في خرز مزادة، بين عنق سوار والقلادة. قالوا: اقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبد المطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبد المطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبد المطلب مائة من الإبل، وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.
    وانطلق عبد المطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة! إن عبد المطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا، وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرىء منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبو طالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبو طالب:
    ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
    قال أبو إسحاق وغيره
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:15 am

    وربما كانت أجزاء اللحم موافقة لاجزاء القداح، فلا يحتاجون إلى نحر شيء إنما تنحر الجزور، إذا قصرت أجزاء اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية، فخاب غرم من ثمن الجزور التي خاب قدحه منها على هذا الحساب، فإن فضل من أجزاء اللحم شيء، وقد خرجت القداح كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير الميسر.
    وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار كثيرة يفتخرون بها.
    شعراء العربوكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة وكثير العلم، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر، المصيب المعاني، المخير الكلام، أحضروه في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة ومواسمهم عند حجهم البيت، حتى تقف وتجتمع القبائل والعشائر، فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم، وشرفاً من شرفهم.
    ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر، فبه كانوا يختصمون، وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون، وبه يتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون، فكان ممن قدم شعره في جاهلية العرب على ما أجمعت عليه الرواة وأهل العلم بالشعر، وجاءت به الآثار والأخبار، من شعراء العرب في جاهليتها مع من أدركه الإسلام، فسمي مخضرماً، فإنهم دخلوا مع من تقدم، فسموا الفحول، وقدموا على تقدم أشعارهم في الجودة، فإن كان بعضهم أقدم من بعض وهم على ما بينا من أسمائهم ومراتبهم على الولاء، فأولهم امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية ابن ثور، وهو كندة.

    والنابغة الذبياني، وهو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
    وزهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
    والأعشى، وهو أعشى وائل، وهو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل ابن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة.
    وعبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة ابن دودان بن أسد.
    ومهلهل وهو امرؤ القيس بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل.
    وعلقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
    والحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد ابن جشم بن عامر بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
    وعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. وسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر ابن وائل.
    والأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
    وسويد بن أبي كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم ابن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
    وأوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عمرو بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو بن تميم بن مر.
    وذو الإصبع العدواني، وهو حرثان بن حارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن يشكر ابن عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس عيلان.
    وبشر بن أبي خازم، وهو عمرو بن عوف بن حنش بن ناشرة بن أسامة بن والبة.
    وعنترة بن شداد بن معاوية بن نزار بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
    وعبدة بن الطبيب التميمي.
    والمتلمس، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفان بن حرب بن وهب بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار.
    وأبو دؤاد الأيادي وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج.
    والمرقش الأكبر وهو عوف، وقيل عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة. والمرقش الأصغر، وهو ربيعة بن معاوية بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والمسيب بن علس بن عمرو بن قضاعة بن عمرو بن زيد بن ثعلبة بن دعدي بن مالك بن جشم بن مالك بن جماعة بن جلي.
    وعدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية ابن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم.
    وسلامة بن جندل بن عبد عمرو بن عبد الحارث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
    وسحيم بن وثيل بن عمرو بن كرز بن وهيب بن حميري بن رياح ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
    والجميح الأسدي، وهو منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو ابن قعين.
    وحاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس ابن عدي بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث.
    وطفيل الخيل، وهو طفيل بن عوف بن خليف بن ضبيس بن مالك بن سعد بن عوف بن هلان بن غنم بن غني.
    والسفاح، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب.
    وتأبط شراً، وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عدي بن كعب بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. وابن المضلل الأسدي، وهو جلد بن قيس بن مالك بن منقذ بن طريف ابن عمرو بن قعين.
    وكعب الأمثال الغنوي، وهو كعب بن سعد بن علقمة بن ربيعة بن زيد ابن أبي مليل بن رفاعة بن مسلم بن سعد.
    والحكم بن.
    ومروان القرظ بن زنباع بن جذيمة بن رواحة بن قطيعة بن عبس.
    ودريد بن الصمة بن الحارث بن بكر بن علقة بن جداعة بن عرف بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
    وأمية بن أبي الصلت، وهو عبد الله بن ربيعة بن عقدة بن غيره بن عوف بن قسي وهو ثقيف. والأفوه الأودي، وهو صلاة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبه بن أود بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج.
    وعمرو بن قمئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وضابىء بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن حلول بن قيس بن حنظلة بن مالك.

    وخفاف بن ندبة، وندبة هي أمه، وأبوه عمير بن الحارث بن عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم. والمتنخل الهذلي، وهو مالك بن غنم بن سويد بن حبشي بن خناعة ابن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل.
    والذهاب الفحل، وهو مالك بن جندل بن مسلمة بن مجمع بن ضبيعة بن عجل.
    وعروة بن الورد بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن سفيان بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
    والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهو فارس النعامة.
    وأنس بن مدرك بن عمرو بن سعد بن عوف بن العتيك بن حارثة بن عامر ابن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن خثعم.
    والمنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوادة بن مالك بن ثعلبة بن غنم ابن حبيب بن كعب بن يشكر.
    وأشيم بن شراحيل بن عبد رضي بن عبد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيض بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان. وصفوان بن حصين بن مالك بن رفاعة بن سالم بن عبيد بن سعد العنزي.
    والسموأل بن عاديا، وهو ينسب إلى غسان، فيقول بعضهم إنه يهودي من سبط يهوذا.
    وعمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن عمرو ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
    ومطرود بن كعب بن عرفطة بن النافذ بن مرة بن تيم بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
    وأوس بن غلفاء بن فقتط بن معبد بن عامر بن يمامة.
    وحصين بن الحمام بن ربيعة بن حرام بن واثلة بن سهم بن مرة بن عوف ابن سعد بن ذبيان بن عامر بن صعصعة.
    والركاض الأسدي، وهو ركاض بن أباق بن بديل أحد بني دبير.
    وسويد بن كراع العكلي.
    والحويدرة، واسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول بن حبيب الأعظم ابن عبد العزى بن خزيمة بن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
    وأعشى بني أسد، وهو قيس بن بجرة بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين.
    وابن الزبعرى السهمي، وهو عبد الله بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم من قريش.
    وقطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة.
    وابن دجاجة الفقيم، وهو بكير بن بريد بن أنس بن امرىء القيس.
    وسويد بن سلامة بن حديج بن قيس بن عمرو بن قطن بن نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة. وقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة ابن عبس بن بغيض.
    ومقيس بن صبابة أخو بني كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن كنانة، أدركه الإسلام، وأسلم، ثم ارتد فقتل يوم فتح مكة كافراً.
    والمسيب بن الرفيل بن حارثة بن حيان بن قيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب بن هبل الكلبي.
    والبراض بن قيس بن رافع بن قيس بن جدي بن ضمرة الكناني.
    وسبرة بن عمرو بن أهنان بن دثار بن فقعس. وشافع بن عبد العزى الضمري.
    وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي.
    ومصروف واسمه عمرو بن قيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
    وابن رميلة الضبي.
    وقيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
    ومرداس بن أبي عامر بن جارية بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث ابن بهثة بن سليم بن منصور.
    ومن شعراء الجاهلية الفحول المتقدمين الذين أدركوا الإسلام: النابغة الجعدي، وكان في السن مثل النابغة الذبياني، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
    ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة.
    وتميم بن أبي بن مقبل بن عوف بن حنيف بن قتيبة بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
    وكعب بن زهير بن أبي سلمى، وهو ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث ابن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
    وعبد الله بن عامر بن كرب الكندي.
    وأبو سمال الأسدي، واسمه شمعان بن هبيرة بن مساحق.
    وزيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل بن يزيد بن منهب بن عبد رضي بن المحلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نبهان بن عمرو بن الغوث.
    والحطيئة واسمه جرول بن أوس بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس.
    وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو المحاربي.
    والشماخ بن ضرار بن سنان بن أمية بن عمرو بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.

    وأبو ذؤيب الهذلي، وهو خويلد بن خالد بن محرث بن ربيد بن مخزوم ابن صاهله بن كاهل بن تميم بن سعد بن هذيل.
    وأبو كبير الهذلي، وهو عامر بن الحليس.
    والحرث بن عمرو بن جرجة بن يربوع بن فزارة.
    وعبد بني الحسحاس، وهو سحيم بن هند بن سفين بن ثعلبة بن ذودان ابن أسد بن خزيمة.
    أسواق العربكانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم، ويجتمع فيها سائر الناس، ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم، فمنها: دومة الجندل، يقوم في شهر ربيع الأول، ورؤساؤها غسان وكلب أي الحيين غلب قام.
    ثم المشقر بهجر يقوم سوقها في جمادى الأولى، تقوم بها بنو تيم رهط المنذر بن ساوى.
    ثم صحار يقوم في رجب في أول يوم من رجب، ولا يحتاج فيها إلى خفارة، ثم يرتحلون من صحار إلى ريا يعشرهم فيها الجلندى وآل الجلندى.
    ثم سوق الشحر شحر مهرة، فيقوم سوقها تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي، ولم تكن بها خفارة، وكانت مهرة تقوم بها .
    ثم سوق عدن يقوم في أول يوم من شهر رمضان ويعشرهم بها الأبناء، ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق.
    ثم سوق صنعاء يقوم في النصف من شهر رمضان يعشرهم بها الأبناء.
    ثم سوق الرابية بحضرموت، ولم يكن يوصل إليها إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز، وكانت كندة تخفر فيها.
    ثم سوق عكاظ بأعلى نجد يقوم في ذي القعدة، وينزلها قريش وسائر العرب إلا أن أكثرها مضر، وبها كانت مفاخرة العرب، وحمالاتهم، ومهادناتهم .
    ثم سوق ذي المجاز، وكانت ترتحل من سوق عكاظ وسوق ذي المجاز إلى مكة لحجهم.
    وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك، وينصب نفسه لنصرة المظلوم، و المنع من سفك الدماء، وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين، فأما المحلون فكانوا قبائل من أسد وطىء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوماً من بني عامر بن صعصعة.
    وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم وكانت العرب تحضر سوق عكاظ، وعلى وجوهها البراقع، فيقال إن أول عربي كشف قناعة ظريف بن غنم العنبري، ففعلت العرب مثل فعله.
    /بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
    إنه لما انقضى كتابنا الأول الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة والممالك المفترقة والأسباب المتشعبة ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتاريخات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال، وزاد بعضهم ونقص بعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه. وقال جعفر بن حرب بن الأشج: وجدت العلم كالمال، في يد كل إنسان منه شيء، فإذا حوى الرجل منه جملة سمي موسراً، ويحوي الآخر ما هو أكثر منه فيسمي موسراً، وكذلك العلم لا يحوي منه شيئاً إلا سمي عالماً وإن كان غيره أعلم منه. ولو كنا لا نسمي العالم عالماً حتى يحوي العلم كله لم يقع هذا الاسم على أحد من الآدميين. وقال بعض الحكماء: ليس طلبي للعلم طمعا في بلوغ قاصيته والاستيلاء على غايته. ولكن ألتمس شيئاً لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. وقال بعض الحكماء:

    إن لم تكن عالماً فتعلم وإن لم تكن حكيماً، فتحكم فإنه قل ما يتشبه رجل بقوم ألا يوشك أن يكون منهم. وقال بعضهم: العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل بمكان العلم ولم يكن العلم بمكان العمل. وقال بعضهم: من طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة كان حظه منه على حسب الرهبة، ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وانتفاعه به حسب استحقاقه. وقال بعضهم: كل شيء يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى العلم.
    وابتدئ كتابنا هذا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره في حال بعد حال ووقت بعد وقت إلى أن قبضه الله إليه، وأخبار الخلفاء بعده وسيرة خليفة بعد خليفة وفتوحه، وما كان منه وعمل به في أيامه وسني ولايته. وكان من روينا عنه ما في هذا الكتاب: إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخ بني هاشم، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وأبان بن عثمان عن جعفر بن محمد، ومحمد بن عمر الواقدي عن موسى بن عقبة وغيره من رجاله، وعبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، وأبو حسان الزيادي عن أبي المنذر الكلبي وغيره من رجاله، وعيسى بن يزيد بن داب، والهيثم بن عدي الطائي عن عبد الله بن عباس، الهمداني، ومحمد بن كثير القرشي عن أبي صالح وغيره من رجاله، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، وأبو معشر المدني، ومحمد بن موسى الخوارزمي المنجم، وما شاء الله الحاسب في طوالع السنين والأوقات. وأثبتنا عن غير هؤلاء الذين سمينا جملا جاء بها غيرهم ورواها سواهم وعلمناها من سير الخلفاء وأخبارهم، وجعلناه كتابا مختصرا، حذفنا منه الأشعار وتطويل الأخبار، وبالله المعونة والتوفيق والحول والقوة.
    مولد رسول اللهوكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، بينه وبين الفيل خمسون ليلة، وكان على ما رواه بعضهم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الأول.
    وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وولد على ما قال أصحاب الحساب بقران العقرب. قال ما شاء الله المنجم: كان طالع السنة التي كان فيها القرآن الذي دل على مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميزان اثنتين وعشرين درجة حد الزهرة وبيتها والمشتري في العقرب ثلاث درجات وثلاثاً وعشرين دقيقة، وزحل في العقرب ست درجات وثلاثا وعشرين دقيقة راجعاً، وهما في الثاني من الطوالع، والشمس في نظير الطالع في الحمل أول دقيقة، والزهرة في الحمل على درجة وست وخمسين دقيقة، وعطارد في الحمل على ثماني عشرة درجة وست عشرة دقيقة راجعاً، والمريخ في الجوزاء اثنتي عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر وسط السماء في السرطان درجة وعشرين دقيقة.
    وقال الخوارزمي: كانت الشمس يوم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثور درجة، والقمر في الأسد على ثماني عشرة درجة وعشر دقائق، وزحل في العقرب تسع درجات وأربعين دقيقة راجعاً، والمشتري في العقرب درجتين وعشر دقائق راجعا، والمريخ في السرطان درجتين وخمسين دقيقة، والزهرة في الثور اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق. وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصي بن كلاب لجلالة قصي، فلما كان عام الفيل أرخت به لاشتهار ذلك العام، فكان تاريخهم من مولد رسول الله.

    ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين وانقضت الكواكب. فلما رأت ذلك قريش أنكرت انقضاض الكواكب وقالوا: ما هذا إلا لقيام الساعة، وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا حتى تهدمت الكنائس والبيع، وزال كل شيء يعبه دون الله، عز وجل، عن موضعه، وعميت على السحرة والكهان أمورهم وحبست شياطينهم، وطلعت نجوم لم تر قبل ذلك فأنكرتها كهان اليهود، وزلزل إيوان كسرى فسقطت منه ثلاث عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام. ورأى عالم الفرس وحكيمهم وهو الذي تسميه الفرس موبذان موبذ القيم بشرائع دينهم كان إبلاً عراباً تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. فراع ذلك كسرى أنو شروان وأفزعه، فوجه إلى النعمان فقال: هل بقي من كهان العرب أحد؟ قال: نعم! سطيح، الغساني بدمشق من أرض الشام. قال: فجئني بشيخ من العرب له عقل ومعرفة أوجهه إليه. فأتاه بعبد المسيح بن بقيلة، فوجهه إليه. فخرج عليه عبد المسيح على جمل حتى قدم دمشق. فسأل عنه فدل عليه وهو ينزل في باب الجابية، فوجده في آخر رمق. فنادى في أذنه بأعلى صوته:
    أصم أم تسمع غطريف اليمن ... يا فارج الكربة أعيت من ومن
    وفاصل الخطبة في الأمر العنن ... أتاك شيخ الحي من آل يزن
    فقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، نحو سطيح، حين أشفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان بهدم الأيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلا عرابا تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. يا ابن ذي يزن تكون هنه وهنات ويموت ملوك وملكات بعدد الشرافات. إذا غاضت بحيرة ساوة وظهرت التلاوة بأرض تهامة وظهر صاحب الهراوة فليست الشام لسطيح شاما. ثم فاضت نفسه.
    وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود. قالوا: لا. قال: أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الأدكن يكون به هلاك أهل الكتاب، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام. فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو! ويل أهل الكتاب منه. فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب. وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنه بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة، فكان اسم عبد الله أبي رسول الله عبد الدار، وقيل: كان اسمه عبد قصي. فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب: هذا عبد الله، فسماه يومئذ كذلك. وكان بين تزويج أبي رسول الله لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر.
    وروي عن أمه أنها قالت: رأيت لما وضعته نوراً بداً مني ساطعاً حتى أفزعني، ولم أر شيئاً مما يراه النساء.
    وروى بعضهم أنها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشام، ولما وقع إلى الأرض قبض قبضة من تراب ثم رفع رأسه إلى السماء...
    فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقال رسول الله، بعد ما بعثه الله: رأيت أبا لهب في النار يصيح العطش العطش فيسقي في نقر إبهامه. فقلت: بم هذا؟ فقال: بعتقي ثويبة لأنها أرضعتك.
    وتوفي عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى جعفر بن محمد بعد شهرين من مولده. وقال بعضهم إنه توفي قبل أن يولد، وهذا قول غير صحيح لأن الإجماع على أنه توفي بعد مولده. وقال آخرون بعد سنة من مولده، وكانت وفاة عبد الله بالمدينة عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة، وكانت سنة يوم توفي خمساً وعشرين سنة.
    واسترضع في بني سعد بن بكر بن هوازن. وكان عبد المطلب دفعه إلى الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيما في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كان من شأنه في الذي أتاه في صورة رجل، فشق عن بطنه وغسل جوفه، ما كان. فخافوا عليه وردوه إلى جده عبد المطلب وله خمس سنين، وقيل أربع سنين، وهو في خلق ابن عشر وقوته.

    وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة أشهر، ولها ثلاثون سنة. وكانت وفاتها بموضع يقال له الأبواء بين مكة والمدينة. وكان عبد المطلب جد رسول الله يكفله، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبو طالب:
    ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
    ورفض عبادة الأصنام ووحد الله، عز وجل، ووفى بالنذر وسن سننا نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتي البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عريانا، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفى ذوات الرايات. ولما قدم صاحب الفيل خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل، فقال عبد المطلب: والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره. فجلس بفناء البيت ثم قال:
    لهم إن تعف فإنهم عيالك ... ... إلا فشيء ما بدا لك
    فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني. وكان المبشر لقريش بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله. فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً.
    فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل. فقالوا: إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر منذ كنت.
    وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة. ومن الإناث أربع: عبد الله أبو رسول الله، وأبو طالب وهو عبد مناف، والزبير وهو أبو الطاهر، وعبد الكعبة وهو المقوم، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب، والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى، وقثم، وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة، وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية بنت عبد المطلب، والعباس وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب وهو عبد العزى، وأمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق وهو جحل وإنما سمي الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي.
    فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته. وكان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع مكة. وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال. وكان يفرش لعبد المطلب بفناء الكعبة، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله، وهو غلام، فيتخطى رقاب عمومته، فيقول لهم عبد المطلب دعوا ابني، أن لابني هذا لشأناً.
    وكان عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لما غلب على اليمن، فقدمه سيف عليهم جميعاً وآثره. ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف، ثم خر ساجدا. فقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ؟ فقال له: نعم! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت، أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود وقومك، وقومك أشد من اليهود، والله متمم أمره ومعل دعوته. وكان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب. فقال: أما والله لئن نفستني قريش الماء يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم، لتنفسني غدا الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والنساء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر.

    وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع، ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش أن النبي الأمي منكم، وهذا أوان توكفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سن يدعو إليه وشرف يعظم عليه فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمن القوم فخصبتم ما شئتم إذا وغثتم، فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد. فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله، وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبد المطلب: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثا مريعا مغدقا. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجه، وفي ذلك يقول بعض قريش:
    بشيبة الحمد أسقي الله بلدتنا ... وقد فقدنا الكري واجلوذ المطر
    مناً من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوماً به مضر
    مبارك الأمر يستسقي الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
    وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب. وقال لأبي طالب:
    أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بمفرد بعد أبيه فرد
    فارقه وهو ضجيع المهد ... فكنت كالأم له في الوجد
    تدنيه من أحشائها والكبد ... فأنت من أرجى بني عندي
    لدفع ضيم أو لشد عقد
    وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وأعظمت قريش موته، وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب. واحتبى ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية والوليد بن ربيعة المخزومي فادعى كل واحد الرئاسة.
    وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أن الله يبعث جدي عبد المطلب أمه واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك فكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه، فكان خير كافل. وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً مع إملاقه.
    قال علي بن أبي طالب: أبي ساد فقيرا، وما ساد فقير قبله. وخرج به إلى بصرى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله! لا أكلك إلى غيري. وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً. ويروي عن رسول الله لما توفيت، وكانت مسلمة فاضلة، أنه قال: اليوم ماتت أمي، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة. قال: إنها كانت أمي، أن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي.
    ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون ظهوره، فقال يوماً لأبي طالب: يا عم إني أرى في المنام رجلاً يأتيني ومعه رجلاًن فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم. فوصف أبو طالب ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه الروح الطيبة! هذا والله النبي المطهر. فقال له أبو طالب: فاكتم على ابن أخي لا تغر به قومه، فوالله إنما قلت لعلي ما قلت، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعادي.
    الفجاروشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجار وله سبع عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، وكان سبب الفجار، وهي الحرب التي كانت بين كنانة وقيس، أن رجلاً من بني ضمرة يقال له البراض بن قيس، كان بمكة في جوار حرب بن أمية، وثب على رجل من هذيل يقال له الحارث فقتله. وأخرجه حرب بن أمية من جواره فلحق بالنعمان بن المنذر، فاجتمع هو وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب.

    وكان النعمان يوجه في كل سنة بلطيمة إلى عكاظ للتجارة، ولا يعرض لها أحد من العرب، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس، فكان بلعاء بعد ذلك يغير على لطائم النعمان. فلما اجتمع عروة والبراض عنده قال: من يجير لطائمي؟ فقال البراض: أنا، وقال عروة: أنا، مثله، فتنازعا كلاما. فلما خرجا وتوجه عروة لينصرف، عارضه البراض فقتله وأخذ ما كان معه من لطائم النعمان.
    فاجتمعت قيس على قوم البراض، ولجأت كنانة إلى قريش فأعانتها وخرجت معها، فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء. فسمي الفجار لأنهم فجروا في شهر حرام. وكان على كل قبيل من قريش رئيس، وعلى بني هاشم الزبير بن عبد المطلب.
    وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها. وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير.
    وقيل: أن أبا طالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا فعرفوا البركة بحضوره فقالوا: يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذاك لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم.
    وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام. وروى بعضهم أنه شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه، وجاء الفتح من قبله فجمعنا جميع الروايات ومات حرب بن أمية بن عبد شمس بالشام بعد الفجار بأشهر.
    حلف الفضولحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم وبنو الحارث بن فهر على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بل بحر صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه. وقيل أن الطيب كان لأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي توأم عبد الله أبي رسول الله، وتحالفت اللعقة وهم بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدي على أن يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم فأخذها السهمي وأبي أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها إعانته على أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته:
    يا أهل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
    أن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوبي لابس الغدر
    وقد قيل: لم يكن رجل من بني أسد ولكنه قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا الشعر، وقيل بل قال:
    يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم
    أظلم لا يمنع مني من ظلم
    فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي. وكانت الأحلاف هاشم وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقال بعضهم: حضره ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة والفضل بن حشاعة والفضل بن بضاعة فسمي بهذا حلف الفضول. وقد قيل أن هؤلاء النفر حضروا حلفا لجرهم فسمي حلف الفضول بهم وشبه بالحلف في تلك السنة.
    بنيان الكعبة

    ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في موضعه حين اختصمت قريش وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك أن قريشا هدمت الكعبة بسبب سيل أصابهم فهدمها. وقيل: بل كانت امرأة من قريش تجمر الكعبة، فطارت شرره فأحرقت باب الكعبة وكان طولها تسعة أذرع فنقضوها. وكان أول من ضرب فيها بمعول الوليد بن المغيرة المخزومي. وحفروا حتى انتهوا إلى قواعد إبراهيم فقلعوا منها حجرا فوثب الحجر ورجع مكانه فأمسكوا. ويقال أن الذي بدر الحجر من يده أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وخرج عليهم ثعبان فحال بينهم وبين البناء، فاجتمعوا، فقال: ما ذا ترون؟ فقال أبو طالب: أن هذا لا يصلح أن ينفق فيه إلا من طيب المكاسب فلا تدخلوا فيه مالا من ظلم ولا عدوان، فأحضروا ما لم يشكوا فيه من طيب أموالهم ورفعوا أيديهم إلى السماء، فجاء طائر فاختطف الثعبان حتى ذهب. فوضعوا أزرهم يعملون عراة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أبى أن ينزع ثوبه فسمع صائحا يصيح: لا تنزع ثوبك. ونقلت الحجارة التي بني بها البيت من جبل يقال له السيادة من أعلى الوادي وصيروها ثماني عشرة ذراعا، وكانت كل قبيلة تلي طائفة منها فكانت بنو عبد مناف تلي الربع وسائر ولد قصي بن كلاب وبنو تيم الربع ومخزوم الربع وبنو سهم وجمح وعدي وعامر بن فهر الربع. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر اختصموا فيه، وقالت كل قبيلة: نحن نتولى وضعه. فأقبل رسول الله، وكانت قريش تسميه الأمين، فلما رأوه مقبلا قالوا: قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه ثم وضع الحجر في وسطه وقال: لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء ثم ارفعوا جميعاً. ففعلوا ذلك فحمل عتبة بن ربيعة أحد جوانب الرداء وأبو زمعة بن الأسود وأبو حذيفة بن المغيرة وقيس بن عدي السهمي، وقيل العاص بن وائل. فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه بموضعه الذي هو به وسقفوها، ولم يكن لها قبل ذلك سقف.
    تزويج خديجة بنت خويلد وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة، وقيل: تزوجها وله ثلاثون سنة، وولدت له، قبل أن يبعث، القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد ما بعث عبد الله، وهو الطيب والطاهر لأنه ولد في الإسلام، وفاطمة. وروى بعضهم عن عمار بن ياسر أنه قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد: كنت صديقا له، فإنا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتني هالة أختها فقالت: يا عمار! ما لصاحبك حاجة في خديجة؟ قلت: والله ما أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوماً نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ودهنت لحيته بدهن أصفر، وطرحت عليه حبراً. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أعمامه تقدمهم أبو طالب فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به، ثم أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وأن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجلة من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع.
    فتزوجها وانصرف. فلما أصبح عمها عمرو بن أسد أنكر ما رأى فقيل له: هذا ختنك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أهدى لك هذا. قال: ومتى زوجته؟ قيل له: بالأمس. قال: ما فعلت. قيل له: بلى، نشهد أنك قد فعلت. فلما رأى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. اشهدوا أني أن لم أكن زوجته بالأمس فقد زوجته اليوم، وأنه ما كان مما يقول الناس إنها استأجرته بشيء ولا كان أجيرا لأحد قط، وروى محمد بن إسحاق أن خويلد بن أسد بن عبد العزى زوج خديجة ابنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بعد الفجار بخمس سنين، وروى بعضهم أنه قتل في الفجار أو مات عام الفجار.
    المبعث
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:16 am

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استكمل أربعين سنة، فكان مبعثه في شهر ربيع الأول، وقيل في رمضان، ومن شهور العجم في شباط. وكانت سنته التي بعث فيها سنة قرآن في الدلو. قال، ما شاء الله، الحاسب: كان طالع السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الثالث من قرآن مولده السنبلة أربع درجات، والقمر في الميزان سبع عشرة درجة، والمريخ من الطالع في السنبلة ثلاث عشرة درجة راجعاً، والمشتري في الخامس في الجدي إحدى وعشرين درجة، وزحل في الدلو في السادس في تسع درجات حد الزهرة في الحوت، والشمس في الثامن في الحمل دقيقة، وعطارد في الحمل أربع عشرة درجة، وحد مدخل السنة منذ أول يوم دخلت فيه الشمس. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يومئذ في الدلو أربعاً وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر في السرطان سبع عشرة درجة، وزحل في الدلو تسع عشرة درجة، والمشتري اثنتي عشرة درجة، والمريخ في الحوت خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحمل إحدى عشرة درجة، وعطارد في الدلو ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة. وكان جبريل يظهر له فيكلمه. وربما ناداه من السماء ومن الشجرة ومن الجبل فيذعر من ذلك رسول الله، ثم قال له: أن ربك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان، فكان أول أمره. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي خديجة ابنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلم به. فتقول له: استر يا ابن عم، فوالله إني لأرجو أن يصنع الله بك خيراً. وأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين، وقال بعضهم يوم الخميس، وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان ولذلك جعله عيدا للمسلمين وعلى جبريل جبة سندس وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة فأجلسه عليه وأعلمه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه عن الله وعلمه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وأتاه من غد وهو متدثر، فقال يا أيها المدثر قم فأنذر. وقال رسول الله: أول ما نهاني عنه جبريل بعد عبادة الأصنام ملاحاة الرجال. وروى بعضهم أن إسرافيل وكل به ثلاث سنين وأن جبريل وكل به عشرين سنة، وقال آخرون: ما زال جبريل موكلا به، وقد كان ورقة بن نوفل قال لخديجة بنت خويلد: اسأليه من هذا الذي يأتيه؟ فإن كان ميكائيل فقد أتاه بالخفض والدعة واللين، وأن كان جبريل فقد أتاه بالقتل والسبي. فسألته، فقال: جبريل، فضربت خديجة جبهتها. وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلى، فصلى رسول الله. وروى بعضهم أن الظهر الصلاة الوسطى أول صلاة صلاها رسول الله، وكان يوم جمعة. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل.
    ولما بعث رميت الشياطين بشهب من السماء ومنعت من أن تسترق السمع. فقال إبليس: ما هذا إلا لأمر قد حدث ونبي قد بعث، وأصبحت الأصنام في جميع الدنيا منكسة، وخمدت النيران التي كانت تعبد.
    وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء وعلي بن أبي طالب من الرجال. ثم زيد بن حارثة ثم أبو ذر وقيل أبو بكر قبل أبي ذر، ثم عمرو بن عبسة السلمي ثم خالد بن سعيد بن العاص ثم سعد بن أبي وقاص ثم عتبة بن غزوان ثم خباب بن الأرت ثم مصعب بن عمير. وروي عن عمرو بن عبسة السلمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وبلغني أمره فقلت: صف لي أمرك. فوصف لي أمره وما بعثه الله به. فقلت: هل يتبعك على هذا أحد؟ قال: نعم! امرأة وصبي وعبد، يريد خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة.

    وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله، عز وجل، وعبادته والإقرار بنبوته، فكان إذا مر بملأ من قريش، قالوا: أن فتى ابن عبد المطلب ليكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا ثم أمره الله، عز وجل، أن يصدع بما أرسله، فأظهر أمره وأقام بالأبطح فقال: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأت منه قريش وآذته وقالوا لأبي طالب: أن ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وضلل أسلافنا فليمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء. فقال أن الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه. وآذوه أشد الإيذاء، فكان المؤذون له منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي. وكان أبو لهب أشد أذى له.
    وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بسوق عكاظ، عليه جبة حمراء، فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا. وإذا رجل يتبعه له غديرتان كان وجهه الذهب وهو يقول: يا أيها الناس أن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه. فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا محمد بن عبد الله، وهذا أبو لهب ابن عبد المطلب عمه، وكان المستهزءون به العاص بن وائل السهمي والحارث ابن قيس بن عدي السهمي والأسود بن المطلب بن أسد والوليد بن المغيرة المخزومي والأسود بن عبد يغوث الزهري، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب حتى إنهم نحروا جزورا بالحزورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فأمروا غلاما لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد.
    فانصرف فأتى أبا طالب، فقال: كيف موضعي فيكم؟ قال: ما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره ما صنع به. قال: فأقبل أبو طالب مشتملا على السيف يتبعه غلام له فاخترط سيفه وقال: والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته. ثم أمر غلامه فأمر ذلك السلى والفرث على وجوههم واحدا واحدا. ثم قالوا: حسبك هذا فينا يا ابن أخينا. واجتمعت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: ندعوك إلى نصفه، هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أحسن قريش وجها وأكملهم هيئة فخذه فصيره ابنك وصير إلينا محمداً نقتله. فقال: ما أنصفتموني! أدفع إليكم ابني تقتلونه، وتدفعون إلى ابنكم أغذوه! وقال أبو طالب في ذلك:
    عجبت لحم يا ابن شيبة عارف ... وأحلام أقوام لديك سخاف
    يقولون شايع من أراد محمداً ... بسوء وقم في أمره بخلاف
    أصاميم إما حاسد ذو خيانة ... وإما قريب منه غير مصافي
    ولا يركبن الدهر منك ظلامة ... وأنت امرؤ من خير عبد مناف
    وأن له قربى إليكم وسيلة ... وليس بذي حلف ولا بمضاف
    ولكنه من هاشم في صميمها ... إلى أبحر فوق البحور طوافي
    فإن عصبت فيه قريش فقل لها ... بني عمنا ما قومكم بضعاف
    فما قومكم بالقوم يخشون ظلمهم ... وما نحن فيما ساءكم بخفاف
    وقال أيضاً:
    وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
    وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
    الإسراءوأسرى به وأتاه جبريل بالبراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار مضطرب الأذنين خطوة مد بصره له جناحان يحفزانه من خلفه عليه سرج ياقوت، فمضى به إلى بيت المقدس فصلى به ثم عرج به إلى السماء، فكان بينه وبين ربه كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى، ثم هبط به فنزل في بيت أم هانئ بنت أبي طالب. فقص عليها القصة فقالت له: بأبي أنت وأمي، لا تذكر هذا لقريش فيكذبوك.

    وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش، وقال لهم: أن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى آتيكم وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنتظروني. فوجدوه على باب أم هانئ، فأتي به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه فأعظموا ذلك وجل في صدورهم وعاهدوه وعاقدوه انهم لا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبداً.
    النذارةوأمره الله، عز وجل، أن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على المروة ثم نادى بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم. فقال له أبو لهب: هذه فهر. ثم نادى: يا آل غالب فانصرفت بنو محارب وبنو الحارث بن فهر ثم نادى يا آل لؤي، فانصرفت بنو تيم الأدرم بن غالب. ثم نادى: يا آل كعب، فانصرفت بنو عامر وبنو عوف بن لؤي. ثم نادى: يا آل مرة، فانصرفت بنو عدي بن كعب وبنو سهم وجمح ابني هصيص بن كعب. ثم نادى: يا آل كلاب، فانصرفت بنو تيم ابن مرة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة. ثم نادى: يا آل قصي، فانصرفت بنو زهرة. ثم نادى: يا آل عبد مناف، فانصرفت بنو عبد الدار وبنو عبد العزى ابني قصي. ثم نادى: يا آل هاشم، فانصرفت بنو عبد شمس وبنو نوفل. وأقام بنو عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه هاشم قد اجتمعت، فجمعهم في بعض دورهم. وحدثني أبو عبد الله الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث انهم كانوا في دار الحارث بن عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. وكان جميع طعامهم رجل شاة وشرابهم عس من لبن وأن منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم كما أمره الله ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، وأعلمهم تفضيل الله إياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم. فقال أبو لهب: خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قتلتم وأن تركتموه ذللتم. فقال أبو طالب: يا عورة والله لننصرنه ثم لنعيننه. يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين. فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب في الله عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه حتى قتل أبو جهل سمية، طعنها في قبلها فماتت، فكانت أول شهيد في الإسلام، وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وأبو فكيهة الأزدي وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح. وقال خباب بن الأرت: يا رسول الله ادع لنا. قال: إنكم لتعجلون، لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه، والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على عنزة. واشتد على القوم العذاب ونالهم منه أمر عظيم فرجع عن الإسلام خمسة نفر وهم: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن ألفاًكه بن المغيرة... فروي أن فيهم نزلت هذه الآية: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى آخر الآية.
    مهاجرة الحبشةولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار. فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلاً وفي المرة الثانية سبعون رجلاً سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الأولون، فكان لهم عند النجاشي منزلة، وكان يرسل

    إلى جعفر فيسأله عما يريد فلما بلغ قريشا ذلك وجهت بعمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله، وقالوا سفهاء من قومنا خرجوا عن ديننا وضللوا أمواتنا وعابوا آلهتنا، وأن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك. فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا، أرسل إلى جعفر فسأله، فقال: أن هؤلاء على شر دين يعبدون الحجارة ويصلون للأصنام ويقطعون الأرحام ويستعملون الظلم ويستحلون المحارم، وأن الله بعث فينا نبيا من أعظمنا قدرا وأشرفنا سررا وأصدقنا لهجة وأعزنا بيتا، فأمر عن الله بترك عبادة الأوثان واجتناب المظالم والمحارم والعمل بالحق والعبادة له وحده، فرد على عمرو وعمارة الهدايا وقال: أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق وأنتم على دين الباطل! وقال لجعفر: اقرأ علي شيئاً مما أنزل على نبيكم. فقرأ عليه: كهيعص فبكى وبكى من بحضرته من الأساقفة فقال له عمرو وعمارة: أيها الملك إنهم يزعمون أن المسيح عبد مملوك، فأوحشه ذلك وأرسل إلى جعفر فقال له: ما تقول وما يقول صاحبكم في المسيح؟ قال: إنه يقول إنه روح الله وكلمته، ألقاها إلى العذراء البتول. فأخذ عودا بين إصبعيه ثم قال: ما يزيد المسيح على ما قلت ولا مقدار هذا.
    وكان عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تلاحيا في طريقهما، وكان عمارة رجلاً مغرماً بالنساء وكان معه امرأته رابطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. فقال عمارة: قل لها فلتقبلني. فقال: سبحان الله! أتقول هذا لابنة عمك؟ قال: والله لتفعلن أو لأضربنك بهذا السيف. فقال لها: قبليه. ثم أن عمارة اعتقل عمراً فألقاه في البحر، فعام عمرو وأوهمه أنه فعل هذا مزاحاً. فقال: ألق إلى ابن عمك الحبل، سبحان الله أهكذا يكون المزاح؟ فألقى إليه الحبل فخرج. فلما أراد عمرو وعمارة الانصراف وأيسا من عند النجاشي، قال عمرو لعمارة: لو أرسلت إلى امرأة الملك النجاشي فلعلنا ننال منها حاجتنا عنده. ففعل ذلك ولاطفها حتى أرسلت إليه بطيب من طيب الملك، فكاد عمرو عمارة، وقال للنجاشي: أن صاحبي هذا أرسل إلى امرأة الملك حتى أطمعته في نفسها وبعثت إليه بطيب من طيب الملك. فأخذه النجاشي فنفخ في أنثييه السم وقيل الزئبق، فهام مع الوحوش على وجهه، فلم يزل هائما حتى قدم قوم من بني مخزوم فسألوه أن يأذن لهم في أخذه، فنصبوا له فأخذوه. فلم يزل يضطرب في أيديهم حتى مات. وانصرف عمرو إلى المشركين خائباً، وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد. وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة. واسم النجاشي أصحمة.
    حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفةوهمت قريش بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع ملأها على ذلك وبلغ أبا طالب فقال:
    والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أغيب في التراب دفينا
    ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
    وعرضت ديناً قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
    فلما علمت قريش انهم لا يقدرون على قتل رسول الله، وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمد فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، فشلت يده. ثم حصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ست سنين من مبعثه. فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حد الضر والفاقة. ثم نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة، فجلس بفنائها وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا

    طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك وتدع اللجاج في ابن أخيك. فقال لهم يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجا وسببا لصلة الأرحام وترك القطيعة، وأحضروها وهي بخواتيمهم. فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها. قالوا: نعم. قال: فهل أحدثتم فيها حدثا؟ قالوا: اللهم لا. قال: فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله أ فرأيتم أن كان صادقا ماذا تصنعون؟ قالوا: نكف ونمسك. قال: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه.
    قالوا: قد أنصفت وأجملت، وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله، عز وجل. فقالوا: ما هذا إلا سحر، وما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه.
    وفاة القاسم ابن رسول اللهوتوفي القاسم ابن رسول الله، فقال وهو في جنازته، ونظر إلى جبل من جبال مكة: يا جبل لو أن ما بي بك لهدك وكان للقاسم يوم توفي أربع سنين. ثم توفي عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بشهر، ولم يفطم. فقالت خديجة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بقي حتى أفطمه! قال: فإن فطامه في الجنة. وسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أين أولادي منك؟ قال: في الجنة. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قالت: فأين أولادي من غيرك؟ قال: في النار. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
    ما نزل من القرآن بمكةونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة، على ما رواه محمد بن حفص ابن أسد الكوفي عن محمد بن كثير ومحمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وكان أول ما نزل على رسول الله: اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم: نون والقلم وما يسطرون ثم: والضحى ثم: يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم فاتحة الكتاب ثم تبت ثم إذا الشمس كورت ثم سبح اسم ربك الأعلى ثم والليل إذا يغشى ثم والفجر ثم ألم نشرح لك صدرك ثم الرحمن ثم والعصر ثم إنا أعطيناك الكوثر ثم ألهاكم التكاثر ثم أرأيت الذي يكذب بالدين ثم أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ثم والنجم إذا هوى ثم عبس وتولى ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر ثم والشمس وضحاها ثم والسماء ذات البروج ثم والتين والزيتون ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم لا أقسم بيوم القيامة ثم ويل لكل همزة ثم والمرسلات عرفا ثم ق والقرآن المجيد ثم لا أقسم بهذا البلد ثم والسماء والطارق ثم اقتربت الساعة ثم ص والقرآن ذي الذكر ثم الأعراف ثم سورة الجن ثم سورة يس ثم تبارك الذي نزل الفرقان ثم حمد الملائكة ثم سورة مريم ثم سورة طه ثم طسم الشعراء ثم طس النمل ثم طسم القصص ثم سورة بني إسرائيل ثم سورة يونس ثم سورة هود ثم سورة يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم الصافات ثم لقمان ثم حم المؤمن ثم حم السجدة ثم حم عسق ثم الزخرف ثم حمد سبأ ثم تنزيل الزمر ثم حم الدخان ثم حم الشريعة ثم الأحقاف ثم والذاريات ثم هل أتاك حديث الغاشية ثم سورة الكهف ثم سورة النحل ثم إنا أرسلنا نوحا ثم سورة إبراهيم ثم اقترب للناس حسابهم ثم

    قد أفلح المؤمنون ثم الرعد ثم والطور ثم تبارك الذي بيده الملك ثم الحاقة ثم سأل سائل ثم عم يتساءلون ثم والنازعات غرقا ثم إذا السماء انفطرت ثم سورة الروم ثم العنكبوت. وقد اختلف الناس في هذا التأليف في غير رواية ابن عباس، وكان الاختلاف أيضاً يسيراً. وروى محمد بن كثير ومحمد بن السائب عن ابن صالح عن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا، لا ينزل سورة سورة، فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة وأن كان تمامها بالمدينة، وكذلك ما نزل بالمدينة وإنه كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم، فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدئ بسورة أخرى. وروى بعضهم أن التوراة أنزلت لست خلون من شهر رمضان والزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد التوراة بألف وخمسمائة عام، والإنجيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بثمانمائة عام، وقيل ستمائة. وروى آخرون أن القرآن نزل لعشرين ليلة خلت من شهر رمضان. وروى جعفر بن محمد أنه قال: أن الله لم يبعث قط نبياً إلا بما هو أغلب على أهل زمانه، فبعث موسى بن عمران إلى قوم كان الأغلب عليهم السحر فأتاهم بما ضل معه سحرهم من العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر وانفجار الحجر حتى خرج منه الماء والطمس على وجوههم، فهذه آياته، وبعث داود في زمن أغلب الأمور على أهله الصنعة والملاهي فألان له الحديد وأعطاه حسن الصوت فكانت الوحوش تجتمع لحسن صوته، وبعث سليمان في زمان قد غلب على الناس فيه حب البناء واتخاذ الطلسمات والعجائب فسخر له الريح والجن، وبعث عيسى في زمان أغلب الأمور على أهله الطب فبعثه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وبعث محمداً في زمان أغلب الأمور على أهله الكلام والكهنة والسجع والخطب فبعثه بالقرآن المبين والمحاورة.
    وفاة خديجة وأبي طالبوتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تجود بنفسها، فقال: بالكرة مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فأقرئيهن السلام. قالت: ومن هن يا رسول الله؟ قال: أن الله زوجنيك في الجنة وزوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثوم أخت موسى فقالت: بالرفاء والبنين. ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي؟ أين أمي؟ فنزل عليه جبريل فقال: قل لفاطمة أن الله تعالى بنى لأمك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب.
    وتوفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله أن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيماً ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيراً، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيراً، وقال: اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال: أن الله، عز وجل، وعدني في أربعة، في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية.
    عرض الرسول نفسه على القبائلوخروجه إلى الطائف واجترأت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد أخرى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به، فعمد لثقيف بالطائف، فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد ياليل بن عمرو وحبيب بن عمرو ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا يسرق ثياب الكعبة أن كان الله بعثك؟ وقال الآخر أعجز على الله أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا كما تقول لأنت أعظم خطرا من

    أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وتهزأوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له، وقعدوا له صفين. فلما مر رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله، فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر. ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله، فلما سمع كلامه أسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
    قدوم الأنصار مكةوكانت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم حتى كانت بينهم الحروب التي أفنتهم في أيام لهم مشهورة منها يوم الصفينة وهو أول يوم جرت الحرب فيه ويوم السرارة ويوم وفاق بني خطمة ويوم حاطب ابن قيس ويوم حضير الكتائب ويوم أطم بني سالم ويوم أبتروه ويوم البقيع ويوم بعاث ويوم مضرس ومعبس ويوم الدار ويوم بعاث الآخر ويوم فجار الأنصار، وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها ويقتتلون قتالاً شديدا، فلما ضرستهم الحرب وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم، وعزوا فاشترطوا عليهم شروطا لم يكن لهم فيها مقنع، وكان المشترط عليهم أبو جهل بن هشام المخزومي، وقد قيل أن قريشا قد كانت إجابتهم حتى قدم أبو جهل من سفر له وكان غائباً فنقض الحلف واشترط عليهم شروطا لم يقنعوا بها. ثم صاروا إلى الطائف فسألوا ثقيفا فأبطأوا عنهم فانصرفوا. وقدم رجل منهم بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له سويد بن الصامت من الأوس حاجا أو معتمرا فبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه وكلمه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله. فقال له سويد: أن معي مجلة لقمان. قال: فاعرضها علي، فعرضها عليه. فقال رسول الله: أن هذا الكلام لحسن، والذي معي أحسن منه: كلام الله، وقرأ عليه. فقال: يا محمد أن هذا الكلام حسن.
    ثم انصرف إلى المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، ثم قدم نفر منهم أيضاً إلى مكة، وهم بنو عفراء، يتفاخرون مع أسعد بن زرارة، فلقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال رجل منهم يقال له إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله النبي الذي كانت اليهود تعدكم، به فلا يسبقنكم إليه أحد، فأسلموا، وأخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله وبرسوله، ثم انصرفوا فأخبروا قومهم الخبر وقد كانوا سألوه أن يوجه معهم رجلاً من قبله يدعو الناس بكتاب الله. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وجعل يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويعلمهم الإسلام، وكان أول من قدم المدينة. ثم خرج اثنا عشر رجلاً منهم إليه فلقوه وهم أصحاب العقبة الأولى فأمنوا بالله وصدقوه، وانصرفوا إلى المدينة وكثر خبره وفشا الإسلام فيها.
    فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلاً وامرأتان فأسلموا وصدقوه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بيعة النساء.
    فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة، وقالوا: إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا جميلا، ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام فكثر حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر، قال له العباس بن عبد المطلب: وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم فجعل ذلك إليه وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة.
    خروج رسول الله من مكة

    وأجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام نهد فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربه رجل واحد فلا يكون لبني هاشم قوة بمعاداة جميع قريش. فلما بلغ رسول الله، انهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي اتعدوا فيها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر، وأن الله، عز وجل، أوحى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما فأوحى الله إليهما: هلا كنتما كعلي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار على الموت وآثر محمداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوه، فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات! وخلف علياً على فراشه لرد الودائع التي كانت عنده وصار إلى الغار فكمن فيه وأتت قريش فراشه فوجدوا علياً فقالوا: أين ابن عمك؟ قال: قلتم له اخرج عنا، فخرج عنكم. فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد، وانصرفوا. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى المدينة، ومر بأم معبد الخزاعية فنزل عندها. ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه. وروى بعضهم أنه قال: ما علمت قريش أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا هاتفا من بعض جبال مكة يقول:
    فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
    وقال أبو سفيان: من السعود سعد هذيم وسعد تميم وسعد بكر فسمعوا في الليلة المقبلة قائلا يقول:
    فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
    أنيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
    فعلمت قريش أنه قد مضى إلى يثرب، واتبعه سراقة بن جعشم المدلجي لما صار إلى ماء بني مدلج. فلما لحقه قال رسول الله: اللهم أكفنا سراقة، فساخت قوائم فرسه فصاح: يا ابن أبي قحافة، قل لصاحبك أن يدعو الله بإطلاق فرسي، فلعمري لئن لم يصبه مني خير لا يصبه مني شر. فلما رجع إلى مكة خبرهم الخبر فكذبوه، وكان أشدهم له تكذيبا أبو جهل، فقال سراقة:
    أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه
    علمت ولم تشكك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه
    قدوم رسول الله المدينةوقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، والشمس يومئذ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وست دقائق، والقمر في الأسد ست درجات وخمسا وثلاثين دقيقة، وزحل في الأسد درجتين، والمشتري في الحوت ست درجات راجعا، والزهرة في الأسد ثلاث عشرة درجة، وعطارد في الأسد خمس عشرة درجة، فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياماً، حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف فمكث أياماً. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها، فجعل لا يمر بحي من أحياء الأنصار إلا قالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل بنا، فإنك تنزل في العدة والكثرة فيقول: خلوا زمام الراحلة فإنها مأمورة، حتى وقفت على باب أبي أيوب الأنصاري فبركت، فنخست بقضيب فلم تبرح، فنزل بأبي أيوب فأقام عنده أياماً ثم انتقل إلى حجراته، وقيل أن ناقته بركت في موضع المسجد فنزل فجاء أبو أيوب فأخذ رحلة فمضى بها إلى منزله، وكلمته الأنصار في النزول بها، فقال: المرء مع رحله.

    وقدم علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل نكاحه إياها، وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم فنزل مع رسول الله. ثم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك، فقال رسول الله: ما أنا زوجته ولكن الله زوجه. وقدم العباس بن عبد المطلب بزينب بنت رسول الله، وكانت بالطائف حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان الثقفي، ثم رجع العباس إلى مكة وقدم المهاجرون فنزلوا منازل الأنصار فواسوهم بالديار والأموال.
    افتراض الصوم والصلاةوافترض الله عز وجل، شهر رمضان، وصرفت القبلة نحو المسجد الحرام في شعبان بعد مقدمه بالمدينة بسنة وخمسة أشهر، وقيل بسنة ونصف. وأنزل الله، عز وجل: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام. وكان بين نزول افتراض شهر رمضان وبين توجه القبلة إلى الكعبة ثلاثة عشر يوماً. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين نزل عليه: صرف القبلة إلى الكعبة. واستدار حتى جعل وجهه إلى الكعبة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين وبنى مسجداً باللبن وسقفه بالجريد، وقيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو وسعت المسجد فقد كثر المسلمون. فقال: لا عرش كعرش موسى. وعمل غلام للعباس يقال له كلاب منارة، ولم تكن للمسجد منارة على عهد رسول الله، وكان بلال يؤذن ثم أذن معه ابن أم مكتوم، وكان أيهما سبق أذن فإذا كانت الصلاة أقام واحد. وروى الواقدي أن بلالاً كان إذا أذن وقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح.
    ما نزل من القرآن بالمدينة ونزل عليهبالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة. أول ما نزل: ويل للمطففين ثم سورة البقرة، ثم سورة الأنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الحشر ثم سورة الأحزاب ثم سورة النور ثم الممتحنة ثم إنا فتحنا لك ثم سورة النساء ثم سورة الحج ثم سورة الحديد ثم سورة محمد ثم هل أتى على الإنسان ثم سورة الطلاق ثم سورة لم يكن ثم سورة الجمعة ثم تنزيل السجدة ثم المؤمن ثم إذا جاءك المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم التغابن ثم الصف ثم المائدة ثم براءة ثم إذا جاء نصر الله والفتح ثم إذا وقعت الواقعة ثم والعاديات ثم المعوذتين جميعاً وكان آخر ما نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم إلى آخر السورة. وقد قيل: أن آخر ما نزل عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام. دينا وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص، بغدير خم. وقيل: آخر ما نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله. وقال ابن عباس: كان جبريل إذا نزل على النبي بالوحي يقول له: ضع هذه الآية في سورة كذا في موضع كذا، فلما نزل عليه اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله قال: ضعها في سورة البقرة.
    قال ابن مسعود: نزل القرآن بأمر ونهي وتحذير وتبشير، وقال جعفر بن محمد: نزل القرآن بحلال وحرام، وفرائض وأحكام، وقصص وأخبار، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وعبر وأمثال، وظاهر وباطن، وخاص وعام. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عز وجل: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير والآية التي بعدها. وقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله، عز وجل: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وأن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا لمحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت، ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب، وقد ذكرنا هذا وغيره في كتابنا هذا بعد انقضاء الغزوات التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقعة بدر العظمى
    وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدمه بثمانية عشر شهراً، وكان سببها أن أبا سفيان بن حرب قدم من الشام بعير لقريش تحمل تجارات وأموالا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه وجاء الصريخ إلى قريش بمكة يخبرهم الخبر. وكان الرسول بذلك ضمضم بن عمرو الغفاري، فخرجوا نافرين مستعدين، وخالف أبو سفيان الطريق فنجا بالعير. وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتهم ألف رجل، وقيل تسعمائة وخمسون، وكانوا ينحرون كل يوم من الجزور عشراً وتسعاً، فنحر أبو جهل بن هشام عشراً وأمية بن خلف الجمحي تسعا وسهيل بن عمرو عشراً، وعتبة بن ربيعة عشراً وشيبة بن ربيعة تسعاً ومنبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشراً وأبو البختري العاص بن هشام الأسدي عشراً والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف عشراً والعباس بن عبد المطلب عشرا. وقيل: أن العباس نحر يوم الوقعة فأكفئت القدور، وإنه خرج مستكرها كالأسير. وقال عبد الله بن العباس: أن أبي أطعم أسيرا، وما أطعم أسير قبله. وروى ابن إسحاق أن حكم بن حزام كان من المطعمين، وكان أبو لهب عليلا فلم يمكنه الخروج فأعانهم بأربعة آلاف درهم، وقيل بل كان أبو لهب قامر العاص بن هشام المخزومي فقمره نفسه فدفعه إليهم مكانه. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة، وقيل: تسعين رجلاً منهم من المهاجرين واحد وثمانون، ومن الأنصار مائتان واثنان وثلاثون رجلاً، ومعه فرسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن عمرو البهراني، ويقال فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ومعه سبعون راحلة، فالتقوا يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان فقتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً وقتل من المشركين من سادات قريش سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من الأسارى فضربت أعناقهما وهما عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو ابن أمية والنضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، وأخذ الفداء من ثمانية وستين رجلاً، وافتدى العباس نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفا لهما من بني فهر. وقال العباس لرسول الله: إنه لا مال لي فدعني أسأل الناس بكفي. فقال: أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل؟ يعني لبابة بنت الحارث الهلالية امرأته، وقلت لها يكون عدة. فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها فافتدى نفسه بسبعين أوقية وابني أخيه بسبعين أوقية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي بات فيها العباس أسيرا: لقد أسهرني أنين العباس عمي في القد منذ الليلة، وأسلم العباس وخرج إلى مكة يكتم إسلامه. وتوفي أبو لهب بعد وقعة بدر بأيام أو بعد أن أتاهم الخبر بتسعة أيام. وكان أول من قدم مكة وخبر بخبر قريش ومن قتل منها عمرو بن جحدم الفهري. وأعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التهامي، فنادوا: يا محمد، يا محمد، فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم. فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخرج الناس إلى المصلى بعيديهم، ولم يخرج قبل ذلك، وكانت العنزة بين يديه، وذبح شاتين بالمصلى بيده، وقيل شاة، ومضى في طريق ورجع في أخرى.
    وقعة أحد

    وكانت وقعة أحد في شوال بعد بدر بسنة: اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثارها يوم بدر، واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان، وقالوا: لا تنفقوا منه شيئاً إلا في حرب محمد. فكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وبعث بالكتاب مع رجل من جهينة. فخبر رسول الله أصحابه بخبرهم، وخرج المشركون وعدتهم ثلاثة آلاف ورئيسهم أبو سفيان بن حرب. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة لرؤيا رآها في منامه: أن في سيفه ثلمة وأن بعيرا يذبح له، وأنه أدخل يده في درع حصينة، وتأولها محمد أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلاً من أهل بيته يصاب، وأن الدرع المدينة. فأشارت عليه الأنصار بالخروج، فلما لبس لباس الحرب ردت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: لا نخرج عن المدينة. فقال: الآن وقد لبست لأمتي، والنبي إذا لبس لأمته لا ينزعها حتى يقاتل، ويفتح الله عليه. فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أحد. ووافى المشركون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، رماه وحشي عبد لجبير بن مطعم بحربة، فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة وشقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك، وكبر عليه خمساً وسبعين تكبيرة، وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا ثلاثة نفر: علي والزبير وطلحة. وقال المنافقون: قتل محمد، ورماه عبد الله بن قمئة فأثر في وجهه واقتحم خالد بن الوليد. وكان ميسرة المشركين الثغرة، فقتل عبد الله بن جبير وجماعة من المسلمين ناشبة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صيرهم على تلك الثغرة، ودخل عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت هزيمة المسلمين. قال الله تعالى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . وعاتب الله المسلمين في آيات من كتابه. وقتل من المسلمين ثمانية وستون رجلاً، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلاً، ثم رجع المشركون وفرق الله جمعهم. وجاء يهودي حتى وقف على باب الأطم الذي فيه النساء وكان حسان بن ثابت معهن فصاح اليهودي: اليوم بطل السحر، ثم ارتقى يصعد. فقالت صفية بنت عبد المطلب. يا حسان انزل إليه. فقال: رحمك الله يا بنت عبد المطلب، لو كنت ممن ينازل الأبطال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتل. فأخذت صفية السيف، وقيل: أخذت هراوة فضربت اليهودي حتى قتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه. فقال: لا حاجة لي في سلبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لصفية يومئذ بسهم، فلما كان من غد يوم أحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا على علتهم وعلى ما أصابهم من الجروح، وخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فهم الذين أجابوا الله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح.
    وقعة بني النضيرثم كانت وقعة بني النضير، وهم فخذ من جذام إلا انهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به، وكذلك قريظة بعد أحد بأربعة أشهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن وجه من يقتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي أراد أن يمكر برسول الله. أن اخرجوا من دياركم وأموالكم. فوجه إليهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون: لا تخرجوا فإنا نعينكم، فلم يخرجوا. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر فقاتلهم، فقتل منهم جماعة، وخذلهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. فلما رأوا أنه لا قوة لهم على حرب رسول الله، طلبوا الصلح فصالحهم على أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الإبل من خرثي متاعهم لا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح، فتحملوا إلى الشام وأسلم سلام بن ويامين النضيري. وكانت غنائمهم لرسول الله خالصة، ففرقها بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين: أبا دجانة وسهل بن حنيف، فإنهما شكياً حاجة. وفي هذه الغزاة شرب المسلمون الفضيخ فسكروا، فنزل تحريم الخمر.
    وقعة الخندق

    ثم كانت وقعة الخندق، وهو يوم الأحزاب، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً، وكانت قريش تبعث إلى اليهود وسائر القبائل فحرضوهم على قتال رسول الله، فاجتمع خلق من قريش إلى موضع يقال له سلع، وأشار عليه سلمان ألفاًرسي أن يحفر خندقا، فحفر الخندق وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه، وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم حتى فرغ من حفر الخندق وجعل له أبوابا وجعل على الأبواب حرسا، من كل قبيلة رجلاً، وجعل عليهم الزبير بن العوام وأمره أن رأى قتالاً أن يقاتل. وكانت عدة المسلمين سبعمائة رجل. ووافى المشركون فأنكروا أمر الخندق وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا. وأقاموا خمسة أيام. فلما كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبدود وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعكرمة ابن أبي جهل وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج علي بن أبي طالب إلى عمرو بن عبدود فبارزه وقتله وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله. وبعث الله، عز وجل، على المشركين ريحا وظلمة فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: عوجل الشيخ. وكانت الحرب على ما روى بعضهم ثلاثة أيام بالرمي بغير مجالدة ولا مبارزة. واتصلت في اليوم الثالث حتى فاتت صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة، فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة، ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا. ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل عليه: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، وفي هذه الوقعة ظهر النفاق، وقال المنافقون: تعد يا محمد بقصور كسرى وقيصر ولأحدنا لا يقدر على الغائط، ما هذا إلا غرور. فأنزل الله، عز وجل، سورة الأحزاب، وقص. فيها ما قص فكان قوم اليهود صاروا إلى رسول الله: منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، فقالوا له: يا محمد نزل الم. قال: نعم. قال: جاءك بها جبريل من عند الله. قال: نعم. قال حيي بن أخطب: ما بعث الله نبياً إلا أعلمه قدر ملكه، فالألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فذلك إحدى وسبعون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم المص. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون والميم أربعون وصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هذا أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وميم أربعون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وسبعون، لقد لبس علينا أمرك يا محمد فلا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ولعلك قد أعطيت الم والمص والر والمر، فذلك سبعمائة وأربع وستون سنة. وقتل يوم الخندق من المسلمين ستة ومن المشركين ثمانية.
    وقعة بني قريظةثم كانت وقعة بني قريظة، وهي فخذ من جذام أخوه النضير، ويقال أن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل. ثم نز
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:18 am

    فوجه إليهم سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة. فلما انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقال له: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة، وقال: عزمت عليكم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وركب حمارا له. فلما دنا منهم لقيه علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدن. فقال: أحسب أن القوم أساءوا القول، فقال: نعم يا رسول الله، فيقال إنه قال بيده هكذا وهكذا. فانفرج البجل حين رأوه، وقال: يا عبدة الطاغوت يا وجوه القردة والخنازير فعل الله بكم وفعل. فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشا. فاستحيا، فرجع القهقرى ولم يتخلف عنه من المهاجرين أحد. وأفاء عامة الأنصار فقتل من بني قريظة ثم تحصنوا فحاصرهم رسول الله أياماً حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري، فحضر سعد عليلاً، فقالوا له: قل يا أبا عمرو وأحسن. فقال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، أرضيتم بحكمي؟ قالوا: نعم. ثم قال: قد حكمت أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال رسول الله: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات. ثم قدمهم عشرة عشرة، فضرب أعناقهم. وكانت عدتهم سبعمائة وخمسين، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم وأعلم سهم ألفاًرس وسهم الراجل، فكان ألفاًرس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم ألفاًرس. وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً.
    وقعة بني المصطلقثم كانت وقعة بني المصطلق من خزاعة، لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمريسيع وهزمهم وسباهم. فكان ممن سبي في غزاته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وقتل أبوها وعمها وزوجها فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي. فكاتبها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتبتها فقضى عليها مكاتبتها وتزوجها وجعل صداقها عتقها. فلم يبق عنده من سبي بني المصطلق أحد إلا أعتقه، وتزوجوا من فيهم من النساء لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
    وفي هذه الغزاة قال أصحاب الإفك في عائشة ما قالوا، فأنزل الله، عز وجل، براءتها. وكانت تخلفت لبعض شأنها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي فصيرها على بعيره وقادها. فقال من قال فيها الإفك وجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول، وهو الذي تولى كبره، وحمنة بنت جحش. أخت زينب بنت جحش وأسلم بنو المصطلق وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبض صدقاتهم فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله، عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .
    غزوة الحديبيةثم كانت غزاة الحديبية. خرج

    رسول الله في سنة ستة يريد العمرة، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة. وساق أصحابه أيضاً وخرجوا بالسلاح، فصدته قريش عن البيت، فقال: ما خرجت أريد قتالاً وإنما أردت زيارة هذا البيت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح. فأرسلت إليه قريش مكرز بن حفص فأبى أن يكلمه، وقال: هذا رجل فاجر فبعثوا إليه الحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألهون، فلما رأى الهدي قد أكلت أوبارها رجع فقال: يا معاشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صده عن البيت. فبعثوا بعروة بن مسعود الثقفي، فكلم رسول الله، فقال له رسول الله: يا عروة أ في الله أن يصد هذا الهدي عن هذا البيت فانصرف إليهم عروة بن مسعود فقال: تالله ما رأيت مثل محمد لما جاء له. فبعثوا إليه سهيل بن عمرو فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرفقه وقال: نخليها لك من قابل ثلاثة أيام، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين، وتنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. وقال المسلمون: لا تمحها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا، وأمر علياً فكتب: باسمك اللهم، من محمد بن عبد الله، وقال: اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي. وشرطوا انهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنها حتى يدخلها بسلاح الراكب، وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمنعونه من دخول، مكة ولا يؤذي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، ووضع الكتاب على يد سهيل بن عمرو. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل، فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحر فحلق المسلمون ونحروا. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم خرج من قابل وهي عمرة القضاء فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب، وأخلتها قريش ثلاثاً وخلفوا بها حويطب بن عبد العزى، فاستلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن بمحجنة وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وخرج عنها بعد ثلاث فابتنى بميمونة بنت الحارث الهلالية زوجته بسرف، وغدرت قريش فقتلت رجلاً من خزاعة ممن دخل في شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقعة خيبرثم كانت وقعة خيبر في أول سنة سبعة ففتح حصونهم وهي ستة: حصون السلالم والقموص والنطاة والقصارة والشق والمربطة، وفيها عشرون ألف مقاتل، ففتحها حصنا حصنا، فقتل المقاتلة وسبى الذرية. وكان القموص من أشدها وأمنعها، وهو الحصن الذي كان فيه مرحب بن الحارث اليهودي. فقال رسول الله: لأدفعن الراية غدا أن شاء الله إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا ينصرف حتى يفتح الله على يده، فدفعها إلى علي فقتل مرحبا اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون.
    وقدم جعفر بن أبي طالب في ذلك اليوم من أرض الحبشة، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه ثم قال: والله ما أدري بأيهم أنا أشد سروراً، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. واصطفى صفية بنت حيي بن أخطب وأعتقها وتزوجها وقسم بين بني هاشم نساءهم ورجالهم وأوساق التمر والقمح والشعير ثم قسم بين الناس كافة. وبلغه ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب، مع عمرو بن أمية الضمري وأمره أن يدفعه إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية بن خلف وسهل بن عمرو ويفرقه ثلاثاً ثلاثاً، فامتنع صفوان بن أمية وسهل بن عمرو من أخذه، وأخذه أبو سفيان كله وفرقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيراً فإنه وصول لرحمه.

    وجاءته زينب بنت الحارث أخت مرحب بالشاة المسمومة فأخذ منها لقمة، وكلمته الذراع فقالت: إني مسمومة. وكان يأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات. فقال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله: قد أسلمت، ولي بمكة مالي، فتأذن لي أن أتكلم بشيء يطمئنون إليه لعلي أن آخذ مالي. فأذن له فخرج حتى قدم مكة فأتته قريش فقالوا: مرحبا بك يا ابن علاط، هل عندك خبر من هذا القاطع قال: نعم أن كتمتم علي، فتعاهدوا أن يكتموا عليه حتى يخرج، قال: إني والله ما جئت حتى هزم محمد وأصحابه هزيمة وحتى أخذ أسيرا. وقالوا: نقتله بسيدنا حيي بن أخطب، فاستبشروا وشربوا الخمور. وبلغ العباس والمسلمين الخبر، فاشتد جزعهم وأخذ الحجاج كل ما كان له ثم أتى العباس وأخبره بما فتح الله على نبيه وأن سهام الله قد جرت على خيبر وقتل ابن أبي الحقيق وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عروساً بابنة حيي بن أخطب ثم خرج من مكة فأصبح العباس مسرورا، فقال له أبو سفيان: تجلدا للمصيبة يا أبا الفضل فقال العباس: أن الحجاج، والله، خدعكم حتى أخذ ماله، وقد أخبرني بإسلامه وأنه ما انصرف حتى فتح الله على نبيه وقتل ابن أبي الحقيق وبات عروساً بابنة حيي بن أخطب وفتح جميع الحصون، فأعولت امرأة الحجاج واجتمع إليها نساء المشركين واشتدت كآبة المشركين وغمهم.
    فتح مكةوكانت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنانة في عقد قريش، فأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم. فجاءت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه ذلك فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه وبينهم وعزم على غزو مكة وقال: اللهم أعم الأخبار عنهم، يعني قريشاً. فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله وما اعتزم عليه فنزل جبريل فأخبره بما فعل حاطب، فوجه بعلي بن أبي طالب والزبير وقال: خذا الكتاب منها، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في شعرها، وقيل في فرجها. فأتيا به إلى رسول الله، فأسر إلى كل رئيس منهم بما أراد وأمره أن يلقاه بموضع سماه له، وأن يكتم ما قال له. فأسر إلى خزاعي بن عبد نهم أن يلقاه بمزينة بالروحاء وإلى عبد الله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسقيا وإلى قدامة بن ثمامة أن يلقاه ببني سليم بقديد وإلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني ليث بالكديد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حين صلى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثمان. وقيل لعشر مضين من رمضان، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر. ولقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم، وأمر الناس فأفطروا، وسمى الذين لم يفطروا العصاة. ودعا بماء فشربه، وتلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق.
    فلما صار بمر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الأخبار ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وهو يقول لحكيم: ما هذه النيران فقال: خزاعة أحمشتها الحرب. فقال: خزاعة أقل وأذل. وسمع صوته العباس فناداه: يا أبا حنظلة! فأجابه فقال له: يا أبا الفضل ما هذا الجمع قال: هذا رسول الله. فأردفه على بغلته ولحقه عمر بن الخطاب وقال: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. فسبقه العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعاً، فقال له رسول الله: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وجعل يمتنع من أن يقول: وإنك رسول الله، فصاح به العباس، فقال. ثم سأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شرفاً وقال إنه يحب الشرف. فقال رسول الله: من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن. وأوقفه العباس حتى رأى جند الله، فقال له: يا أبا الفضل لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً. فقال: إنه ليس بملك إنما هي النبوة. ومضى أبو سفيان مسرعاً حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر، وقال: هو اصطلام أن لم تسلموا، وقد جعل أن من دخل داري فهو آمن. فوثبوا عليه وقالوا: وما تسع دارك فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وفتح الله على نبيه وكفاه القتال.

    ودخل مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع وأحلها الله له ساعة من نهار ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحرمها، وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة، فأراد علي قتلهما، فقال رسول الله: يا علي قد أجرنا من أجارت أم هانئ، وآمنهم جميعاً إلا خمسة نفر أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وأربع نسوة وهم: عبد الله بن عبد العزى بن خطل من بني تميم الأدرم بن غالب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مع رجل من الأنصار فشد على الأنصاري فقتله وقال: لا طاعة لك ولا لمحمد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان يكتب لرسول الله فصار إلى مكة فقال أنا أقول كما يقول، محمد والله ما محمد نبي وقد كان يقول لي: اكتب عزيز حكيم، فأكتب لطيف خبير، ولو كان نبيا لعلم. فآواه عثمان وكان أخاه من الرضاع، وأتى به إلى رسول الله، فجعل يكلمه فيه ورسول الله ساكت ثم قال لأصحابه: هلا قتلتموه! فقالوا: انتظرنا أن تومئ.
    فقال: أن الأنبياء لا تقتل بالإيماء، ومقيس بن صبابة أحد بني ليث بن كنانة، وكان أخوه قتل فأخذ الدية من قاتله ثم شد عليه فقتله، والحويرث ابن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، كان ممن يؤذي رسول الله بمكة ويتناوله بالقول القبيح. والنسوة: سارة مولاة بني عبد المطلب، وكانت تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبيح، وهند بنت عتبة، وقريبة وفرتنا جاريتا ابن خطل، كانتا تغنيان في هجاء رسول الله.
    وأسلمت قريش طوعا وكرها وأخذ رسول الله مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب، فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد والملك لا شريك له، ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون قال سهيل: نظن خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن عم كريم وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، ثم قال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا وأن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، إلا أن في القتل شبه العمد الدية مغلظة والولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال: ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
    ودخل مكة بغير إحرام وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فأذن فعظم ذلك على قريش، قال عكرمة بن أبي جهل وخالد بن أسيد أن ابن رباح ينهق على الكعبة، وتكلم قوم معهما فأرسل إليهم رسول الله. فقالوا: قد قلنا، فنستغفر الله. فقال: ما أدري ما أقول لكم ولكن يحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك وإلا قدمته فضربت عنقه. وأمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت وغسلت بالماء. ودعا بعثمان بن طلحة فقال: رأيت في الكعبة قرني الكبش فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء، فصيروا في بعض الجدر. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين. وقال آخرون: أقره ونادى منادي رسول الله: من كان في بيته صنم فليكسره، فكسروا الأصنام. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء فبايعنه، وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس، ونزلت عليه سورة: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال نعيت إلى نفسي.
    وبعث رسول الله، وهو بمكة، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وهم بالغميصاء، وقد كانوا في الجاهلية أصابوا من بني المغيرة وقتلوا عوفا أبا عبد الرحمن بن عوف، فخرج عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد ورجال من بني سليم وقد كانوا قتلوا ربيعة بن مكدم في الجاهلية، فخرج جذل الطعان فقتل من بني سليم بدم ربيعة مالك بن الشريد، وبلغ جذيمة أن خالدا قد جاء ومعه بنو سليم، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح.

    فقالوا: إنا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم له فإن كان بعثك مصدقا فهذه إبلنا وغنمنا فأعد عليها. قال: ضعوا السلاح. قالوا: إنا نخاف أن تأخذنا بأحنة الجاهلية. فانصرف عنهم وأذن القوم وصلوا، فلما كان في السحر شن عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذرية، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وبعث علي بن أبي طالب فأدى إليهم ما أخذ منهم حتى العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى وبقيت معه منه بقية، فدفعها علي إليهم على أن يحللوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علم ومما لا يعلم. فقال رسول الله: لما فعلت أحب إلي من حمر النعم، ويومئذ قال لعلي: فداك أبواي. وقال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد قتل خالد القوم مسلمين، فقال خالد: إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف. فقال له عبد الرحمن: ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك ألفاًكه بن المغيرة.
    وقعة حنينثم كانت وقعة حنين، بلغ رسول الله، وهو بمكة، أن هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كثيراً ورئيسهم مالك بن عوف النصري، ومعهم دريد ابن الصمة من بني جشم، شيخ كبير يتبركون برأيه، وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة وألفان من أهل مكة ممن أسلم طوعاً وكرهاً، وأخذ من صفوان بن أمية مائة درع وقال عارية مضمونة، فأعجبت المسلمين كثرتهم، وقال بعضهم: ما نؤتى من قلة، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم، وكانت هوازن قد كمنت في الوادي، فخرجوا على المسلمين. وكان يوماً عظيم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بقي في عشرة من بني هاشم، وقيل تسعة، وهم: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وقيل أيمن بن أم أيمن.
    قال الله عز وجل: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها " ، وأبدى بعض قريش ما كان في نفسه. فقال أبو سفيان: لا تنتهي، والله هزيمتهم دون البحر، وقال كلدة بن حنبل: اليوم بطل السحر، وقال شيبة بن عثمان: اليوم أقتل محمداً، فأراد رسول الله

    ليقتله فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحربة منه فأشعرها فؤاده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: صح يا للأنصار، وصح يا أهل بيعة الرضوان، صح يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب السمرة. ثم انفض الناس وفتح الله على نبيه وأيده بجنود من الملائكة، ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله، وكانت الهزيمة، وقتل من هوازن خلق عظيم، وسبي منها سبايا كثيرة، وبلغت عدتهم ألف فارس وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة سوى الأسلاب، وقتل دريد بن الصمة فأعظم الناس ذلك، فقال رسول الله: إلى النار وبئس المصير! إمام من أئمة الكفر أن لم يكن يعين بيده فإنه يعين برأيه. قتله رجل من بني سليم وقتل ذو الخمار سبيع بن الحارث، فقال رسول الله: أبعده الله إنه كان يبغض قريشا. وصارت السبايا والأموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، وكان جميع من استشهد أربعة نفر. وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال: ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك. فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن، فقال رسول الله: اللهم نوه سهميهما، فخرج لهما عجوز وكلمته في مالك بن عوف النصري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء مالك فأسلم. ووجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار الطائف وأعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن وأعطى اثني عشر رجلاً مائة مائة من الإبل، وهم: أبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري والحارث بن هشام بن المغيرة وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية بن خلف وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة ومالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري والأقرع ابن حابس، وأعطى الباقين ما دون ذلك. وسألته الأنصار ودخلها غضاضة، فقال رسول الله: إني أعطي قوما تألفا وأكلكم إلى أيمانكم. وتكلم بعضهم فقال: قاتل بنا محمد حتى إذا ظهر أمره وظفر أتى قومه وتركنا. فأسقط الله سهمهم وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ووجه بعلي بن أبي طالب فلقي نافع بن غيلان ابن سلمة بن معتب في خيل من ثقيف فقتله، وانهزم أصحابه. وحصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وعشرين يوماً، ونزل إليه أربعون رجلاً. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع الكروم، فكلموه فتركها وأمر ألا تقطع. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا سفيان بن حرب على حصار الطائف ووجه علياً لكسر الأصنام فكسرها.
    غزاة مؤتةووجه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشام لقتال الروم سنة ثمان، وروى بعضهم أنه قال: أمير الجيش زيد بن حارثة فإن قتل زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون من أحبوا. وقيل: بل كان جعفر المقدم ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة، وصار إلى موضع يقال له مؤتة، من الشام من البلقاء من أرض دمشق، فأخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى فقطعت يده اليسرى ثم ضرب وسطه، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، فرفع لرسول الله كل خفض، وخفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم وقال: رأيت سرير جعفر المقدم فقلت: يا جبريل إني كنت قدمت زيداً. فقال: إن الله قدم جعفرا لقرابتك. ونعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما من الجنة حيث يشاء، واشتد جزعه وقال: على جعفر فلتبك البواكي، وتأمر خالد بن الوليد على الجيش.
    قالت أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت امرأة جعفر وأم ولده جميعاً: دخل على رسول الله، ويدي في عجين، فقال: يا أسماء أين ولدك؟ فأتيته بعبد الله ومحمد وعون، فأجلسهم جميعاً

    في حجره وضمهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه. فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله لم تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام لعله بلغك عن جعفر شيء فغلبته العبرة وقال: رحم الله جعفرا فصحت: وا ويلاه وا سيداه فقال: لا تدعي بويل ولا حرب، وكل ما قلت فأنت صادقة. فصحت: وا جعفراه وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله، فجاءت وهي تصيح: وا بن عماه فخرج رسول الله يجر رداءه، ما يملك عبرته، وهو يقول: على جعفر فلتبك البواكي، ثم قال يا فاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاما فإنهم في شغل، فصنعت لهم طعاما ثلاثة أيام، فصارت سنة في بني هاشم.
    الغزوات التي لم يكن فيها قتالوكانت غزوات فيما بين ذلك لم يكن فيها قتال. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فلا يلقى كيداًوينصرف، وإنما قدمنا ما كان فيها القتال على التي لا قتال. فيها لنفرد الغزوات التي لم يكن فيها قتال غزاة الأبواء: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ودان فرجع ولم يلق كيداً. وغزاة بواط: مثل ذلك وغزاة ذي العشيرة: من بطن ينبع وادع بها بني مدلج وحلفاء لهم من بني ضمرة وكتب بينهم كتابا، والذي قام بذلك بينهم مخشي بن عمرو الضمري.
    وغزاة قرقرة الكدر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب مكدر بن جابر الفهري، ويقال كرز بن جابر، حين كان أغار على سرح المدينة، وذلك أن أبا سفيان ضاف سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فقرأه وسقاه خمراً ثم خرج من تحت ليلته حتى مر بمكان يقال له العريض، فوجد بها رجلين من الأنصار في صور لهما من النخل فقتلهما وانصرف إلى مكة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبلغ قرقرة الكدر ولم يلق كيداً وانصرف.
    وغزاة حمراء الأسد: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غد يوم أحد، وقد ذكرناها مع خبر أحد.
    وغزاة بدر الصغرى: وهي بدر الموعد، لميعاد أبي سفيان بن حرب. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان في السنة الرابعة فأقام عليها ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، ووافق السوق وكانت عظيمة، فتسوق المسلمون فربحوا ربحا حسنا، وقال المنافقون للمؤمنين حين خرجوا لميعاد أبي سفيان: قد قتلوكم عند بيوتكم، فكيف إذا أتيتموهم في بلادهم وقد جمعوا لكم، والله لا ترجعون أبدا، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداًوخلفهم أبو سفيان وقال: هذا عام جدب ولا يصلحكم يا معشر قريش إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإني راجع، فرجعوا بعد أن كان قد بلغ مر الظهران.
    وغزاة تبوك سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثير إلى تبوك: من أرض الشام يطلب بدم جعفر بن أبي طالب: ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة جهد المقل. فأتاه البكاؤون يستحملونه، وهم: هرمي بن عبد الله من بني عمرو بن عوف وسالم بن عمير وعمرو بن الحمام وعبد الرحمن بن كعب وصخر بن سلمان. فقال ما أجد ما أحملكم عليه. وأتاه قوم من الأغنياء فاستأذنوه وقالوا: دعنا نكن مع من تخلف. فقال الله تعالى: " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " وهم: الجد بن قيس ومجمع بن جارية وخدام بن خالد. فأذن لهم رسول الله، فقال الله، عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " .
    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة رجب سنة تسع واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين وطلحة على الميمنة وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة

    وخرج النساء والصبيان يودعونه عند الثنية، فسماها ثنية الوداع. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس عطش شديد، فقالوا يا رسول الله لو دعوت الله لسقانا، فدعا الله فسقاهم. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك في شعبان فأتاه يحنه بن رؤبة أسقف أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له كتاباً، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس له أصحاب العقبة لينفروا به ناقته، فقال لحذيفة: نحهم وقل لهم: لتنحن أو لأدعونكم بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم، فصاح بهم حذيفة. وكان خروجه في رجب وانصرف في شهر رمضان وكان حذيفة يقول: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
    الأمراء على السرايا والجيوشووجه رسول الله على السرايا والجيوش الأمراء وعقد لهم الألوية والرايات. فأول ذلك حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر وقيل: أن أولهم عبيدة بن الحارث بن المطلب على سرية إلى ثنية المرة في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد. فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي به جمعاً عظيماً من قريش فلم يكن منهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، وكان أول سهم رمي في الإسلام، ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وجاء المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة وعتبة بن غزوان بن جابر الحارثي حليف بني نوفل، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا فتوصلا بالكفار، وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل. وسعد بن أبي وقاص على سرية الخرار وهو ماء من الجحفة. فأصاب نعما لبني ضمرة، فأرسلوا إلى رسول الله فردها بالحلف الذي بينهم وبينه.
    وحمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعاً، وانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن قتال: وعبد الله بن جحش بن رئاب على سرية إلى نخلة في ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ينظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف لترصد بها قريشاً وتعلم أخبارها. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، فلما نزل نخلة مرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي فقاتلوه فأسروا منهم رجلين، فكانا أول أسير من المشركين، وأفلت القوم وأخذوا ما كان معهم، فعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير وقسم سائرها لأصحابه، فكان أول خمس قسم في الإسلام. ووجه مرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى جمع وذلك أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من العضل وديش، وهما حيان من الهون بن خزيمة، فقالا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فينا إسلاماً فابعث معنا أصحابك يفقهوننا ويقرئوننا القرآن. فبعث فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن البكير حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح العمري وزيد بن دثنة البياضي وعبد الله بن طارق الظفري وخبيب بن عدي العمري، فلما كانوا على ماء يقال له الرجيع لهذيل خرج بعض الناس حتى انتهى إلى هذيل، فقال: أن هاهنا نفرا من أصحاب محمد، هل لكم أن نأخذهم ونسلبهم ونبيعهم من قريش؟ فما راع المسلمين إلا الرجال بأيديهم السيوف. فقالوا: استأسروا فلكم العهد والعقد ولا نقتلكم ولكن نبيعكم من قريش. فنادى مرثد، وهو أمير القوم، وعاصم وخالد فصاحوا بالقوم وسلوا سيوفهم وتهيئوا للقتال، وأما خبيب وعبد الله وزيد فلانوا وأعطوا بأيديهم فقاتل أصحابهم قتالاً شديداً وقتل. مرثد وخالد بن البكير وقاتل عاصم بن ثابت حتى قتل.

    وزيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى قردة. لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر الصغرى، ميعاد أبي سفيان، هابت قريش أن يأخذوا طريقهم إلى الشام على بدر، فتركوا ذلك الطريق وسلكوا طريق العراق، فخرج أبو سفيان وأبو العاص بن الربيع في عير قريش في مال كثير إلى الشام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم وما فيها. وخرج القوم هاربين: أبو سفيان وأصحابه، فسبقوهم، فقدم زيد بذلك المال وأسر معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان، وقيل إنه قدم به. وأقبل أبو العاص بن الربيع حتى دخل المدينة فاستجار بزينب ابنة رسول الله، فلما صلى رسول الله الغداة نادت زينب، إلا إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله حين انصرف: أسمعتم؟ قالوا: نعم! قال: قد أجرت، من أجارت، أن أدنى المؤمنين يجير على أقصاهم. وقام فدخل عليهما فقال: لا يفوتنك، أكرمي مثواه. ورد عليه ما أخذ له، فرجع إلى مكة فرد إلى كل ذي حق حقه ثم أسلم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بالنكاح الأول.
    وأيضاً زيد بن حارثة على سرية إلى الجحوم أو الجموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا في تلك المحلة نعما وأسارى. وكان في أولئك الأسارى زوج حليمة. فلما قفل بها وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية زوجها ونفسها.
    ومرة أخرى لزيد على جيش إلى جذام. وكان ابن خليفة الكلبي لما انصرف من عند قيصر مر بأرض جذام فأغار عليه الهنيد بن عارض الجذامي فسلبه ما كان معه، وأدركه نفر من المسلمين فاستنقذوا ما أخذ منه فدفعوه إلى دحية. فوجه رسول الله زيد بن حارثة فسبى وقتل وأخذ الهنيد وابنه فضرب أعناقهما. ووجه أيضاً زيداً على جيش إلى وادي القرى، وكانت أم قرفة ابنة ربيعة ابن بدر قد زوجها مالك بن حذيفة بن بدر، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين رجلاً من بطنها وقالت: ادخلوا عليه المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في خيل فلقيهم بوادي القرى فهزم أصحابه وارتث زيد من القتلى، فحلف ألا يغسل ولا يدهن حتى يغزوهم. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث به إليهم، فبعثه في خيل عظيمة فالتقوا بوادي القرى فاقتتلوا قتالاً شديدا فهزمت بنو فزارة وقتلوا وسبيت يومئذ أم قرفة فقتلها قتلاً عنيفاً، شقها بين بكرين. وأما ابنتها فوقعت في سهم قيس بن المحسر فاستوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه لخاله حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فولدت عبد الرحمن بن حزن.
    ومرة على جيش الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ولم يكن بينهم قتال.

    والمنذر بن عمرو الأنصاري على سرية إلى بئر معونة. وذلك أن أسد بن معونة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية من قبل عمه أبي براء بن مالك ملاعب الأسنة، وأهدى له فرسين ونجائب، وكان صديقا للنبي. فقال رسول الله: والله لا أقبل هدية مشرك. فقال لبيد بن ربيعة: ما كنت أرى أن رجلاً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال: لو كنت قابلاً من مشرك هدية لقبلتها منه. قال: فإنه يستشفيك من دبيلة في بطنة قد غلبت عليه. فتناول رسول الله جبوبة من تراب فأمرها على لسانه ثم دفها بماء ثم سقاه إياه، فكأنما انشط من عقال. وكان أبو براء سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه بنفر من أصحابه ليفقهوهم في الدين ويبصروهم شرائع الإسلام، فقال رسول الله: إني أخاف أن يقتلهم بنو عامر، فأرسل أبو براء انهم في جواري. فبعث إليه المنذر بن عمرو ونفرا من أصحابه في تسعة وعشرين عامتهم بدري. فأغار عليهم عامر بن الطفيل وتابعه ثلاثة أحياء من بني سليم رعل وذكوان وعصية فلذلك لعنهم رسول الله، وأقبل عامر إلى حرام بن ملحان، وهو يقرأ كتاب رسول الله، فطعنه بالرمح. فقال: الله أكبر فزت بالجنة. واقتتل القوم قتالاً شديدا وكثرتهم بنو سليم، فقتلوا من عند آخرهم ما خلا المنذر بن عمرو فإنه قال لهم: دعوني أصلي على أخي حرام ابن ملحان. قالوا: نعم. فصلى عليه ثم أخذ سيفا وأعنق نحوهم فقاتلهم حتى قتل. وقال الحارث بن الصمة: ما كنت لأرغب بنفسي عن سبيل مضى فيه المنذر، والله لأذهبن فلئن ظفر لأظفرن ولئن قتل لأقتلن. فذهب فقتل وأعتق عامر بن الطفيل أسعد بن زيد الديناري عن رقبة كانت على أمه.
    وبعث جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى البلقاء من أرض الشام فأصيبوا بمؤتة، وقد قدمنا ذكرهم قبل هذا الموضع.
    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني مدلج وهم حلفاؤه وهم الذين قال الله فيهم: أو جاءوكم حصرت صدورهم فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك، ولم يجيبوه، فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال: أن لهم سيداً أديبا لن يأخذ إلا خيرة أمره، وإنهم إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا، رب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله.
    وبعث نميلة بن عبد الله الليثي إلى بني ضمرة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قالوا لا نحاربه ولا نسالمه ولا نصدقه ولا نكذبه. فقال الناس: يا رسول الله أغزهم. فقال: دعوهم فإن فيهم عددا وسوددا، ورب شيخ صالح من بني ضمرة غاز في سبيل الله.
    وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فرجع فقال: يا رسول الله أدركتهم فلولا وجثتهم حلولا، دعوتهم إلى الله ورسوله فأبوا أشد الإباء. فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال رسول الله: دعوا بني الديل، إياكم! إلا أن سيدهم قد صلى وأسلم فيقول: أسلم، فيقولون: نعم.
    وبعث رسول الله عبد الله بن سهيل بن عمرو العامري إلى بني معيص ومحارب ابن فهر ومن يليهم من السواحل في خمسمائة، فلقيهم على المدثراً. فلما واقعهم دعاهم إلى الإسلام، فجاء معه نفر فقال رسول الله: ها قطيعة الأيمان كجذع النخل حلو أوله حلو آخره.
    وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جيش إلى ذات القصة، وكان بها قوم من محارب وثعلبة وأنمار. فخرج أبو عبيدة وأصحابه يسيرون ليلتهم حتى أصبحوا. فلما أبصر القوم بهم هربوا وخلفوا إبلهم فغنموا الأموال وأخذوا رجلاً واحداً فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الخمس وفرق الباقي على أصحاب السرية، وأسلم الرجل فتركه.

    وعمر بن الخطاب على جيش إلى زبية قريبة من الطائف فلم يلق كيدا. وعلي بن أبي طالب على جيش إلى فدك. وبلغ رسول الله أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار علي بن أبي طالب الليل وكمن النهار حتى صبحهم فقتلهم. وأبا العوجاء السلمي على سرية، فاستشهد كل من كان في السرية فلم ينصرف منهم أحد. وعكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي أسد بن خزيمة، على سرية إلى الغمرة. وأبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال المخزومي إلى قطن. ومحمد بن مسلمة الأنصاري أخا بني حارثة على جيش إلى القرطاء من هوازن. وبشير بن سعد الأنصاري على سرية إلى فدك فأصيب أصحابه جميعاً ولم يرجع منهم أحد. ثم بعث إليهم غالب بن عبد الله الملوحي، فجاء بمرداس ابن نهيك الفدكي. ومرة أخرى إلى صروحان من أرض خيبر. وعبد الله بن رواحة الأنصاري على سرية إلى خيبر مرتين، أحداًهما إلى أصحاب اليسير بن رزام اليهودي وأصحابه، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله.
    وعبد الله بن أنيس الأنصاري إلى خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لرسول الله الناس ليغزوه، فقتله، ويقال لم تكن سرية إنما كان وحده.
    وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على جيش إلى بلعنبر فأصابهم وهم خلوف، فجاء بسباياهم فطرحهم في المسجد. فركب إليه رجالاتهم، فلما دخلوا المسجد صاحوا: يا محمد اخرج إلينا. وكان فيهم بسامة بن الأعور وسمرة ابن عمرو، قال الله، عز وجل: ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم فخرج إليهم رسول الله، فسألوه وطلبوا إليه أن يحكم سمرة بن عمرو وأن يهب لهم ثلاثاً ويؤخر ثلاثاً ويأخذ ثلاثا، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن يعتق من ولد إسماعيل فليعتق من هؤلاء.
    وكعب بن عمير الأنصاري على سرية إلى ذات أطلاح، ويقال ذات أباطح، فاستشهدوا جميعاً ولم يرجع من السرية أحد. وبعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش إلى ذات السلاسل من أرض الشام، وبها ناس من بني عذرة وبلى وقبائل من اليمن، وكان معه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وأعطاه مالا وقال: استنفر من قدرت عليه. فلما شارف القوم نهاهم ألا يوقدوا نارا فشق ذلك على المسلمين لشدة القر، فقال: قد أمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا. فكلموا أبا بكر في ذلك فأتى عمرا فلم يأذن له. فصاح به أبو بكر: يا ابن بياعة العباء اخرج إلي، فأبى. قال: يا ابن دباغة القرظ اخرج إلي، فأبى. فلما كان في السحر أغار بهم فأصاب وظفر، فقال لأبي بكر: كيف رأيت رأي ابن بياعة العباء؟ وصلى عمرو بن العاص بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أبو عبيدة بن الجراح، فقال عمرو: يا رسول الله كان البرد شديداً ولو اغتسلت لمت، فضحك رسول الله.
    وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي على سرية إلى أضم، فلقي عامر بن الأضبط الأشجعي، فحمل عليه محلم بن جثامة بن قيس فطعنه فخاصمه عيينة ابن حصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته فعجل نصفاً وأخر نصفاً. فقام إليه محلم بن قيس فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي. قال: قتلت مسلماً، لعنك الله! فما لبث بعدها إلا خمساً حتى مات.
    وعبد الرحمن بن عوف على سرية إلى كلب، وعممه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة سوداء وأسدلها بين يديه ومن خلفه وقال: هكذا فاعتم فإنه أشبه وأعرف، وأمره أن فتح الله عليه أن يزوجه ابنة سيدهم، ففتح الله عليه فتزوج تماضر بنت الأصبغ التي صولحت عن ربع الثمن عن ثمانين ألف دينار.
    وأمر علي بن أبي طالب حين خرج إلى تبوك... وكان المهاجر بن أبي أمية أميره على صنعاء وزياد بن لبيد البياضي على حضرموت وصدقاتها وعدي بن حاتم على صدقات طيء ومالك بن نويرة اليربوعي على صدقات حنظلة والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات بني سعد وعلي ابن أبي طالب إلى أهل نجران بجمع صدقاتهم وأخذ جزيتهم وخالد بن الوليد على سرية إلى دومة الجندل وعتاب بن أسيد بن أبي أمية على مكة وأبو سفيان ابن حرب على نجران ويزيد بن أبي سفيان على تيماء وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صنعاء، فقبض النبي وهو عليها، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى عربية وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الخط بالبحرين والوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق. وكذب عليهم وقد

    جئنا بحديثه في غزاة بني المصطلق، والعلاء حليف سعيد بن العاص على الغطيف بالبحرين ومعيقيب ابن أبي فاطمة الدوسي على الغنائم وأبو رنم الغفاري أميره على المدينة حين غزا خيبر، ويقال أبو رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وأبو رهم الغفاري أيضاً على المدينة في غزاة الفتح وأميره على الموسم، والناس بعد على الشرك، عتاب بن أسيد، فوقف عتاب بالمسلمين ووقف المشركون على حدتهم، وأبو بكر أميره على الموسم في سنة تسع وبعض الناس مشركون، فوقف أبو بكر بالمسلمين ووقف المشركون ناحية على مواقفهم.
    وفي تلك السنة وجه علي بن أبي طالب بسورة براءة فأخذها من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل نزل في شيء؟ فقال: لا، ولكن جبريل قال لي: لا يبلغ هذا إلا أنت أو رجل من أهلك. فقرأها على أهل مكة، ويقال قرأها على سقاية زمزم. وأمن فنادى أن من كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأجيله أربعة أشهر فهو على عهده ومن لم يكن له عنده عهد فقد أجله خمسين ليلة. وأميره على صلاة وفد ثقيف عثمان بن أبي العاص الثقفي ومعاذ بن جبل على بعض اليمن وعلى المقاسم يوم بدر محمية بن جزء بن عبد يغوث الزبيدي حليف بني جمح وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش إلى ناحية الشام، فأنفذه أبو بكر بعد وفاة رسول الله. وكان أبو بكر وعمر في الجيش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرايا والجيوش قال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً.
    ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك آثام المجوس.
    وكتب إليه كسرى كتاباً جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكاً، فلما دفعه الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمه وناوله أصحابه، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلن في أمري أو لآتينك بنفسي ومن معي وأمر الله أسرع من ذلك. فأما كتابك فأنا أعلم به منك، فيه كذا وكذا، ولم يفتحه ولم يقرأه. ورجع الرسول إلى كسرى فأخبره، وقد قيل إن كسرى لما وصل إليه الكتاب وكان... راع أدم قده شتورا، فقال رسول الله: يمزق الله ملكهم كل ممزق.
    ووجه دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام فأسلم تسلم، ويؤتك الله أجرك مرتين، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.
    فكتب، هرقل: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم.
    ووجه عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وشجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي من بني تميم بالبحرين وعمار بن ياسر إلى الأيهم بن النعمان الغساني وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري إلى ابني هوذة بن علي الحنفي باليمامة والمهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال الحميري وخالد بن الوليد إلى الديان وبني قنان وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندا إلى عمان، وكتب إليهم

    جميعا بمثل ما كتب به إلى كسرى وقيصر، وسليم بن عمرو الأنصاري إلى حضرموت.
    وبعث قوماً من أصحابه في قتل قوم من المشركين. فوجه عمرو بن أمية الضمري بقتل أبي سفيان بن حرب فلم يقتله. وبعث محمد بن مسلمة وأبا نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر وأبا عبس بن جبر والحارث بن أوس في قتل كعب بن الأشرف اليهودي فقتلوه في النضير. وبعث عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام اليهودي الخيبري فقتله. وبعث عبد الله بن عتيك وأبا قتادة ابن ربعي وخزاعي بن الأسود ومسعود بن سنان وابن عتيك أميرهم في قتل سلام بن أبي الحقيق فقتلوه بخيبر. وبعث في قتل ابن أبي حدعة وقال للموجه: أن أصبته حياً فاقتله وأحرقه بالنار، فأصابه قد لسعته حية فمات. وبعث عبد الله بن أبي حدرد في قتل رفاعة بن قيس الجشمي فقتله، وبعث علي بن أبي طالب في قتل معاوية بن
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:19 am

    وقدم عليه أهل نجران ورئيسهم أبو حارثة الأسقف، ومعه العاقب والسيد وعبد المسيح وكوز وقيس والأيهم، فوردوا على رسول الله. فلما دخلوا أظهروا الديباج والصلب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد. فقال رسول الله: دعوهم، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدارسوه يومهم وساءلوه ما شاء الله. فقال أبو حارثة: يا محمد! ما تقول في المسيح؟ قال: هو عبد الله ورسوله. فقال: تعالى الله عما قلت، يا أبا القاسم هو كذا وكذا. ونزل فيهم: " أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " . فرضوا بالمباهلة، فلما أصبحوا قال أبو حارثة: انظروا من جاء معه. وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب بين يديه وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة. فقال أبو حارثة: من هؤلاء معه؟ قالوا: هذا ابن عمه وهذه ابنته وهذان ابناها. فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ثم ركع. فقال أبو حارثة: جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة.
    فقال له السيد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: إني أرى رجلاً حريا على المباهلة وإني أخاف أن يكون صادقاً فإن كان صادقاً لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام. قال أبو حارثة: يا أبا القاسم لا نباهلك ولكنا نعطيك الجزية. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة من حلل الأواقي، قيمة كل حلة أربعون درهماً فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي محمد رسول الله لنجران وحاشيتها إذا كان له عليهم حكمه في كل بيضاء وصفراء وثمرة ورقيق كان أفضل ذلك كله لهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو فقص فعلي هذا الحساب ألف في صفر وألف في رجب، وعليهم ثلاثون دينارا مثواه رسلي شهراً فما فوق. وعليهم في كل حرب كانت باليمن دروع عارية مضمونة لهم بذلك جوار الله وذمة محمد فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. فقال العاقب: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف أن تأخذنا بجناية غيرنا. قال فكتب: ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وكتب علي بن أبي طالب. فلما قدموا نجران أسلم الأيهم وأقبل مسلماً.
    أزواج رسول اللهوتزوج إحدى وعشرين امرأة، وقيل ثلاثاً وعشرين. دخل ببعضهن وطلق بعضا ولم يدخل ببعض، واللاتي دخل بهن: أولهن خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وولدت أولاده، أجمعين خلا إبراهيم، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي، تزوجها بمكة. ثم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، تزوجها بمكة ودخل بها بالمدينة. ثم غزية بنت دودان بن عوف بن جابر بن ضباب من بني عامر بن لؤي، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنبي. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب. ثم بنت نفيل بن عبد العزى العبدوي. ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، ولم يمت من نسائه عنده غيرها وغير خديجة. ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. ثم زينب بنت جحش بن رئاب بن قيس بن يعمر بن صبرة من بني أسد ابن خزيمة. ثم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ثم جويرية واسمها برة بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية من خزاعة. ثم صفية بنت حيي بن أخطب من بني النجار من سبط هارون النبي. ثم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالي.
    ثم مارية أم إبراهيم، هؤلاء اللاتي دخل بهن، طلق منهن أم شريك، وأرجأ منهن سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة. والنسوة اللاتي لم يدخل بهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة الثعلبية، هلكت في الطريق قبل وصولها إليه. وشراف أخت

    دحية بن خليفة الكلبي، حملت إليه فهلكت قبل دخولها عليه. وسنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة السلمي، ماتت قبل أن يصل إليها. وريحانة بنت شمعون القريظية عرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبت إلا اليهودية فعزلها ثم أسلمت بعد، فعرض عليها التزويج فأجابت وضرب الحجاب، فقالت: بل تتركني في ملكك، يا رسول الله. فلم تزل في ملكه حتى قبض. وأسماء بنت النعمان الكندي، من بني آكل المرار، كانت من أجمل نسائه وأتمهن فقال لها نساؤه: أن أردت أن تحظي عنده فتعوذى بالله إذا دخلت عليه. فلما دخل وأرخى الستر، قالت: أعوذ بالله منك! فصرف وجهه عنها. ثم قال: أمن عائذ الله! الحقي بأهلك. فخلف على أسماء بنت النعمان الكندي المهاجر بن أمية المخزومي ثم خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادي. وقتيلة بنت قيس بن معديكرب، وهي أخت الأشعث بن قيس بن فلان، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجها إليه من اليمن، فخلف عليها عكرمة بن أبي جهل. وعمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس الكلابي، بلغه أن بها بياضاً فطلقها ولم يدخل بها. والعالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابي، طلقها.
    والجونية امرأة من كندة وليست بأسماء، كان أبو أسيد الساعدي قدم بها عليه، فوليت عائشة وحفصة مشطها وإصلاح أمرها، فقالت أحداًهما لها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها ومد يده إليها أن قالت: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك فوضع يده على وجهه واستتر بها وقال: عذت، فعاذت ثلاث مرات. ثم خرج وأمر أبا أسيد الساعدي أن يمتعها برازقيتين ويلحقها بأهلها، فزعموا أنها ماتت كمداً. وليلى بنت الحطيم الأوسي أتته وهو غافل فحطأت منكبه. فقال: من هذا أكله الأسود؟ قالت: أنا بنت الحطيم، وأبي مطعم الطير، وقد جئتك أعرض نفسي عليك. قال: قد قبلتك. فأتت نساءها فقلن لها: بئس ما صنعت! أنت امرأة غيور ورسول الله كثير الضرائر، إنا نخاف أن تغاري فيدعو عليك فتهلكي، استقيليه، فأتته فاستقالته، فأقالها، ودخلت حائطا من حيطان المدينة فأكلها الأسود. وصفية بنت بشامة العنبرية، عرض عليها المقام عنده أو ردها إلى أهلها فاختارت أهلها فردها. وضباعة بنت عامر القيسية، كانت عند عبد الله بن جدعان فطلقها ثم تزوجها هشام بن المغيرة فأولدها سلمة، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمة، فقال: أستأمرها. فقالت: أفي رسول الله؟ قد رضيت. فبلغه عنها كبر، فأمسك عنها.
    مولد إبراهيم ابن رسول اللهوولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه مارية القبطية في ذي الحجة سنة ثمان. ولما ولد هبط جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم! وتنافست فيه نساء الأنصار أيهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد من بني النجار، وعق رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش. وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي رافع، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فوهب له عبدا. وغارت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهن حيث رزق منها ولدا فروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ومعه ابنه إبراهيم يحمله، فقال: انظري إلى شبهه بي. قالت عائشة: أرى شبهها. قال: أما ترين بياضة ولحمه؟ قالت: من قصر عليه اللقاح ابيض وسمن. وتوفي إبراهيم في سنة عشرة وله سنة وعشرة أشهر، وكسفت الشمس ساعتين من النهار، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. وقال رسول الله: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى مساجدكم. وقال: أن العين تدمع والقلب يخشع وأنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولكنا لا نقول ما يسخط الرب.
    وأعتق جماعة عبيداً وإماء منهم: زيد بن حارثة بن شراحيل وأسامة بن زيد وأبو رافع، قبطى أهداه له المقوقس، وأنسه، وكان حبشياً، وأبو كبشه، وكان فارسياً، وأبو لبابة وأبو لقيط وأبو أيمن وأبو هند ورافع وسفينة وثوبان وصالح، وهو شقران، وأم أيمن حبشية كان أبو طالب خلفها عليه واسمها بركة، ويقال خضرة، ويقال إنه ورثها عن أبيه وكان يسمي كل شيء لها.

    وكان رسم رايته العقاب وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدم وسيف يقال له الرسوب وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار. وقد روي أن جبريل نزل به من السماء فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبرا وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة وفيه حلقتان فضة ورمحه المثوى حربته العنزة، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور ونبله المتصلة وترسه الزلوق ومغفره السبوع ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان وفرسه السكب وفرس آخر المرتجز وفرس آخر السجل وفرس آخر البحر. وأجرى الخيل فجاء فرسه سابقا فجثا على ركبتيه وقال: ما هو إلا البحر، وكان يقول: الخيل في نواصيها الخير. وكانت له ناقة يقال لها القصوى وناقة يقال لها العضباء وناقة يقال لها الجذعاء. وسابق بالإبل فجاءت ناقته العضباء سابقة، وعليها أسامة بن زيد. فقال الناس: سبق رسول الله. فقال رسول الله: سبق أسامة. وكانت بغلته الشهباء يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس وبغلة أخرى طويلة مرتفعة يقال لها الأبلية. وحماره اليعفور. وكانت له شاة يشرب من لبنها يقال لها غيثه. وقدح يقال له الريان وقدح يقال له العير. وقضيب يقال له الممشوق. وجبة يقال لها الكن. وعمامة سوداء يقال لها السحاب. وذكر أبو البختري أنه كان له منطقة من أديم مبشورة، فيها إبزيم وثلاث حلقات كالفلك من فضة، فإنه كان يلبس برود الحبر أزرا أو أردية البيضاء والقلنسوة الحبر والجبة السندس الخضراء وليس بالذي عن عن لبسهما فما لبس الصوف حتى قبضه الله إليه. وكان له فراش أدم وكان يلبس الملحفة المصبوغة بالزعفران والورس ويلبس الإزار الواحد يعقده بين كتفيه. وكان يتطيب حتى يصبغ الطيب رداءه من موضع رأسه وحتى يرى وميض المسك من مفرقه وحتى يعرف مجيئه بطيب رائحته من بعيد قبل أن يرى. وكان يقول: أطيب الطيب المسك. وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب منه. وكان إذا أراد الخروج من منزله امتشط وسوى جمته وأصلح شعره. وكان يقول: أن الله يحب من عبده أن يكون له حسن الهيئة. ويروي أنه كان يلبس البرنس والشملة وكان له ثوبان.
    وكان يلبس الخاتم ويصير فضة فصه مما يلي الكف ويلبسه في اليد اليمنى واليد اليسرى ويضعه في إصبعه الوسطى في المفصل ويديره في أصابع يده.
    خطب رسول الله ومواعظهوتأديبه بالأخلاق الشريفة وكان يخطب أصحابه ويعظهم ويعلمهم محاسن الأخلاق ومكارم الأفعالي. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: أيها الناس أن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وأن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وأن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى ولا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لأخرته: في الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
    وخطب يوماً فقال في خطبته: أن الله ليس بينه وبين أحد قرابة يعطيه بها خيراً ولا حق يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه. أن الله، تبارك وتعالى، على أرادته ولو كره الخلق ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. تعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله أن الله شديد العقاب.
    وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: طوبى لعبد طاب كسبه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وأنفق الفضل من ماله، وترك الفضول من قوله، وكف عن الناس شره وأنصفهم من نفسه، إنه من عرف الله خاف الله ومن خاف الله شحت نفسه عن الدنيا.

    وخطب يوماً فقال في خطبته: اذكروا الموت فإنه آخذ بنواصيكم، أن فررتم منه أدرككم وأن أقمتم أخذكم... لا خير بعده أبدا، وفرقة لا ألفة بعدها، وأن العبد لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن إمامه من هو؟ قال الله، عز وجل: يوم ندعو كل أناس بإمامهم إلى آخر الآية. وقال: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به كتبه الله شاكرا وصابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسفه على ما فضله الله لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً. وقال: من أعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدنا صابراً وزوجة صالحة فقد أعطي الدنيا والآخرة. وقال: الرغبة في الدنيا تورث الهم والحزن، والزهد فيها يريح القلب والبدن. وقال: السعادة في اثنتين الطاعة والتقوى. وقال: يقول الله، عز وجل: حسب عندي المؤمن حقيقة إيمانه في ضميره وصدق ورع نيته حتى أجعل نومه عملا وصمته ذكراً. وقال: من أتى الناس بما يحبون وبارز الله بما يكره لقي الله وهو عليه غضبان آسف. وقال: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاة أمركم، ويكره لكم قالا وقيلا، ويكره السؤال وإضاعة المال. وقال: يقول ابن آدم مالي! مالي! وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت.
    وقال: الدنيا حلوة خضرة، والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون. وقال: أن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون.
    وقال له رجل: أوصني يا رسول الله. فقال: أكثر ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر تزد في النعمة، وأكثر الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وإياك والبغي فإن الله، عز وجل، قضى أن ينصر من بغى عليه، وإياك والمكر فإن الله قضى ألا يحيق المكر السيء إلا بأهله. وقيل له: أي الأعمال أفضل؟ فقال: اجتناب المحارم وألا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، عز وجل، قيل: فأي الأصحاب أفضل؟ قال: الذي إذا نسيت ذكرك وإذا دعوت أعانك. قيل: أي الناس شر؟ قال: العلماء إذا فسدوا.
    وقال: إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل الذي اتقي شره فانتظروا البلاء. وقال: من ذب عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقيقا على الله، عز وجل، أن يحرم لحمه على النار. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت، أنت تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت تريد لنفسك ما تريد، وبقوتي أديت فريضتي، وبنعمتي قويت على معصيتي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني بذلك، وإني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون " .
    وقال: أن الله فرض على الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقاً على الله أن يحاسب أغنياءهم ويكبهم في نار جهنم على وجوههم. وقال: يقول الله، عز وجل: إني لم أغن الغني لكرامة به علي، ولكنه مما ابتليت به الأغنياء، ولو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة. وقال: أربع من أتى الله، عز وجل، بواحدة منهن وجبت له الجنة: من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا جائعة أو كسا جلدة عارية أو أعتق رقبة عانية.
    وقال: كل عين ساهرة يوم القيامة إلا ثلاث عيون: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله. وقال: يقول الله، عز وجل: عبدي إذا صليت ما إفترضت عليك فأنت أعبد الناس، فإذا قنعت بما رزقتك فأنت أغنى الناس. وجمع بني عبد المطلب فقال: يا بني عبد المطلب أفشوا الإسلام وصلوا الأرحام وتهجدوا والناس نيام وأطعموا الطعام وأطيبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام.
    وقال: أربعة من كنوز البر: كتمان الحاجة وكتمان الصدقة وكتمان الوجع وكتمان المصيبة. وقال: أقربكم مني غدا في الموقف أصدقكم في الحديث وآداكم للأمانة أوفاكم بالعهد وأحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس.

    وقال: الإبقاء على العمل أشد من العمل، أن الرجل ليعمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يحدث به أو يظهره فيسبح في العلانية فيكتب في الرياء. وقال: أن علامة النفاق جمود العبرة وقساوة القلب والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار. وقال: العبد إذا استوت سريرته وعلانيته، قال الله، عز وجل: عبدي حقا. وقال: المؤمن من خلط حلمه بعلمه، ينطق ليفهم، ويجلس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويحدث أمانته الأصدقاء، ويكتم شهادته الأعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياء ولا يتركه حياء حتى إذا زكا خاف ما يقولون فاستغفر مما لا يعلمون، والمنافق لا يعبره قول من ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، إذا قام إلى الصلاة... وإذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس سعد، يمسي وهمه الطعام وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، أن حدثك كذبك وأن وعدك أخلفك، وأن ائتمنته خانك وأن خالفك اغتابك.
    وقال: من أجهد نفسه لدنياه ضر باخرته، ومن اجتهد لأخرته كفاه الله ما همه. وقال: من رأى موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال: إياكم وجدال المفتين، فإن كل مفت ملقن حجته إلى انقضاء مدته فإذا انقضت أحرقته فتنته بالنار. وقال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله، عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه. وقال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، والله، عز وجل، يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف، وأن الله يبغض البذي السائل الملحف. أن أسرع الخير ثواباً البر وأسرع الشر عقوبة البغي.
    وقال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب، ومن كف عن أعراض الناس أقاله الله نفسه، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذابه يوم القيامة. وقال: بئس العبد عبدا ذا الوجهين وذا اللسانين يطري أخاه في وجهه ويأكله غائباً عنه، إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله. وقال: أن الله حرم الجنة على المنان والنمام ومدمن الخمرة.
    وقال لعلي بن أبي طالب: عليك بالصدق فلا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والورع فلا تجترئ على خيانة أبدا، والخوف من الله كأنك تراه، والبكاء من خشية الله يبن لك بكل دمعة بيتا في الجنة، والأخذ بسنتي.
    وقال: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من وعظ به غيره، وأكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وشر الرواية الكذب، وشر الأمور محدثاتها، وشر العماء عماء القلب، وشر الندامة يوم القيامة، وأعظم الخطاء عند الله لسان كذاب، وشر المأكل أكل مال اليتيم ظلما، وأحسن زينة الرجل هدي حسن مع إيمان، وأملك أمر يديه قوله وخواتمه، من يتبع السمعة يسمع الله به، ومن ينوي الدنيا تعجز عنه، ومن يعرف الله يصير إليه، ولا تسخطوا الله برضى أحد، ولا تنفروا إلى أحد من الخلق بما يباعد من الله.
    وقال: لا تستصغروا قليل الحسنان فإنه لا يصغر ما ينفع يوم القيامة، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله واصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم فإنما ذلك عليكم.
    وقال: إذا كثر الربا كثر موت الفجاءة، وإذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض من زكاتها، وإذا جاروا في الأحكام وتعاونوا وخانوا العهود سلط عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتبعوا الأخيار سلط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم.

    وقال: أصل المرء قلبه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، والناس في آدم شرع سواء. وقال: أن الله خص أولياءه بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم فاحمدوا الله وإلا فارغبوا إليه. قيل له: وما هي؟ قال: اليقين والقنوع والصبر والشكر والعقل والمروة والحلم والسخاء والشجاعة. وقال: ثلاث لا يموت صاحبهن حتى يرى ما يكره: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وأن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، وأن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون، وأن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تترك الديار بلاقع وتقطع السبل، ومن صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زاد الله في عمره. وقال: ثلاث لم يجعل الله لأحد فيها رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، ووفاء العهد للبر والفاجر، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره وليكرم ضيفه وليقل خيراً وليشكر. وقال: المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يحزنه ولا يغتابه ولا يحسده ولا يبغي عليه، فإن إبليس يقول لجنوده: ألقوا بينهم البغي والحسد فإنه يعدل عند الله الشرك.
    وقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإياكم وما تعتذرون منه فإن المؤمن لا يسيء ويعتذر وأن المنافق يسيء كل يوم فلا يعتذر، وللغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جوفه. أن أهل الأرض مرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق.
    وقال: يقول الله عز وجل: ابن آدم أنا الحي لا أموت، فأطعني أجعلك حيا لا تموت وأنا على كل شيء قدير، ابن آدم صل رحمك أفك عنك عسرك وأيسرك ليسرك. وقال: من أصبح وهو على الدنيا حزين أصبح على الله ساخطا، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه، ومن أتى ذا ميسرة فخشع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه، ومن تمنى شيئاً هو لله رضي لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه.
    وقال: يقول الله، عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك في طلب معاشك إلى طلبك، وعلي أن أسد فاقتك واملأ قلبك خوفا مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملاه شغلا بالدنيا ثم أسدها عنك وأكلك إلى طلبك. وقال: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، فمن سألكم بالله فأعطوه ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن اصطنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تكافئوه فاشكروه.
    وقال: من حق جلال الله على العباد إجلال الإمام المقسط وذي الشيبة في الإسلام وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه. أربع من فعلهن فقد خرج من الإسلام: من رفع لواء ضلالة، ومن أعان ظالما أو سار معه أو مشى معه وهو يعلم أنه ظالم، ومن احترم بذمة، ورجلان لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: أمير ظلوم ورجل غال في الدين مارق منه، والأمير العادل لا ترد دعوته.
    وقال: لا يشغلنك طلب دنياك عن طلب دينك، فإن طالب الدنيا ربما أدرك فهلك بما أدرك وربما فاته فهلك بما فاته. الأكثرون في الدنيا هم الأقلون في الآخرة ألا من قال: هكذا، وهكذا، وحثا بيده. وما أعطي أحد من الدنيا شيئاً إلا كان أنقص من حقه في الآخرة حتى سليمان بن داود فإنه آخر من يدخل الجنة من الأنبياء لما أعطي من الدنيا. ورأس كل خطيئة حب الدنيا.
    وقال: جاء الموت بما فيه الراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم. وقال: أفضل ما توسل به المتوسلون الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وتمام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان. ألا فاصدقوا فإن الصادق على شفا منجاة وكرامته، وأن الكاذب على شفا مخزاة ومهلكه. ألا وقولوا خيراً تعرفوا به اعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من جهل عليكم.

    وقال: من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر فيها ولم يرزق الصبر عليها، فحسب المؤمن عزاء إذا رأى المنكر أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وقال: إن لله عبادا من خلقه يخصهم بنعمه يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نقلها منهم وحولها إلى غيرهم.
    وقال: ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرض النعمة للزوال. وقال لبني سلمة: من سيدكم اليوم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس، يا رسول الله. قال: فكيف حاله فيكم؟ قالوا: من رجل نبخله. قال: وأي داء أدوا من البخل! لا سؤدد البخيل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح، أو قال، قال: قيس بن البراء.
    وقال لوافد وفد عليه واطلع منه على كذبه: لو لا سخاء فيك ومعك الله تشرب بلبن وافد.
    وقال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
    وقال: تجافوا عن زلة السخي فإن الله، عز وجل، يأخذ بناصيته كلما عثر.
    وقال: الجنة دار الأسخياء.
    وقال: الشاب الجواد الزاهد هو أحب إلى الله من الشيخ البخيل العابد.
    وقال: إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها.
    وقال: إن لله عباداً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم فهم الآمنون يوم القيامة.
    وقال: أحسنوا مجاورة نعم الله ولا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فرجعت إليهم.
    وقال: الحوائج إلى الله، وأسبابها إلى الناس، فاطلبوها إلى الله بهم، فمن أعطاكموها فخذوها عن الله بشكر، ومن منعكموها فخذوها عن الله بصبر. وقال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق.
    وقال: رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، فإن عرض بلاء فقدم مالك قبل نفسك ودينك، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك، وأعلم أن المحروب من حرب دينه.
    وقال: إن لكل شيء شرفاً، وإن أشرف المنازل ما استقبل به القبلة. من أحب أن يكون أعز الناس فليثق بالله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أقوى الناس. فليتوكل على الله. ثم قال: ألا أنبئكم بشرار الناس؟ من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من يبغض الناس ويبغضونه.
    وقيل له: ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال: نحيزه من عقل يولد معه. قالوا: فإذا أخطأه ذلك؟ قال: فليتعلم عقلا. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فليتخذ صاحبا في الله غير حسود. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: عليه بالصمت. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فميتة قاضية. وقال لرجل من ثقيف: ما المروة فيكم؟ فقال: الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وحسن الخلق. فقال: كذلك هي فينا. وقال: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه، إن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول. وقال: ما أتاني جبريل إلا ووعظني، وقال في آخر قوله: إياك والمشازرة فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز. وسأله رجل، فقال له: ما عندي شيء. فقال له: عدني. فقال: إني لأستعمل الرجل وغيره أن يكون انفض عينا وأمثل رجله وأشد مكيدة، وإني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أعطيه تألفا. وقال: من لم يحمد عدلا ويذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة. وقال: أشرف الأعمال ثلاثة: ذكر الله، عز وجل، على كل حال، وإنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان. وقال: موت البنات من المكرمات. وقال: الصبر عند الله ضد الغيرة ولا يكمله أحد، وعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه. وقال: إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً. وقال: كل معروف صدقة وما وقى به اللسان صدقة، فقيل لمحمد بن المنكدر: وما ذاك؟ قال: إعطاء الشاعر وذي اللسان.
    وقال: ما من ذنب إلا وله عند الله التوبة إلا سوء الخلق إنه لا يخرج من شيء إلا وقع في شر منه. وقال: إياك ومهلك، فإن ذا مهل قتل أخاه ونفسه وسلطانه. وأتاه رجل فقال له: ألك مأكل؟ قال: نعم من أكل المال. فقال: إذا الله أنعم عليك بنعمته فليثن عليك. وقال: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إني لأحب أن تكون دابتي فارهة وثيابي جيادا، حتى ذكر شراك نعله وعلاقة سوطه، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فإنما الكبر أن يمنع الحق ويغمض الباطل.

    وسأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أصبح في بيت آل محمد غير صاع من طعام وإنهم لأهل تسعة أبيات فهل لهم عنه غنى؟ ولم يرد سائلا قط. وإنه كان يعالج حظاء من جريد، فمر به رجل فقال: أكفيكه يا رسول الله؟ فقال: شأنك. فلما فرغ منه قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم تضمن لي على الله الجنة.
    فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه فقال: ذلك لك. فلما ولي ناداه: يا عبد الله أعني بطول السجود. وخطب على ناقته فقال: يا أيها الناس كان الموت على غيرنا كتب، وكان الحق على غيرنا وجب، وكان الذين يشيعون من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كانا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظه وآمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال قد اكتسبه من غير معصية ورحم وصاحب أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم يبعدها إلى البدعة.
    وقال: وعظني جبريل فقال لي: أحبب من شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه.
    وقال: من طلب الرزق من حله فليبذر على الله.
    وقال: استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
    وقال: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا صمت إلا من غدوة إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا يمين لامرأة مع زوجها، ولا يمين لولد مع والده، ولا يمين للمملوك مع سيده، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا يمين في قطيعة رحم، ولا نذر في معصية. ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر كان فريضة الإسلام عليه إذا استطاع إليه سبيلا، ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم عتق كان فريضة الإسلام عليه إن استطاع إليه سبيلاً.
    وقال: أعظم الذنوب عند الله أصغرها عند العباد، وأصغر الذنوب عند الله أعظمها عند العباد. وقال: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، والناس سواء كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له، واليد العليا خير من اليد السفلى، والمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، والمستشار مؤتمن، ولن يهلك امرؤ عرف قدره، ورحم الله عبدا قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.
    وذكر الخيل فقال: معقود في نواصيها الخير، وبطونها كنز وظهورها حرز، وأجرى الخيل فجاء فرس له أدهم سابقا فجثا على ركبتيه ثم قال: ما هو إلا البحر. وقال: يحمل هذا العلم من كل حلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
    وقال: إن الله، عز وجل، يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية إياي يغرون أم علي يجترءون فإني حلفت لأتيحنهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.
    وروي عنه أنه قال: كان تحت الجدار الذي ذكره الله، عز وجل، في كتابه كنز لهما، كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح. عجبا لمن يوقن بالقدر كيف يحزن. عجبا لمن يوقن بالنار كيف يضحك. عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. وقال: للطاعم الشاكر أجر الجائع الصابر، ولأن يعافى أحدكم فيشكر خير له من أن يبيت قائما ويصبح صائماً معجباً.
    وقال: لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه. قيل: يا رسول الله فكيف تذل؟ قال: بعرضها لما لا تطيق من البلاء. وقال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
    ووجد في كتاب عند أسماء بنت عميس من كلام رسول الله: الآجلات الجانيات المعقبات رشداً باقياً خير من العاجلات العابدات المعقبات غياً باقياً. المسلم عفيف من المظالم عفيف من المحارم. بئس العبد عبد هواه يضله، بئس العبد عبد رغب إليه بذلة، بئس العبد عبد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا.
    وقال: أربع من قواصم الظهر: إمام تطيعه ويضلك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار سوء إن علم سوءاً أذاعه وإن علم خيراً ستره، وفقير إذا نحل لم يجد صاحبه.
    وقال: ما من عبد إلا وفي علمه وحلمه نقص، ألا ترون أن رزقه يجري بالزيادة فيظل مسروراً مغتبطاً وهذان الليل والنهار يجريان بنقص عمره لا يحزنه ذلك ولا يحتفل به ضل ضلالة، ما أغنى عنه رزق يزيد وعمر ينقص.

    وقال: إن بني إسرائيل اذهبوا خشية الله من قلوبهم فحضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، وإن الله لا يقبل من عبد لا يحضر من قلبه ما يحضر من بدنه.
    وقال: من ازداد علما ثم لم يزدد زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً. من أعان إماماً جائراً ولم يخطئه لم يفارق قدمه قدمه بين يدي الله حتى يأمر به إلى النار.
    وأتاه رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة فقال: يا رسول الله كانت لنا أرباب وربات فهدانا الله بك. فقال: أكثر أهل الجنة البله وأهل عليين ذوو الألباب.
    وقال: الأئمة من قريش لكم عليهم حق، ولهم عليكم حق ما حكموا فعدلوا واسترحموا فرحموا وعاهدوا فوفوا. ووقف على بيت فيه جماعة من قريش فقال: إنكم ستولون هذا الأمر ومن وليه منكم فاسترحم فلم يرحم وحكم فلم يعدل وعاهد فلم يف فعليه لعنة الله.
    وقال: الدين النصيحة، الدين النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولائمة الحق. وقال بالخيف من مني: نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها حتى يبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب مؤمن: إخلاص العمل وصحة الورع والنصيحة لولاة الأمر.
    وقال: للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه وينصح له إذا غاب عنه ويعوده إذا مرض ويشيع جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس.
    وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله كيف ننصره ظالماً؟ قال: بكفه عن الظلم. وقال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
    وقال: ثلاثة لا يرد لهم دعوة: المظلوم وإمام عادل والصائم حتى يفطر. وقال: ثلاث يتبعن ابن آدم بعد موته: سنة سنها في المسلمين فعمل بها فله أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، وصدقة تصدق بها من مال أو ثمر فما جرت تلك الصدقة فهي له، ورجل ترك ذرية يدعون له. وقال في خطبته: شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ولكل شيء آفة وآفة هذا الرأي الهوى. وقال: اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا. كفوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم وصونوا فروجكم.
    وقال: يقول الله، عز وجل: لا يزال عبدي يصدق حتى يكتب صديقاً ولا يزال عبدي يكذب حتى يكتب كذاباً. وقال: ويل للذي يتحدث بالكذب ليضحك به القوم، ويل له وويل له. وروي أنه قال: عليكم بالصدق وإن ظننتم فيه الهلكة فإن عاقبته النجاة، وإياكم والكذب وإن ظننتم فيه النجاة فإن عاقبته الهلكة.
    وقال: من خلف على مال أخيه ظالماً فليتبوأ مقعده من النار. فقال رجل: وإن كان يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ولو كان قضيباً من أراك. ومن اقتطع حق امرئ مؤمن بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة.
    وكان أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، وقال: والذي نفسي بيده لو كان لي مثل شجر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لم تجدوني كذوباً ولا جباناً ولا بخيلاً. وقال له رجل: يا رسول الله أعطني رداءك. فألقاه إليه. فقال: ما أريده. فقال: قاتلك الله! أردت أن تبخلني ولم يجعلني الله بخيلاً. وقال: خياركم من يرجى خيره ولا يتقى شره، وشراركم من يتقى شره ولا يرجى خيره، فإن الله أكرمكم بالإسلام فزينوه بالسخاء وحسن الخلق.
    وقال: الخير أسرع إلى البيت الذي يعشى من الشفرة إلى سنام البعير. وقال: إياكم والشح! فإنما أهلك من كان قبلكم، الشح! أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا. اللؤم كفر والكفر في النار. قال الله، عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " .
    وقال: رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف. وقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تعطى صلة الحبل ولو شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحى الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تلقاه ووجهك إليه منطلق، وإن رجلاً سبك بأمر يعلمه فيك تعلم فيه نحوه فلا تسبه ليكون لك أجر ذلك ويكون عليه وزره.

    وقال: إن الله جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف الطلب وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها أو يعفو الله عنه أكثره.
    وقال: الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله أحسن الناس إلى عياله. وسأله رجل فقال: أي الناس أحب إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس. قال: فأي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إدخال سرور على مسلم، إطعام جوعته وكساء عورته وقضاء دينه.
    وقال: إن الله، عز وجل، ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال ألا إن هذا لواء فلان. وقال له بعضهم: أخبرنا بخصال يعرف المنافق بها. فقال: من حلف فكذب ووعد فأخلف وخاصم ففجر واؤتمن فخان وعاهد فغدر.
    وقال: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى أنه يقول له: فما منعك أن رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبده حجته قال: يا رب إني وثقت بك وخفت من الناس. وقال: من أعطي عطاء فوجد فليجزه، فإن لم يجزه فليثن به، ومن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره.
    وقال له قوم من المهاجرين يا رسول الله إن إخواننا من الأنصار واسونا وبذلوا لنا وقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال: إلا ما أثنيتم به عليهم ودعوتم الله لهم. وقال: والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة. وقال: الهدية تذهب السخيمة وتجدد الأخوة وتثبت المودة. وقال: لو أهدى إلى كراع لقبلته، ولو دعيت إليه لأجبت.
    وقال: ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته، وصدقة المؤمن ظله أو ظله من صدقته.
    وروي عنه أنه قال: ما من الأعمال شيء أحب إلي من ثلاثة: إشباع جوعة المسلم وقضاء دينه وتنفيس كربته. من نفس عن مؤمن كربته نفس الله عنه كرب يوم القيامة، والله في عون عبده ما كان العبد في عون أخيه. وقال: إن المسألة لا تحل إلا الثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي عسر مفظع ولذي دم مفجع. وقال: من سأل وله أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فقد سأل الناس إلحافاً.
    وسأله رجلان، وهو يقسم مغانم خيبر، فقال: لا حظ لغني ولا لقوي مكتسب.
    وقال: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى. وقال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قيل: يا رسول الله ما يغنيه؟ قال: لغدائه أو لعشائه. وقيل له: يا رسول الله ما الغناء؟ قال: غداء وعشاء. وقال: من سأل عن ظهر غنى جاء يوم القيامة بوجهه كدوح يعرف بها. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظهر غنى؟ قال: قوت ليلة أو قوت يوم. وسأله حكيم بن حزام فأعطاه فقال: إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيب نفس بشير بورك له فيه ومن أخذه بإشراف لم يبارك له فيه فكان كأكل يأكل ولا يشبع.
    وسأله الأنصار، فلم يسألوه شيئاً إلا أعطاهم حتى أنفدوا ما عنده، ثم قال: أما بعد يا معشر الأنصار ما يكن عندنا من خير فلن أؤخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يصبر يصبره الله ولن يعطى عبد أفضل ولا أوسع من الصبر. وقال: من يضمن لي خلة أضمن له الجنة. فقيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ألا تسأل أحداً شيئاً.
    وقال لأبي ذر: يا أبا ذر أ رأيت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تنهض من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تتعفف. وقال: لا يفتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. وقال: الأيدي ثلاث: فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت. وقال لبعضهم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه فتموله أو تصدق به.
    وقال: لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف. وقال: المسألة خروج في وجه الرجل يوم القيامة إلا أن يسأل سلطانه أو من لا بد منه. وقيل له: أي الصدقة أفضل؟

    فقال: إن تصدق وأنت صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا. وقال: من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهو له صدقة، ومن سره الإنساء في الأجل والمد في الرزق فليصل رحمه. وقال: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وأتاه رجل فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأخاك وأختك وأدناك أدناك. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: من وقر أباه أطلت في أيامه ومن وقر أمه رأى لبنيه بنين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور.
    وقال: من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة.
    وقال: أربع من سنن المرسلين: الحياء والنكاح والحلم والسواك.
    وقال: قال الله، سبحانه وتعالى: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لأولين عليكم شراركم ولأجعلن أموالكم في أيدي بخلائكم ولأمنعنكم قطر السماء ثم ليدعوني خياركم فلا أستجيب لهم، ويسترحموني فلا أرحمهم، ويستسقوني فلا أسقيهم.
    وقال: أربع من كن فيه كمل إسلامه، وإن كان ما بين قرنه إلى قدمه خطأ: الأمر بالمعروف، والحياء، والشكر، وحسن الخلق. وأربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: إيواء اليتيم، ورحمة... ورفق بمملوكه، وشفق على والديه. وقال: التودد إلى الناس نصف الإيمان، والرفق نصف العيش، وما عال امرؤ وفى اقتصاده.
    حجة الوداعوحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة 10، وهي حجة الإسلام. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزارا ورداء. وقيل: خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين وكان نساؤه جميعاً معه، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنة من الجانب الأيمن ثم ركب ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
    وقال الواقدي عن الزهري عن سالم عن أبيه وعن الزهري في إسناد له عن سعد بن أبي وقاص قالا: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وقال بعضهم بالحج مفرداً. وقال بعضهم بحجة وعمرة.
    ودخل مكة نهاراً من كداء، وهي عقبة المدنيين، على راحلته حتى انتهى إلى البيت. فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة. وخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة، حين زالت الشمس، على راحلته قبل الصلاة من غد يوم مني. فقال في خطبته: نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم بلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة الحق، واللزوم لجماعة المؤمنين، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. ودعا بالبدن فصفت بين يديه وكانت مائة بدنة، فنحر منها بيده ستين بدنة، وقيل أربعا وستين، وأعطى علياً سائرها، فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح، ثم أكل هو وعلي، وحسا من المرق، ورمى جمرة العقبة على ناقته، ووقف عند زمزم وأمر ربيعة بن أمية بن خلف فوقف تحت صدر راحلته، وكان صبياً، فقال: يا ربيعة! قل يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم هذا. هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أي شهر هذا؟ وهل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال الناس: نعم! هذا البلد الحرام والشهر الحرام واليوم الحرام. قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة يومكم هذا. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
    ثم قال: واتقوا الله ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها. ثم قال: الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء لا فضل عربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.

    ثم قال: لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا، ولكم هكذا، إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان آدم بن ربيعة مسترضعاً في هذيل، فقتله بنو سعد بن بكر، وقيل في بني ليث، فقتلته هذيل، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، ألا وإن ال
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:21 am

    ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
    ثم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بعد اليوم، ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون، فقد رضي به، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
    ثم قال: أعدى الأعداء على الله قاتل غير قاتله وضارب غير ضاربه، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد، ومن انتمي إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
    ثم قال: إلا إني إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق، وحسابهم على الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
    ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد منكم الغائب. ولم ينزل مكة، وقيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك؟ فقال: ما كنت لأنزل بلدا أخرجت منه. ولما كان يوم النفر دخل البيت، فودع ونزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. وخرج ليلاً منصرفا إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وقام خطيبا وأخذ بيد على بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
    ثم قال: أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم، حين تردون على، عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي.
    الوفاة

    ولما قدم المدينة أقام أياماً وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشام، وروي عن أسامة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اغز يبنى من أرض فلسطين صباحا ثم أحرق. وروى آخرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يوطئ الخيل أرض البلقاء، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، وتكلم قوم وقالوا: حدث السن، وابن سبع عشرة سنة! فقال: لئن طعنتم عليه، فقبله طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للإمارة. واشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينفذ الجيش، وكان أسامة مقيماً بالجرف، فلما اشتدت عليه قال: أنفذوا جيش أسامة! فقالها مراراً، واعتل أربعة عشر يوماً، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ومن شهور العجم آذار، وكان قرآن العقرب.
    قال، ما شاء الله، المنجم: كان طالع السنة التي توفي فيها رسول الله، وهو القرآن الرابع من مولده، الجدي ثماني عشرة درجة، والزهرة في... سبع عشرة درجة، والشمس في الحمل دقيقة، والقمر في الحمل درجتين وثلاثين دقيقة، وعطارد... إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة، والمشتري في الميزان ثلاثاً وعشرين درجة وأربع دقائق راجعاً، والمريخ في الجدي خمس دقائق. وقال: الخوارزمي: كانت الشمس يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجوزاء ست درجات، والقمر في الجوزاء ثلاثاً وعشرين، وزحل في القوس تسعاً وعشرين درجة، والمريخ في الحوت إحدى عشرة درجة، والزهرة في السرطان ثماني عشرة درجة، وعطارد في الجوزاء ثمانياً وعشرين درجة، والرأس في الجدي خمساً وعشرين درجة، وكان سنة ثلاثاً وستين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتا من البيت، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص، فقال: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، ويطهركم تطهيرا، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور، إن في الله خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة الله. فقيل لجعفر بن محمد: من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل! وكفن في ثوبين صحاريين وبرد حبرة، ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار: اجعلوا لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا في وفاته كما كان لنا في حياته! فقال علي: ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس بن خولي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الأنصاري، ولم يكن بالمدينة من يحفر غيره وغير أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد، فقيل إنهما سابقاً حفراً، فسبق أبو طلحة بالحفر، وصلى عليه أياماً، والناس يأتون ويصلون إرسالا، ودفن ليلة الأربعاء في بعض الليل، وطرحت تحته قطعة رحلة وكانت من أرجوان، وربع قبره ولم يسنم، ولما توفي قال الناس: ما كنا نظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت حتى يظهر على الأرض، وخرج عمر فقال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، وإنما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم. وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا فقال: إنك ميت، وإنهم ميتون. فقال عمر: والله لكأني ما قرأتها قط. ثم قال:
    لعمري لقد أيقنت إنك ميت ... ولكنما أبدى الذي قلته الجزع

    ولم يخلف من الولد إلا فاطمة، وتوفيت بعده بأربعين ليلة، وقال قوم بسبعين ليلة، وقال آخرون ثلاثين ليلة، وقال آخرون ستة أشهر، وأوصت علياً زوجها أن يغسلها، فغسلها وأعانته أسماء بنت عميس، وكانت تخدمها وتقوم عليها، وقالت: ألا ترين إلى ما بلغت؟ أفأحمل على سرير ظاهراً؟ قالت: لا لعمري، يا بنت رسول الله، ولكني أصنع لك شيئاً كما رأيته يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه! فأرسلت إلى جرائد رطبة فقطعتها، ثم جعلتها على السرير نعشاً، وهو أول ما كانت النعوش، فتبسمت، وما رئيت متبسمة إلا يومئذ، ودفنت ليلاً، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبو ذر، وقيل عمار. وكان بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينها في مرضها فقلن: يا بنت رسول الله! صيري لنا في حضور غسلك حظا! قالت: أتردن تقلن في كما قلتن في أمي؟ لا حاجة لي في حضوركن.
    ودخل إليها في مرضها نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء قريش فقلن: كيف أنت؟ قالت: أجدني والله كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكم، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة، وكان سنها ثلاثاً وعشرين سنة.
    صفة رسول اللهوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن الخلق، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيماً، قسيماً، لم يماشه أحد من الناس إلا طاله، وإن كان المماشي له طويلا، عظيم الهامة، رجل الشعر إن تفرقت عقيقته انفرقت فرقا، لا يجاوز شعره شحمة أذنه، أزهر اللون، مشرباً حمرة، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثافة، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وفي رأسه في فودى رأسه، سهل الخدين، ضليع الفم، حلو المنطق لا نزر ولا هدر، دقيق المسربة، معتدل الخلق، عريض الصدر والكتف، بعيد ما بين المنكبين، واسع الظهر، غير ما تحت الأزرار من الفخذ والساق، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري ما سوى ذلك من الشعر، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحتين، شثن الكفين والقدمين، شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب أو يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت معا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدأ من لقي بالسلام، وكان جل جلوسه القرفصى، وكان يأكل على الأرض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله! قال: لبيك، وإذا قال: يا أبا القاسم! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال: يا محمد! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يرده إلا بحاجته أو بميسور من القول.
    المشبهون برسول اللهوكان المشبهون برسول الله جعفر بن أبي طالب. قال رسول الله: أشبهت خلقي وخلقي، والحسن بن علي. وكانت فاطمة تقول: بأبي! شبيه بأبي غير شبيه بعلي، ويقال: إن أبا بكر قال له، وقد لقيه في بعض طرق المدينة: بأبي! شبيه بالنبي غير شبيه بعلي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأسهد بن العبرة، وهاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، ومسلم بن معتب بن أبي لهب.
    نسب الرسول وأمهاته إلى إبراهيموالعواتك والفواطم اللاتي ولدنه. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ابن تارح بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي.

    وأم عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأم عبد المطلب، وهو شيبة الحمد بن هاشم، سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسمه زيد مناة، ويقال: بل اسمه تيم اللات، ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهتة ابن سليم.
    وأم عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، حبي بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة. وأم قصي، واسمه زيد بن كلاب، فاطمة بنت سعد بن سيل بن عامر الجادر... من الأزد أزد شنوءة، وهم حلفاء بني نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
    وأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. وأم مرة بن كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن الأسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم كعب بن لؤي وحشية بنت شيبان.
    وأم لؤي بن غالب سلمى بنت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن خزاعة. وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن مضاض بن عامر بن دب بن جرهم.
    وأم مالك بن النضر عاتكة، وهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. وأم النضر بن كنانة برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وأم كنانة بن خزيمة هند بنت قيس بن عيلان. وأم خزيمة بن مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار. وأم مدركة بن إلياس خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة. وأم إلياس بن مضر الحنفاء بنت أياد بن نزار بن معد بن عدنان. وأم مضر بن نزار شقيقة بنت عك بن عدنان بن أدد. وأم نزار بن معد ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب بن جرهم. وأم معد بن عدنان تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان... وأم أد بن أدد البعجا بنت عمرو بن تبع بن سعد ذي فائش ابن حمير. وأم أدد بن الهميسع حية بنت قحطان. وأم الهميسع بن يشجب حارثة بنت مراد بن زرعة بن ذي رعين بن حمير. وأم يشجب بن أمين قطامة بنت علي بن جرهم... وأم إسماعيل بن إبراهيم هاجر أمه كانت لسارة أم إسحاق، وهي قبطية، يزعم آخرون أنها رومية. وأم إبراهيم، وهو إبراهيم بن تارح، أدنيا بنت بر بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: أنا ابن العواتك، وربما قال: أنا ابن العواتك من سليم، واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا عشرة عاتكة: عشر منهن مضريات، وقحطانية وقضاعية، والمضريات: ثلاث من قريش وثلاث من سليم، وعدوانيتان، وهذلية، وأسدية، فأما القرشيات فولدته، من قبل أسد بن عبد العزى، أم أسد بن عبد العزى الحطيا، وهي ريطة بنت كعب ابن سعد بن تيم بن مرة، وأمها قبله بنت حذافة بن جمح، وأمها أميمة بنت عامر بن الحان بن الحارث، وهو غسان بن خزاعة، وأمها عاتكة بنت هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأم هلال بن وهيب عاتكة بنت عتواره بن الطرب بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة بن خزيمة.
    وأما السليميات، فولدته، من قبل هاشم، أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم بن منصور، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان بن قصي بن خزاعة، ويقال: هي عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم.
    وأما العدوانيتان فولدتاه من قبل أمهات أبيه عبد الله، ومن قبل مالك بن النضر، فأما التي ولدته من قبل عبد الله، فهي السابعة من أمهاته، ويقال الخامسة، وهي عاتكة بنت عامر بن ظرب بن عمرو بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، ومن قال: هي الخامسة، فيقول عاتكة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن ظرب بن عمرو، وأما العدوانية الثانية فأم مالك بن النضر بن كنانة، وهي عاتكة بنت عدوان بن عمرو ابن قيس بن عيلان.
    وأما الهذلية فوالدته من قبل هاشم، وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال، وأمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت سعد بن هذيل.

    وأما الأسدية فوالدته من قبل كلاب بن مرة، وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
    وأما القحطانية فوالدته من غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس بن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي الثالثة من أمهات النضر بن كنانة.
    وأما القضاعية فوالدته من قبل كعب بن لؤي، وهي الثالثة من أمهاته، عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
    تسميه من ولدنه من الفواطمقال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم أنه كان يكثر يوم حنين ويقول: أنا ابن الفواطم، فأخبرني النسابون أنه ولده من الفواطم أربع فواطم: قرشية، وقيسيتان، وأزدية، فأما القرشية، فوالدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والقيسيتان أم عمرو بن عائذ بن عمران، وهي فاطمة بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور، والأزدية أم قصي بن كلاب، وهي فاطمة بنت سعد بن سيل.
    وكان عمال رسول الله، لما قبضه الله، على مكة: عتاب بن أسيد بن العاص، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوي التميمي. وبعضهم يقول مكان العلاء: أبان بن سعيد بن العاص، وعلى عمان عباد وجيفر ابنا الجلندا. وقال بعضهم: عمرو بن العاص، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري يفقهان الناس، وعلى مخاليف الجند وصنعاء المهاجر بن أبي أمية المخزومي، وعلى حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى مخاليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص، وعلى ناحية من نواحيها يعلى بن منية التميمي، وعلى نجران فروة ابن مسيك المرادي، وقال بعضهم: أبو سفيان بن حرب، وعلى صدقات أسد وطئ عدي بن حاتم، وعلى صدقات حنظلة مالك بن نويرة الحنظلي، وقال بعضهم: على صدقات بني يربوع، وعلى صدقات بني عمرو وتميم سمرة بن عمرو بن جناب العنبري، وعلى صدقات بني سعد الزبرقان بن بدر، وعلى صدقات مقاعس والبطون قيس بن عاصم.
    خبر سقيفة بني ساعدةوبيعة أبي بكر واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله... يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه. وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر: منا الأمراء وأنتم الوزراء. فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة بن الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش.
    ثم نادى أبو عبيدة: يا معشر الأنصار! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.
    فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة وحتى وطئوا سعداً. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعداً.
    وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة.

    وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، أنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
    ما كنت أحسب أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
    عن أول الناس إيماناً وسابقة، ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
    وآخر الناس عهداً بالنبي، ومن ... جبريل عون له في الغسل والكفن
    من فيه ما فيهم لا يمترون به، ... وليس في القوم ما فيه من الحسن
    فبعث إليه علي فنهاه. وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان ألفاًرسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمداً نبياً وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه المنيع وخطبة البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك... عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم.
    فقال عمر بن الخطاب: إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم.
    فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمداً كما وصفت نبيا وللمؤمنين ولياً، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضاً، ولا حللنا وسطاً، ولا برحنا سخطاً، وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من انهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقاً للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال:
    بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
    فما الأمر إلا فيكم وإليكم، ... وليس لها إلا أبو حسن علي
    أبا حسن، فاشدد بها كف حازم، ... فإنك بالأمر الذي يرتجي ملي
    وإن امرأ يرمى قصي وراءه ... عزيز الحمى، والناس من غالب قصي

    وكان خالد بن سعيد غائباً، فقدم فأتى علياً فقال: هلم أبايعك، فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم: اغدوا على هذا محلقين الرءوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر.
    وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوماً.
    أيام أبي بكروكانت بيعة أبي بكر يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر، في اليوم الذي توفي فيه رسول الله. واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يسمي عتيقاً لجماله، وأمه سلمى بنت صخر من بني تيم بن مرة، وكان منزله بالسنح خارج المدينة، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه، وكان له أيضاً منزل بالمدينة فيه أسماء بنت عميس، فلما ولي كان منزله المدينة، وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب ميراثها من أبيها، فقال لها: قال رسول الله: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. فقالت: أ في الله أن ترث أباك ولا إرث أبي؟ أما قال رسول الله: المرء يحفظ ولده؟ فبكى أبو بكر بكاء شديدا. وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه. وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره. فقال: فما تقول في نفسك؟ فقال: يا ابن أخي! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك. فخرج أسامة بالناس وشيعة أبو بكر فقال له: ما أنا بموصيك بشيء، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله. فنفذ أسامة، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوماً، أو أربعين يوماً، ثم دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى يدخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الأمر، فجلس دون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني! لا أقول إني أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملاً. وأثنى على الأنصار خيراً وقال: أنا وإياكم، معشر الأنصار كما قال القائل:
    جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
    أبو أن يملونا ولو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
    فاعتزلت الأنصار عن أبي بكر، فغضبت قريش، وأحفظها ذلك، فتكلم خطباؤها، وقدم عمرو بن العاص فقالت له قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد عليهم ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعراً قاله، فخرج علي مغضباً حتى دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير، ورد علي عمرو بن العاص قوله. فلما علمت الأنصار ذلك سرها وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي، واجتمعت إلى حسان بن ثابت، فقالوا: أجب الفضل، فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني. فقالوا: فأذكر علياً فقط، فقال:
    جزى الله خيراً، والجزاء بكفه، ... أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
    سبقت قريشاً بالذي أنت أهله ... فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
    تمنت رجال من قريش أعزة ... مكانك، هيهات الهزال من السمن
    وأنت من الإسلام في كل منزل ... ... البطين من الرسن
    وكنت المرجى من لؤي بن غالب ... لما كان منه والذي بعد لم يكن
    حفظت رسول الله فينا وعهده ... إليك ومن أولى به منك من ومن
    ألست أخاه في الإخاء ووصيه، ... وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن
    وتنبأ جماعة من العرب، وارتد جماعة، ووضعوا التيجان على رؤوسهم، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي بكر.

    وكان ممن تنبأ طليحة بن خويلد الأسدي بنواحيه، وكان أنصاره غطفان، ورئيسهم عيينة بن حصن الفزاري، والأسود العنسي باليمن، ومسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة، وسجاح بنت الحارث التميمية، ثم تزوجت بمسيلمة، وكان الأشعث بن قيس مؤذنها. فخرج أبو بكر في جيشه إلى ذي القصة. ودعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنك ذو رأي قريش، وقد تنبأ طليحة. فما ترى في علي؟ قال: لا يطيعك! قال: فالزبير؟ قال: شجاع حسن! قال: فطلحة؟ قال: للخفض والطعن! قال: فسعد؟ قال: محش حرب ! قال: فعثمان؟ قال: أجلسه واستعن برأيه! قال: فخالد بن الوليد؟ قال: بسوس للحرب، نصير للموت. له أناة القطاة، ووثوب الأسد. فلما عقد له قام ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر قريش، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له؟ أما والله ما نحن عمياً عما نرى، ولا صما عما نسمع، ولكن أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر، فنحن نصبر. وقام حسان فقال:
    يا للرجال لخلفة الأطوار ... ولما أراد القوم بالأنصار
    لم يدخلوا منا رئيساً واحداً ... يا صاح في نقض ولا إمرار
    فعظم على أبي بكر هذا القول، فجعل على الأنصار ثابت بن قيس، وأنفذ خالداً على المهاجرين، فقصد طليحة ففرق جمعه، وقتل خلقا من أتباعه، وأخذ عيينة بن حصن، فبعث به إلى أبي بكر مع ثلاثين أسيراً، وهو مكبل بالحديد، فجعل الصبيان يصيحون به لما دخل المدينة: يا مرتد! فيقول: ما آمنت طرفة عين قط! فاستتابه وأطلق سبيله، ولحق طليحة بالشام، وجاور بني حنيفة، وبعث بشعر إلى أبي بكر يعتذر إليه، ويراجع الإسلام، يقول فيه:
    فهل يقبل الصديق أني مراجع ... ومعط بما أحدثت من حدث يدي
    وأني من بعد الضلالة شاهد ... شهادة حق لست فيها بملحد
    فلما انتهى قوله إلى أبي بكر رق له، وبعث إليه، فرجع، وقد هلك أبو بكر، وقام عمر على قبره. وبعث به مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وأمره أن لا يستعمله.
    وأما الأسود بن عنزة العنسي، فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله، وهو سكران، فقتلاه.
    وقد كان أبو بكر عقد لشرحبيل بن حسنة، وأمره أن يقصد لمسيلمة الكذاب وألا يأتيه راية، ثم عقد لخالد وبعثه على شرحبيل، فكتب خالد إلى شرحبيل: ألا تعجل حتى آتيك! ونفذ خالد بن الوليد مسرعا إلى اليمامة، إلى مسيلمة الحنفي الكذاب، وكان قد أسلم ثم تنبأ في سنة 10، وزعم أنه شريك لرسول الله في النبوة، وكان كتب إلى رسول الله: أني أشركت معك، فلك نصف الأرض، ولي نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فكتب إليه رسول الله: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، فلقي خالد مجاعة في جماعة، فأسرهم وضرب أعناقهم، واستبقى مجاعة، وزحف إلى مسيلمة، فخرج مسيلمة فقاتله بمن معه من ربيعة وغيرها قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين خلق عظيم، ثم قتل مسيلمة في المعركة، طعنه أبو دجانة الأنصاري، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله، ورماه وحشي بحربته فقتله، وهو يومئذ ابن مائة وخمسين سنة.
    وأتى مجاعة الحنفي إلى خالد، فأوهمه أن في الحصن قوما بعد، وقال: ما أتاك إلا سرعان الناس، ودعا إلى الصلح فصالحهم خالد على الصفراء والبيضاء ونصف السبي، ثم نظروا وليس في الحصن أحد إلا النساء والصبيان، فألبسهم السلاح ووقفهم على الحصون، ثم أشار إلى خالد فقال: أبو علي، فتأخذ الربع؟ ففعل ذلك خالد، وقبل منهم. فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان فقال: أمكراً يا مجاعة؟ قال: إنهم قومي. وأجاز لهم وافتتحت اليمامة، وهربت سجاح، فماتت بالبصرة.
    وكان فتح مسيلمة في سنة إحدى عشر وقتل في شهر ربيع الأول سنة إثنا عشر. وخطب خالد إلى مجاعة ابنته، فزوجه إياها، فكتب إليه أبو بكر: تتوثب على النساء وعند أطناب بيتك دماء المسلمين؟

    وأمر أبو بكر خالداً أن يسير إلى أرض العراق، فسار ومعه المثنى بن حارثة، حتى صار إلى مدينة بانقيا، فافتتحها وسبى من فيها، ثم صار إلى مدينة كسكر، فافتتحها وسبى من فيها، ثم سار حتى لقي بعض ملوك الأعاجم يقال له جابان، فهزمه وقتل أصحابه، ثم سار حتى انتهى إلى فرات بادقلى يريد الحيرة، وملكها النعمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم النعمان فلحق بالمدائن، ونزل خالد الخورنق، وسار حتى صير الحيرة خلف ظهره، وكانوا على محاربته، ثم دعوا إلى الصلح، فصالحهم على سبعين ألفاً عن رؤوسهم، وقيل مائة ألف درهم.
    وتجرد أبو بكر لقتال من ارتد، وكان ممن ارتد، وممن وضع التاج على رأسه من العرب، النعمان بن المنذر بن ساوي التميمي بالبحرين، فوجه العلاء بن الحضرمي فقتله، ولقيط بن مالك ذو التاج بعمان وجه إليه حذيفة ابن محصن فقتله بصحار من أرض عمان.
    وكان ذو التاج... من بني ناجية وبشر كثير من عبد القيس، فقتل الله ذا التاج، وسبى المسلمون ذراريهم، وبعثوا بها إلى أبي بكر، فباعها بأربعمائة درهم، ثم وجه لقتال من منع الزكاة، وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم. وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن نويرة اليربوعي، فسار إليهم، وقيل إنه كان نداهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره، واتبعته امرأته، فلما رآها خالد أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك، فنظر مالكاً، فضرب عنقه، وتزوج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر، فأخبره الخبر، وحلف ألا يسير تحت لواء خالد لأنه قتل مالكاً مسلماً. فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إن خالدا قتل رجلاً مسلماً، وتزوج امرأته من يومها. فكتب أبو بكر إلى خالد، فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إني تأولت، وأصبت، وأخطأت.
    وكان متمم بن نويرة شاعراً فرثى أخاه بمراث كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر، فصلى خلف أبي بكر صلاة الصبح، فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فاتكأ على قوسه، ثم قال:
    نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
    أدعوته بالله ثم غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
    فقال: ما دعوته ولا غدرت به. وكتب أبو بكر إلى زياد بن لبيد البياضي في قتال من ارتد باليمن. ومنع الزكاة. فقاتلهم وكان لكندة ملوك عدة يتسمون بالملك، ولكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره، فأغار زياد ليلاً، وهم في محاجرهم، فأصاب الملوك: جمداً ومخوصاً ومشرحاً وأبضعة، وسبى النعم وسبايا كثيرة، فعارضهم الأشعث بن قيس، فانتزع السبايا من أيديهم. وانتهى إلى أبي بكر بارتداد الأشعث، وما فعل، فوجه عكرمة بن أبي جهل في جيش لمحاربتهم، فوافى وقد حصرهم زياد بن لبيد والمهاجر بن أبي أمية، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فقال المهاجر وزياد لمن معهما: قد قدم إخوانكم من الحجاز، فأشركوهم، وأعطوهم، وطلب الأشعث الصلح، وأخذ الأمان لعشيرته، ونسي نفسه، فلما قرأ عكرمة الصحيفة وليس فيها اسم الأشعث كبر وأخذه، فأتى به أبا بكر في وثاق، فمن عليه أبو بكر، وأطلق سبيله، وزوجه أم فروة أخته.
    وأراد أبو بكر أن يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب، فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت. فقال: بشرت بخير! فقام أبو بكر في الناس خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين يا ابن الخطاب، فما يمنعك أنت ما عبت علينا فيه؟ فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه فقال: ما عندنا إلا الطاعة، فجزاه أبو بكر خيراً، ثم نادى في الناس بالخروج، وأميرهم خالد بن سعيد، وكان خالد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمن، فقدم وقد توفي رسول الله، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر لخالد قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو الله ما أرى أن توجهه. فحل لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة.

    وقدمت عليه العشائر من اليمن، فأنفذهم جيشاً بعد جيش، فلما قدمت الجيوش الشام كتب إليه أبو عبيدة يعلمه إقبال ملك الروم في خلق عظيم، فجعل يسرح إليه الجيش بعد الجيش، والأول فالأول ممن يقدم عليه من قبائل العرب، ثم تتابعت عليه كتب أبي عبيدة بكل أخبار جمع الروم، فوجه أبو بكر عمرو بن العاص في جيش من قريش وغيرهم، ثم كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ويخلف المثنى بن حارثة بالعراق، فنفذ خالد في أهل القوة ممن كان معه، وخلف المثنى بن حارثة الشيباني في بقية الجيش بالعراق. وسار خالد نحو الشام، فلما صار إلى عين التمر لقي رابطة لكسرى عليهم عقبة بن أبي هلال النمري، فتحصنوا منه، ثم نزلوا على حكمه، فضرب عنق النمري. ثم سار حتى لقي جمعا لبني تغلب عليهم الهذيل بن عمران، فقدمه فضرب عنقه، وسبى منهم سبايا كثيرة بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلاماً، وصار إلى الأنبار، فأخذ دليلا يدله على طريق المفازة، فمر بتدمر، فتحصن أهلها، فأحاط بهم، ففتحوا له وصالحهم، ثم مضى إلى حوران، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقيل: إن خالدا سار في البرية والمفازة ثمانية أيام حتى وافاهم، فافتتحوا بصرى، وفحل، وأجنادين من فلسطين.
    وكانت بينهم وبين الروم وقعات بأجنادين صعبة في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين.
    وروى بعضهم: أن خالد بن الوليد صار إلى غوطة دمشق، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب، فبها سميت ثنية العقاب، وصار إلى حوران، فقصد مدينة بصرى فحاربهم، فسألوه الصلح، فصالحهم، ثم صار إلى أجنادين، وبها جمع للروم، فحاربهم محاربة شديدة، وتفرق جمع الكفرة. وكانت وقعة أجنادين يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاثة عشر.
    وبعث أبو بكر عثمان بن أبي العاص، وندب معه عبد القيس، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها، وافتتح مكران وما يليها، ووجه العلاء ابن الحضرمي في جيش، فافتتح الزارة وناحيتها من أرض البحرين، وبعث إلى أبي بكر بالمال، فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس بين الأحمر والأسود، والحر والعبد، دينارا لكل إنسان.
    وقدم إياس بن عبد الله بن الفجاءة السلمي على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله! إني قد أسلمت، فأعطاه أبو بكر سلاحا، فخرج من عنده، فبلغه أنه يقطع الطريق، فكتب إلى طريفة بن حاجزة: أن عدو الله ابن الفجاءة خرج من عندي، فبلغني أنه قطع الطريق، وأخاف السبيل، فسر إليه حتى تأخذه. وتقدم طريفة، فسار إليه، فقتل قوماً من أصحابه، ثم لقيه، فقال: إني مسلم، وإنه مكذوب علي! فقال طريفة: فإن كنت صادقا، فاستأسر حتى تأتي أبا بكر فتخبره! فاستأسر. فلما قدم به على أبي بكر أخرجه إلى البقيع فحرقه بالنار، وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء كان ينكح...
    وقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو جمعت القرآن، فإني أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقاً في الجريد وغيرها، وأجلس خمسة وعشرين رجلاً من قريش، وخمسين رجلاً من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، وأعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح.
    وروى بعضهم أن علي بن أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء، فالجزء الأول البقرة، وسورة يوسف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وحم السجدة، والذاريات، وهل أتى على الإنسان، والم تنزيل السجدة، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت، وسبح اسم ربك الأعلى، ولم يكن، فذلك جزء البقرة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.

    الجزء الثاني: آل عمران، وهود، والحج، والحجر، والأحزاب، والدخان، والرحمن، والحاقة، وسأل سائل، وعبس، والشمس وضحاها، وإنا أنزلناه، وإذا زلزلت، وويل لكل همزة، وألم تر، ولإيلاف قريش، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الثالث: النساء، والنحل، والمؤمنون، ويس، وحمعسق، والواقعة، وتبارك الملك، ويا أيها المدثر، وأ رأيت، وتبت، وقل هو الله أحد، والعصر، والقارعة، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، وطس النمل، فذلك جزء النساء ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الرابع: المائدة، ويونس، ومريم، وطسم الشعراء، والزخرف، والحجرات، وق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة، والممتحنة، والسماء والطارق، ولا أقسم بهذا البلد، وألم نشرح لك، والعاديات، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل يا أيها الكافرون، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
    الجزء الخامس: الأنعام، وسبحان، واقترب، والفرقان، وموسى وفرعون، وحم المؤمن، المجادلة، والحشر، والجمعة، والمنافقون، ون والقلم، وإنا أرسلنا نوحاً، وقل أوحي إلي، والمرسلات، والضحى، وألهاكم، فذلك جزء الأنعام ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة.
    الجزء السادس: الأعراف، وإبراهيم، والكهف، والنور، وص، والزمر، والشريعة، والذين كفروا، والحديد، والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة، وعم يتساءلون، والغاشية، والفجر، والليل إذا يغشى، وإذا جاء نصر الله، فذلك جزء الأعراف ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء السابع: الأنفال، وبراءة، وطه، والملائكة، والصافات، والأحقاف، والفتح، والطور، والنجم، والصف، والتغابن، والطلاق، والمطففين، والمعوذتين، فذلك جزء الأنفال ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
    وقال بعضهم: إن علياً قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع أمثال، وربع محكم ومتشابه. وقسم أبو بكر بين الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وكان يأخذ في كل يوم من بيت المال ثلاثة دراهم أجرة، وكان تسمى خليفة رسول الله.
    واعتل أبو بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر. فلما اشتدت به العلة عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر عثمان أن يكتب عهده، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، أما بعد، فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا، وأطيعوا، وإني ما ألوتكم نصحاً، والسلام. وقال لعمر بن الخطاب: يا عمر، أحبك محب وأبغضك مبغض، فلئن أبغض الحق، فلقديما ما، ولئن استمر في الباطل، فلربما.
    ودخل عبد الرحمن بن عوف في مرضه الذي توفي فيه، فقال: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت موليا، وقد زدتموني على ما بي إن رأيتموني استعملت رجلاً منكم فكلكم قد أصبح وارم أنفه، وكل يطلبها لنفسه. فقال عبد الرحمن: والله ما أعلم صاحبك إلا صالحاً مصلحاً، فلا تأس على الدنيا! قال: ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها، وثلاث لم اصنعها ليتني كنت صنعتها، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأما الثلاث التي صنعتها، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الأمر. وقدمت عمر بين يدي، فكنت وزيرا خيراً مني أميرا، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله الرجال، ولو كان أغلق على حرب، وليتني لم أحرق الفجاءة السلمي، إما أن أكون قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً، والثلاث التي ليت أني كنت فعلتها، فليتني قدمت الأشعث بن قيس تضرب عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئاً من الشر إلا أعان عليه، وليت أني بعثت أبا

    عبيدة إلى المغرب وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله، وليت أني ما بعثت خالد بن الوليد إلى بزاخة، ولكن خرجت فكنت ردا له في سبيل الله. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: فلمن هذا الأمر، فلا ينازعه فيه، وهل للأنصار فيه من شيء، وعن العمة والخالة أتورثان أو لا ترثان، وإني ما أصبت من دنياكم بشيء، ولقد أقمت نفسي في مال الله وفيء المسلمين مقام الوصي في مال اليتيم إن استغنى تعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف، وإن والي الأمر بعدي عمر بن الخطاب، وإني استسلفت من بيت المال مالاً، فإذا مت فليبع حائطي في موضع كذا وليرد إلى بيت المال.
    وأوصى أبو بكر بغسله أسماء بنت عميس امرأته، فغسلته ودفن ليلاً، وورثه أبو قحافة السدس. وكان الغالب على أبي بكر عمر بن الخطاب، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة، ومن شهور العجم في آب، وقيل لليلتين بقيتا منه سنة ثلاثة عشر، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن في البيت الذي فيه قبر رسول الله، وكان له يوم توفي ثلاث وستون سنة، وكان له من الولد الذكور ثلاثة توفي أحدهم في حياته، وهو عبد الله، وخلف اثنين محمداً وعبد الرحمن، وكان حاجبه مولاه سديدا، وكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر، وحج بالناس سنة اثنا عشر.
    وكان عمال أبي بكر لما توفي: عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ورجلاً من الأنصار على اليمامة، وحذيفة بن محصن على عمان، والعلاء بن الحضرمي على البحرين، وخالد بن الوليد على جيش الشام، والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة، وسويد بن قطبة على البصرة. صفة أبي بكر: وكان أبو بكر أبيض، نحيفاً، خفيف العارضين، أحنى، لا يستمسك إزاره على حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، عاري الأشاجع، يخضب لحيته بالحناء والكتم.
    وكان من يؤخذ عنه الفقه، في أيام أبي بكر، علي بن أبي طالب، وعمر ابن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن مسعود.
    أيام عمر بن الخطابثم استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل لسبع بقين منه سنة ثلاثة عشر، وكان ذلك من شهور العجم في آب، وكانت الشمس يومئذ في الأسد ست عشرة درجة، والقمر في العقرب أربعاً وعشرين درجة وعشر دقائق، وزحل في القوس ثلاثين درجة راجعاً، والمشتري في الحوت تسع درج وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الثور إحدى وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في الحوت تسع درجات، وعطارد في السنبلة عشر درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في القوس اثنتي عشرة درجة وخمساً وثلاثين دقيقة، فصعد المنبر، فجلس دون مجلس أبي بكر بمرقاة، وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر، وفضله، وترحم عليه، ثم قال: ما أنا إلا رجل منكم، ولو لا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم. فأثنى الناس عليه خيراً.
    وكان أول ما عمل به عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة على العرب، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وكتب بعقده وولايته الشام مكان خالد بن الوليد مع شداد بن أوس، وصير خالداً موضع أبي عبيدة، وكان عمر سيء الرأي في خالد، على أنه ابن خاله، لقول كان قاله
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:22 am

    وخطب سعد بن أبي وقاص المسلمين، فرغبهم في الجهاد، وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين، ورغب كل رجل من المسلمين صاحبه، وأنشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر، واقتتلوا قتالاً شديداً وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم، وكان سعد يومئذ عليلاً فصار إلى قصر العذيب فنزله، وتحصن فيه، فبلغ رستم فوجه خيلاً، فأحدقت بالقصر، فلما بلغ المسلمين ذلك صاروا إلى القصر، فانهزم أصحاب رستم، ثم أصبحوا من غد، فوافاهم ستة آلاف من جيش أبي عبيدة بن الجراح، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد: خمسة آلاف من مضر وربيعة، وألف من أفناء المسلمين، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان فتح الشام قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، وأخرج رستم الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا أعينها، وقطعوا مشافرها.
    وزحف المسلمون وأصبحوا، في اليوم الرابع، وللمسلمين العلو، وقتل رستم، وقع عليه عدل كان على بغل فقتله، وكان الذي طرح عليه العدل هلال ابن علفة، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي إلي! وقيل: قتله زهير بن عبد شمس ابن أخي جرير بن عبد الله، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانكشفوا مدبرين، وجمعت الأموال والأسلاب وبيع سلب رستم، فبلغ سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفاً، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة، ورضخ لعيال الشهداء من صلب الفيء، ورضخ للنساء من صلب الفيء، فأما العبيد فإنهم عفوا، وأوفد سعد إلى عمر وفدا، فأجازهم عمر ثمانين ديناراً ثمانين ديناراً.
    وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر سبعون رجلاً، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد الفتح مائة وعشرون، ومن أصحاب رسول الله مائة. ونفرت جميع الفرس إلى المدائن منهزمين لا يلوون على شيء، ويزدجرد الملك بها، فأتبعهم سعد بالمسلمين، فحاصرهم شهراً وخمسة عشر يوماً، ثم خرج الفرس هاربين، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك كان في سنة ستة عشر.
    وفيها أرخ عمر الكتب، وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه على بن أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة.
    وتوجه عتبة بن غزوان إلى عمر، واستخلف على البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، والمغيرة بن شعبة في الجيش، فلما شخص عتبة جاء من كان بميسان، ومن كان بكور دجلة من الأعاجم، وعليهم الفيلكان، فجمع لهم المغيرة بن شعبة عدة من المسلمين، فسار بهم حتى لقي الأعاجم بميسان، فهزمهم وسبى أهلها عنوة، وكتب المغيرة بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لعتبة: استعمل أهل الوبر على أهل المدر، وكتب إلى المغيرة: إنك خليفة عتبة بن غزوان حتى يقدم عتبة، وخرج عتبة من عند عمر، فلما كان بين المدينة والبصرة توفي عتبة، فكتب عمر إلى المغيرة بولايته على البصرة.
    فلما كانت وقعة القادسية صار المغيرة إلى سعد ثم رجع إلى عمله، وكان يختلف إلى امرأة من بني هلال يقال لها: أم جميل زوجة الحجاج بن عتيك الثقفي، فاستراب به جماعة من المسلمين، فرصده أبو بكر، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وزياد بن عبيد، حتى دخل إليها فرفعت الريح الستر فإذا به عليها، فوفد على عمر، فسمع عمر صوت أبي بكرة وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم. قال: لقد جئت ببشر؟ قال: إنما جاء به المغيرة. ثم قص عليه القصة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا مكانه، وأمره أن يشخص المغيرة، فلما قدم عليه جمع بينه وبين الشهود، فشهد الثلاثة، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلاً من أصحاب محمد، فلما دنا قال: ما عندك يا سلح العقاب؟ قال: رأيت أمراً قبيحاً، وسمعت نفساً عالياً، ورأيت أرجلاً مختلفة، ولم أر الذي مثل الميل في المكحلة. فجلد عمر أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد إن المغيرة زان، فأراد عمر أن يجلده ثانية، فقال له: علي إذا توفي صاحبك حجارة. وكان عمر إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله بالحجارة. وكان بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وستون رجلاً.

    رجع الحديث إلى خبر أبي عبيدة بن الجراح وحصاره أهل بيت المقدس لأنا جعلنا كل خبر في سنته ووقته. وكتب أبو عبيدة إلى عمر يعلمه مطاولة أهل إيلياء وصبرهم، وقال بعضهم: إن أهل إيلياء سألوه أن يكون الخليفة المصالح لهم، فأخذ عليهم العقود والمواثيق، وكتب إلى عمر فخرج إلى الشام، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقرب خالدا، وأدناه، وأمره. فسار في الناس على مقدمته، وذلك في رجب سنة ستة عشر، فنزل الجابية من أرض دمشق ثم صار إلى بيت المقدس، فافتتحها صلحاً، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم، وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً، وأشهد شهوداً، وأتاه عمرو بن العاص بالطلاء فقال: كيف يصنع هذا؟ فقال: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه، فقال: ما أرى بذلك بأساً.
    واختلف القوم في صلح بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: النصارى، والمجمع عليه النصارى، وقام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي، وما يجد ذلك عامة الناس. فأخذ عمر أمراء الشام بأن ضمنوا له القوت للمسلمين في كل يوم خبزين لكل رجل وما يصلحه من الخل والزيت، وأمر عمر أن تقسم الغنائم بين الناس بالسوية خلا لخم وجذام، وقال: لا أجعل من خرج من الشقة إلى عدوه كمن خرج من بيته. فقام إليه رجل فقال: إن كان الله جعل الهجرة إلينا فخرجنا من بيوتنا إلى عدونا نحرم حظنا.
    ومر عمر راجعا إلى المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم، فخلى سبيلهم. فأتاه جبلة بن الأيهم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع بالعرب؟ قال: بل الجزية، وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفاً من قومه، حتى لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره.
    ووجه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين تأذن لي في أن أصير إلى مصر، فإنا إن فتحناها كانت قوة للمسلمين، وهي من أكثر الأرض أموالا، وأعجزه عن القتال، ولم يزل يعظم أمرها في نفسه، ويهون عليه فتحها، حتى عقد له على أربعة آلاف كلهم من عك، وقال له: سيأتيك كتابي سريعاً، فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخل شيئاً من أرضها، فانصرف، فإن دخلتها ثم جاءك كتابي فامض، واستعن بالله.
    وسار عمرو مسرعاً، فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب، ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية؟ قالوا: من مصر! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئاً من أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحواً من ثلاثة أشهر، ثم فتح الله عليه، ومضى حتى صار إلى أم دنين، فقاتلوه قتالاً شديداً، وأبطأ عنه الفتح، وكتب إلى عمر يستمده، فوجه بأربعة آلاف، وكتب إليه: أنه قد صير على كل ألف رجل رجلاً يقوم مقام ألف رجل منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، وقيل مسلمة بن مخلد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم قال الزبير: إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع السلم ليلاً إلى جانب الحصن، ثم اقتحم معه جماعة، وكبر المسلمون، فلما استحر القتل دعوا إلى الصلح، فقال بعضهم: صالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل، وقيل لم يكن صلح، وإنما افتتح عنوة.
    ثم مضى حتى صار إلى الإسكندرية وبها جموع الروم، وعليها ثلاثة حصون، فقاتلوه قتالاً شديداً، فطالت المدة بينهم ثلاثة أشهر. وكان المقوقس قد سأل عمرا أن يصالحه عن الإسكندرية على أن يطلق من أراد منهم أن يمضي إلى بلاد الروم، ومن أقام فعليه ديناران خراج، فأجابه إلى ذلك، فلما بلغ هرقل ملك الروم غضب...
    فقال المقوقس: إني قد نصحت لهم فاستغشوني، فلا تجبهم إلى ما أجبتني إليه.

    وخرج عمر إلى مكة سنة سبع عشر، فاعتمر عمرة رجب، ووسع المقام، وباعده من البيت، ووسع الحجر، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، واشترى من قوم منازلهم، وامتنع آخرون، فهدم عليهم ووضع أثمان منازلهم في بيت المال. وكان فيما هدم بيت العباس بن عبد المطلب، فقال له: تهدم داري؟ قال: لأوسع بها في المسجد الحرام! فقال العباس: سمعت رسول الله يقول: إن الله أمر داود أن يبني له بيتا بإيلياء فبناه ببيت المقدس، وكان كلما ارتفع البناء سقط فقال داود: يا رب إنك أمرتني أن أبني لك بيتا، وإني كلما بنيت سقط البناء، فأوحى الله إليه: أني لا أقبل إلا الطيب، وإنك بنيت لي في غصب، فنظر داود فإذا قطعة أرض لم يكن شراها، فابتاعها من صاحبها بحكمة، ثم بنى فتم البناء. قال: ومن يشهد أنه سمع هذا من رسول الله؟ فقام قوم فشهدوا. قال: فتحكم إلينا يا أبا الفضل، وإلا أمسكنا؟ قال: فإني قد تركتها لله. وانصرف عمر بعد عشرين يوماً، وكان العباس يسايره، وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له: تقدمتك، وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم قوم... فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة، ونضعف على الخلافة.
    ثم خرج يريد الشام حتى بلغ إلى سرغ، فبلغه أن الطاعون قد كثر، فرجع، فلقيه أمراء الشام، وكلمه أبو عبيدة بن الجراح أشد كلام، وقال: أفرار من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله. وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: أنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله. فتزوجها، وأمهرها عشرة آلاف دينار. وفي هذه السنة نزل المسلمون الكوفة، واختطوا بها الخطط، وبنوا المنازل. وقيل كان ذلك في أول سنة ثمان عشر، ونزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلاً. وأصاب الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة في عام الرمادة، وهي سنة ثمان عشر، فخرج عمر يستسقي، وأخرج الناس، وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك! اللهم فلا تخيب ظنهم في رسولك، فاسقوا. وأجرى عمر الأقوات في تلك السنة على عيالات قوم من المسلمين، وأمر أن تكون نفقات أولاد اللقط ورضاعهم من بيت المال.
    وفي هذه السنة سمي عمر أمير المؤمنين، وكان يسمى خليفة خليفة رسول الله، وكتب إليه أبو موسى الأشعري: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، وجرت عليه، وقيل إن المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لتحرجن مما قلت. فقال: ألسنا مسلمين ؟ قال: بلى! قال: وأنت أميرنا؟ قال: اللهم نعم.
    وكان أبو عبيدة بن الجراح قد وجه عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فلم يزل يحاصر عليهم ثم افتتح الرقة، وسروج، والرها، ونصيبين، وسائر مدن الجزيرة، وكانت صلحاً كلها، ووضع عليها الخراج على الأرضين ورقاب الرجال. على كل إنسان أربعة وخمسة دنانير وستة في سنة ثمان عشر، فانصرف إلى أبي عبيدة.
    وكثر الطاعون بالشام، وكان طاعون عمواس، فمات أبو عبيدة بن الجراح، واستخلف عياض بن غنم على حمص، وما والاها من قنسرين، ومعاذ بن جبل على الأردن، ولم يلبث معاذ بن جبل إلا أياماً حتى توفي، ومات يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، فأقر عمر معاوية على عمل يزيد، ومات في تلك السنة في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفاً سوى من لم يحصر منهم، وغلا السعر، واحتكر الناس، فنهى عمر عن الاحتكار.
    وفيها توفي الفضل بن العباس بن عبد المطلب بفلسطين، وكانت فلسطين قد افتتحت خلا قيسارية، وكان معاوية بن أبي سفيان مقيما عليها، فافتتحها سنة ثمان عشر، وقيل كان بها ثمانون ألف مقاتل، وبعث رجلين من جذام إلى عمر بالبشارة، ثم أردفهما برجل من خثعم يقال له: زهير، وقال له: إن قدرت أن تسبق الجذاميين فافعل، فمر بهما الخثعمي، وهما نائمان، فجازهما، وقدم المدينة ليلاً، فأتى عمر فأخبره، فكبر وحمد الله، ثم خرج إلى المسجد، وأمر بنار، فأتي بها، فحمد الله، وأعلمهم بفتح قيسارية.

    وكتب سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى عمر بعد مقامه بثلاث سنين يعلمه اجتماع الفرس بجلولاء، وهي قرية من قرى السواد، بالقرب من حلوان، وكتب إليه أن ينهض إليهم فيمن معه، ووجه عبد الله بن مسعود، فأقامه مقام سعد، وقيل صير سلمان بالمدائن، وكان ابن مسعود يفقههم ويعلمهم، فكانت وقعة جلولاء سنة تسع عشر، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، وهرب يزدجرد فيمن بقي معه، فلحق بإصبهان، ثم سار إلى ناحية الري، وأتاه صاحب طبرستان، فأعلمه حصانة بلاده، فامتنع عليه، ومضى إلى مرو، وكان معه ألف أسوار من أساورته، وألف جبار، وألف صناجة، فكاتب نيزك طرخان، فعلاه بعمود، فمضى منهزما حتى دخل بيت طحان، ولحقوه فقتلوه في بيت الطحان، فصارت أساورته إلى بلخ، ووقعت صناجته، إلى هراة وجباروه إلى مرو، وافترقت جموع الفرس وأذهب الله ملكهم، وفرق جمعهم، ورجع سعد إلى الكوفة، فاختط مسجدها، وقصر إمارتها، فاختط الأشعث جبانة كندة، واختط كندة حوله، واختط يزيد بن عبد الله ناحية البرية، واختطت بجلة حوله.
    وشاور عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله! هذا الرأي. ووجه عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، فمسحا السواد، وأمرهما أن لا يحملا أحداً فوق طاقته، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم، وأجرى على عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجراباً من دقيق، وأمره أن لا يمسح تلا، ولا أجمة، ولا مستنقع ماء، ولا ما لا يبلغه الماء، وأن يمسح بالذراع السوداء، وهو ذراع وقبضة، وأقام إبهامه فوق القبضة شيئاً يسيراً، فمسح عثمان كل شيء دون جبل حلوان إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات، فكتب إلى عمر: أني وجدت كل شيء بلغه الماء من عامر وغير عامر، بلغه الماء، عمله صاحبه أو لم يعمله... درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطاب خمسة دراهم.
    وفرض على رقابهم: على الموسر ثمانية وأربعين، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين، وعلى من لا يجد اثني عشر درهماً، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلاً! فحمل من خراج السواد، في أول سنة، ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم.
    واجتمع الدهاقين إلى عثمان بن حنيف في الكرم، فقالوا: إنما في قرب من المصر يباع العنقود منه بدرهم، فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر أن يحمل من هذا، ويوضع على هذا بقدر الموضعين. وكان عمر يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم، وكذلك فعل علي، وكتب عمر إلى أبي موسى أن يضع على أرض البصرة من الخراج مثل ما وضع عثمان بن حنيف على أرض الكوفة، وكتب إلى عثمان بن حنيف: أن احمل إلى أهل المدينة أعطياتهم، فإنهم شركاؤهم. فكان يحمل ما بين العشرين ألف ألف إلى الثلاثين ألف ألف.
    ودون عمر الدواوين وفرض العطاء سنة عشرين، وقال: قد كثرت الأموال. فأشير عليه أن يجعل ديوانا، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وقال: اكتبوا الناس على منازلهم. وابدءوا ببني عبد مناف. فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف، وقيل بدأ بالعباس بن عبد المطلب في ثلاثة آلاف، وكل من شهد بدراً من قريش في ثلاثة آلاف، ومن شهد بدرا من الأنصار في أربعة آلاف، ولأهل مكة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان في خمسة آلاف، ثم قريش على منازلهم ممن لم يشهد بدراً، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف ستة آلاف، ولعائشة وأم حبيبة وحفصة في اثني عشر ألفاً، ولصفية وجويرية في خمسة آلاف خمسة آلاف، ولنفسه في أربعة آلاف، ولابنه عبد الله بن عمر في خمسة آلاف، وفي أهل مكة الذين لم يهاجروا في ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن في أربعمائة، ولمضر في ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين.
    وكان أول مال أعطاه مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين، مبلغه سبعمائة ألف درهم. قال: اكتبوا

    الناس على منازلهم، وكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه على الخلافة. فلما نظر عمر قال: وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدءوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه، حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله. وفرض للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن، وكانت فريضته لهن في ألفين، وألف وخمسمائة، وألف، وفرض لأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون في ألفين، وفرض لأم عبد في ألف وخمسمائة، وفرض لأشراف الأعاجم، وفرض لفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك والنخيرخان، ولخالد وللجميل ابني بصبهري دهقان الفلوجة، وللهرمزان، ولبسطام بن نرسى دهقان بابل، وجفينة العبادي في ألفين ألفين، وقال: قوم أشراف أحببت أن أتألف بهم غيرهم.
    وقال عمر في آخر سنيه: إني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر.
    ومصر الأمصار في هذه السنة. وقال: الأمصار سبعة: فالمدينة مصر، والشام مصر، والجزيرة مصر، والكوفة مصر، والبصرة مصر... وجند الأجناد فصير فلسطين جنداً، والجزيرة جنداً، والموصل جنداً، وقنسرين جنداً. وفي هذه السنة فتح عمرو بن العاص الإسكندرية وسائر أعمال مصر، واجتباها أربعة عشر ألف ألف دينار من خراج رؤوسهم، لكل رأس ديناراً، وخراج غلاتهم من كل مائة إردب إردبين، وأخرج أصحاب هرقل، ومات هرقل ملك الروم، فزاد ذلك في وهنهم وضعفهم.
    ولما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية أوفد إلى عمر بن الخطاب معاوية بن حديج الكندي، فقال له معاوية: اكتب معي! فقال: وما أصنع بالكتاب معك؟ خبره بما رأيت وأد إليه الرسالة. فلما أتى عمر وخبره الخبر خر ساجداً، وكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يحمل طعاماً في البحر إلى المدينة يكفي عامة المسلمين، حتى يصير به إلى ساحل الجار، فحمل طعاماً إلى القلزم، ثم حمله في البحر في عشرين مركباً في المركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر، حتى وافى الجار. وبلغ عمر قدومها، فخرج ومعه جلة أصحاب رسول الله، حتى قدم الجار، فنظر السفن، ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى هنالك قصرين، وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس، ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك.
    رجع الحديث إلى خبر سعد بن أبي وقاص. وقد رجع سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وأقام بها واختطت الخطط، وبنيت المنازل والمحال، ثم إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عمر عنهم، فدعا عليهم سعد إلا يرضيهم الله عز وجل عن أمير، ولا يرضى أميرا منهم. وولى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله، ووجه جبير بن مطعم، فمكر به المغيرة، وحمل عنه خبرا إلى عمر، وقال له: ولني، يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل فاسق. قال: وما عليك مني؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاه الكوفة، فسألهم عن المغيرة، فقالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن وليتكم مسلما تقيا قلتم: هو ضعيف، وإن وليتكم مجرماً قلتم: هو فاسق. فيقال إنه رد سعد بن أبي وقاص.
    وأخرج عمر يهود خيبر من الحجاز لما قتل مظهر بن رافع الحارثي وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وقسم خيبر على ستة عشر سهماً.
    ووجه ميسرة بن مسروق العبسي إلى أرض الروم، فكان أول جيش دخلها جيش ميسرة في هذه السنة، وهي سنة عشرون، وأغزى حبيب بن مسلمة الفهري، وقدر له أجلا، فجاز ذلك الوقت، واشتد غم عمر حتى وافى، فقال له: ما أخرك عن الوقت الذي وقته لك؟ قال: اعتل رجل من المسلمين، فأقمنا عليه حتى قضى الله ما قضى. ولم يغز عمر بلاد الروم بعد حبيب، وكان عمر يقول: إذا ذكر الروم والله لوددت إن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه، لما كان يكره قتالهم. ووجه علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركباً، أو نحوها، فأصيبوا جميعاً

    فحلف عمر لا يحمل في البحر أحداً أبدا. وفي هذه السنة كانت زلازل لم ير مثلها.
    وافتتحت نهاوند سنة إحدى وعشرون، وأمير الناس النعمان بن مقرن المزني، وكانت الأعاجم قد اجتمعت من الري وقومس وأصبهان وعدة بلدان، حتى صاروا إلى نهاوند، وقالوا: قد غلبنا على بلدنا، ونالنا الذل في دارنا. فبعث عمر النعمان في جيش، فصار إلى نهاوند، وقد ملك الأعاجم عليهم ملكا يقال له دوير. واقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل النعمان بن مقرن، ثم هزم الله الأعاجم، وفتحت نهاوند.
    وفي غزاة نهاوند كان عمر بن الخطاب على منبر رسول الله يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند، فقال سارية لما قدم من نهاوند: أحدق بنا العدو، فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى الجبل، فسلمنا.
    وفتح عمرو بن العاص برقة، وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا في جزيتهم في هذه السنة، ثم سار حتى أتى أطرابلس إفريقية، فافتتحها، وكتب إلى عمر يستأذنه في غزو باقي إفريقية، فكتب إليه أنها مفرقة، ولا يغزوها أحد ما بقيت. ووجه بسر بن أبي أرطأة، فصالح أهل ودان وأهل فزان، وبعث عقبة بن نافع الفهري، وكان أخا العاص ابن وائل السهمي لأمه، إلى أرض النوبة، ولقي المسلمون من النوبة قتالاً شديداً. ولما انصرف المسلمون من بلاد النوبة اختطوا الجيزة، وكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: لا تجعل بيني وبينك ماء، وانزلوا موضعا متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت.
    وافتتحت آذربيجان سنة إثنان وعشرون، وأمير الناس المغيرة بن شعبة. وقيل هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص، وافتتح أبو موسى الأشعري كور الأهواز وإصطخر سنة ثلاث وعشرون، وكتب إليه عمر أن ضع عليها الخراج كما وضع على سائر أرض العراق، ففعل ذلك، وافتتح عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي همدان وأصبهان في هذه السنة، وافتتح قرظة بن كعب الأنصاري الري، وافتتح معاوية بن أبي سفيان عسقلان، وولى عمر خالد بن الوليد الرها وحران ورقة وتل موزن وآمد، فأقام بها سنة، ثم استعفى، فأعفاه، وقدم المدينة، فأقام بها أياماً، ثم توفي خالد بالمدينة.
    وقال الواقدي إن خالد بن الوليد توفي بحمص، فأوصى إلى عمر، ولما ورد إليه خبر وفاته بكته حفصة وآل عمر، وكثر بكاؤهن عليه، فقال عمر: حق لهن أن يبكين على أبي سليمان، وأظهر عليه جزعا. ووجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة مددا له، فلم يصل إليه إلا بعد قتل عمر.
    وأذن عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في هذه السنة، وحج معهن. قال بعضهم: فرأيت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج، وعليهن الطيالسة الزرق سنة ثلاث وعشرون، وكان يكون أمامهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وراءهن، فلا يدعان أحداً يدنو منهن. وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم. قيل: إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال: والله لئن كان هذا المال لله، فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر: إما أن تكون مؤمناً لا تغل أو منافقاً أفك. فقال: بل مؤمن لا أغل. واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة. لا تخرجوا! فتسللوا بالناس يميناً وشمالاً. قال عبد الرحمن بن عوف، فقلت: نعم، يا أمير المؤمنين، ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن اسكت عنك، فلا أجيبك، خير لك من أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
    وروي عن ابن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: اخرج بنا نحرس

    نواحي المدينة! فخرج، وعلى عنقه درته، حافيا، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتأوه صعدا، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال: أمر الله يا ابن عباس! قال: إن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: غص غواص، إن كنت لتقول فتحسن. قال: ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيره. قال: صدقت! قال فقلت له: أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعط في غير سرف ومانع في غير إقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص؟ قال: مؤمن ضعيف ! قال فقلت: طلحة بن عبد الله؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه باو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال: ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى يفوته الصلاة. قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته. ثم سكت. قال فقال: أمضها يا ابن عباس! أترى صاحبكم لها موضعاً؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو والله كما ذكرت ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالا: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السن. قال قلت: يا أمير المؤمنين. هلا استحدثتم سنة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبدود، وقد كعم عنه الأبطال، وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطا، ولا سبقتموه بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم ؟ فقال: إليك يا ابن عباس! أ تريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت. فقال: والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لاحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليتحاربن.
    وحج عمر جميع سني ولايته، إلا السنة الأولى، وهي سنة ثلاث عشر، فإن عبد الرحمن بن عوف حج بالناس، وكان الغالب عليه عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.
    وروى بعضهم أن عبد الله بن عباس كان على شرطه، وكان حاجبه يرفا مولاه، فطعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وكان ذلك من شهور العجم في تشرين الآخر، وكان الذي طعنه أبو لؤلؤة، عبد للمغيرة بن شعبة، وجاه بخنجر مسموم، وكانت سنو عمر يومئذ ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وثمانية أشهر.
    ولما طعن عمر قال لابنه: إني كنت استسلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفاً، فليرد من مال ولدي، فإن لم يف مالهم فمال آل الخطاب، فإن لم يف فمال بني عدي، وإلا قريش عامة، ولا تعدوهم.
    ولما حضرته الوفاة اجتمع إليه الناس فقال: إني قد مصرت الأمصار، ودونت الدواوين، وأجريت العطايا، وغزوت في البر والبحر، فإن أهلك، فالله خليفتي عليكم، وسترون رأيكم. إني قد تركتكم على الواضحة، إنما أخاف عليكم أحد رجلين: إما رجلاً يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله عليه...
    وإني قد قرأت في كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، نكالا من الله، والله عليم حكيم، فلا تهلكوا عن الرجم. وقد رجم رسول الله، ورجمنا، ولو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي، فقد قرأتها في كتاب الله.
    وصير الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني. فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب آل الخطاب ما تحملوا منها! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيباً أن يصلي بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال: إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا بأحد، فاضرب أعناقهم جميعاً.

    وكانت الشورى بقية ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وصهيب يصلي بالناس، وهو الذي صلى على عمر. وكان أبو طلحة يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل العجل، فقد قرب الوقت، وانقضت المدة.
    ودفن عمر إلى جانب أبي بكر، وخلف من الولد الذكور ستة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعاصما، وزيدا، وأبا عبد الله، ووثب ابنه عبيد الله فقتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته، واغتر الهرمزان فقتله، وكان عبيد الله يحدث أنه تبعه، فلما أحس الهرمزان بالسيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
    وروى بعضهم أن عمر أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان، وأن عثمان أراد ذلك، وقد كان قبل أن يلي الأمر أشد من خلق الله على عبيد الله، حتى جر بشعره، وقال: يا عدو الله قتلت رجلاً مسلماً، وصبية طفلة، وامرأة لا ذنب لها! قتلني الله إن لم أقتلك. فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص. وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم.
    صفة عمر بن الخطاب: وكان عمر طوالاً، أصلع، أقبل، شديد الأدمة، أعسر يسراً، يعمل بيديه جميعاً، ويصفر لحيته، وقيل يغيرها بالحناء والكتم. وكان الفقهاء في أيامه الذين يؤخذ عنهم العلم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت. وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس. وكان عمال عمر، وقت وفاته: سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وقيل المغيرة، وأبو موسى الأشعري على البصرة، وعمير بن سعد الأنصاري على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام، وعمرو بن العاص على مصر، وزياد بن لبيد البياضي على بعض اليمن، وأبو هريرة على عمان، ونافع بن الحارث على مكة، ويعلى بن منية التميمي على صنعاء، والحارث بن أبي العاص الثقفي على البحرين، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
    أيام عثمان بن عفانثم استخلف عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لما توفي عمر، واجتمعوا للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً، ففعلوا ذلك، فأقام ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر.
    فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى، فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني. فخلا بعثمان فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده.

    وخرج عثمان، والناس يهنئونه، وكان ذلك يوم الإثنين، مستهل المحرم، سنة أربع وعشرون، ومن شهور العجم في تشرين الآخر، وكانت الشمس يومئذ في العقرب ثلاث عشرة درجة، وزحل في الحمل إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الجدي أربع درجات وأربعين دقيقة، والمريخ في الميزان خمسين دقيقة، والزهرة في العقرب إحدى عشرة درجة راجعا، والرأس في الثور أربعا وعشرين درجة، فصعد عثمان المنبر، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: اليوم ولد الشر، وكان عثمان رجلاً حيياً فارتج عليه. فقام مليا لا يتكلم، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب، وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطبة. ثم نزل. وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما هذا البدعة! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كان الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأمة ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت ذلك له فقال: لقد أخبرنا فلم نال.
    وأكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال: ألا إني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله دارا، فنسب الموضع إليه، كويفة ابن عمر، فقال بعضهم:
    أبا عمرو عبيد الله رهن ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
    وافتتح المغيرة بن شعبة همذان، وكتب إلى عثمان أنه قد دخل الري وأنزلها المسلمين. وكانت الري قد افتتحت في حياة عمر، وقيل لم تفتح، ولكنها محاصرة، وافتتحت سنة أربع وعشرون. وكتب عثمان إلى الحكم بن أبي العاص أن يقدم عليه، وكان طريد رسول الله، وقد كان عثمان لما ولي أبو بكر اجتمع هو وقوم من بني أمية إلى أبي بكر، فسألوه في الحكم، فلم يأذن له، فلما ولي عمر فعلوا ذلك، فلم يأذن له، فأنكر الناس إذنه له، وقال بعضهم: رأيت الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فزر خلق، وهو يسوق تيسا، حتى دخل دار عثمان، والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان.
    وانتقضت الإسكندرية سنة خمس وعشرون، وحاربهم عمرو بن العاص، حتى فتحها وسبى الذراري، ووجه بهم إلى المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم الأولى، وعزل عمرو بن العاص

    وولى عبد الله بن أبي سرح، فكان ذلك سبب العداوة بين عثمان وعمرو. وقال عثمان لعمرو لما قدم: كيف تركت عبد الله بن سعد؟ قال: كما أحببت! قال: وما ذاك؟ قال: قوي في ذات نفسه، ضعيف في ذات الله. قال: لقد أمرته أن يتبع أثرك. قال: لقد كلفته شططا. واجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو: درت اللقاح! قال: ذاك إن يتم يضر بالفصلان. ووسع عثمان في المسجد الحرام، وزاد فيه سنة ست وعشرون، وابتاع من قوم منازلهم، وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم للحبس. وقال: ما جراكم علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر، فلم تصيحوا، وجدد أنصاب الحرم.
    وفي هذه السنة افتتح عثمان بن أبي العاص الثقفي سابور. وفيها ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة مكان سعد، وصلى بالناس الغداة، وهو سكران، أربع ركعات، ثم تهوع في المحراب، والتفت إلى من كان خلفه، فقال: أزيدكم؟ ثم جلس في صحن المسجد، وأتي بساحر يدعى بطروي من الكوفة، فاجتمع الناس عليه، فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها، ويعمل أعاجيب، فرآه جندب بن كعب الأزدي، فخرج إلى بعض الصياقلة، فأخذ منه سيفا ثم أقبل في الزحام وقد ستر السيف حتى ضرب عنقه، ثم قال له: أحي نفسك، إن كنت صادقا! فأخذه الوليد، فأراد أن يضرب عنقه، فقام قوم من الأزد، فقالوا: لا تقتل والله صاحبنا، فصيره في الحبس. وكان يصلي الليل كله، فنظر إليه السجان، وكان يكنى أبا سنان، فقال: ما عذري عند الله إن حبستك على الوليد يقتلك؟ فأطلقه، فصار جندب إلى المدينة، وأخذ الوليد أبا سنان فضربه مائتي سوط فوثب عليه جرير بن عبد الله، وعدي بن حاتم، وحذيفة بن اليمان، والأشعث بن قيس، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه. فلما قدم الوليد قال عثمان: من يضربه؟ فأحجم الناس لقرابته، وكان أخا عثمان لأمه، فقام علي فضربه، ثم بعث به عثمان على صدقات كلب وبلقين.
    وأغزى عثمان الناس إفريقية سنة سبع وعشرون، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلقي جرجيس ودعاه إلى الإسلام، أو أداء الجزية، فامتنع، وكان جرجيس في جمع عظيم، ففض الله ذلك الجمع، فطلب جرجيس الصلح، فأبى عليه، وهزموه حتى صار إلى مدينة سبيطلة، والتحمت الحرب حتى قتل جرجيس، وكثرت الغنائم، وبلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار.
    وروى بعضهم أن عثمان زوج ابنته من مروان بن الحكم، وأمر له بخمس هذا المال. ووجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله بن الزبير إلى عثمان بالبشارة، فسار عشرين ليلة، حتى قدم المدينة، وأخبر عثمان، فصعد عثمان المنبر، فخبر به الناس.
    ووجه عبد الله بن سعد جيشاً إلى أرض النوبة، فسألوا الموادعة والصلح على أن عليهم في كل سنة ثلاثمائة رأس، ويبعث إليهم مثل ذلك من الطعام والشراب، فكتب إلى عثمان بذلك، فأجابهم إلى ذلك. وافتتح معاوية بن أبي سفيان قبرس.
    وفي هذه السنة بني عثمان داره، وبني الزوراء، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وعشرون، وحملت له الحجارة من بطن نخل، وجعل في عمدة الرصاص، وجعل طوله مائة وستين ذراعاً وعرضه مائة ذراع وخمسين ذراعا، وأبوابه ستة على ما كانت عليه على عهد عمر.
    وعزل أبا موسى الأشعري، وولى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فلما بلغ أبا موسى ولاية عبد الله بن عامر قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: قد جاءكم غلام كثير العمات والخالات والجدات في قريش، يفيض عليكم المال فيضاً. فلما قدم ابن عامر البصرة وجه الجنود لفتح سابور وفسا ودارابجرد وإصطخر من أرض فارس، وعلى ذلك الجند الذي فتح إصطخر عبيد الله بن معمر التيمي، فقتل عبيد الله بن معمر في أصل مدينة إصطخر، فقام مكانه عمر بن عبيد الله حتى فتح المدينة، ثم سار عبد الله بن عامر بنفسه إلى إصطخر ووجه عبد الرحمن بن سمرة، وكانت له صحبة، إلى سجستان، فافتتح زرنج بعد نكبة شديدة.
    ولما ولي عثمان عبد الله بن عامر البصرة وولي سعيد بن العاص الكوفة كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، فأتى دهقان من

    دهاقين خراسان إلى عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن خازم السلمي على مقدمته، فسار إلى نيسابور. وأقام على المدينة، ولقيه عبد الله بن عامر، فافتتح نيسابور عنوة في سنة ثلاثون، وصالح أهل الطبسين على خمسة وسبعين ألفاً، ثم سار حتى صار إلى مدينة أبر شهر، فحاصرهم شهوراً، ثم فتحها وصالحهم، وكتب إلى أهل هراة، فكتبوا إليه: إن فتحت أبرشهر أجبناك إلى ما سألت، وبوشنج وبادغيس يومئذ إلى هراة، وكانت طوس ونيسابور إلى أبر شهر، ثم فتحها وصالحهم على ألف ألف درهم.
    وبعث الأحنف بن قيس إلى هراة ومرو الروذ، فسار إلى هراة، فلقيه صاحبها بالميرة والطاعة، ثم سار إلى مرو الروذ، ففتحها عنوة، وفتح الطالقان والفارياب، وطخارستان، ولم يرجع إلى عبد الله بن عامر، حتى شرب من نهر بلخ.
    وقال بعض أهل خراسان: وجه عبد الله بن عامر حين افتتح نيسابور بالجيوش فبعث الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ، وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرو، وعبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس. ففتح القوم جميعاً ما بعثوا له خلا مرو، فإنها صالحت حاتماً على ألفي ألف ومائتي ألف أوقية وعلى أن يوسعوا للمسلمين في منازلهم.
    ولما فتح عبد الله بن عامر هذه الكور انصرف إلى عثمان، وخالف بين الترك والديلم، وكان قد صير خراسان أرباعاً، وولي قيس بن الهيثم السلمي على ربع، وراشد بن عمرو الجديدي على ربع، وعمران بن الفصيل البرجمي على ربع، وعمرو بن مالك الخزاعي على ربع، فلما رده عثمان وجه أمير ابن أحمد اليشكري إلى خراسان، فصار إلى مرو، فأناخ بها، ثم أدركه الشتاء وأدخله أهل مرو، وبلغه انهم يريدون الوثوب به، فجرد فيهم السيف حتى أفناهم، ثم قفل إلى عثمان، فلما رآه عثمان خوفه، فانصرف عنه مغضباً، وكان عثمان أنكر عليه قتل أهل مرو، ورجع عبد الله بن عامر إلى البصرة، ثم صار إلى كرمان، فأناخ بها فنالهم مجاعة شديدة، حتى كان الرغيف بدينار، ثم أتاه الخبر بأن عثمان قد حوصر، فانصرف، وخلف بخراسان قيس بن الهيثم ابن الصلت، فافتتح قيس طخارستان، وكان عثمان قد وجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة الباهلي مدداً له، فلما قدم عليه تنافراً، وقتل عثمان وهم على تلك المنافرة.
    وقد كان حبيب بن مسلمة فتح بعض أرمينية، وكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية، فسار حتى أتى البيلقان، فخرج إليه أهلها، فصالحوه ومضى حتى أتى برذعة، فصالحه أهلها على شيء معلوم.
    وقيل إن حبيب بن مسلمة افتتح جرزان. ثم نفذ سلمان إلى شروان، فصالحه ملكها، ثم سار حتى أتى أرض مسقط، فصالح أهلها، وفعل مثل ذلك ملك اللكز وأهل الشابران وأهل فيلان، ولقيه خاقان ملك الخزر في جيشه، خلف نهر البلنجر، في خلق عظيم، فقتل سلمان ومن معه، وهم أربعة آلاف، فولى عثمان حذيفة بن اليمان العبسي، ثم صرفه، وولي المغيرة بن شعبة.
    وزوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.
    وحدث أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه، فقال: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد بن ثابت.
    وفي هذه السنة توفي أبو سفيان بن حرب، وصلى عليه عثمان وهي سنة إحدى وثلاثون. وأغزى عثمان جيشاً، أميرهم معاوية، على الصائفة سنة إثنان وثلاثون، فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية، وفتحوا فتوحا كثيرة، وصير عثمان إلى معاوية غزو الروم على أن يوجه من رأى على الصائفة، فولى معاوية سفيان بن عوف الغامدي فلم يزل عليها أيام عثمان... لشيء شجر بينهما في خلافة عثمان.

    وروي أن عثمان اعتل علة اشتدت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضباً شديداً: استعمله علانية، ويستعملني سراً. ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.
    ووجه إليه عبد الرحمن بن عوف بابنه، فقال له قل له: والله لقد بايعتك، وإن في ثلاث خصال أفضلك بهن: إني حضرت بدراً، ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان، ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت. فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن بدر، فإني أقمت على بيت
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:24 am

    خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
    واستخلف علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، ومن شهور العجم في حزيران، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء ستا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في السنبلة خمساً وعشرين درجة، والمريخ في الجدي سبع درجات... بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله، فقال رجل من بني أسد: أول يد بايعت يد شلاء، أو يد ناقصة، وقام الأشتر فقال: أبايعك يا أمير المؤمنين على أن علي بيعة أهل الكوفة، ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب، فقالوا: نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار، وسائر قريش.
    وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان القوم. فقال: يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه... على ذلك بنو عبد مناف، فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتله صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري إياكم، فألحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلى قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فألحقوا بملاحقكم. فقال مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى.

    وقام قوم من الأنصار فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
    ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
    وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس، هذا وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان. من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل.
    ثم قام عقبة بن عمرو فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الهدى الذي لا يخاف جوره، والعالم الذي لا يخاف جهله.
    وعزل على عمال عثمان عن البلدان خلا أبي موسى الأشعري، كلمه فيه الأشتر، فأقره، وولي قثم بن العباس مكة، وعبيد الله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف الأنصاري البصرة. وأتاه طلحة والزبير فقالا: إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة، فأشركنا في أمرك! فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود. وروى بعضهم أنه ولي طلحة اليمن، والزبير اليمامة والبحرين، فلما دفع إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم! قال: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين. واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال: لو لا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي.
    وروى بعضهم أن المغيرة بن شعبة قال له: يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن، والزبير إلى البحرين، واكتب بعهد معاوية على الشام، فإذا استقامت الأمور، فشأنك وما تريده فيهم! فأجابه في ذلك بجواب، فقال المغيرة: والله ما نصحت له قبلها، ولا أنصح له بعدها.
    وكانت عائشة بمكة، خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل! قالت: بعدا وسحقا! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو الإصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا علياً. قالت: والله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياماً، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
    وروى بعضهم أن علياً قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة. فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت: إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمه محمد على أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الأبصار، وخفض الأطراف، وجر الذيول. إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا.
    وأتاها طلحة والزبير وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير، فاستعانا به، وسارا نحو البصرة.
    ومر القوم في الليل بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم: ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبجك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب.

    وقدم القوم البصرة، وعامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها ومن معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، وإنما جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا انهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي، وأن كل فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه، وانتهبوا بيت المال، وأخذوا ما فيه، فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، وصاح الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوماً وعبد الله بن الزبير يوماً، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى علياً الخبر سار إلى البصرة، واستخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، وخرج من المدينة، ومعه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد وطئ تبعه منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، ووجه الحسن وعمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة، وعامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الأشعري، فخذل الناس عنه، فوافاه منهم ستة آلاف رجل، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد! وقص عليه القصة.
    ثم قدم أمير المؤمنين البصرة، وكانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الأولى سنة ست وثلاثون. وخرج طلحة والزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون وما تريدون؟ قالوا: نطلب بدم عثمان! قال علي: لعن الله قتلة عثمان! واصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف... أعذروا.
    فرمى رجل من عسكر القوم بسهم، فقتل رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين، فأتى به إليه، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، وأطافت بنو ضبة بالجمل، وكانت تحمل الراية، فقتل منهم ألفان، وحفت به الأزد، فقتل منهم ألفان وسبعمائة. وكان لا يأخذ خطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيد الله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم فصرعه، وقال: لا أطلب والله بعد اليوم بثأر عثمان، وأنا قتلته، فقال طلحة لما سقط: تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني! إني والله ما وقفت موقفا قط إلا عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. وقال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد الله، ادن إلي أذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله! فقال الزبير لعلي: لي الأمان؟ قال علي: عليك الأمان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت هذا إلا هذه الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين؟ قال: ذكرني علي كلاماً قاله رسول الله. قال: كلا، ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً تحملها شداد. قال: ويلك! ومثلي يعير بالجبن؟ هلم إلى الرمح. وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي، فقال علي: افرجوا للشيخ، إنه محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك! أيفعل هذا جبان؟ وانصرف، فاجتاز بالأحنف بن قيس، فقال: ما رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقها، فهتك عنها حجاب رسول الله، وستر حرمته في بيته، ثم أسلمها وانصرف. ألا رجل يأخذ لله منه! فاتبعه عمرو بن جرموز التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، وكانت الحرب أربع ساعات من النهار، فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفاً.
    ثم نادى منادي علي: ألا لا يجهز على جريح، ولا يتبع مول، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الأسود والأحمر، ووجه ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير أذني، وجلست على متاعي بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وأمرك القرآن أن تقري فيه. وجرى بينهما كلام موضعه في غير هذا من الكتاب.

    وأتاها علي، وهي في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: أيها يا حميراء! ألم تنتهي عن هذا المسير؟ فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فاسجح! فقال: اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الضلبية، وقيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عودا من الأرض، فوضعه بين إصبعيه.
    ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه مرزبان مرو، فكتب له كتاباً، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة.
    وخرج علي من البصرة متوجهاً إلى الكوفة، وقدم الكوفة في رجب سنة ست وثلاثون، وكان جرير بن عبد الله على همذان، فعزله، فقال لعلي: وجهني إلى معاوية، فإن جل من معه قومي، فلعلي أجمعهم على طاعتك! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين! لا تبعثه، فإن هواه هواهم. فقال: دعه يتوجه، فإن نصح كان ممن أدى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من اؤتمن ولم يؤد الأمانة، ووثق به فخالف الثقة. ويا ويحهم مع من يميلون ويدعونني، فو الله ما أردتهم إلا على إقامة حق، ولا يريدهم غيري إلا على باطل. فقدم جرير على معاوية، وهو جالس، والناس حوله، فدفع إليه كتاب علي، فقرأه، ثم قام جرير فقال: يا أهل الشام! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع البلاء بمثلها، فلا بقاء للإسلام، فاتقوا الله يا أهل الشام، ورووا في علي ومعاوية خيراً، فانظروا لأنفسكم، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم. ثم سكت، وصمت معاوية، فلم ينطق، فقال: أبلعني ريقي يا جرير.
    وبعث معاوية من ليلته إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم على جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله تعالى. فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمداً، فاستشارهما، فقال له عبد الله: أيها الشيخ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية فتضجعان غدا في النار، ثم قال لمحمد: ما ترى؟ قال: بادر هذا الأمر، فكن فيه رأساً قبل أن تكون ذنباً، فأنشأ يقول:
    تطاول ليلي للهموم الطوارق، ... وخوف التي تجلو وجوه العواتق
    فإن ابن هند سألني أن أزوره، ... وتلك التي فيها بنات البوائق
    أتاه جرير من علي بخطة ... أمرت عليه العيش مع كل دانق
    فإن نال منه ما يؤمل رده، ... فإن لم ينله ذل ذل المطابق
    فو الله ما أدري، وإني لهكذا ... أكون، ومهما قادني، فهو سائقي
    أأخدعه، فالخدع فيه دنية، ... أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
    أم أجلس في بيتي، وفي ذاك راحة ... لشيخ يخاف الموت في كل شارق
    وقد قال عبد الله قولاً تعلقت ... به النفس، إن لم يعتقلني عوائقي
    وخالفه فيه أخوه محمد، ... وإني لصلب العود عند الحقائق
    فلما سمع عبد الله شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه، فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال له: ارحل يا وردان، ثم قال حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت أبا عبد الله، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: هات! قال: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي شيئاً، فما الرأي يا وردان؟ قال: الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر

    أهل الدنيا لم يستغن عنك. قال عمرو: الآن، وقد شهرتنى العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان! ثم أنشأ يقول:
    يا قاتل الله وردان وفطنته، ... أبدى لعمرك ما في الصدر وردان
    فقدم على معاوية، فذاكره أمره، فقال له: أما علي، فو الله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء، وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش إلا أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنا نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو: واسوءتاه! إن أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال: ولم ويحك؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، فسار إليه، وأما أنا فتركته عياناً، وهربت إلى فلسطين. فقال معاوية: دعني من هذا! مد يدك فبايعني! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك. قال له معاوية: لك مصر طعمة، فغضب مروان بن الحكم وقال: ما لي لا استشار؟ فقال معاوية: اسكت، فإنما يستشار بك. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله! بت عندنا الليلة، وكره أن يفسد عليه الناس، فبات عمرو، وهو يقول:
    معاوي لا أعطيك ديني، ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع
    فإن تعطني مصراً فاربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
    وما الدين والدنيا سواء، وإنني ... لأخذ ما أعطي، ورأسي مقنع
    ولكنني أعطيك هذا، وإنني ... لأخدع نفسي، والمخادع يخدع
    أأعطيك أمراً فيه للملك قوة، ... وأبقى له، إن زلت النعل أخدع
    وتمنعني مصراً، وليست برغبة ... وإن ثري القنوع يوماً لمولع
    فكتب له بمصر شرطاً، وأشهد له شهوداً، وختم الشرط، وبايعه عمرو، وتعاهدا على الوفاء. واحتال معاوية لقيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر، فجعل يكاتبه رجاء أن يستميله، وكتب إليه قيس بن سعد: من قيس بن سعد إلى معاوية بن صخر: أما بعد، فإنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا. وكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص: إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش، الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصرة طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، ولا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا! فكتب إليه سعد: أما بعد، فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً قد كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين.
    وبلغ علياً أن معاوية قد استعد للقتال، واجتمع معه أهل الشام، فسار علي في المهاجرين والأنصار، حتى أتى المدائن، فلقيه الدهاقين بالهدايا، فردها، فقالوا: ولم ترد علينا، يا أمير المؤمنين؟ قال: نحن أغنى منكم بحق أحق بأن نفيض عليكم، ثم صار إلى الجزيرة، فلقيه بطون تغلب والنمر بن قاسط، فسار معه منهم خلق عظيم، ثم سار إلى الرقة، وجل أهلها العثمانية الذين هربوا من الكوفة إلى معاوية، فغلقوا أبوابها، وتحصنوا، وكان أميرهم سماك ابن مخرمة الأسدي، فغلقوا دونه الباب، فصار إليهم الأشتر مالك بن الحارث النخعي، فقال: والله لتفتحن، أو لأضعن فيكم السيف! ففتحوا، وأقام بها أمير المؤمنين يومه.
    ثم عبر إلى الجانب الشرقي من الفرات، حتى صار إلى صفين، وقد سبق معاوية إلى الماء ووسعه المناخ، فلما وافى علي وأصحابه لم يصلوا إلى الماء، فتوسل الناس إلى معاوية، وقالوا: لا تقتل الناس عطشا، فيهم العبد والأمة والأجير. فأبى معاوية، وقال: لا سقاني الله، ولا أبا سفيان من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شربوا منه أبداً. فوجه علي الأشتر والأشعث في الخيل، والأشعث ابن قيس في الرجالة، وكانت خيل معاوية مع أبي الأعور

    السلمي، فقاتله أصحاب علي حتى صارت سنابك الخيل في الفرات، وغلبوا على المشرعة، وكان الواقف عليها عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فلما غلب علي على المشرعة قال أصحاب معاوية: إنه لا قوام لنا وقد أخذ علي الماء! فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن علياً لا يستحل منك ومن أصحابك ما استحللت منه ومن أصحابه، فأطلق علي الماء. وكان ذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثون.
    ثم وجه علي إلى معاوية يدعوه ويسأله الرجوع، وألا يفرق الأمة بسفك الدماء، فأبى إلا الحرب، فكانت الحرب في صفين سنة سبع وثلاثون، وأقامت بينهم أربعين صباحاً.
    وكان مع علي يوم صفين من أهل بدر سبعون رجلاً، وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد، وصدقت نيات أصحاب علي في القتال، وقام عمار بن ياسر، فصاح في الناس، فاجتمع إليه خلق عظيم، فقال: والله إنهم لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وانهم على الباطل. ثم قال: ألا هل من رائح إلى الجنة؟ فتبعه خلق، فضرب حول سرادق معاوية، فقاتل القوم قتالاً وقتل عمار بن ياسر، واشتدت الحرب في تلك العشية، ونادى الناس: قتل صاحب رسول الله، وقد قال رسول الله: تقتل عماراً الفئة الباغية.
    وزحف أصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق إلا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفهم وتكسر من حدهم، وتفت في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله. فقال علي: أنها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، وقد كان معاوية استماله، وكتب إليه ودعاه إلى نفسه، فقال: قد دعا القوم إلى الحق! فقال علي: إنهم إنما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك. ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك، فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاما عظيما، حتى كاد أن يكون الحرب بينهم، وحتى خاف علي أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة، وقال علي: أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس. فقال الأشعث: إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص، ولا يحكم فينا مضريان، ولكن توجه أبا موسى الأشعري، فإنه لم يدخل في شيء من الحرب. وقال علي: إن أبا موسى عدو، وقد خذل الناس عني بالكوفة، ونهاهم أن يخرجوا معي قالوا: لا نرضى بغيره. فوجه علي أبا موسى على علمه بعداوته له ومداهنته فيما بينه وبينه، ووجه معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا كتابين بالقضية: كتابا من علي بخط كاتبه عبد الله بن أبي رافع، وكتابا من معاوية بخط كاتبه عمير بن عباد الكناني، واختصموا في تقديم علي أو تسمية علي بامره المؤمنين، فقال أبو الأعور السلمي: لا نقدم علياً، وقال أصحاب علي: ولا نغير اسمه ولا نكتب إلا بامره المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي، فقال الأشعث: امحوا هذا الاسم! فقال له الأشتر: والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك، فلقد قتلت قوما ما هم شر منك، وإني أعلم أنك ما تحاول إلا الفتنة، وما تدور إلا على الدنيا وإيثارها على الآخرة. فلما اختلفوا قال علي: الله أكبر! قد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: هذا ما صالح رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي، وكذلك كتبت الأنبياء، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، وإن اسمي واسم أبي لا يذهبان بإمرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب، وكتب كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى

    خاتمته لا يتجاوزان ذلك، ولا يحيدان عنه إلى هوى، ولا ادهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فلا حكم لهما.
    ووجه علي بعبد الله بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه، واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثون. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له معاوية فقال: هو ولي ثار عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني عبد الله؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبد الله بن عمر؟ قال: إذا يحيى سنة عمر، الآن حيث به. فقال: فاخلع علياً وأخلع أنا معاوية، ويختار المسلمون.
    وقدم عمرو أبا موسى إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله ابن قيس، فدنا منه، فقال: إن كان عمرو فارقك على شيء، فقدمه قبلك، فإنه غدر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع علياً، ثم صعد عمرو بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى: غدرت يا منافق، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً.
    وتنادى الناس: حكم والله الحكمان بغير ما في الكتاب، والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس ونادت الخوارج: كفر الحكمان، لا حكم إلا لله. وقيل: أول من نادى بذلك عروة بن أدية التميمي قبل أن يجتمع الحكمان، وكانت الحكومة في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثون. قال ابن الكلبي: أخبرني عبد الرحمن بن حصين بن سويد... قال: إني لأساير أبا موسى الأشعري على شاطئ الفرات، وهو إذ ذاك عامل لعمر، فجعل يحدثني، فقال: إن بني إسرائيل لم تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضا بعد أرض، حتى حكموا ضالين أضلا من اتبعهما. قلت: فإن كنت يا أبا موسى أحد الحكمين، قال فقال لي: إذا لا ترك الله لي في السماء مصعداً، ولا في الأرض مهربا إن كنت أنا هو. فقال سويد: لربما كان البلاء موكلاً بالمنطق. ولقيته بعد التحكيم، فقلت: إن الله إذا قضى أمراً لم يغالب.
    وانصرف علي إلى الكوفة، فلما قدمها قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع، يعظم فيها رجال رجالاً، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيعمل به، فعند ذلك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى.
    وصارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وابن الكوا، وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون: لا حكم إلا لله، فإذا بلغ علياً ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل. ثم خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل: في اثني عشر ألفاً، فوجه إليهم علي عبد الله بن عباس، فكلمهم، واحتجوا عليه، فخرج إليهم علي فقال: أتشهدون علي بجهل؟ قالوا: لا! قال: فتنفذون أحكامي؟ قالوا: نعم! قال: فارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون فيقولون: لا حكم إلا لله، فيقول علي: حكم الله أنتظر فيكم. وخرجوا من الكوفة، فوثبوا على عبد الله ابن خباب بن الأرت، فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي، فناشدهم الله، ووجه إليهم عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم على أمير المؤمنين؟ أ لم يحكم فيكم بالحق، ويقيم فيكم العدل، ولم يبخسكم شيئاً من حقوقكم؟ فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه. وقالت الأخرى: والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم، يا ابن عباس، نقمنا على علي خصالا كلها موبقة لو لم نخصمه منها إلا بخصلة خصمناه، محا اسمه من أمره أمير المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين، فلم يضربنا بسيفه حتى نفيء إلى الله، وحكم الحكمين، وزعم أنه وصى، فضيع الوصية، وجئتنا يا ابن عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه؟

    فقال ابن عباس: قد سمعت، يا أمير المؤمنين، مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب. فقال: حججتهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، قل لهم: أ لستم راضين بما في كتاب الله، وبما فيه من أسوة رسول الله؟ قالوا: بلى! قال: فعلي بذلك أرضي. كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ كتب إلى سهيل ابن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين: من محمد رسول الله، فكتبوا إليه: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك، فاكتب إلينا: من محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب: من محمد بن عبد الله، وكذلك كتب الأنبياء كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، ففي رسول الله أسوة حسنة.
    وأما قولكم إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله جل وعز يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وكنتم عدداً جماً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة.
    وأما قولكم إني حكمت الحكمين، فإن الله عز وجل حكم في أرنب يباع بربع درهم، فقال: يحكم به ذوا عدل منكم، ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله لما وسعني الخروج من حكمهما.
    وأما قولكم إني كنت وصيا فضيعت الوصية، فإن الله عز وجل يقول: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين أفرأيتم هذا البيت، لو لم يحجج إليه أحد كان البيت يكفر، إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلاً كفر، وأنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا كفرت بتركي لكم.
    فرجع يومئذ من الخوارج ألفان، وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس، فأقامت مقدار ساعتين من النهار، فقتلوا من عند آخرهم، وقتل ذو الثدية، ولم يفلت من القوم إلا أقل من عشرة، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، وكانت وقعة النهروان سنة تسع وثلاثون.
    ولما قدم علي الكوفة قام خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره بما فضله الله به، أما بعد أيها الناس! فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون، ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها، فو الذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة. إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه، وعلم بالعلم جهله، وأبصر عمله، واستمع صممه وأدرك به مأواه، وحي به إن مات، فأدرك به الرضا من الله، فاطلبوا ذلك عند أهله، فإنهم في بيت الحياة، ومستقر القرآن، ومنزل الملائكة، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم هم الذين لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، قد مضى فيهم من الله حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين.
    وأما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملاً وسيفاً قاتلاً وأثرة قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق جموعكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل، ولا يبعد الله إلا من ظلم.
    ووجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له، فقدمها سنة ثمان وثلاثون، ومعه جيش عظيم من أهل الشام، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي، وعلى أهل الأردن أبو الأعور السلمي، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة، فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة، فحاربهم محاربة شديدة، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل يوم المسناة، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية، فمايل عمرو بن العاص اليمانية، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده، فجالد ساعة، ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة، واتبعه ابن حديج الكندي، فأخذه وقتله، وأدخله جيفة حمار، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف.
    وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر وممالاة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي

    محمد من حرض، ووجه مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر، وكتب إلى أهل مصر: أني بعثت إليكم سيفا من سيوف الله لا نأبى الضربة، ولا كليل الحد، فإن استنفركم فانفروا، وإن أمركم بالمقام فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي. فلما بلغ معاوية أن علياً قد وجه الأشتر عظم عليه، وعلم أن أهل اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد، فدس له سما، فلما صار إلى القلزم من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له... فخدمه وقام بحوائجه، ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صير فيه السم، فسقاه إياه، فمات الأشتر بالقلزم وبها قبره، وكان قتله وقتل محمد بن أبي بكر في سنة ثمان وثلاثون.
    ولما بلغ علياً قتل محمد بن أبي بكر والأشتر جزع عليهما جزعاً شديداً، وتفجع، وقال علي: على مثلك فلتبك البواكي يا مالك، وأنى مثل مالك؟ وذكر محمد بن أبي بكر، وتفجع عليه، وقال: إنه كان لي ولدا ولولدي وولد أخي أخا، وخرج الخريت بن راشد الناجي في جماعة من أصحابه، فجردوا السيوف بالكوفة، فقتلوا جماعة، وطلبهم الناس، فخرج الخريت وأصحابه من الكوفة، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان.
    وكان علي قد وجه الحلو بن عوف الأزدي عاملا على عمان فوثبت به بنو ناجية فقتلوه، وارتدوا عن الإسلام، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه، وسبى بني ناجية، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة الشيباني، وأنفذ بعض الثمن ثم هرب إلى معاوية، وأمر على بهدم داره، وأنفذ عتق بن ناجية، وكانوا يدعون انهم من ولد سامة ابن لؤي.
    ووجه معاوية النعمان بن بشير، فأغار على مالك بن كعب الأرحبي، وكان عامل علي على مسلحة عين التمر، فندب علي فقال: يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع ليس بكثير لعل الله أن يقطع من الظالمين طرفا. فأبطأوا، ولم يخرجوا، فصعد على المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع، فظن الناس أنه يدعو الله، ثم رفع صوته فقال: أما بعد يا أهل الكوفة أكلما أقبل منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل امرئ بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره؟ أف لكم! لقد لقيت منكم يوماً أناجيكم ويوما أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء. فلما دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح! ثم دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين! معي ألف رجل من طيء لا يعصونني، وإن شئت أن أسير بهم سرت؟ فقال علي: جزاك الله خيراً، يا أبا طريف، ما كنت لأعرض قبيلة واحدة لحد أهل الشام، ولكن أخرج إلى النخيلة! فخرج واتبعه الناس فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى الشام.
    وأغار الضحاك بن قيس على القطقطانة، فبلغ علياً إقباله، وأنه قد قتل ابن عميش، فقام علي خطيبا فقال: يا أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف، وإلى الرجل الصالح ابن عميش، فامنعوا حريمكم، وقاتلوا عدوكم. فردوا رداً ضعيفاً، فقال: يا أهل العراق! وددت أن لي بكم بكل ثمانية منكم رجلاً من أهل الشام، وويل لهم قاتلوا مع تصبرهم على جور، ويحكم! اخرجوا معي، ثم فروا عني إن بدا لكم، فو الله إني لأرجو شهادة، وإنها لتدور على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تداري البكار الغمرة، أو الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب فقام إليه حجر بن عدي الكندي فقال: يا أمير المؤمنين ! لا قرب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربك، عليك بعادة الله عندك، فإن الحق منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين، وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الإنسان وأهله، إن الشيطان لا يفارق قلوب أكثر الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم، فتهلل وأثنى على حجر جميلاً، وقال: لا حرمك الله الشهادة، فإني أعلم أنك من رجالها.
    وجلس علي في المسجد فندب الناس، وانتدب أربعة آلاف، فسار بهم في طلب القوم، وأغذ المسير حتى لقيهم بتدمر من عمل حمص، فقاتلهم فهزمهم، حتى انتهوا إلى الضحاك، وحجز بينهم الليل، فأدلج الضحاك على وجهه منصرفا، وشن حجر بن عدي ومن معه الغارة في تلك

    البلاد يومين وليلتين، ثم أغار سفيان بن عوف على الأنبار، فقتل أشرس بن حسان البكري، فاتبعه علي سعيد بن قيس، فلما أحس به انصرف مولياً، وتبعه سعيد إلى عانات، فلم يلحقه. وبعث معاوية عبد الله بن مسعدة بن حذيفة بن بدر الفزاري في جريدة خيل، وأمره أن يقصد المدينة ومكة، فسار في ألف وسبعمائة، فلما أتى علياً الخبر وجه المسيب بن نجبة الفزاري، فقال له: يا مسيب! إنك ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصيحته، فتوجه إلى هؤلاء القوم وأثر فيهم، وإن كانوا قومك. فقال له المسيب: يا أمير المؤمنين! إن من سعادتي أن كنت من ثقاتك، فخرج في ألفي رجل من همدان وطيء وغيرهم، وأغذ السير، وقدم مقدمته، فلقوا عبد الله بن مسعدة، فقاتلوه، فلحقهم المسيب، فقاتلهم حتى أمكنه أخذ ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصن بتيماء، وأحاط المسيب بالحصن، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثا، فناداه: يا مسيب! إنما نحن قومك، فليمسك الرحم. فخلى لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن.
    فلما جنهم الليل خرجوا من تحت ليلتهم حتى لحقوا بالشام، وصبح المسيب الحصن، فلم يجد أحداً، فقال عبد الرحمن بن شبيب: داهنت والله يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم على علي فقال له علي: يا مسيب! كنت من نصاحي، ثم فعلت ما فعلت! فحبسه أياماً، ثم أطلقه وولاه قبض الصدقة بالكوفة.
    ووجه معاوية بسر بن أبي أرطأة، وقيل ابن أرطأة العامري، من بني عامر ابن لؤي، في ثلاثة آلاف رجل، فقال له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وأنهب مال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك، ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد جاءني كتابهم، فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، فتنحى عن المدينة، ودخل بسر، فصعد المنبر ثم قال: يا أهل المدينة! مثل السوء لكم، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله، شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل. قال: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي، فقال: إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، قالت: إذا فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم، وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى اليمن، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، عامل علي، وبلغ علياً الخبر، فقام خطيبا فقال: أيها الناس! إن أول نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني قد دعوتكم عوداً وبداً، وسراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما والله إني لعالم بما يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، أمهلوني قليلاً، فو الله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم، إن من ذل الإسلام وهلاك الدين إن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون، وأدعوكم، وأنتم لا تصلحون، فتراعون، هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة.

    فقام جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أمير المؤمنين! لا عد منا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنعم الأدب أدبك، ونعم الإمام والله أنت أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم! قال: تجهز، فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء، المبارك الميمون النقيبة، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال: أنا انتدب يا أمير المؤمنين قال: انتدب، بارك الله عليك، فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين، وأمرهما على أن يطلبا بسرا حيث كان حتى يلحقاه، فإذا اجتمعا فراس الناس جارية، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة، حتى التقيا بأرض الحجاز، ونفذ بسر من الطائف، حتى قدم اليمن، وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن اليمن، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله، وقتل ابنه مالك بن عبد الله، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية، وهي أمهما، وخلف معها رجلاً من كنانة، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيد الله ليقتلهما، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال: والله لأقتلن دونهما فألآقي عذراً لي عند الله والناس، فضارب بسيفه حتى قتل، وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن: يا بسر! هذا، الرجال يقتلون، فما بال الولدان، والله ما كانت الجاهلية تقتلهم، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء، فقال بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف، وقدم الطفلين فذبحهما، فقالت أمهما ترثيهما:
    ها من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
    ها من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
    ها من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
    نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
    أنحى على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
    من دل وإلهه خرى وثاكلة ... على صبيين ضلا إذ غداً السلف
    ثم جمع بسر أهل نجران فقال: يا إخوان النصارى! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن قتلاكم ثم سار نحو جيشان، وهم شيعة لعلي، فقاتلهم، فهزمهم، وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، ثم رجع إلى صنعاء. وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً، فهرب منه في الأرض، ولم يقم له، وقتل من أصحابه خلقا، واتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شيء، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة، فقالوا: قد هلك علي فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي بعده، فتثاقلوا، فقال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم، فبايعوا ودخل المدينة، وقد اصطلحوا على أبي هريرة فصلى بهم ففر منه أبو هريرة، فقال جارية: يا أهل المدينة بايعوا للحسن بن علي! فبايعوا، ثم خرج يريد الكوفة فرد أهل المدينة أبا هريرة.
    قال غياث عن فطر بن خليفة: حدثني أبو خالد الوالبي قال: قرأت عهد علي لجارية بن قدامة: أوصيك يا جارية بتقوى الله، فإنها جموع الخير، وسر على عون الله، فالق عدوك الذي وجهتك له، ولا تقاتل إلا من قاتلك، ولا تجهز على جريح، ولا تسخرن دابة، وإن مشيت ومشى أصحابك، ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم، ولا تشتمن مسلما ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه، ولا تظلمن معاهدا، ولا معاهدة، واذكر الله، ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً، واحملوا رجالتكم، وتواسوا في ذات أيديكم، وأجدد السير، وأجل العدو من حيث كان، واقتله مقبلا، واردده بغيظه صاغراً، وأسفك الدم في الحق، وأحقنه في الحق، ومن تاب فاقبل توبته، وإخبارك في كل حين بكل حال، والصدق الصدق، فلا رأي لكذوب قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شيء حتى انتهى إلى اليمن ونجران، فقتل من قتل وهرب منه بسر، وحرق تحريقا، فسمي محرقاً.

    وكتب علي إلى عماله يستحثهم بالخروج، فكتب إلى الأشعث بن قيس، وكان عامله باذربيجان: أما بعد، فإنما غرك من نفسك وجراك على آخرك إملاء الله لك، إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، وتلحد في آياته، وتستمتع بخلاقك، وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا، فأقبل، واحمل ما قبلك من مال المسلمين، إن شاء الله. فلما قرأ الأشعث كتابه أقبل إليه.
    وكتب إلى يزيد بن قيس الأرحبي: أما بعد، فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلاً، فلا أجد بداً من الإيقاع بك، واعزز المسلمين ولا تظلم المعاهدين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، أحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.
    وكتب إلى سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد، وهو على المدائن: أما بعد، فإنك قد أديت خراجك، وأطعت ربك، وأرضيت إمامك، فعل المبر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك، وتقبل سعيك وحسن مآبك.
    وكتب إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي، وهو ابن أم سلمة زوج النبي، وكان عامله على البحرين: أما بعد، فإني قد وليت النعمان بن العجلان البحرين بلا ذم لك، فأقبل، غير ظنين، واخرج إليه من عمل ما وليت، فقد أردت الشخوص إلى ظلمة أهل الشام وبقية الأحزاب، فأحببت أن تشهد معي لقاءهم، فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر، فشهد معه، ثم انصرف وتبع علياً إلى الكوفة، فمكث معه سنة وبعض أخرى.
    فبلغه أن النعمان بن العجلان قد ذهب بمال البحرين، فكتب إليه علي: أما بعد، فإنه من استهان بالأمانة ورغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد أمر وأبقى وأشقى وأطول، فخف الله! إنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك، وراجع، إن كان حقاً ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خراجك، ثم اكتب إلي ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله. فلما جاءه كتاب علي، وعلم أنه قد علم حمل المال، لحق معاوية. وكتب إلى مصقلة بن هبيرة، وبلغه أنه يفرق ويهب أموال أردشير خره، وكان عليها: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه إنك تقسم فيء المسلمين في قومك ومن اعتراك من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لأفتش عن ذلك تفتيشاً شافياً، فإن وجدته حقاً لتجدن بنفسك علي هواناً، فلا تكونن من الخاسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
    فكتب مصقلة إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقا فليعجل عزلي بعد نكالي، فكل مملوك لي حر، وعلى أيام ربيعة ومضر إن كنت رزأت من عملي ديناراً، ولا درهما، ولا غيرهما، منذ وليته إلى أن ورد علي كتاب أمير المؤمنين، ولتعلمن أن العزل أهون علي من التهمة. فلما قرأ كتابه قال: ما أظن أبا الفضل إلا صادقاً.
    ووجه رجلاً من أصحابه إلى بعض عماله مستحثاً، فاستخف به فكتب إليه: أما بعد، فإنك شتمت رسولي وزجرته، وبلغني أنك تبخر وتكثر من الأدهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام الصديقين، وتفعل، إذا نزلت، أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي تعرضت، ويحك أن تقول العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعنيهما سخطت عليه، بل ما عليك أن تدهن رفيها، فقد أمر رسول الله بذلك، وما حملك أن تش
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:25 am

    ولما مات قام الحسن خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون، من كان يقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والله لقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن، ألا وإنه ما خلف صفراً ولا بيضاً إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله. فقام القعقاع بن زرارة على قبره، فقال: رضوان الله عليك، يا أمير المؤمنين، فو الله لقد كانت حياتك مفتاح خير، ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة، وآثروا الدنيا على الآخرة.
    وأقام الحج للناس في خلافته في سنة ستة وثلاثون عبد الله بن العباس، وفي سنة سبع وثلاثون قثم بن العباس، وقيل عبد الله بن العباس، وفي سنة ثمان وثلاثون عبيد الله بن العباس، وفي سنة تسع وثلاثون شيبة بن عثمان. وكان أصحاب علي الذين يحملون عنه العلم: الحارث الأعور، أبو الطفيل عامر بن واثلة، حبة العرني، رشيد الهجري، حويزة بن مسهر، الأصبغ بن نباتة، ميثم التمار، الحسن بن علي.
    خلافة الحسن بن عليواجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع، فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال: عبد الرحمن! ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتص أو أعفو، وإن مات ألحقتك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضا، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله.
    وأقام الحسن بن علي بعد أبيه شهرين، وقيل أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة، وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً، والتقى العسكران، فوجه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني! فيقال: إنه أرسل إلى عبيد الله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته.
    وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه.
    ووجه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه، وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه.
    وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم باخرنا، وقد سالمت معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
    أيام معاوية بن أبي سفيانوملك معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وبويع بالكوفة في ذي القعدة سنة أربعين، وكانت الشمس في الحمل درجتين، والقمر في الثور خمس عشرة درجة، وزحل في العقرب تسعاً وعشرين درجة، والمشتري في الثور تسعاً وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والمريخ في الثور ست عشرة درجة، والزهرة في الثور أربع درجات، وعطارد في الحوت ست عشرة درجة. وقدم الكوفة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمه بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل.

    وأحضر الناس لبيعته، وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية! إني لأبايعك، وإني لكاره لك، فيقول: بايع، فإن الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من شر نفسك! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس! قال: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم، يا معاوية. فقال له: مه، رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحب.
    قال: فلا يرد أمر الله. قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف نجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون؟ فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: أقسمت عليك! ثم صفق على كفه، ونادى الناس: بايع قيس! فقال، كذبتم، والله، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الأيمان، فكان أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: أ لا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك إنما أنت منتز.
    وخرج فروة بن نوفل الأشجعي سنة أربعين، وكان معتزلا بشهرزور في جماعة من الخوارج، فلما بلغه قتل علي وغلبة معاوية أقبل في ألف وخمسمائة حتى صار بالنخيلة، فوجه إليه معاوية خيلا، فكشفهم، فأخذ معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم، فخرجوا خوفا منه، فلما لقوهم قال لهم فروة بن نوفل: دعونا فإن معاوية عدونا وعدوكم، فقاتلهم أهل الكوفة أشد قتال، حتى قتل فروة، وأفرخ روع معاوية.
    ورجع معاوية إلى الشام سنة أحدى وأربعون، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه، فصالحه على مائة ألف دينار.
    وكان معاوية أول من صالح الروم. وكان صلحه إياهم في أول سنة اثنتن وأربعون، فلما استقام الأمر لمعاوية أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، وقد ذكرنا أسماءهم في موضع الصوائف. وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال، فلم يجبه. وولي عبد الله بن عامر بن كريز البصرة، فلما قدمها وجه عبد الرحمن ابن سمرة إلى خراسان، فغزا بلخ وكابل، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فافتتح بلخ بعد حرب شديدة، وصار إلى كابل، فأقام عليها ليالي، ثم أتاه بواب باب المدينة، فجعل له شيئاً حتى فتح الباب، وكانت الحرب في المدينة، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم ابن سمرة، وانصرف وخلف ابن خازم بخراسان. وولى معاوية عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، وكتب إليه: احمل إلي من مالها ما أستعين به! فكتب إليه ابن دراج يعلمه أن الدهاقين أعلموه أنه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لأنفسهم ولا تجري مجرى الخراج. فكتب إليه: أن أحص تلك الصوافي واستصفها، واضرب عليها المسنيات. فجمع الدهاقين، فسألهم، فقالوا: الديوان بحلوان. فبعث فأتي به، فاستخرج منه كل ما كان لكسرى وآل كسرى، وضرب عليه المسنيات، واستصفاه لمعاوية، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من أرض الكوفة وسوادها.
    وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة، وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز والمهرجان، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف.
    وكان زياد بن عبيد عامل علي بن أبي طالب على فارس، فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه يتوعده ويتهدده فقام زياد خطيباً فقال: إن ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعين ألفاً واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم لا يلتفت أحدهم حتى يموت، أما والله لئن وصل إلي ليجدنى

    أحمز، ضرابا بالسيف. فوجه معاوية إليه المغيرة بن شعبة، فأقدمه ثم ادعاه، وألحقه بأبي سفيان، وولاه البصرة، وأحضر زياد شهودا أربعة، فشهد أحدهم أن علي بن أبي طالب أعلمه انهم كانوا جلوساً عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري، فتكلم زياد بكلام أعجبه، فقال: أكنت قائلا للناس هذا على المنبر؟ قال: هم أهون علي منك، يا أمير المؤمنين، فقال أبو سفيان: والله لهو ابني، ولأنا وضعته في رحم أمه. قلت: فما يمنعك من ادعائه؟ قال: مخافة هذا العير الناهق.
    وتقدم آخر فشهد على هذه الشهادة. قال زياد الهمداني: لما سأله زياد كيف قولك في علي؟ قال: مثل قولك حين ولاك فارس، وشهد لك أنك ابن أبي سفيان.
    وتقدم أبو مريم السلولي فقال: ما أدري ما شهادة علي، ولكني كنت خماراً بالطائف، فمر بي أبو سفيان منصرفا من سفر له، فطعم وشرب، ثم قال: يا أبا مريم طالت الغربة، فهل من بغي؟ فقلت: ما أجد لك إلا أمه بني عجلان قال: فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها، فأتيته بها، فوقع عليها، ثم رجع إلي فقال لي: يا أبا مريم! لاستلت ماء ظهري استلالاً تثيب ابن الحبل في عينها. فقال له زياد: إنما أتينا بك شاهداً، ولم نأت بك شاتماً. قال: أقول الحق على ما كان، فأنفذ معاوية... قال ما قد بلغكم وشهد بما سمعتم، فإن كان ما قالوا حقا، فالحمد لله الذي حفظ مني ما ضيع الناس، ورفع مني ما وضعوا، وإن كان باطلاً، فمعاوية والشهود أعلم. وما كان عبيد إلا ولداً مبروراً مشكوراً. ونزل وولي المغيرة ابن شعبة الكوفة في جمادى... سنة اثنان وأربعون فأقام عليها حينا، ثم بدا له وولى عبد الله بن عامر بن كريز الكوفة، فلما بلغ أهل الكوفة الخبر خرج كثير من الناس إلى عبد الله بن عامر، فجعل المغيرة لا يسأل عن أحد إلا قيل له قد خرج إلى عبد الله بن عامر، حتى سأل عن كاتبه، فقيل له: قد لحق بعبد الله، فقال: يا غلام شد رحلي وقدم بغلي، فخرج حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا مغيرة، تركت العمل، وأخللت بالمصر وأهل العراق وهم أسرع شيء إلى الفتن؟ قال: يا أمير المؤمنين كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي، والله ما آسى على شيء منها إلا على شيء واحد قدرت به قضاء حقك، ووددت أنه لا يفوتني أجلي وإن الله أحسن عليه معونتي. قال: وما هو؟ قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية العهد بعد أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، ووجدتهم سراعا نحوه، فكرهت أن أحدث أمرا دون رأي أمير المؤمنين، فقدمت لأشافهه بذلك، وأستعفيه من العمل. فقال: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك الله إلا رجعت فتممت هذا. فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة، فو الله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء. وانصرف إلى الكوفة.
    وكتب معاوية إلى زياد، وهو بالبصرة، إن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد بعدي، وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد. فلما بلغ زياداً وقرأ الكتاب دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال: إني أريد أن آتمنك على ما لم آتمن عليه بطون الصحائف، ايت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين، فعسينا أن نموه على الناس. فلما صار الرسول إلى معاوية وأدى إليه الرسالة قال: ويلي على ابن عبيد! لقد بلغني أن الحادي حدا له أن الأمير بعدي زياد، والله لأردنه إلى أمه سمية، وإلى أبيه عبيد.
    وقدم المغيرة الكوفة منصرفا من عند معاوية، وقد خرج شبيب بن بجرة الأشجعي الخارجي، فلما

    علم أن قدم المغيرة هرب إلى معاوية فقال: أنا قاتل علي بن أبي طالب، وكان شبيب بن بجرة مع ابن ملجم في الليلة التي ضرب فيها علياً، فقال له معاوية: لا أراك ولا تراني. فرجع إلى الكوفة فقاتل المغيرة، فوجه إليه جيشا فقتله.
    وخرج المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب سنة ثلاث وأربعون فوجه إليه المغيرة خيلاً، فقتل بأسفل ساباط، وقتل أصحابه جميعاً. وخرج بعده معاذ بن جوين الطائي أبو المستورد، فوجه إليه المغيرة خيلا عليها رجل من همدان، فقتلوه.
    وخرجت عصابة من الموالي، أميرهم أبو علي من أهل الكوفة، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، وكانت أول خارجة خرجت فيها الموالي، فبعث المغيرة إليهم رجلاً من بجيلة، فالتقوا ببادوريا، فناداهم البجلي: يا معشر الأعاجم! هذه العرب تقاتلنا على الدين، فما بالكم؟ فنادوه: يا جابر! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، وإن الله بعث نبينا للناس كافة، ولم يزوه عن أحد. فقاتلهم حتى قتلهم.
    وكانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمة شرطها له يوم بايع، ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصر، أعطاه أهلها، فهم له حياته، ولا تنقص طاعته شرطاً. فقال له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك، فجعل عمرو يقرأ الشرط، ولا يقف على ما وقف عليه وردان، فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا كظمء حمار، هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية، فلم يقله، فكان عمرو لا يحمل إليه من مالها شيئاً، يفرق الأعطيه في الناس، فما فضل من شيء أخذه لنفسه.
    وولي عمرو بن العاص مصر عشر سنين، منها لعمر بن الخطاب أربع سنين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي وله ثمان وتسعون سنة، وكان داهية العرب رأياً وحزماً وعقلاً ولساناً، وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى رجلاً يكلم فلا يقيم كلامه يقول: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص.
    وقال بعضهم: سمعت عمراً يقول: سلطان عادل خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم، وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر، واستراح من لا عقل له. ولما حضرت عمراً الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنه كان مات في غزاة ذات السلاسل. إني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته، فقال: يا ليته كان بعرى، يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمى على رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.
    وتوفي عمرو ليلة الفطر سنة أربع وثلاثون، فأقر معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثم استصفى مال عمرو، فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله، فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنها عمر بن الخطاب. ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو، وولى أخاه عتبة ابن أبي سفيان مصر.
    وكتب معاوية إلى زياد بن أبي سفيان: إن قبلك رجلاً من أصحاب رسول الله فوله خراسان، وهو الحكم بن عمرو الغفاري، فولاه زياد خراسان، فقدمها سنة أربع وأربعون، فصار إلى هراة، ثم مضى منها إلى الجوزجان، فافتتحها، ونالتهم شدة حتى أكلوا دوابهم، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو في ذلك الوقت، وقد عرف بلاء المهلب وبأسه، وتوفي الحكم بن عمرو، فولى زياد مكانه الربيع بن زياد الحارثي، وفتحت خوارزم في ذلك الوقت، وكان الذي افتتحها عبد الله بن عقيل الثقفي.
    وحج معاوية سنة أربع وأربعون، وقدم معه من الشام بمنبر، فوضعه عند باب البيت الحرام، فكان أول من وضع المنبر في المسجد الحرام. ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم، وكلموه في أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم، وقد قتلتم عثمان، حتى تقولوا ما تقولون؟ فو الله لا أنتم أجل دما من كذا وكذا، وأعظم في القول، فقال له ابن عباس: كل ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دقتيك، أنت والله أولى بذلك منا، أنت قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس إنك تطلب بدمه فانكسر معاوية، فقال ابن عباس: والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت. قال: فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب إنكم لم تكونوا كلمتموني.

    ثم كلمه الأنصار، فأغلظ لهم في القول، وقال لهم: ما فعلت نواضحكم قالوا: أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك، ولكنا نفعل ما أوصانا به رسول الله. قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر. قال: فاصبروا. ثم أدلج معاوية إلى الشام، ولم يقض لهم حاجة.
    وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين، وخطب الخطبة قبل الصلاة، وذلك أن الناس، إذا صلوا، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي، فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله. واستعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف، فقتله، فحبسه معاوية أياماً، ثم أغرمه ديته، ولم يقده منه.
    وكان ابن أثال قتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دس إليه شربة سم، فعيره المنذر بن الزبير بن العوام، وقال: تتكلم، وابن أثال بحمص يأمر وينهى؟ فلما قتله قال خالد بن عبد الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال وهذا عمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير آمن السرب.
    وكان عبد الرحمن بن العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام، فجفاه معاوية، ولم يقض له حاجة، ودخل إليه يوماً، فقال له: يا ابن العباس كيف رأيت الله فعل بنا وبأبي الحسن؟ فقال: فعلا، والله، غير مختل عجلة إلى جنة لن تنالها، وأخرك إلى دنيا قد كان أمير المؤمنين نالها. قال: وإنك لتحكم على الله! قال: بما حكم الله به على نفسه، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون. قال معاوية: والله لو عاش أبو عمرو حتى يراني لرأى نقم ابن العم. فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك خذلته حين كانت النصرة له ونصرته حين كانت النصرة لك. قال: وما دخولك بين العصا ولحائها؟ قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلأن تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسيء فأكافي، ثم نهض.
    وفاة الحسن بن عليوتوفي الحسن بن علي في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعون، ولما حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين: يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي هذه، وأنا ميت من يومي، فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله، فما أحد أولى بقربه مني، إلا أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم. ولما لف في أكفانه قال محمد بن الحنفية: رحمك الله أبا محمد، فو الله لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك، ونعم الروح روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك، وأنت سليل الهدى، وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كف الحق، وربيت في حجر الإسلام، وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك.
    ثم أخرج نعشه يراد به قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب مروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، فمنعا من ذلك، حتى كادت تقع فتنة.
    وقيل إن عائشة ركبت بغلة شهباء، وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد. فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال لها: يا عمة ! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر، أ تريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت.
    واجتمع مع الحسين بن علي جماعة وخلق من الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فو الله ما هم عندنا كأكله رأس. فقال: إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم. فدفن الحسن في البقيع، وكانت سنة سبعاً وأربعين سنة، وتوفي الحسن بن علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس! إن حسنا مات. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات، فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير وبقيت على شر. قال: لا أحسبه قد خلف إلا صبية صغاراً. قال: كلنا كان صغيراً فكبر. قال: بخ بخ، يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن رسول الله، فلا.

    وكان الحسن بن علي جواداً كريماً وأشبه برسول الله خلقاً وخلقاً وسأل الحسن: ما ذا سمعت من رسول الله؟ فقال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت عنه أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرن الضيقة، تناولت تمرة فأدخلتها في فمي. قال: فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه في فمي، فاستخرجها، فألقاها، وقال: إن محمداً وآل محمد لا تحل لهم الصدقة. وعقلت عنه الصلوات الخمس.
    وحج الحسن خمس عشرة حجة ماشياً، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات، حتى كان يعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك أخرى.
    وقال معاوية للحسن: يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني عنهن. قال: وما هن؟ قال: المروة والكرم والنجدة. قال: أما المروة فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكف، وإفشاء السلام والتحبب إلى الناس. والكرم العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والإطعام في المحل، ثم النجدة الذب عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد.
    وقال جابر: سمعت الحسن يقول: مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافاة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
    وقيل للحسن: من أحسن الناس عيشا؟ قال: من أشرك الناس في عيشه. وقيل: من شر الناس عيشاً؟ قال: من لا يعيش في عيشه أحد. وقال الحسن: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من المصيبة سوء الخلق، والعبادة انتظار الفرج.
    ودعا الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي! إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم يرويه أو يحفظه، فليكتبه وليجعله في بيته. وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت! قال: ذاك إنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
    وقال معاوية: ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض، فعرض الحسن ابن علي أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
    وقال له معاوية يوما: ما يجب لنا في سلطاننا؟ قال: ما قال سليمان بن داود. قال معاوية: وما قال سليمان بن داود؟ قال: قال لبعض أصحابه: أ تدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره؟ إذا أدى الذي عليه منه، وإذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضا، وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً، ولم يأكلها إسرافاً وبذاراً لم يضره ما تمتع به من دنياه، إذا كان ذلك من خلته. وقال الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها وبميسور من القول. ومر الحسن يوماً وقاص يقص على باب مسجد رسول الله، فقال الحسن: ما أنت؟ فقال: أنا قاص يا ابن رسول الله. قال: كذبت، محمد القاص، قال الله عز وجل: فاقصص القصص. قال: فأنا مذكر. قال: كذبت، محمد المذكر، قال له عز وجل: فذكر إنما أنت مذكر قال: فما أنا؟ قال: المتكلف من الرجال.
    وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور، وهم: الحسن بن الحسن، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، وزيد بن الحسن، وأمه أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري الخزرجي، وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهات أولاد شتى، وطلحة وعبيد الله.
    ولما توفي الحسن وبلغ الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً غفر الله ذنبه وتقبل حسناته، وألحقه بنبيه، وضاعف لك الأجر في المصاب به وجبر بك المصيبة من بعده

    فعند الله نحتسبه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأمة عامة، وأنت وهذه الشيعة خاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد المرجو لإقامة الدين وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، إن ذلك لمن عزم الأمور، فإن فيك خلفا ممن كان قبلك، وإن الله يؤتي رشده من يهدي بهديك، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك.
    وبايع معاوية لابنه يزيد بولاية العهد، بعد وفاة الحسن بن علي، ولم يتخلف عن البيعة إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. وقال عبد الله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر، ويظهر الفسوق! ما حجتنا عند الله! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أفسد علينا ديننا.
    وحج معاوية تلك السنة فتألف القوم، ولم يكرههم على البيعة، وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة، ومعه سفيان بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم فنال المسلمين في بلاد الروم حمى وجدري، وكانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها محباً، فلما بلغه ما نال الناس من الحمى والجدري قال:
    ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالغذ قذونه من حمى ومن موم
    إذا اتكأت على الأنماط في غرف ... بدير مران عندي أم كلثوم
    فبلغ ذلك معاوية فقال: أقسم بالله لتدخلن أرض الروم فليصيبنك ما أصابهم، فأردف به ذلك الجيش، فغزا به حتى بلغ القسطنطينية.
    ووجه معاوية عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية فافتتحها واختط قيروانها، وبناه، وكان موضع دغل وحلفاء تنزله الأسد، وكان ذلك سنة خمسين، ثم ولى معاوية دينارا أبا المهاجر، مولى الأنصار، مكان عقبة بن نافع الفهري، فأخذ عقبة بن نافع، فحبسه وقيده، فأقام في الحبس شهورا، ثم أطلقه، فلما صار إلى مصر رده عمرو بن العاص إلى المغرب.
    وقيل ورد كتاب من معاوية على عمرو يأمره بذلك. فلما قدم عقبة إفريقية أخذ ديناراً فحبسه، وخرج على عقبة رجل من البربر يقال له ابن الكاهنة، ولم يزل عقبة على البلد أيام معاوية ويزيد بن معاوية.
    وتوفي المغيرة بن شعبة سنة إحدى وخمسين، فولى معاوية الكوفة زياداً، وضمها إليه مع البصرة، فكان أول من جمع له المصران. وكتب زياد إلى معاوية: أني قد شغلت شمالي بالعراق ويميني فارغة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يوليني الموسم؟ فكتب إليه بولاية الحجاز، وقيل بولاية الموسم.
    وكان عبد الله بن عمر يدخل فيقول: ارفعوا أيديكم فادعوا الله أن يكفيكم يمين زياد.
    وروى بعضهم أن أبا بكرة أخاه أتاه، فخاطب صبيا له، وكان قد حلف ألا يكلمه مه كاع عن الشهادة على المغيرة، فقال: يا بني أبوك ركب في الإسلام عظيما، شتم أمه، وانتفى من أبيه، ثم هو الآن يريد أن يفعل ما هو أكبر من هذا، يمر بالمدينة، فيستأذن على أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن أذنت فأعظم بها مصيبة على رسول الله، وعلى المسلمين، فإن لم تأذن له فأعظم بها فضيحة على أبيك. فتأخر عن الخروج.
    وكان حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب، إذا سمعوا المغيرة وغيره من أصحاب معاوية، وهم يلعنون علياً على المنبر، يقومون فيردون اللعن عليهم، ويتكلمون في ذلك. فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم يحمد الله فيها، ولم يصل على محمد وأرعد فيها وأبرق، وتوعد وتهدد، وأنكر كلام من تكلم، وحذرهم ورهبهم، وقال: قد سميت الكذبة، على المنبر، الصلعاء فإذا أوعدتكم أو وعدتكم، فلم أف لكم بوعدي ووعيدي، فلا طاعة لي عليكم.
    وكانت بينه وبين حجر بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر! أرأيت ما كنت عليه من المحبة والموالاة لعلي؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة، أورأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت علياً بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر.

    ثم بلغه انهم يجتمعون، فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية، ويذكرون مساويهما، ويحرضون الناس، فوجه صاحب شرطه إليهم، فأخذ جماعة منهم فقتلوا، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعي إلى الموصل وعدة معه، وأخذ زياد حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه فأشخصهم إلى معاوية، فكتب فيهم انهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك من الطاعة، وأنفذ شهادات قوم أولهم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم وجه إليهم من يضرب أعناقهم، فكلمه قوم في ستة منهم، فوقف عنهم، فقتل سبعة: حجر بن عدي الكندي وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب التميمي، وكدام بن حيان العنزي، ولما أراد قتلهم قال حجر بن عدي: دعوني حتى أصلي، فصلى ركعتين خفيفتين ثم أقبل عليهم فقال: لو لا أن تظنوا بي خلاف ما بي لأحببت أن تكونا أطول مما هما، وإني لأول من رمي بسهم في هذا الموضع، وأول من هلك فيه. فقيل له: أجزعت؟ فقال: ولم لا أجزع، وأنا أرى سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً؟ ثم ضربت عنقه وأعناق القوم، وكفنوا ودفنوا، وكان ذلك في سنة اثنان وخمسين.
    وقال معاوية للحسين بن علي: يا أبا عبد الله! علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم، ودفناهم؟ فقال الحسين: حجرك، ورب الكعبة، لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما كفناهم، ولا حنظناهم، ولا صلينا عليهم ولا دفناهم.
    وقالت عائشة لمعاوية حين حج، ودخل إليها: يا معاوية! أقتلت حجرا وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السموات. قال: لم يحضرني رجل رشيد، يا أم المؤمنين.
    وروي أن معاوية كان يقول: ما أعد نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحاب حجر. وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم، وكان عامل معاوية على الموصل، مكان عمرو بن الحمق الخزاعي، ورفاعة بن شداد، فوجه في طلبهما، فخرجا هاربين، وعمرو بن الحمق شديد العلة، فلما كان في بعض الطريق لدغت عمراً حية، فقال: الله أكبر! قال لي رسول الله: يا عمرو ليشترك في قتلك الجن والإنس. ثم قال لرفاعة: امض لشأنك، فإني مأخوذ ومقتول. ولحقته رسل عبد الرحمن ابن أم الحكم، فأخذوه وضربت عنقه، ونصب رأسه على رمح، وطيف به، فكان أول رأس طيف به في الإسلام. وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق، فلما أتى رأسه بعث به، فوضع في حجرها، فقالت للرسول: أبلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجل له الويل من نقمه، فلقد أتى أمراً فريا، وقتل براً نقياً. وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال.
    وخرج قريب وزحاف الخارجيان بالبصرة في جماعة من الخوارج، فاستعرضا الشرط، فقتلا منهم خلقا عظيما، وصارا إلى المسجد الجامع، فقتلا خلقاً من الناس، ومالوا إلى القبائل، ففعلوا مثل ذلك. وكان زياد بالكوفة وعامله على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فحاربهم، فلما لم يكن له بهم طاقة كتب إلى زياد، فأقبل زياد حتى صار إلى البصرة، فصار إلى دار الإمارة، ثم قال: يا أهل البصرة ما هذا الذي قد اشتملتم عليه؟ إني أعطي الله عهداً لا يخرج على خارجي بعدها فأدع من حيه وقبيلته أحداً، فاكفوني بوائقكم. فقام خطباء البصرة، فتكلموا واعتذروا.
    وكان معاوية أول من أقام الحرس والشرط والبوابين في الإسلام، وأرخى الستور واستكتب النصارى، ومشى بين يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الأعطيه، وجلس على السرير، والناس تحته، وجعل ديوان الخاتم وبنى وشيد البناء، وسخر الناس في بنائه، ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال الناس، فأخذها لنفسه.
    وكان سعيد بن المسيب يقول: فعل الله بمعاوية وفعل، فإنه أول من أعاد هذا الأمر ملكاً. وكان معاوية يقول: أنا أول الملوك. ورحل إليه عبد الله بن عمر يوماً، فقال: يا أبا عبد الله! كيف ترى بنياننا؟ قال: إن كان من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كان من مالك فأنت من المسرفين. ودخل إليه عدي بن حاتم، فقال له: كيف زماننا هذا يا أبا طريف؟ قال: إن صدقناكم خفناكم، وإن

    كذبناكم خفنا الله. قال: أقسمت عليك! قال: عدل زمانكم هذا جور زمان قد مضى، وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي. واستقر خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام معاوية على ستمائة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف درهم.
    وكان خراج السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وخراج فارس سبعين ألف ألف، وخراج الأهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف، وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم، وخراج كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم، وخراج نهاوند وماه الكوفة، وهو الدينور، وماه البصرة، وهو همذان، وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم، وخراج الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم، وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وخراج آذربيجان ثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن أخرج معاوية من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه لأنفسها من الضياع العامرة وجعله صافية لنفسه، فأقطعه جماعة من أهل بيته.
    وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم، فمنها كانت صلاته وجوائزه، واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص يحمل منها إليه الشيء اليسير، فلما مات عمرو حمل المال إلى معاوية، فكان يفرق في الناس أعطياتهم، ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الأردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج جند حمص على ثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وخراج قنسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج الجزيرة، وهي ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف ومائتي ألف دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار.
    وكان معاوية قد ولي اليمن، لما استقامت له الأمور، فيروز الديلمي، ثم استعمل مكانه عثمان بن عفان الثقفي، ثم استعمل ابن بشير الأنصاري. وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل بيته وخاصته. وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا، حتى بمكة والمدينة، فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أوساق التمر والحنطة.
    وكان معاوية وجه إلى ثغر الهند ابن سوار بن همام، فشخص في أربعة آلاف حتى أتى مكران، فأقام بها شهوراً، ثم غزا القيقان، فقاتلهم، وصبر على قتالهم، فقتل ابن سوار وعامة ذلك الجيش، ورجع من بقي معه إلى مكران، فكتب معاوية إلى زياد أن يوجه رجلاً له حزم وجزالة. فوجه سنان بن سلمة الهذلي فأتى مكران، فلم يزل بها مقيما ثم صرفه زياد، وولى راشد بن عمرو الجديدي الأزدي، فغزا القيقان، فظفر وغنم، وغزا بعض بلاد السند، وفتح بلاد الهند، وكانت الهند يومئذ أهون شوكة من السند، فقتل راشد ببلاد السند. وأقام زياد على ولاية العراق اثنتي عشرة سنة، وكان لزياد دهاء ورجله وصولة، وكان أول من دون الدواوين ووضع النسخ للكتب، وأفرد كتاب الرسائل من العرب والموالي المتفصحين.
    وكان زياد يقول: ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج.
    وكان زياد يقول: ملاك السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان. وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم.
    وكان زياد يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! تعرفني؟ فقال: نعم المعرفة الجامعة! أعرفك باسمك واسم أبيك، وكنيتك، وعريفك، وعشيرتك، وفصيلتك، ولقد بلغ من معرفتي بكم أني أرى البرد على أحدكم، ثم آخر عارية، فأعرفه.
    واختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الأمير! إنه يدل بناحية ذكر أنها له من الأمير. قال: صدق! سأخبرك بما ينفعه من ذلك، ويضرك، إن وجب له الحق عليك أخذتك له أخذاً عنيفاً، وإن وجب عليه حكمت وأديت عنه.
    وقال زياد وهو على المنبر: إن أعظم الناس كذباً أمير يقف على المنبر وتحته مائة ألف من الناس، فيكذبهم، وإني والله لا أعدكم أجراً إلا انجزته، ولا أعاقبكم حتى أتقدم عليكم.

    وكان زياد يقول لأصحابه: ليس كل يصل إلي ولا كل من وصل إلى أمكنه الكلام، فاستشفعوا لمن وراءكم، فإني من ورائكم أمنع إن أردت أن أمنع.
    وكان زياد يقول: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذة: الثغر، والصائفة، والشرط، والقضاء. وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسناً، عفيفاً، مأموناً، لا يطعن عليه. وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وأحكام للعمل وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه. وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا، فطنا، قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم وتوفي زياد بالكوفة سنة أربع وخمسين.
    وروي أنه كان أحضر قوماً بلغه انهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجلاً، فصعد المنبر، وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد، فنام بعض القوم، وهو جالس، فقال له بعض أصحابه: تنام وقد أحضرت لتقتل؟ فقال: من عمود إلى عمود فرقان، لقد رأيت في نومتي هذه عجباً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت رجلاً أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف، فقلت: من أنت يا هذا؟ فقال: أنا النقاد داق الرقبة. قلت: وأين تريد؟ قال: أدق عنق هذا الجبار الذي يتكلم على هذه الأعواد.
    فبينا زياد يتكلم على المنبر إذ قبض على إصبعه، ثم صاح: يدي! وسقط عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل القصر، وقد طعن في خنصرة اليمنى، فجعل لا يتغاذ، فأحضر الطبيب، فقال له: اقطع يدي! قال: أيها الأمير! أخبرني عن الوجع تجده في يدك، أو في قلبك؟ قال: والله إلا في قلبي. قال: فعش سويا.
    فلما نزل به الموت كتب إلى معاوية أني كتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وقد استخلفت على عملي خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
    فلما توفي زياد ووضع نعشه ليصلي عليه تقدم عبيد الله ابنه فنحاه، وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه، فلما فرغ من دفنه خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية، فلما قيل لمعاوية هذا عبيد الله قال: يا بني! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت. فقال: نشدتك الله، يا أمير المؤمنين، أن يقولها لي أحد بعدك ما منع أباه وعمه أن يستعملاه؟ فولاه خراسان، وصير إليه ثغرى الهند. وتوفي المنذر فولى مكانه سنان بن سلمة، فقاتل القيقان والبوقان، وظفر، ورزقه الله النصر عليهم. وصار عبيد الله بن زياد إلى خراسان، فبدأ ببخارى، وعليها ملكة يقال لها خاتون فقاتلهم حتى فتحها، ثم قطع نهر بلخ، وكان أول عربي قطع نهر بلخ، وحاربه القوم محاربة شديدة، وكان الظفر له، ثم انصرف من خراسان إلى معاوية فولاه البصرة سنة ست وخمسين، وقيل أول سنة سبع وخمسين.
    وولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان، فاستضعفه، فعزله، وولي عبد الرحمن بن زياد، فلم يحمده، فعزله، فقدم عبد الرحمن بمال عظيم، فقيل إنه قال: قدمت معي بمال يكفيني مائة سنة لكل يوم ألف درهم، فذهب ذلك المال، حتى نظر إليه في أيام الحجاج على حمار فقيل له: أين المال؟ فقال: لا يكفي إلا وجه الله، والحمار أيضاً ليس لي، إنما هو عارية.
    وولى معاوية خراسان بعد عبد الرحمن بن زياد سعيد بن عثمان بن عفان، فقطع النهر، وصار إلى بخارى، فطلبت خاتون ملكة بخارى الصلح، فأجابها إلى ذلك، ثم رجعت عن الصلح، وطمعت في سعيد، فحاربهم سعيد، فظفر، وقتل مقتلة عظيمة. وسار إلى سمرقند، فحاصرها، فلم يكن له طاقة بها، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح، فحلف ألا يبرح حتى يدخل المدينة، ففتح له باب المدينة، فدخلها، ورمى القهندز بحجر، وكان معه قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند. فلما بلغ عبد الله بن عباس موته قال: ما أبعد ما بين مولده ومقبرة، مولده بمكة، وقبره بسمرقند، فانصرف سعيد بن عثمان إلى معاوية، فولى معاوية مكانه أسلم بن زرعة.
    وصار سعيد إلى المدينة، ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد، فوثبوا عليه، وقتلوه، وقتل بعضهم بعضا، حتى لم يبق منهم أحد. وأقام أسلم بن زرعة شهورا، وكان عمال خراسان ينزلون هراة، ثم ولى معاوية خليد بن عبد الله الحنفي، فكان آخر ولاته على خراسان.

    وأراد سعد بن أبي وقاص أن يعمل له، فامتنع عليه، ولزم منزله، وكان يسكن قصرا له خارج المدينة على عشرة أميال فلم يزل نازلا به حتى توفي، وكانت وفاته سنة خمس وخمسين، وحمل على أيدي الرجال من قصره إلى المدينة، حتى دفن بالبقيع.
    وتوفي أيام معاوية أربع من أزواج رسول الله: حفصة بنت عمر، توفيت سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو عامل المدينة، وصفية بنت حيي بن أخطب توفيت سنة خمسين، وخولة بنت الحارث توفيت سنة ست وخمسين، وعائشة بنت أبي بكر توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة لمروان على المدينة، فقال بعض من حضر: صلى عليها أعدى الناس لها. وتوفي أبو هريرة سنة تسع وخمسين.
    وكان لمعاوية حلم ودهاء، وجود بالمال على المداراة من رجل يبخل على طعامه. وقال سعيد بن العاص: سمعت معاوية يوماً يقول: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها. وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء، وربما احتال عليه فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان أكثر فعله المكر والحيلة.
    وحج بالناس، في جميع سني ولايته، حجتين سنة أربع وأربعين وسنة خمسين، وأراد أن يحمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنال المنبر زلزلة، حتى ظن أنه آخر الدنيا، فتركه ثم زاد فيه خمس مراق من أسفله، واعتمر عمرة رجب في سنة ست وخمسين. وكان أول من كسا الكعبة الديباج، واشترى لها العبيد.
    وكان يغلب عليه عمرو بن العاص، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري وكان الضحاك على شرطته، وعلى حرسه أبو مخارق مولى حمير، وحاجبه رباح، مولاه. وكان معاوية جهم الوجه جاحظ العين، وافر اللحية، عريض الصدر، عظيم الأليتين، قصير الساقين والفخذين، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي مستهل رجب، ويقال للنصف من رجب سنة ستين، وهو ابن سبع وسبعين سنة، ويقال ثمانين سنة، وقد كان ضعف ونحل، وسقطت ثنيتاه.
    قال صالح بن عمرو: ورأيت معاوية على المنبر معتما بعمامة سوداء، قد سدلها على فيه، وهو يقول: معشر الناس! كبرت سني، وضعفت قوتي، وأصبت في أحسني، فرحم الله من دعا لي! ثم بكى، فبكى معه الناس. وخرج الضحاك بن قيس، لما مات معاوية، فوضع أكفانه على المنبر، ثم قال: إن معاوية كان ناب العرب وحبلها، وقد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، وموردوه قبره، ثم هو آخر اللقاء.
    وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري لغيبة يزيد في ذلك الوقت، ودفن بدمشق، وخلف من الذكور أربعة: يزيد وعبد الله ومحمداً، وعبد الرحمن. وأقام الحج في أيامه سنة واحد وأربعون واثنان وأربعون عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة ثلاث وأربعون مروان ابن الحكم، وفي سنة أربع وأربعون معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة خمس وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة ست وأربعون عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وأربعون عتبة بن أبي سفيان وفي سنة ثمان وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة تسع وأربعون سعيد بن العاص، وفي سنة خمسين معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة وحد وخمسين يزيد بن معاوية، وفي سنة اثنان وخمسين سعيد بن العاص، وفي سنة ثلاث وخمسون سعيد بن العاص أيضاً، وفي سنة أربع وخمسون مروان بن

    الحكم، وفي سنة خمس وخمسون مروان ابن الحكم أيضاً، وفي سنة ست وخمسون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وخمسون الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان أيضاً، وفي سنة ثمان وخمسون الوليد بن عتبة أيضاً، وفي سنة تسع وخمسون عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وغزا بالناس في ولايته سنة واحد وأربعون، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح صاحب الروم، وكره أن يشغله. وسنة ثلاث وأربعون غزا بسر بن أبي أرطأة أرض الروم ومشتاة بها. سنة أربع وأربعون غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى بلغ ق
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:27 am

    ثم تقدموا رجلاً رجلاً، حتى بقي وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنه لواقف على فرسه إذ أتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه، وجعل يحنكه، إذ أتاه سهم، فوقع في حلق الصبي، فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطخه بدمه يقول: والله لأنت أكرم على الله من الناقة، ولمحمد أكرم على الله من صالح! ثم أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه، ثم حمل عليهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وأتاه سهم فوقع في لبته، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟ وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرم سنة واحد وستون، واختلفوا في اليوم، فقالوا: يوم السبت، وقالوا: يوم الإثنين، وقالوا: يوم الجمعة، وكان من شهور العجم في تشرين الأول.
    قال الخوارزمي: وكانت الشمس يومئذ في الميزان سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة، وزحل في السرطان تسعاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الجدي اثنتي عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في السنبلة خمس درجات وخمسين دقيقة، وعطارد في الميزان خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الجوزاء درجة وخمساً وأربعين دقيقة.
    ووضع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول الله، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: وا حسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سمع بمثلها قط.
    وكانت سن الحسين يوم قتل ستاً وخمسين سنة، وذلك أنه ولد في سنة أربعة من الهجرة.
    وقيل للحسين: ما سمعت من رسول الله؟ قال: سمعته يقول: إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وعقلت عنه أنه يكبر فأكبر خلفه، فإذا سمع تكبيري أعاد التكبير حتى يكبر سبعاً، وعلمني: قل هو الله أحد، وعلمني الصلوات الخمس، وسمعته يقول: من يطع الله يرفعه، ومن يعص الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنه، ومن يتعزز على الله يذله. ئ قال بعضهم: سمعت الحسين يقول: الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة والجوار قرابة، والمعونة صداقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر والسخاء غنى، والرفق لب.
    ووقف الحسين بن علي بالحسن البصري، والحسن لا يعرفه، فقال له الحسين: يا شيخ هل ترضى لنفسك يوم بعثك؟ قال: لا! قال: فتحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك من نفسك يوم بعثك؟ قال: نعم بلا حقيقة. قال: فمن أغش لنفسه منك يوم بعثك، وأنت لا تحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك بحقيقة؟ ثم مضى الحسين، فقال الحسن البصري: من هذا؟ فقيل له: الحسين بن علي. فقال: سهلتم علي.
    وكان للحسين من الولد: علي الأكبر، لا بقية له، قتل بالطف، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وعلي الأصغر، وأمه حرار بنت يزدجرد، وكان الحسين سماها غزالة.
    وقيل لعلي بن الحسين: ما أقل ولد أبيك! قال: العجب كيف ولدت له، إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء؟ وأقام عبد الله بن الزبير بمكة خالعاً يزيد، ودعا إلى نفسه، وأخرج عامل يزيد. ووجه إليه يزيد ابن عضاة الأشعري، وكتب إليه يعطيه الأمان، ويعلمه أنه كان حلف ألا يقبل بيعته إلا وهو في جامعة حديد، حتى يبايع ثم يطلقه. وكان مروان بن الحكم عامل المدينة، فكره ابن الزبير أن يجيب إلى ذلك، وداخله الهلع عندما بلغه من قتل الحسين، فوجه إليه مع بعض ثقاته بشعر يقول فيه:
    فخذها فليست للعزيز بخطه ... وفيها مقال لامرئ متذلل

    وكان ابن الزبير شديد العزة، فلم يفعل، وأجاب ابن عضاة بجواب غليظ، فقال ابن عضاة: إن الحسين بن علي كان أجل قدراً في الإسلام وأهله من قبل، وقد رأيت حاله، فقال له ابن الزبير: إن الحسين بن علي خرج إلى من لا يعرف حقه، وإن المسلمين قد اجتمعوا علي. فقال له: فهذا ابن عباس، وابن عمر لم يبايعك، وانصرف.
    وأخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا، وإنك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزى به الواصلين لأرحامهم، فإني ما آنس من الأشياء فلست بناس برك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر، رحمك الله، فيمن قبلك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام.
    فكتب إليه عبد الله بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردت، ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم. وزعمت أنك لست بناس ودي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذ لهم عن ابن الزبير، فلا، ولا سروراً، ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنك إن تمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهور. لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرعين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنشى بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد.
    وما آنس من الأشياء، فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر، ابن العاهر، البعيد رحما، اللئيم أبا وأما الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والأولى، وفي الممات والمحيا، إن نبي الله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلاً وأحيا البدع والأحداث المضلة عمداً.
    وما آنس من الأشياء، فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرم الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعز أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث الحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت؟ لأنت المستحل فيما أظن بل لا شك فيه إنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملأه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضرابا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
    ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته، والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجاس، وطهرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كأبائك الأجلاف قاه الأكباد الحمير.

    ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً. فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم، فو الله لنظفرن بك يوماً.
    فأما ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإني لأعلم أن ابني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم، معاشر قريش، كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من يجترئ على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا. فبعدا لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين.
    ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح يدي، إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعش لا أبا لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله.
    وولى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا، عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنه أراد حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر، وأن أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثم قص عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين! وجهني إليهم فو الله لأدعن أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرسول، فوجهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديدا، وخندقوا على المدينة، فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة فارس، فاتبعه الخيل حتى دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد إلا قتل، وأباح حرم رسول الله، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن، ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على انهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع آية إنك عبد قن ليزيد، فيقول: لا! فيضرب عنقه، فأتاه علي بن الحسين فقال: علام يريد يزيد أن أبايعك؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت أن أبايعك على أني عبد قن، فعلت فقال: ما أحشمك هذا، فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد، وكان ذلك سنة اثنان وستون.
    وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح ابن زنباع الجذامي، ومن الأردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي. وكان المدبر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري.
    وخرج مسلم بن عقبة من المدينة يريد مكة لمحاربة ابن الزبير، فلما صار بثنية المشلل احتضر، واستخلف الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار! لو لا حبيش بن دلجة القيني لما وليتك، فإذا قدمت مكة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثم الثقاف، ثم الانصراف، ثم قال: اللهم إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة، فإني إذا لشقي. ثم خرجت نفسه فدفن بثنية المشلل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المشلل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه، وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحداً.

    وقدم الحصين بن نمير مكة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة. وكان عبد الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله، يا أهل الشام! فيصيح الشاميون: الطاعة الطاعة! الكرة الكرة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتى أحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نطفئ النار، فمنعهم، وأراد أن يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام إن الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة ثلاث وستون.
    وولى يزيد سلم بن زياد خراسان، وبعث معه بعده من الأشراف، أحدهم طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب ابن أبي صفرة، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السلمي فصار إلى خراسان، فأقام بنيسابور، ثم صار إلى خوارزم، ففتحها.
    ثم صار إلى بخارى، وملكتها خاتون، فلما رأت كثرة جمعه هالها ذلك، وكتبت إلى طرخون ملك السغد: أني متزوجتك، فأقبل إلي لتملك بخارى، فأقبل إليها في مائة ألف وعشرين ألفاً، فوجه سلم المهلب بن أبي صفرة طليعة له لما بلغه إقبال طرخون، فخرج وتبعه الناس، فلما أشرفوا على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم، والتحم القتال، ورشقهم المسلمون بالنبل، فقتل طرخون وانهزم أصحابه، فقتل منهم بشر كثير، فبلغت سهام المسلمين يومئذ للفارس ألفين وأربعمائة، وللراجل ألفاً ومائتين، ولم يزل ابن زياد بخراسان حتى توفي يزيد، وكان يكتم موته حتى ذاع في الناس، فانصرف سلم من خراسان، فاستخلف عليها ابن خازم السلمي، وذلك أنه خاف أن يثب به، فداراه وبلغه اختلاط الناس، فأعطاه عهده ومضى.
    وأقام ابن خازم بخراسان فعمل العجائب، ولم يكن يرد عليه، وسار سليمان إلى هراة، ووثب أوس بن ثعلبة بالطالقان، فلم يزل يحاربهما ويحارب الترك، وهو في كل ذلك منصور عليهم. وتوفي يزيد بن معاوية في صفر سنة أربع وستون بموضع يقال له حوارين وحمل إلى دمشق، فدفن بها، وصلى عليه معاوية بن يزيد. وكان له من الولد الذكور أربعة: معاوية، وخالد، وأبو سفيان، وعبد الله، وكان الغالب عليه حسان بن بحدل الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن رياح، وكان على شرطة عبد الله بن عامر الهمداني، وعلى حرسه سعيد مولى كلب، وحاجبه صفوان مولاه.
    وكتب مروان بن الحكم إلى الحصين بن نمير، وهو في محاربة ابن الزبير: لا يهولنك ما حدث، وامض لشأنك. وبلغ الخبر ابن الزبير وذاع في العسكر، فانكسرت شوكة القوم، وأرسل الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: نلتقي الليلة على الأمان، فالتقيا، فقال له الحصين بن نمير: إن يزيد قد مات، وابنه صبي، فهل لك أن أحملك إلى الشام، فليس بالشام أحد، فأبايع لك، فليس يختلف عليك اثنان؟ فقال ابن الزبير، رافعا صوته: لا والله الذي لا إله إلا هو، أو تقتل بأهل الحرة أمثالهم من أهل الشام فقال له الحصين: من زعم أنك داهية فهو أحمق. أقول لك ما لك سراً، وتقول لي ما عليك علانية؟ ثم انصرف. وكان سعيد بن المسيب يسمى سني يزيد بن معاوية بالشؤم: في السنة الأولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهكت حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة.
    وأقام الحج في ولاية يزيد بن معاوية سنة ستون عمرو بن سعيد بن العاص، وفي سنة واحد وستون الوليد بن عتبة، وفي سنة اثنان وستون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وغزا في الناس في ولايته سنة واحد وستون، غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الصائفة، وهي غزاة سورية.
    أيام معاوية بن يزيد بن معاوية

    ثم ملك معاوية بن يزيد بن معاوية، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوماً، وقيل: بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمد الله والثناء عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وإن جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول الله، وأحق في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين، وأبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتى أتته منيته وصار رهنا بعمله، ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلت منعته، وانقطعت مدته، وصار أحفرته رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه. ثم بكى، وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة وحرق الكعبة، وما أنا المتقلد أموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فو الله لئن كانت الدنيا مغنماً لقد نلنا منها حظاً، وإن تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: سنها فينا عمرية! قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر. وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وصلى عليه خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل بل عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ودفن بدمشق، وكان بها ينزل.
    أيام مروان بن الحكموعبد الله بن الزبير وأيام من أيام عبد الملك وكان عبد الله بن الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلب على مكة، وتسمى بأمير المؤمنين، ومال إليه أكثر النواحي، وكان ابتداء أمره في أيام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلما توفي يزيد بن معاوية مال الناس من البلدان جميعاً إلى ابن الزبير، وكان بمصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري عاملاً لابن الزبير، وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري، وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وبالكوفة عبد الله بن مطيع، وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان عبد الله بن خازم السلمي، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن، ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي.
    وأخرج ابن الزبير بني أمية من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتى عبد الملك ابنه، وهو عليل مجدر، فقال له: يا بني إن ابن الزبير قد أخرجني! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك؟ قال: كيف أخرجك وأنت على هذا الحال؟ قال: لفني في القطن، فإن هذا رأي لم يتعقبه ابن الزبير. فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقب ابن الزبير الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فوجه يردهم ففاتوه.
    وقدم مروان، وقد مات معاوية بن يزيد، وأمر الشام مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع الناس بالجابية من أرض دمشق، فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم لبني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل مع مروان، فقام خطيباً، فقال: يا أهل الشام! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفين، فبايعوا الكبير، واستنيبوا للصغير، ثم لعمرو بن سعيد.
    فبايعوا لمروان بن الحكم، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون، فقالوا: نقصد دمشق، فإنها دار الملك، ومنزل الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس. فقصدوا دمشق، فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتينهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشر حبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بن حسان الهلالي، والتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك بن قيس وخلق من أصحابه، وهرب من بقي من جيشه.
    وبلغ الخبر النعمان بن بشير، وهو بحمص، فخرج هارباً، ومعه امرأته الكنانية وثقله وولده، فتبعه قوم من حمير وباهلة، فقتلوه في البرية، واحتزوا رأسه. ووجهوا به إلى مروان بن الحكم.

    وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا وبها عياض الحرشي من مذحج فأغلق أبوابها دونه. فلم يزل يخدعه حتى دخلها.
    ووجه مروان حبيش بن دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير، فسار حتى أتى المدينة، وعليها جابر بن الأسود بن عوف الزهري عامل ابن الزبير، وكتب ابن الزبير إلى الحارث بن عبد الله عامله على البصرة أن يوجه إليهم بجيش، فلقوا حبيشا فقتلوه وقتلوا عامة أصحابه فلم يفلت منهم إلا الشريد فكان فيمن أفلت منهم: يوسف بن الحكم الثقفي، وابنه الحجاج بن يوسف. ثم خرج مروان يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس الجذامي متغلباً على البلد، وأخرج روح بن زنباع، فحاربه، فلما لم يكن لناتل قوة على محاربة مروان هرب، فلحق بابن الزبير، وسار مروان يريد مصر حتى دخلها، فصالحه أهلها، وأعطوه الطاعة، وأخرج ابن جحدم الفهري، عامل ابن الزبير، وقيل اغتاله فقتله، وقتل أكيدر بن حمام اللخمي، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز بن مروان وانصرف.
    وقام سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخرجا في جماعة معهما من الشيعة بالعراق، بموضع يقال له عين الوردة، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني إسرائيل، إذ قال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم، واتبعهم خلق من الناس، فوجه إليهم مروان عبيد الله بن زياد، وقال: إن غلبت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صرد، فلم يزل يحاربه حتى قتله، وقيل لم يقتل سليمان في أيام مروان، ولكنه قتل في أيام عبد الملك.
    ولما صار مروان إلى الصنبرة من أرض الأردن، منصرفا من مصر، بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد، فأحضره فقال له: قد بلغني أنك بايعت عمرو بن سعيد، فأنكر ذلك، فقال له: بايع لعبد الملك، فبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، ولم يبرح مروان من الصنبرة حتى توفي.
    وكان سبب وفاته أنه تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل إليه يوماً فأفحش له في القول، ثم أعاد عليه في يوم آخر مثل ذلك، فدخل خالد إلى أمه مغضبا، فخبرها، فقالت: والله لا يشرب البارد بعدها! فصيرت له سما في لبن، فلما دخل سقته إياه. وقال بعضهم: بل وضعت على وجهه وسادة حتى قتلته. وقال قوم: إنه توفي بدمشق ودفن بها.
    وكانت ولاية مروان تسعة أشهر، فتوفي في شهر رمضان سنة خمس وستون، وهو ابن إحدى وستين سنة، وكان صاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وحاجبه أبو سهل الأسود، وصلى عليه عبد الملك ابنه، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا وهم: عبد الملك وعبد العزيز، ومعاوية، وبشر، وعمر، وأبان، وعبد الله، وعبيد الله، وأيوب، وداود، وعثمان، ومحمد.
    وخلف أهل الشام عبد الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومن إلى المنبر، أو لنضربن عنقك! فصعد المنبر وبايعوه.
    وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي أقبل في جماعة عليهم السلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عبيد الله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية وكتب يزيد إلى عبيد الله: إن خل سبيله، فخلى سبيله، ونفاه، فخرج المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزبير، فلما لم ير ابن الزبير يستعمله شخص إلى العراق، فوافى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلما صار إلى الكوفة اجتمعت إليه الشيعة، فقال لهم: إن محمد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم أميرا، وأمرني بقتل المحلين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمهم. فصدقه طائفة من الشيعة، وقالت طائفة: نخرج إلى محمد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أحب إلينا من طلب بثأرنا، وأخذ لنا بحقنا، وقتل عدونا، فانصرفوا إلى المختار، فبايعوه وعاقدوه، واجتمعت طائفة.

    وكان ابن مطيع عامل ابن الزبير على الكوفة، فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم، فواعد المختار أصحابه، ثم خرجوا بعد المغرب، وصاحب الجيش إبراهيم ابن مالك بن الحارث الأشتر، ونادى: يا لثارات الحسين بن علي! وكان ذلك سنة ست وستون، والتحم القتال بينهم وبين عبد الله بن مطيع، وكانت أشد حرب وأصعبها.
    ثم صار ابن مطيع إلى القصر ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع المختار إلى ابن مطيع مائة ألف، وقال له: تحمل بها وأنفذ لوجهك. وسرح المختار عماله إلى النواحي، فأخرجوا من كان فيها، وأقاموا بها.
    وكان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، فزحف إليه عبيد الله بن زياد، بعد قتله سليمان بن صرد، فحاربه عبد الرحمن، وكتب إلى المختار بخبره، فوجه إليه يزيد بن أنس، ثم وجه إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، فلقي عبيد الله بن زياد فقتله، وقتل الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما بالنار، وأقام واليا على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق وال، ووجه برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه، وقال له: قف بباب علي بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس، فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فأدخل إليه. فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين، فلما فتحت أبوابه، ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد الله بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلا صرخت، ودخل الرسول، فأخرج الرأس، فلما رآه علي بن الحسين قال: أبعده الله إلى النار. وروى بعضهم أن علي بن الحسين لم ير ضاحكا يوماً قط، منذ قتل أبوه، إلا في ذلك اليوم، وإنه كان له إبل تحمل ألفاًكهة من الشام، فلما أتي برأس عبيد الله بن زياد أمر بتلك ألفاًكهة، ففرقت في أهل المدينة وامتشطت نساء آل رسول الله، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي وتتبع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقا عظيما، حتى لم يبق منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف العذاب.
    وهدم ابن الزبير الكعبة في جمادى الآخرة سنة أربع وستون، حتى ألصقها بالأرض، وذلك أن الحصين بن نمير لما أراد ابن الزبير هدمها امتنع، وامتنع الناس من الهدم، فعلا عبد الله بن الزبير على البيت، فهدم، فلما رآه الناس يهدم هدموا، فلما ألصقها بالأرض خرج ابن عباس من مكة إعظاما للمقام بها، وقد هدمت الكعبة، وقال له: اضرب حوالي الكعبة الخشب لا تبق الناس بغير قبله.
    وروى ابن الزبير عن خالته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قال لي رسول الله: يا عائشة إن بدا لقومك أن يهدموا الكعبة ثم يبنوها، فلا يرفعوها عن الأرض، وليصيروا لها بابين. فلما بلغ ابن الزبير بالهدم إلى القواعد أدخل الحجر في البناء حتى رفعها، وجعل لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وصير على كل باب مصراعين، وكان على بابها الأول مصراع واحد، وجعل طول البابين إحدى عشرة ذراعاً، وكان ارتفاعها في السماء ثماني عشرة ذراعاً، فجعلها ابن الزبير تسعا وعشرين ذراعاً، ولم يرفعها عن الأرض بل جعلها مستوية مع وجه الأرض. وكان قد أخذ الحجر الأسود فجعله عنده في بيته، فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر أمر فحفر له في الحجارة على قدره، ثم أمر ابنه عباداً أن يأتي، وهو في صلاة الظهر، فيضعه في موضعه، والناس في الصلاة لا يعلمون، فإذا فرغ من وضعه كبر، فجاء عباد بن عبد الله بن الزبير بالحجر، وأبوه يصلي بالناس الظهر في يوم شديد الحر، فشق الصفوف حتى صار إلى الموضع، ثم وضعه، وطول ابن الزبير الصلاة حتى وقف عليه، فلما رأت قريش ذلك غضبت وقالت: والله ما هكذا فعل رسول الله، ولقد حكمته قريش، فجعل لكل قبيلة نصيباً.
    وكان الركن لما أصابه الحريق تصدع بثلاث قطع، فشده ابن الزبير بالفضة، ولما فرغ من البناء خلق داخل الكعبة وخارجها، فكان أول من خلقها وكساها القباطي، واعتمر من التنعيم، ومشى.

    ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا، بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض من الله علينا! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قدمه عليها، لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية.
    وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي؟ فقال: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.
    وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له، فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار، فيا غوثاً! فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير! قال: لا أستحل من قطع رحمه ما استحل مني.
    وبلغ محمد بن علي بن أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام، فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون ويذكر علي فلا تغضبون؟ ألا إن علياً كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مأكلهم، ويأخذ بحناجرهم. ألا وأنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير الأمور حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
    فبلغ قوله عبد الله بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمه بني حنيفة؟ وبلغ محمداً قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وأم إخوتي؟ أ وليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدتي؟ أما والله لو لا خديجة بنت خويلد لما تركت في أسد عظماً إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير.
    ولما لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً، وكتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلي الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الأجر، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيراً، والسلام.
    وروى بعضهم أن محمد بن الحنفية صار أيضا إلى الطائف، فلم يزل بها، وتوفي ابن عباس بها في سنة ثمان وستون، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، ودفن عبد الله بن عباس بالطائف في مسجد جامعها، وضرب عليه فسطاط، ولما دفن أتى طائر أبيض فدخل معه قبره، فقال بعض الناس: علمه، وقال آخرون: عمله الصالح.
    قال عبد الله بن عباس: أردفني رسول الله، ثم قال لي: يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى! يا رسول الله. قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، اذكر الله في الرخاء

    يذكرك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، ولو جهد الخلق على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصدق في اليقين، إن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
    وكان لعبد الله بن العباس من الولد خمسة ذكور: علي بن عبد الله، وهو أصغرهم سناً، إلا أنه تقدم لشرفه ونبله، والعباس كان أكبر ولده، وكان يلقب بالأعنق، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن.
    وفي هذه السنة وقفت أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري، ولواء بني أمية، وقال المساور بن هند بن قيس: وتشعبوا شعباً، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين.
    ووجه عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير إلى العراق، فقدمها سنة ثمان وستون، فقاتله المختار، وكانت بينهم وقعات مذكورة، وكان المختار شديد العلة من بطن به، فأقام يحارب مصعبا أربعة أشهر، ثم جعل أصحابه يتسللون منه حتى بقي في نفر يسير، فصار إلى الكوفة، فنزل القصر، وكان يخرج في كل يوم، فيحاربهم في سوق الكوفة أشد محاربة، ثم يرجع إلى القصر. وكان عبيد الله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزبير، فجعل مصعب يقول: يا أيها الناس، المختار كذاب، وإنما يغركم بأنه يطلب بدم آل محمد، وهذا ولي الثأر، يعني عبيد الله بن علي، يزعم أنه مبطل فيما يقول.
    ثم خرج المختار يوماً، فلم يزل يقاتلهم أشد قتال يكون، حتى قتل، ودخل أصحابه إلى القصر فتحصنوا، وهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم مصعب الأمان، وكتب لهم كتابا بأغلظ العهود، وأشد المواثيق، فخرجوا على ذلك، فقد مهم رجلاً رجلاً فضرب أعناقهم، فكانت إحدى الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام. وأخذ أسماء بنت النعمان بن بشير امرأة المختار، فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد؟ قالت: أقول إنه كان تقياً، نقياً صواماً. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه! فأمر بها فضرب عنقها، وكانت أول امرأة ضرب عنقها صبراً، فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
    إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
    قتلوها بغير جرم أتته ... إن لله درها من قتيل
    كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
    فلما قتل مصعب بن الزبير المختار، واستقامت له أمور العراق، حسده عبد الله بن الزبير على ذلك، فوجه حمزة ابنه إلى البصرة، وكتب إلى مصعب أن يصرف أمر البصرة إلى حمزة ففعل ذلك، فكان حمزة من أضعف الناس، وأقلهم علما بالأمر، ثم اجتبى خراج البصرة، ونفذ إلى أبيه إلى مكة.
    ووفد مصعب على أخيه عبد الله فجفاه حتى كان ليدخل فيسلم فلا يرفعه، فلما قدم على عبد الله ابنه حمزة رد مصعب إلى العراق، وقتل عبد الله بن الزبير أخاه عمرو بن الزبير لعداوة كانت بينه وبينه، ولمبايعته لمروان بن الحكم، وقيل: إنه كان على شرطة عمرو بن سعيد، فوجه به عمرو لمحاربة أخيه فقتله.
    وولى ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة خراسان، وكان مع مصعب، فقدم البصرة، وقد حصرت الخوارج أهلها، وغلبت على جميع سوادها وكورها، فلم يبق في أيدي أهلها إلا المدينة، فلما

    قدم عليهم المهلب فزع إليه أشراف الناس ووجوههم، وأتاه الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن مسمع، فيمن معهم من العشائر، فقالوا: يا أبا سعيد! أنت شيخ الناس، وسيف العراق، وقد ترى ما فيه أهل مصرك من هذه الخوارج المارقة، والإقامة على منع بلدك، والذب عن حريمك أولى لك من خراسان. فقال: نعم! أقيم على محاربة هؤلاء، على أن لي جميع ما أغلبهم عليه، وانتزعه من أيديهم من خراج أو غيره. فأجابته العشائر إلى ذلك خلا مالك بن مسمع، فإنه امتنع عليه، وكانت في مالك أبهة شديدة وكبر معروف، فوثب الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود على مالك بن مسمع، فقالا له: رأيت الذي تمنعه أبا سعيد، أهو شيء في يدك أو في يد عدوك؟ قال: في يد عدوي. قالا: فو الله ما أنصفته إن تسأله أن يحمي دمك وحرمتك، ثم تمنعه ما أنت مغلوب عليه، فهو يجعل لك ما سألت، وقم بمحاربة القوم! قال: لا أقوى على ذلك. فقالا: فهذا الظلم والعجز. ثم جعلوا جميعاً للمهلب ما سأل، فأقام على محاربة الخوارج، ورئيسهم يومئذ نافع بن الأزرق، وبه سموا الأزارقة، حتى أجلاهم عن البصرة.
    وسار عبد الملك إلى مصعب بن الزبير في سنة واحد وسبعون، فلقيه بموضع يقال له دير الجاثليق، على فرسخين من الأنبار، فكانت بينهم وقعات وحروب، وجادة عبد الملك القتال، وخذل مصعبا أكثر أصحابه، وكان أكثر من خذله منهم ربيعة، ثم حملوا عليه، وهو جالس على سريره، فقتلوه، وحز رأسه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، وأتى به عبد الملك، فلما وضعه بين يديه خر ساجداً.
    قال عبيد الله: فهممت أن أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد.
    وقال بعضهم: دخلت على عبد الملك بن مروان، وبين يديه رأس مصعب بن الزبير، فقلت: يا أمير المؤمنين! لقد رأيت في هذا الموضع عجبا! قال: وما رأيت؟ قلت: رأيت رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد! ورأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد، ورأيت رأس المختار بن أبي عبيد بين يدي مصعب بن الزبير، ورأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فخرج من ذلك البيت، وأمر بهدمه. وكان قتل مصعب بن الزبير في ذي القعدة سنة اثنان وسبعون.
    وقال المضاء بن علوان، كاتب مصعب بن الزبير: دعاني عبد الملك بعد ما قتل مصعباً، فقال لي: علمت أنه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلا كتب إلي يطلب الأمان والجوائز والصلات والأقطاعات؟ قلت: قد علمت، يا أمير المؤمنين، إنه لم يبق من أصحابك أحد إلا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي. قال: فجئني بها، فجئته بإضبارة عظيمة، فلما رآها قال: ما حاجتي أن أنظر فيها، فأفسد صنائعي، وأفسد قلوبهم علي. يا غلام! أحرقها بالنار، فأحرقت.
    ولما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير ندب الناس للخروج إلى عبد الله بن الزبير، فقام إليه الحجاج بن يوسف فقال: ابعثني إليه، يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام كأني ذبحته، وجلست على صدره، وسلخته. فقال: أنت له، فوجهه في عشرين ألفاً من أهل الشام وغيرهم، وقدم الحجاج بن يوسف، فقاتلهم قتالاً شديداً، وتحصن بالبيت، فوضع عليه المجانيق، فجعلت الصواعق تأخذهم، ويقول: يا أهل الشام! لا تهولنكم هذه، فإنما هي صواعق تهامة، فلم يزل يرميه بالمنجنيق، حتى هدم البيت فكتب إليه عبد الملك بن مروان، وهو في محاربته: أوصيك يا حجاج بما أوصى به البكري زيداً، والسلام. فقام الحجاج خطيباً فقال: أيكم يدري ما أوصى به البكري زيداً، وله عشرة آلاف درهم؟ فقام رجل من القوم فقال: أنا أدري ما أوصى به البكري، فدعا ببدرة، فدفعت إليه فقال:
    أقول لزيد لا تترتر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
    فإن وضعوا حرباً فضعها وإن أبوا ... فشب وقود النار بالحطب الجزل
    فإن عضت الحرب الضروس بنابها ... فعرضه حد الحرب مثلك أو مثلي
    ورأى ابن الزبير من أصحابه تثاقلا عنه، وكان يجري لهم نصف صاع من تمر، فقال: أكلتم تمري، وعصيتم أمري! وكان شديد البخل.

    ولما علم ابن الزبير أنه لا طاقة له بالحرب دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر، فقال: كيف أصبحت يا أمه؟ قالت: إن في الموت لراحة، وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين: إما أن قتلت فأحتسبك، أو ظفرت فقرت عيني. قال: يا أمه! إن هؤلاء قد أعطوني الأمان، فما ذا تقولين؟ قالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك يتلاعبون بك، وإن كنت على غير الحق، فشأنك وما تريد. قال: يا أمه! إن الله ليعلم أني ما أردت إلا الحق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في ريبة قط، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن لأطيب نفس أمي. ثم قال: يا أمه! إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم أن يمثلوا بي. قالت: يا بني، إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت. قال: الحمد لله الذي وفقك، وربط على قلبك! وخرج، فخطب الناس، فقال: أيها الناس! إن الموت قد أظلكم سحابة وأحدق بكم ربابه، فغضوا أبصاركم عن الأبارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا يلهينكم التساؤل، ولا يقولن قائل أين أمير المؤمنين؟ إلا من سأل عني فإني في الرعيل الأول. ثم نزل فقاتل حتى قتل.
    وكان قتله في سنة ثلاث وسبعون، وله إحدى وسبعون سنة، وصلب بالتنعيم، فأقام ثلاثة وقيل سبعة أيام، ثم جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر، وهي عجوز عمياء، حتى وقفت على الحجاج، فقالت: أما آن لهذا الراكب أن ينزل بعد؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في بني ثقيف مبيراً وكذاباً، فأما المبير فأنت، وأما الكذاب فالمختار بن أبي عبيد، فقال: من هذه؟ فقيل: أم ابن الزبير فأمر به، فأنزل.
    وروى بعضهم أن الحجاج خطبها، فقالت: وهو يخطب عمياء بنت المائة؟ فقال: ما أردت إلا مسالفة رسول الله.
    ومر عبد الله بن عمر على عبد الله بن الزبير، وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله، أبا خبيب، لو لا ثلاث كن فيك لقلت أنت أنت: إلحادك في الحرم، ومسارعتك إلى الفتنة، وبخل بكفك، وما زلت أتخوف عليك هذا المركب وما صرت إليه، مذ كنت أراك ترمق بغلات شهبا كن لابن حرب، فيعجبنك، إلا أنه كان أسوس لدنياه منك.
    وأقام الحج للناس في هذه السنين في سنة ثلاث وستون عبد الله بن الزبير، وفي سنة ألابع وستون ابن الزبير، وقيل يحيىبن صفوان الجمحي، وفي سنة خمس وستون وسنة ست وستون وسنة سبع وستون ابن الزبير، وفي سنة ثمان وستون وقفت أربعة ألوية بعرفات: لواء مع محمد بن الحنفية وأصحابه، ولواء مع ابن الزبير، ولواء مع نجدة بن عامر الحروري، ولواء مع بني أمية، وفي سنة تسع وستون وسنة سبعون وسنة واحد وسبعون ابن الزبير.
    ؟؟؟
    أيام عبد الملك بن مروان
    وملك عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص بن أمية، جداه جميعاً طريداً رسول الله، وكانت البيعة له بالشام في اليوم الذي توفي فيه مروان، وذلك في شهر رمضان سنة 56، وكانت الشمس يومئذ في الثور سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الحمل خمساً وعشرين دقيقة، وزحل في السنبلة ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا، والمشتري في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وعشر دقائق، والمريخ في الحمل تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والزهرة في السرطان درجتين وعشرين دقيقة، وعطارد في الجوزاء ثلاث درجات، والرأس في الحوت عشرين درجة وعشر دقائق.
    وقد ذكرنا خبر بيعته في أيام ابن الزبير، وما كانت عليه البلدان من الاضطراب، وتغلب من تغلب على كل بلد، وخبر سليمان بن صرد الخزاعي، وإبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، وقتله عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير، وغير ذلك مما دخل في نسق أيام ابن الزبير.
    وكان قوم قد قالوا: إنما تحق الخلافة لمن كان الحرمان في يده، ولمن أقام الحج للناس، فلذلك أدخلنا خبر مروان وأياما من أيام عبد الملك في خبر ابن الزبير.
    واستقامت الشام لعبد الملك بن مروان خلا فلسطين، فإن ناتل بن قيس كان بها، فلما أراد عبد الملك النهوض أتاه الخبر بأن طاغية الروم قد أناخ على المصيصة فكره أن يتشاغل بمحاربته مع اضطراب البلدان، فوجه إليه، فصالحه، وحمل أموالاً كثيرة إليه، حتى انصرف.

    وكان عبد الملك لما أحكم أمر الشام، ووجه روح بن زنباع الجذامي إلى فلسطين شخص عن دمشق، حتى صار إلى بطنان يريد قرقيسيا لمحاربة زفر بن الحارث، وأمر ابن الزبير على حاله، فلما صار إلى بطنان من أرض قنسرين أتاه الخبر بأن عمرو بن سعيد بن العاص قد وثب بدمشق، ودعا إلى نفسه، وتسمى بالخلافة، وأخرج عبد الرحمن بن عثمان الثقفي خليفة عبد الملك بدمشق، وكانت أم عبد الرحمن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب، وحوى الخزائن وبيوت الأموال، فعلم عبد الملك أنه قد أخطأ في خروجه عن دمشق، فانكفا راجعا إلى دمشق، فتحصن عمرو بن سعيد، ونصب له الحرب، وجرت بينهم السفراء، حتى اصطلحا وتعاقدا، وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والأيمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك ودخل عبد الملك دمشق وانحاز مع عمرو بن سعيد أصحابه، فكانوا يركبون معه إذا ركب إلى عبد الملك، ثم دبر عبد الملك على قتل عمرو، ورأى أن الملك لا يصلح له إلا بذلك، فدخل إليه عمرو عشية، وقد أعد له جماعة من أهله ومواليه ومن كان عنده ممن سواهم، فلما استوى لعمرو مجلسه قال له: يا أبا أمية! إني كنت حلفت في الوقت الذي كان فيه من أمرك ما ك
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:28 am

    وتوفي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالمدينة سنة ثمانين، وكان جواداً سخياً، يقال إنه أتاه إنسان في أمر يسأله معونته عليه، فلم يحضره ما يعطيه، فنزع ثيابه التي كانت عليه، وقال: اللهم إن نزل بي من بعد اليوم حق لا أقدر على قضائه فأمتني قبله! فمات في ذلك اليوم، وفي هذه السنة كان السيل الجحاف الذي ذهب بمتاع الحاج.
    وكان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس عامل الحجاج على سجستان، ووجه معه الحجاج بعشرة آلاف منتخب، فلما صار إلى سجستان أقام ببست، ثم سار يريد رتبيل ملك البلد، وكان قد ضبط أطرافه، فلما أوغل في بلاد رتبيل، خاف غرره، فرجع إلى بست، وكتب إلى الحجاج يعلمه برجوعه، وأنه أخر غزو رتبيل إلى العام المقبل، فكتب إليه كتاباً يتوعده فيه، فجمع أطرافه إليه وحرض الناس على الحجاج، ودعاهم إلى خلعه، فخلعوه، وبايعوا له فلما اجتمعت الكلمة قال لهم: نسير إلى العراق، ونكتب بيننا وبين رتبيل كتاب صلح فإن تم أمرنا وقفنا عنه، ورقبنا له، وإن كانت الأخرى اتخذناه ملجأ فتم رأي القوم على ذلك، وكتب بينه وبين رتبيل كتابا بهذا الشرط، وسار إلى العراق واستخلف على سجستان رجلاً من قبله، وأقبل حتى صار إلى قرب الأهواز، فلما بلغ الحجاج أمره، وجه إليه عبد الله بن عامر بن صعصعة.
    ثم خرج الحجاج في جيش حتى صار إلى الأهواز، ولقيه عبد الرحمن، فقاتله قتالاً شديداً، فهزمه حتى رجع الحجاج إلى البصرة، ولحقه ابن الأشعث، فقاتله بالبصرة، فانهزم ابن الأشعث، فلما رأوا انهزامه إلى الكوفة أتوا عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، فقالوا: تركنا ولحق بالكوفة، وهذا الفاسق منيخ علينا. فبايعهم وسار إلى الحجاج، فقاتله بالزاوية، فهزمه الحجاج، فلحق بابن الأشعث بالكوفة.
    وأقبل الحجاج من البصرة إلى ابن الأشعث فسلك في البرية حتى نزل قريبا منه، وخرج ابن الأشعث فنزل دير الجماجم، وجعلت خيلهما تروح وتغدو للقتال، وأهل الكوفة يستعلون على خيل الحجاج، ويهزمونهم في كل يوم، فاشتد على الحجاج ما رأى من ذلك، وكتب إلى عبد الملك كتابا بعث به باحث سير: أما بعد فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! فلما قرأ عبد الملك الكتاب كتب إليه: أما بعد فيا لبيك، ثم يا لبيك، ثم يا لبيك! ثم وجه بجيش بعد جيش، وكانت وقائعهم كثيرة شديدة، أخراهن وقعة مسكن هزمه فيها الحجاج، فمضى منهزما لا يلوي على شيء حتى صار إلى سجستان، فأتى مدينة زرنج، فمنعه عبد الله بن عامر عامله من دخولها، فمضى إلى بست، وعليها عياض بن عمرو، فأدخله المدينة، ودبر أن يغدر به، ويتقرب به إلى الحجاج.

    وكان مع عبد الرحمن جماعة من قراء العراق منهم الحسن البصري، وعامر ابن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وجماعة من هذه الطبقة، فسار إلى رتبيل صاحب سجستان، فكانت هزيمته في سنة ثلاث وثمانون، وجعل الحجاج يتلقط أصحابه ويضرب أعناقهم، حتى قتل خلقاً كثيراً، وعفا عن جماعة منهم الشعبي وإبراهيم.
    وبني الحجاج مدينة واسط في السنة التي هرب فيها ابن الأشعث، ونزلها، وقال: انزل بين الكوفة والبصرة.
    ولما بلغ أصحاب ابن الأشعث أنه قد صار إلى رتبيل صاحب البلد، وأنه قد أقام عنده في أمن وسلامة، ووفى له رتبيل بما كان بينه وبينه، اجتمعوا من كل أوب بناحية زرنج، وأمروا عليهم عبد الرحمن بن العباس الهاشمي... فلقيهم بهراة، فقاتلهم، فهزمهم.
    وبلغ الحجاج مكان ابن الأشعث في أربعة آلاف من أصحابه عند رتبيل، فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى رتبيل، وكتب معه إليه يأمره أن يوجهه إليه، وإلا وجه إليه بمائة ألف مقاتل، فلم يفعل. وكان عبيد بن أبي سبيع غالباً على رتبيل، فنفسه ذلك ابن الأشعث، وأراد أن يمكر به ووجه إليه ليقتله، فهرب عبيد بن أبي سبيع فصار إلى عمارة بن تميم، وهو مقيم بمدينة بست، وقال: تجعلون لي شيئاً، وتصالحون رتبيل، وتكفون عنه، ويسلم إليكم ابن الأشعث. وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وكتب إليه الحجاج يقول له: أجبه إلى كل ما سألك، وكتب له عهودا ختمها بخاتمه، فأخذها عمارة، وقدم بها على رتبيل، فلم يزل يرهبه مرة ويرغبه أخرى، حتى أجابه إلى أخذ ابن الأشعث، فأخذه، وقيده وجماعة معه وأخاه، وحملهم معه إلى الحجاج في الحديد، فلما صاروا بالرخج رمى ابن الأشعث بنفسه من فوق سطح، وكان معه في السلسلة رجل يقال له أبو العر، فماتا جميعاً، وكان ذلك في سنة أربع وثمانون، واحتز رأسه، فحمل إلى الحجاج، وحمله الحجاج إلى عبد الملك.
    وعزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز والبيعة لابنه الوليد بولاية العهد من بعده، وكان عبد العزيز بمصر، وكتب إلى الحجاج بأن يشخص إليه الشعبي، فأشخصه إليه فانسه وبره، وأقام عنده أياماً، ثم قال: إني آتمنك على شيء لم آتمن عليه أحداً. إنه قد بداً لي أن أبايع للوليد بولاية العهد بعدي، فإذا أتيت عبد العزيز، فزين له أن يخلع نفسه من ولاية العهد، ومصر له طعمة. قال الشعبي: فأتيت عبد العزيز، فما رأيت ملكاً كان أسمح أخلاقاً منه، فإني يوماً خال به أحدثه إذ قلت له: والله، أصلح الله الأمير، أن رأيت ملكا أكمل، ولا نعمة أنضر، ولا عزا أتم مما أنت فيه، ولقد رأيت عبد الملك طويل النصب، كثير التعب، قليل الراحة، دائم الروعة، إلى ما يتحمل من أمر الأمة، ولوددت والله انهم أجابوك إلى أن يصيروا مصر لك طعمة، ويصيروا عهدهم إلى من أحبوا، فقال: ومن لي بذلك ؟ فلما عرفت ما عنده انصرفت إلى عبد الملك، فأخبرته الخبر، فخلع عبد الملك أخاه من ولاية العهد، وولى ابنه الوليد، ثم ابنه سليمان من بعد الوليد.
    وقيل إن عبد الملك لم يخلعه، ولكنه توفي في تلك المدة التي هم بخلعه فيها، وقيل إن عبد العزيز سقي سما، وكان ذلك في سنة خمس وثمانون.
    وولي هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة، فضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا ظلما وعدوانا، وطاف به، فكتب إليه عبد الملك يلومه، وساءت سيرة هشام بن إسماعيل، وأظهر العداوة لآل رسول الله.
    وكان الغالب على عبد الملك روح بن زنباع الجذامي، وعلى شرطته يزيد ابن أبي كبشه السكسكي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن يزيد الحكمي، وكان على حرسه أبو عياش الكهاني، وبعده أبو الزعيزعة مولاه، وجمع العراقين للحجاج، ومصر والمغرب لعبد العزيز بن مروان، ثم لابنه عبد الله ابن عبد الملك.
    وكانت لعبد الملك رجله، ودهاء، وعلم، إلا أنه كان مبخلا، فلما حضرته الوفاة جمع ولده، فأوصاهم بالإجماع والألفة وترك التباغي، ثم قال: يا وليد، إذا أنا مت فشمر واتزر، والبس جلد النمر، ثم ادع الناس إلى بيعتك، فمن قال برأسه هكذا، فقل بالسيف هكذا. وتوفي للنصف من شوال سنة ست وثمانون، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة من يومه الذي بويع فيه بالشام، وبعد قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة، وكانت سنة ستين سنة أو نيفاً وستين سنة، وصلى عليه ابنه الوليد، ودفن بدمشق.

    وخلف من الولد الذكور أربعة عشر ذكرا: الوليد وسليمان، ويزيد، ومروان، وهشام وبكار، وعبد الله، ومسلمة، ومعاوية، ومحمد، والحجاج، وسعيد، والمنذر، وعنبسة. وفي أيام عبد الملك نقشت الدراهم والدنانير بالعربية، وكان الذي فعل ذلك الحجاج بن يوسف.
    وروى بعضهم أن رجلاً أتى سعيد بن المسيب فقال: رأيت كان النبي موسى واقف على ساحل البحر، آخذ برجل رجل يدوره كما يدور الغسال الثوب، فدوره ثلاثا، ثم دحا به إلى البحر. فقال سعيد: إن صدقت رؤياك مات عبد الملك إلى ثلاثة أيام، فلم يمض ثالثة حتى جاء نعيه، فقال لسعيد: من أين قلت هذا؟ قال: لأن موسى غرق فرعون، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلا عبد الملك.
    وأقام الحج للناس في ولايته سنة اثنان وسبعون الحجاج بن يوسف، سنة ثلاث وسبعون، وسنة أربع وسبعون الحجاج أيضاً، سنة خمس وسبعون عبد الملك بن مروان، سنة ست وسبعون أبان بن عثمان بن عفان، سنة سبع وسبعون أبان أيضاً، سنة ثمان وسبعون، وسنة تسع وسبعون، وسنة ثمانون أبان أيضاً، سنة واحد وثمانون سليمان بن عبد الملك، سنة اثنان وثمانون أبان بن عثمان، سنة ثلاث وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي، سنة أربع وثمانون وسنة خمس وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي أيضاً.
    وغزا بالناس في ولايته سنة خمس وسبعون محمد بن مروان الصائفة، وخرجت الروم على الأعماق، فقتلهم أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ودينار بن دينار، سنة ست وسبعون غزا يحيى بن الحكم الصائفة بمرج الشحم بين ملطية والمصيصة، سنة سبع وسبعون غزا الوليد بن عبد الملك أطمار، وكانت غزاته من ناحية ملطية، وغزا في البحر حسان بن النعمان... سنة ثلاث وثمانون عبد الله أيضاً، وفتح المصيصة وبنى فيها حصناً صغيراً.
    وكان الفقهاء في أيامه عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، خارجة بن زيد بن ثابت، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء بن يسار، القاسم بن محمد، أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، سالم بن عبد الله، قبيصة ابن جابر، عبيدة بن قيس السلماني، شريح بن الحارث الكندي، عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عبد الله بن يزيد الخطمي، زيد بن وهب الهمداني، الحارث بن سويد التميمي مرة بن شراحيل الهمداني، أبا جحيفة وهب بن عبد الله العامري الأسدي، يسير بن عمرو السلولي، أبا الشعثاء سليمان بن الأسود، الأسود بن مالك الحارثي، ابن حراش العبسي، عمرو بن ميمون الأودي، عامر بن شراحيل الشعبي، عبد الرحمن بن يزيد النخعي، سالم بن أبي الجعد، عمار ابن عمير الليثي، إبراهيم بن يزيد التيمي، أبا ظبيان الحصين بن جندب، سليمان بن يسار، أبا المليح بن أسامة.
    أيام الوليد بن عبد الملكثم ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية، للنصف من شوال سنة ست وثمانون، في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وكانت الشمس يومئذ في الميزان خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة، والقمر في الحمل ثمانياً وعشرين درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الثور أربعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الدلو ستا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في القوس إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في العقرب خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، وعطارد في الميزان عشر درجات وأربعين دقيقة، فصعد المنبر فنعى أباه، وقال: أيها الناس! عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه.
    ثم نزل فعقد لمسلمة أخيه على غزاة الروم، فنفذ في عدد كثير، فوجد جراجمة أنطاكية قد خالفوا، فقتل منهم مقتلة عظيمة.

    وكتب الوليد إلى الحجاج فنعى إليه أباه عبد الملك، فنادى الحجاج بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر، فذكر عبد الملك، وقرظة ووصف فعله وقال: كان والله البازل الذكر، رابعا من الولاة الراشدين المهديين، وقد اختار له الله ما عنده، وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في الحزم والجلد، والقيام بأمر الله، فاسمعوا وأطيعوا. وولى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمر أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان هشام بن إسماعيل المخزومي قد أساء السيرة، وجار في الأحكام، وتحامل على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم عمر قال هشام: ما أخاف إلا علي بن الحسين! فمر به، وهو موقوف، فسلم عليه، فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ولم يعرض له سعيد بن المسيب ولا لأحد من أسبابه وحاميته.
    وكان قدوم عمر بن عبد العزيز المدينة سنة سبع وثمانون وثقله على ثلاثين بعيراً. وضرب الوليد البعث على أهل المدينة، وكتب إلى عمر، فأخرج منهم ألفي رجل. وبنى الوليد المسجد بدمشق، فأنفق عليه أموالاً عظاماً، وابتدأ بناءه في سنة ثمان وثمانون، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز أن يهدم مسجد رسول الله، ويدخل فيه المنازل التي حوله، ويدخل فيه حجرات أزواج النبي، وهدم الحجرات، وأدخل ذلك في المسجد. ولما بدأ بهدم الحجرات قام خبيب بن عبد الله بن الزبير إلى عمر والحجرات تهدم، فقال: نشدتك الله يا عمر أن تذهب باية من كتاب الله، يقول: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات، فأمر به، فضرب مائة سوط، ونضح بالماء البارد، فمات، وكان يوماً بارداً. فكان عمر لما ولي الخلافة، وصار إلى ما صار إليه من الزهد، يقول: من لي بخبيب! وروى الواقدي أن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول الله، فليعنه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبا، ومائة فاعل، وأربعين حملاً فسيفساء، فبعث الوليد بذلك كله إلى عمر، فأصلح به المسجد، وفرع من بنائه في سنة تسعون.
    وبعث الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو على مكة، بثلاثين ألف دينار، فضربت صفائح، وجعلت على باب الكعبة وعلى الأساطين التي داخلها وعلى الأركان والميزاب، فكان أول من ذهب البيت في الإسلام.
    وحج الوليد سنة واحد وتسعون لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه، وإلى البيت وتذهيبه، فلما قرب من المدينة خرج عمر، فتلقاه بأشراف المدينة، فدخل المسجد، وجعل ينظر إليه، وأخرج الحرس كل من كان فيه خلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يخرج، ولم يترجرج، فدخل الوليد، فجعل يطوف وسعيد بن المسيب جالس، ثم قال الوليد: أحسب هذا سعيد بن المسيب؟ فقال له عمر: نعم! ومن حاله وحاله، إلا أنه ضعيف البصر. فجاء الوليد حتى وقف عليه، فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فما تحرك، وقال: نحن بخير، يا أمير المؤمنين، وكيف أنت؟ وانصرف الوليد، وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. وقسم الوليد بين أهل المدينة قسماً كثيرة، وصلى بها الجمعة، وصف بها الجند صفين، وصلى في دراعة وقلنسوة في غير رداء، وخطب قاعدا، وتوعد أهل المدينة فقال: إنكم أهل الخلاف والمعصية، فقام إليه قوم فكلموه، وكلمه أبو بكر بن عبد الرحمن، فقال: ما نجهل ما تقولون، ولكن في النفوس ما فيها.
    وصار إلى مكة فخطب بها خطبة بتراء ذكر فيها الوعيد والتهديد، ولما صار بعرفة أطعم الناس، ونصب الموائد، ولم يأكل، وكان خالد الذي يقوم على الموائد، ثم نصب مائدة، فقيل: هذه لأمير المؤمنين، فقام، فأرسل إليه الوليد يأمره بالجلوس فجلس.
    وولى الوليد موسى بن نصير الأندلس في هذه السنة، وهي سنة واحد وتسعون، فوجه معه بطارق مولاه، فلقي ملك الأندلس، وكان يقال له الإدريق، وكان رجلاً من أهل أصبهان، وهم

    القوطيون ملوك الأندلس، فزحف طارق إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وفتح الأندلس ثم خرج موسى بن نصير إلى البلد، وكان قد غضب على طارق مولاه في أمور بلغته عنه، فلقيه طارق، فترضاه، فرضي عنه، ووجهه إلى مدينة طليطلة، وهي من عظام مدائن الأندلس، على مسيرة عشرين يوماً، فأصاب فيها مائدة ذهب مفصصة بالجوهر، قيل إنها مائدة سليمان بن داود، فكسر رجلها، فأخذها، وبعث بها إلى موسى بن نصير. وكان الحجاج قد عزل يزيد بن المهلب عن خراسان، وولي المفضل، فأقر المفضل ثم عزله وولى قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان قتيبة عامله على الري، وكتب إليه أن يستوثق من المفضل وبني أبيه، ويشخصهم إليه، فسار قتيبة من الري حتى قدم مرو، فأخذ المفضل بن المهلب وسائر ولد المهلب، فأشخصهم إلى الحجاج، فحبسهم وطالبهم بستة آلاف ألف.
    وصار قتيبة إلى بخارى، فافتتحها، وافتتح عدة مدن منها، ثم انصرف وخلف فيها ورقاء بن نصر الباهلي، وأمره بقبض الصلح. وكان نيزك صاحب الترك قد صار إلى قتيبة، فلم يزل معه يحضر حروبه، فلما انصرف قتيبة تحرك طرخون صاحب السغد وجيل أبو شوكر بخار أخداه، وكر معانون اللوفسي في الترك، فكره قتيبة قتالهم، فوجه حيان النبطي فصالحهم. ثم صار إلى الطالقان، وبها باذام قد عصى وتغلب على البلد، وكان ابن باذام مع قتيبة، فلما بلغه أن باذام قد تحصن وعصى وارتد أخذ ابنه، فقتله، وصلبه وجماعة معه، ثم لقي باذام فقاتله أياماً، ثم ظفر به فقتله، وقتل ولده وامرأته، واستعمل على البلد أخاه عمرو بن مسلم.
    ولما فتح قتيبة بخارى والطالقان استأذنه نيزك طرخان في الرجوع إلى بلاده، وكان نيزك قد أسلم وسمي بعبد الله، فأذن له، فرجع إلى طخارستان، فعصى، وكاتب الأعاجم، وجمع الجموع، فزحف إليه قتيبة، ووجه إليه سليما الناصح، وكان صديقا له، فلم يزل يختدعه ويعطيه عن قتيبة ما يسأل، حتى خرج إلى قتيبة على الأمان فأقام عنده أياماً ثم ضرب عنقه وعنق ابن أخت له، وبعث برؤوسهما إلى الحجاج، وأخذ امرأة نيزك، فلما خلا بها قالت له: ما أجهلك! أظننت أن نفسي تطيب لك، وقد قتلت زوجي وسلبتني ملكي؟ فخلاها، وقال: اذهبي حيث شئت.
    ثم سار قتيبة إلى السغد، فلقيه صاحب السغد، فصافه أياماً، ثم هرب منه، ولحق قتيبة الشتاء، فانصرف وكتب إليه الحجاج يأمره بالمصير إلى سجستان ومحاربة رتبيل، فسار سنة اثنان وتسعون، حتى صار إلى زالق من أرض سجستان، ثم زحف إلى رتبيل، فوجه إليه رتبيل: أنا كنا قد صالحناكم، وقبلتم الصلح، فما ذا دعاكم إلى نقضه؟ فأرسل إليه أن الحجاج أبي ذلك، فرد عليه رتبيل: إن قبلتم الصلح كان أصلح لكم، وإلا رجونا النصر عليكم. فقال قتيبة لأصحابه: إن هذا وجه مشؤوم، وقد هلك فيه عبد الله بن أمية، وابن أبي بكرة، وغير واحد، ولا نأمن الحيل التي كان رتبيل يحتالها من تحريق الطعام، والعلوفات، وأخذ الحصون والسهل وحمل ما... فولى قتيبة عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي، وسار قتيبة إلى خوارزم، وبها سعيد بن ونوفار، وكانوا قتلوا عامل قتيبة، فقدمها، فسبى مائة ألف، وحاصر سعيد بن ونوفار حتى قتله.
    فلما أصلح البلاد وانصرف بالغنائم التي لم يسمع بمثلها، وأراد جنده الرجوع إلى أوطانهم بما في أيديهم، قام قتيبة خطيبا، فذكرهم ما كانوا فيه، وأعلمهم أنه لا براح لهم، واستخلف على خوارزم عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني، ثم سار قتيبة إلى سمرقند، وكان غوزك قد قتل طرخون ملك السغد، وتملك على البلد، فلما وافى قتيبة حاربه، فكانت بينهم حروب شديدة، وأحب قتيبة الصلح فراسل غوزك يدعوه إلى ذلك، فقال لأهل سمرقند: علام نصالحهم، وبلدنا لا يدخله إلا رجلان: إما أحدهما فقيل وإما الآخر فاسمه إكاف، فكبر قتيبة، وكبر المسلمون، وقالوا: أميرنا اسمه قتب البعير، فأذعنوا بالصلح على أن يدخل فيصلي ركعتين، فدخل من باب كش، وخرج من باب الصين، واتخذ لهم غوزك ملك سمرقند الطعام، فأكل قتيبة وأصحابه، فكتب له كتاب صلح: هذا ما صالح عليه قتيبة بن مسلم غوزك إخشيد السغد، أفشين سمرقند على السغد، وسمرقند وكش، وكسف، صالحه على ثلاثة آلاف درهم يؤديها غوزك إلى رأس كل سنة، وجعل له عهد الله وذمته، وذمة الأمير الحجاج بن يوسف، وأشهد له شهودا، وكان ذلك سنة أربع وتسعون.

    وولي قتيبة سمرقند عبد الرحمن بن مسلم أخاه، فغدر به أهل سمرقند، وأتاه خاقان ملك الترك، وكتب إلى قتيبة، فتوقف قتيبة حتى انحسر الشتاء، ثم سار إليه، فهزم عسكر الترك، واستقامت له خراسان.
    وكان الحجاج لما أشخص إليه قتيبة ولد المهلب حبسهم جميعاً، ومعهم يزيد بن المهلب، بستة آلاف ألف درهم، وعذبهم في ذلك أشد العذاب، فلما رأوا ما هم فيه من العذاب سألوه أن يدخل إليهم التجار حتى يبيعوا أموالهم وضياعهم، وصنعوا طعاما كثيراً، ودخل إليهم الناس، وخلق من التجار، فأكلوا عندهم في الحبس ثم اختلطوا بغمار الناس، وخرجوا معهم، وقد لبس يزيد لحية كبيرة طويلة صفراء، وكان شابا، ثم ركب وإخوته نجائب قد كان تقدم في إعدادها، ولحق بالشام، فصار إلى سليمان بن عبد الملك، فكلموه، وصار إلى عبد العزيز بن الوليد، فشفع فيهم عند الوليد، حتى آمنهم وأحضرهم، فصالحهم على نصف المال، وهو ثلاثة آلاف ألف درهم، فقالوا: على أن نستعين قومنا من أهل الشام، فقال: ذلك إليكم! فتحمل عنهم اليمانية من أهل دمشق من أعطيتهم نجما، وتحمل عنهم سائر أهل الشام نجما، وأقاموا بباب الوليد، وكتب الوليد إلى الحجاج في تخلية من كان في محبسه من أسبابهم فخلاهم جميعاً.
    ووجه الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إلى السند، سنة اثنان وتسعون، وأمره أن يقيم بشيراز من أرض فارس حتى يمكن الزمان، فقدم محمد شيراز، فأقام بها ستة أشهر، ثم سار في ستة آلاف فارس، حتى أتى مكران، فأقام بها شهراً ونحوه، ثم زحف إلى فنزبور، وقد جمع أهل فنزبور، فحاربهم شهورا، ثم فتحها فسبى وغنم، ثم زحف إلى أرمائيل فحاربهم أياماً، ثم فتحها، فأقام بها شهورا، ثم زحف إلى الديبل في خلق عظيم، حتى أتى المدينة، وعبا الجيوش، وأخذ بإكظام القوم، وأقام يحاربهم عدة شهور، وكان لهم بد يعبدونه، طوله في السماء أربعون ذراعاً، فرماه بالمنجنيق، فكسره، ثم وضع السلاليم على السور، وأصعد الرجال، فافتتحها عنوة، فقتل المقاتلة، ووجد للبد الذي كانوا يعبدونه سبع مائة راتبة، وأخذ منها أموالاً عظاماً.
    ولما فتح الديبل، وكانت أعظم مدائنهم، خضع له أهل البلدان، فسار من الديبل إلى النيرون، فصالحهم، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في التقدم، فكتب إليه: أن سر، فأنت أمير على ما فتحته! وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامل خراسان: أيكما سبق إلى الصين، فهو عامل عليها، وعلى صاحبها، فمضى محمد ابن القاسم، وجعل لا يمر ببلد إلا غلب عليه، ولا مدينة إلا فتحها صلحاً أو عنوة، فعبر نهر السند، وهو دون مهران، وسار إلى سهبان ففتحها، ثم سار نحو شط مهران، فلما بلغ داهر ملك السند مكانه وجه إليه جيشاً عظيماً، فلقي محمد بن القاسم ذلك الجيش فهزمهم، وزحف إليه داهر، فأقام مواقفا له عدة شهور، وبينا هم في تلك المواقفة زاحفة داهر، وهو على الفيل، فاشتدت بينهما الحرب، وأخذت من الفريقين، وعطش الفيل الذي كان داهر عليه، فغلب فياله، فترجل، فنزل داهر فقاتل في الأرض حتى قتل، وانهزم جيشه، وفتح المسلمون، وكتب محمد إلى الحجاج بالفتح، وبعث برأس داهر إليه.
    ومضى في بلاد السند ففتح بلدا بلدا، ومدينة مدينة، حتى أتى أورو، وهي من أعظم مدائن السند، فحاصرهم حصاراً شديداً، وهم لا يعلمون أن داهر قد قتل، فلما أملهم بعث إليهم محمد بن القاسم بامرأة داهر، فقالت لهم: إن الملك قد قتل، فاطلبوا الأمان، فطلبوه، ونزلوا على حكم محمد، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، ثم استخلف فيها، ومضى يقطع البلاد، ويفتح مدينة مدينة، ثم كتب إليه الحجاج: أني قد كتبت إلى أمير المؤمنين الوليد أضمن له أن أرد إلى بيت المال نظير ما أنفقت، فأخرجني من ضماني! فحمل إليه أكثر مما أنفق.
    وأقام محمد بن القاسم في بلاد السند حتى توفي الوليد، وولي سليمان بن عبد الملك، وكان لمحمد بن القاسم، في الوقت الذي غزا فيه بلاد السند والهند، وقاد الجيوش وفتح الفتوح، خمس عشرة سنة، فقال زياد الأعجم:
    إن الشجاعة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
    قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد

    وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، عامله على الحجاز، يأمره بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين، وحملهم إلى الحجاج بن يوسف، فبعث خالد إلى المدينة عثمان بن حيان المري لإخراج من بها من أهل العراقين، فأخرجهم جميعاً، وجماعاتهم في الجوامع، إلى الحجاج، ولم يترك تاجرا ولا غير تاجر، ونادى: إلا برئت الذمة ممن آوى عراقياً، وكان لا يبلغه أن أحداً من أهل العراق في دار أحد من أهل المدينة إلا أخرجه.
    فخرج الوليد إلى الحميمة من أرض الشراة، من عمل جند دمشق سنة خمس وتسعون، وكان سبب ذلك أن أم سليط بن عبد الله بن عباس رفعت إلى الوليد أن علي بن عبد الله قتل ابنها، ودفنه في البستان الذي ينزله، وبنى عليه دكانا، فأخذه الوليد بذلك وقال له: أقتلت أخاك؟ قال: ليس بأخي، ولكنه عبدي قتلته. وكان عبد الله بن عباس أوصى إلى ابنه علي أن يورث سليطا، ولا يزوجه، وقال: أنا أعلم أنه ليس مني، ولكني لا أدفعه عن الميراث. فنزل علي بن عبد الله الحميمة، فلم يزل بها حتى ولد أولاداً، وصار له الأهل والعيل، وولد له نيف وعشرون ذكرا، مات عامتهم في حياته، ولم يزل ولده بالحميمة حتى أذهب الله سلطان بني أمية.
    وتوفي الحجاج بن يوسف في هذه السنة، وهي سنة خمس وتسعون، وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة، وكانت إمرته على العراق عشرين سنة، فأقر الوليد على عمله يزيد بن أبي مسلم خليفته، ثم استعمل مكانه يزيد بن أبي كبشه السكسكي. وكان الوليد لحاناً، فيه هرج وحيرة، وكان يقول: لا ينبغي لخليفه أن يناشد، ولا يكذب، ولا يسميه أحد باسمه، وعاقب على ذلك.
    وكان أول من عمل البيمارستان للمرضى، ودار الضيافة، وأول من أجرى على العميان، والمساكين، والمجذمين الأرزاق، وكان ممن أحدث قتل العصاة وأحصى أهل الديوان، وألقى منهم بشراً كثيراً بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وأول من أجزى طعام شهر رمضان في المساجد، وصام الإثنين والخميس فأدمنه، وأول من أخذ بالقذف والظنة وقتل بهما الرجال، وانكسر الخراج في أيامه، فلم يحمل كثير شيء، ولم يحمل الحجاج من جميع العراق إلا خمسة وعشرين ألف ألف درهم. وكانت في ولايته الزلازل التي هدمت كل شيء، وأقامت أربعين صباحا في سنة أربع وتسعون وكان الغالب عليه الفازي بن ربيعة الحرشي، وكان قاضيه بالكوفة الشعبي، وكان على شرطة أبو ناتل رباح بن عبد الغساني، ثم عزله، واستعمل كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان، مولى محارب، وحاجبه سعيد مولاه، وتوفي الوليد لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وقيل انسلاخ جمادى الآخرة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وقيل تسع وأربعين سنة، وكانت أيامه تسع سنين وثمانية أشهر ونصفا، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته بدير مران ودفن بدمشق، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً: محمد، والعباس، وعمر، وبشر وروح وخالد، وتمام، ومبشر، وجري، ويزيد، وعبد الرحمن، وإبراهيم، ويحيى، وأبو عبيدة، ومسرور، وصدقة.
    وأقام الحج للناس في أيامه سنة ست وثمانون هشام بن إسماعيل، سنة سبع وثمانون عمر بن عبد العزيز، سنة ثمان وثمانون حج هو، سنة تسع وثمانون وسنة تسعون عمر بن عبد العزيز، سنة واحد وتسعون حج هو، سنة اثنان وتسعون وسنة ثلاث وتسعون عمر بن عبد العزيز، سنة أربع وتسعون مسلمة بن عبد الملك، سنة خمس وتسعون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
    وغزا الصوائف في أيامه سنة ست وثمانون مسلمة، ففتح حصنين، سنة ثمان وثمانون... مسلمة والعباس بن الوليد، فافتتحا سورية وافتتح العباس ادروليه سنة تسعين عبد العزيز بن الوليد، فافتتح حصناً، سنة واحد وتسعين عبد العزيز بن الوليد... محمد ابن مروان، وغزا موسى بن نصير الأندلس، سنة ثلاث وتسعون العباس بن الوليد ومروان بن الوليد ومسلمة، ففتحوا أماسية وحصن الحديد سنة أربع وتسعون العباس وعمر ابنا الوليد، سنة خمس وتسعون العباس، ففتح قبرس سنة ست وتسعون بشر بن الوليد.

    وكان الفقهاء في أيامه عبد الرحمن بن حاطب، سعيد بن المسيب، عروة ابن الزبير، عطاء بن يسار، أبا سلمة بن عبد الرحمن، القاسم بن محمد، سعيد بن جبير، مجاهد بن جبير مولى بني مخزوم، عكرمة مولى ابن عباس، حكيم بن أبي حازم شقيق ابن سلمة، إبراهيم بن يزيد النخعي، عامر الشعبي، سالم بن أبي الجعد، إسحاق السبيعي، أيوب الأزدي، أبا تميم الحميني، الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد، سليمان بن يسار، مورق العجلي، سنان بن سلمة، أبا المليح بن أسامة الهذلي، العلاء بن زياد، أبا إدريس، رجاء بن حيوة. وكان الوليد طوالا، أسمر، به أثر جدري خفي، بمقدم لحيته شمط، ليس في رأسه ولا لحيته غيره، أفطس.
    أيام سليمان بن عبد الملكوملك سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية، للنصف من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في الحوت ست درجات وأربعين دقيقة، والقمر في السنبلة ست عشرة درجة وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في القوس خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الدلو إحدى عشرة درجة وثلاث دقائق، والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وتسع عشرة دقيقة، وعطارد في الحوت خمس درجات وخمسين دقيقة والرأس في الأسد ثلاث عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة.
    وأتته الخلافة بالرملة، وكان بها منزلة، وهو أنشأ مسجد جامعها، وقصر إمارتها، ونقل الناس إليها من لد، وكانت المدينة التي ينزلها الناس، فأخذ بهدم منازلهم بلد، والبنيان بالرملة، وعاقب من امتنع من ذلك، وهدم منازلهم، وقطع الميرة عنهم، حتى انتقلوا وخرب لد.
    وأخذ له عمر بن عبد العزيز البيعة بدمشق، يوم مات الوليد، فصار إلى دمشق فأقام بها يسيراً، وأراد سليمان الحج، فكتب إلى خالد بن عبد الله وهو عامل مكة، يأمره أن يجري له عينا تخرج من الثقبة من الماء العذب، حتى تظهر بين زمزم والركن الأسود، يباهي بها زمزم، فعمل خالد البركة التي بفم الثقبة، يقال لها: بركة القسري، وهي قائمة إلى اليوم، في أصل ثبير، عملها بحجارة منقوشة، واستنبط ماءها من ذلك الموضع، ثم شق من هذه البركة عينا تجري إلى المسجد الحرام، في قصب من رصاص، حتى أظهرها في فواره تسكب في فسقية رخام، بين الركن وزمزم، فلما أن جرت وظهر ماؤها أمر خالد بجزر، فنحرت بمكة، وقسمت بين الناس، وعمل طعاماً، فدعا إليه الناس، ثم أمر صائحا، فصاح: الصلاة جامعة، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس احمدوا الله، وادعوا لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء العذب، بعد المالح الأجاج، الذي لا يطاق شربه، يعني زمزم وكان لا يجتمع على ذلك الماء اثنان، وكانوا على شرب زمزم أكثر ما كانوا، فلما رأى خالد ذلك قام خطيباً، فنال من أهل مكة، وكلمهم بكلام قبيح يعنفهم فيه على تركهم شرب ذلك الماء، وإقبالهم على زمزم، ولم تزل تلك الفسقية على حالها أيام بني أمية، فلما صار الأمر إلى بني هاشم هدمها داود بن علي أول ما قدم مكة.
    ولم يقم خالد بمكة إلا قليلاً حتى سخط عليه سليمان، فصرفه، وولي طلحة بن داود الحضرمي، وأمره أن يضرب خالدا بالسياط بسبب امرأة من قريش كان قذفها فأقبح، وأن يطالبه، ويحمله في الحديد، وعزل عثمان بن حيان المري عامل المدينة، وقلد أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فضرب عثمان بن حيان حدين: أحدهما في شرب الخمر، والآخر في قرفه على عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
    وسخط سليمان على موسى بن نصير اللخمي، العامل على إفريقية، والذي افتتح الأندلس وما والاها، وكان موسى قدم على الوليد، فوجده شديد العلة، فلم يقم إلا أياماً حتى مات، وسعى طارق مولى موسى بمولاه إلى سليمان، فاستصفى سليمان ماله، وأخذه بمائة ألف دينار، فقال موسى: صحبتكم ولي فرس وفرو وسيف، فأعطوني هذا وشأنكم بما بقي.

    وولي سليمان المغرب محمد بن يزيد، مولى قريش، وأمره بتتبع أصحاب موسى وولده وأصحابه، وكان سليمان قد قدم يزيد بن المهلب وخصه وأبره، ودفع إليه أصحاب الحجاج بن يوسف، وموسى بن نصير، وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، والحكم بن أيوب، وعبد الرحمن بن حيان المري، وأمره أن يعذبهم حتى يستخرج منهم الأموال، وتتبع سليمان أصحاب الحجاج يسومهم سوء العذاب، وأشخص إليه يزيد بن أبي مسلم خليفة الحجاج، وكان قصيرا، خفيف البدن، فلما رآه قال له: أنت يزيد؟ قال: نعم! قال: صاحب الحجاج والأفعال التي بلغتني مما أرى من دمامة خلقتك؟ قال: ذاك والله إنك رأيتني والدنيا عليك مقبلة، وهي عني مدبرة، ولو رأيتها وهي إلي مقبلة، وعنك مدبرة، لاستعظمت ما استصغرت، واستجللت ما استحقرت. قال: أين ترى الحجاج يهوي في النار؟ قال: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين لرجل يحشر عن يمين أبيك وشمال أخيك، وأنزله حيث شئت تنزلهما معه. فقال ليزيد بن المهلب: خذه إليك، فعذبه بألوان العذاب، حتى تستخرج منه الأموال. فقال: يا أمير المؤمنين أنا أعلم به، لا والله ما عنده مال، ولا كان ممن يحوي المال. وكان يزيد بن المهلب يعرف له جميل فعله به، فولاه سليمان الصائفة.
    وكان قتيبة بن مسلم عامل الحجاج على خراسان فلما بلغه فعل سليمان بنظرائه، وقصده عمال الوليد، وعمال الحجاج، جمع إليه إخوانه وأهل بيته، وأوغل في أرض العجم، حتى بلغ بلد فرغانة القصوى وكان عبد الله ابن الأهتم التميمي معه، فهرب منه إلى سليمان، فرفع إليه، فأخذ قتيبة قوما من أهل بيته، فقتلهم وقطع أيدي آخرين وأرجلهم، وكان يزيد بن المهلب عدوه لما فعل به وبأهل بيته لما ولي عليه، فعلم أنه لا يصلح له حب سليمان، وكتب إليه كتابا، فأجابه سليمان يغلظ له، فأراد الخلع، وهو لا يشك أن موضعه من النزارية... واليمانية لا يخالفونه، فلما علم القوم مذهبه تبعدوا عنه، فخطبهم خطبة مشهورة، نال فيها، وقال: يا معشر تميم، ويا أهل الذلة والقلة، ويا معشر الأزد! أخليتم السفن، وركبتم الخيل، وقذفتم المرادي، وأخذتم الرماح، والله لأنا بمن معي من العجم أعز منكم! فصاف القوم عنه، وصارت كلمتهم واحدة في الوثوب عليه، واجتمعوا إلى الحضين بن المنذر، فدعوه إلى القيام بجماعتهم، فقال: عليكم بوكيع بن أبي سود التميمي. فأتوا وكيعا، فانقضت كلمتهم عليه، ومع القوم يومئذ حيان النبطي، فوثبوا بقتيبة فقتلوه، وقام وكيع بخراسان، وولي عماله، وكتب إلى سليمان يعلمه ما كان منه، وبعث برأس قتيبة ورؤوس أهل بيته إليه، وذلك في سنة ست وتسعون.
    فلما أتى سليمان كتاب وكيع أراد أن يكتب إليه بالعهد على خراسان، فقيل له: إنه رجل ترفعه الفتنة وتضعه السنة، وليس لها بموضع، فولى سليمان يزيد بن المهلب العراق وخراسان، فكان يزيد بن المهلب في العراق، فعذب عمال الحجاج، ثم استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان، فتتبع أصحاب قتيبة وقراباته، فسامهم سوء العذاب، وحبس وكيع بن أبي سود، وقيده، وأخذ عماله الذين كان ولاهم البلدان بعد قتل قتيبة، فطالبهم بالأموال التي صارت إليهم، وخالف أكثر أهل خراسان فقصد جرجان، فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحها وحارب أصبهبذ طبرستان، وملك الترك، وملك الديلم، فأقام في محاربة صاحب طبرستان زمانا، ثم عرض وضجر، ثم طلب أن يصالحه، فلم يفعل، فرجع إلى جرجان فأقام بها، ثم خرج منها إلى نيسابور، وولي يزيد إخوته وولده البلدان، فولى مخلدا سمرقند، ومدرك بن المهلب بلخ، ومحمد بن المهلب مرو، وعظم أمر يزيد بخراسان.
    واضطرب السند، وأخل الجند الذين كانوا مع محمد بن القاسم الثقفي بمراكزهم، فرجع أهل كل بلد إلى بلدهم، فوجه سليمان حبيب بن المهلب إليها، فدخل البلاد، وقاتل قوما كانوا ناحية مهران، وأخذ محمد بن القاسم، فألبسه المسوح، وقيده وحبسه.
    وقدم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب على سليمان، وقال سليمان: ما كلمت قرشيا قط يشبه هذا، وما أظنه إلا الذي كنا نحدث عنه، فأجازه، وقضى حوائجه وحوائج من معه.

    ثم شخص عبد الله بن محمد، وهو يزيد فلسطين، فبعث سليمان قوما إلى بلاد لخم وجذام، ومعهم اللبن المسموم، فضربوا أخبية نزلوا فيها، فمر بهم، فقالوا: يا عبد الله! هل لك في الشراب؟ فقال: جزيتم خيراً. ثم مر باخرين، فقالوا مثل ذلك، فجزاهم خيراً، ثم باخرين، فاستسقى فسقوه، فلما استقر اللبن في جوفه قال لمن معه: أنا والله ميت، فانظروا من هؤلاء، فنظروا فإذا القوم قد قوضوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فإنه بأرض الشراة، فأسرعوا السير حتى أتوا محمد بن علي بالحميمة من أرض الشراة، فلما قدم عليه قال له: يا ابن عم أنا ميت، وقد صرت إليك، وهذه وصية أبي إلي، وفيها أن الأمر صائر إليك، وإلى ولدك، والوقت الذي يكون ذلك، والعلامة وما ينبغي لكم العمل به أعلى ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب، فاقبضها إليك، وهؤلاء الشيعة ستوص بهم خيراً، وهؤلاء دعاتك وأنصارك، فاستبطنهم، فإني قد بلوتهم بمحبة ومودة لأهل بيتك، ثم هذا الرجل ميسرة، فاجعله صاحبك بالعراق، فأما الشام، فليست لكم ببلاد، وهؤلاء رسله إلى خراسان وإليك، ولتكن دعوتكم بخراسان، ولا تعد هذه الكور: مرو، ومرو الروذ، وبيورد، ونسا، وإياك ونيسابور وكورها، وأبرشهر، وطوس، فإني أرجو أن تتم دعوتكم، ويظهر الله أموركم، وأعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه الذي هو أكبر منه، فإذا مضت سنة الحمار، فوجه رسلك بكتبك، ووطد الأمر قبل ذلك بلا رسول ولا حجة. فأما أهل العراق، فهم شيعتك ومحبوك، وهم أهل اختلاف، فلا يكن رسولك إلا منهم، وانظر أهل الحي من ربيعة فألحقهم بهم، فإنهم معهم في كل أمر، وانظر هذا الحي من تميم وقيس فاقصهم، ثم أبدهم إلا من عصم الله منهم، وهم أقل من القليل، ثم اختر دعاتك، فليكونوا اثني عشر نقيبا، فإن الله عز وجل لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم وسبعين نفسا بعدهم يتلونهم، فإن النبي إنما اتخذ اثني عشر نقيباً من الأنصار اتباعاً لذلك.
    فقال محمد: يا أبا هاشم! وما سنة الحمار؟ قال: لم يمض مائة من نبوة قط إلا انقضت أمورها، لقول الله عز وجل: " أو كالذي مر على قرية " ، الآية، فإذا خلت مائة سنة، فابعث رسلك ودعاتك، فإن الله متمم أمرك.
    ومات أبو هاشم بعد أن دفع الكتاب إلى محمد بن علي، وذلك سنة سبع وتسعون، وفيها وجه محمد بن علي أبا رباح ميسرة النبال مولى الأزد إلى الكوفة. وحج سليمان سنة سبع وتسعون، وقد عزم على أن يبايع لابنه أيوب بولاية العهد من بعده، وكان قد كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن يبني له قصرا بالجرف ينزله، فلما قدم لم يرض بناء القصر، فنزله، وقسم بين أهل المدينة قسما، وفرض لقريش خاصة أربعة آلاف فريضة لم يدخل فيها حليفا ولا مولى، فأجمع رأى مشيخة قريش أن جعلوها لحلفائهم ومواليهم، ثم دخلوا عليه فقالوا: إنك قد فرضت لنا أربعة آلاف فريضة لا تدخل علينا فيها حليفا ولا مولى، فرأينا أن نكافئك ونجعلها في حلفائنا وموالينا، فنحن أخف عليك مؤونة منهم. ففرض لهم أربعة آلاف فريضة أخرى.
    وصار إلى مكة، فلما نزل بطن رابغ أخذتهم السماء وجاءت صواعق لم ير مثلها، ففزع سليمان، فقال له عمر بن عبد العزيز: هذه الرحمة، فكيف العذاب؟ وأحضر جماعة من الفقهاء فيهم القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم ابن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن حزم، فسألهم عن أمر الحج، فاختلفوا عليه، فقال كل واحد منهم قولا لم يوافق الآخر، فقال: كيف صنع أمير المؤمنين عبد الملك؟ فقيل له: كذا، فقال: أصنع كما صنع، وأترك اختلافكم. وانصرف من مكة إلى بيت المقدس، فأطاف المجذمون بمنزله، فضربوا بأجراسهم، حتى منعوه النوم، فسأل عنهم، فأخبر بما يلقاه الناس منهم، فأمر بإحراقهم، وقال: لو كان في هؤلاء خير ما ابتلاهم الله بهذا البلاء! فكلمه عمر في ذلك، فأمسك عنهم، وأمر أن ينفوا إلى قرية معتزلة لا يخالطوا الناس وخرج سليمان إلى ناحية الجزيرة، فنزل بموضع يقال له دابق، من جند قنسرين، وأغزى مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم وأمره أن يقصد القسطنطينية، فيقيم عليها حتى يفتحها، فسار مسلمة حتى بلغ القسطنطينية، وأقام عليها حتى زرع وأكل مما زرع، ودخل، وفتح مدينة

    الصقالبة وأصاب المسلمين ضر وجوع وبرد. وبلغ سليمان ما فيه مسلمة ومن معه، فأمدهم بعمرو بن قيس في البر، وأغزى عمر بن هبيرة الفزاري في البحر، وذلك أن الروم أغاروا على مدينة اللاذقية من جند حمص، فأحرقوها، وذهبوا بما فيها، فبلغ عمر بن هبيرة خليج القسطنطينية.
    وكان الغالب على سليمان النصرا بن برهم الحميري، ورجاء بن حيوة الكندي، وعلى شرطة كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان مولى محارب، وحاجبه مولاه أبو عبيدة، وكان أكولا لا يكاد يشبع، وكان له جمال وفصاحة... رجل طويل، أبيض قضيف البدن، لم يشب، وهو الذي يقول، ونظر إلى نفسه في المرآة: أنا الملك الشاب، فما دارت عليه الجمعة حتى مات، وكانت وفاته في صفر سنة تسع وتسعين، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب كتابا، وأحضر أهل بيته، فقال: بايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا، ودفع الكتاب إلى مسجد دابق، فدعا من بها من أهل بيت سليمان، فقال: بايعوا! فقالوا: إنا بايعنا مرة، فقال: بايعوا الذي في هذا الكتاب، فبايعوا، فلما فرغ قال: قوموا إلى صاحبكم، فقد مات، وقرأه، فلما بلغ إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا والله لا أبايع! فقال رجاء بن حيوة: إذا أضرب عنقك، وأخذ بضبع عمر، فأجلسه على المنبر، فلما فرغوا من البيعة دفنوا سليمان، ونزل عمر بن عبد العزيز قبره، وثلاثة من ولده، فلما تناولوه تحرك على أيديهم، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة! فقال عمر: بل عوجل أبوكم ورب الكعبة! وكان بعض من يطعن على عمر يقول له: دفن سليمان حيا. وكانت ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر، وخلف من الولد الذكور عشرة: يزيد والقاسم وسعيد، وعثمان، وعبد الله، وعبد الواحد، والحارث، وعمرو، وعمر، وعبد الرحمن. وأقام الحج للناس في ولايته سنة ست وتسعون أبو بكر بن عمرو بن جزم، وفي سنة سبع وتسعون سليمان، وفي سنة ثمان وتسعون عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وغزا في أيامه سنة ست وتسعون مسلمة، ففتح حصن الحديد وشتا بنواحي الروم، وعمر بن هبيرة في البحر، فمخروا ما بين الخليج والقسطنطينية، وفتحوا مدينة الصقالبة، وأمد سليمان بعمرو بن قيس الكندي، وعبد الله بن عمر بن الوليد ابن عقبة وفي سنة تسع وتسعون وجه سليمان بن عبد الملك بابنه داود إلى أرض الروم، ومسلمة منيخ على القسطنطينية، ففتح داود حصن المرأة من ناحية ملطية. وكان الفقهاء في أيامه مثل من كان في أيام الوليد.
    أيام عمر بن عبد العزيزثم ولى عمر بن عبد العزيز بن مروان، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن الخطاب، لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في السنبلة ثمانياً وعشرين درجة، وزحل في الميزان خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في الحوت درجتين راجعا، والمريخ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، وعطارد في الميزان اثنتين وعشرين درجة، والرأس في الجوزاء ثلاثاً وعشرين درجة وستا وعشرين دقيقة، وبويع بدابق، وكان الكتاب الذي كتبه سليمان: هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر ابن عبد العزيز أني وليتك الخلافة بعدي، فاسمعوا، وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا. فلما قرئ الكتاب بايع جميع من حضر من بني أمية خلا عبد العزيز ابن الوليد بن عبد الملك، فإنه كان غائباً، فدعا إلى نفسه، فبايعه قوم، فلما بلغه ولاية عمر قدم، فقال له عمر: بلغني أنك كنت دعوت إلى نفسك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذلك لأني خفت الفتنة، وبلغني أن الخليفة لم يعهد إلى أحد. فقال عمر: لو قمت بالأمر ما نازعتك ذلك فقال عبد العزيز: ما كنت أحب أن يكون ولي هذا الأمر غيرك.

    ولما بلغ يزيد بن المهلب ولاية عمر وورد عليه كتابه شخص من خراسان، واستخلف بها مخلدا ابنه، وحمل كل ما كان له، مخافة من أهل خراسان، معه، فأشار عليه قوم ألا يبرح، فلم يفعل، وصار إلى البصرة، فلقيه بها عدي ابن أرطأة عامل عمر، فأوصل إليه كتاب عمر، فقال: سمعا وطاعة، ثم حمله إليه مستوثقاً منه، فقال له عمر: إني وجدت لك كتابا إلى سليمان تذكر فيه أنك اجتمع قبلك عشرون ألف ألف، فأين هي؟ فأنكرها، ثم قال: دعني أجمعها! قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس. قال: تأخذها منهم مرة أخرى؟ لا ولا نعمي عين. ثم ولي الجراح بن عبد الله الحكمي خراسان، وأمره أن يأخذ مخلد بن يزيد، فيستوثق منه استيثاقا لا يمنعه من الصلاة، فحبسه الجراح مكرماً، ثم حمله إلى عمر، فدخل في ثياب مشمرة، وقلنسوة بيضاء، فقال له عمر: هذا خلاف ما بلغني عنك. فقال: أنتم الأئمة إذا أسبلتم أسبلنا، وإذا شمرتم شمرنا.
    وحسنت سيرة الجراح وقدمت عليه وفود التبت يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام، فوجه إليهم السليط بن عبد الله الحنفي، ووجه عبد الله بن معمر اليشكري إلى ما وراء النهر، فلقي جمعاً للترك فهزم وانصرف ابن معمر.
    وبلغ عمر عن الجراح أمور يكرهها من أنه يأخذ الجزية من قوم قد أسلموا، وأنه يغزى موالي بلا عطاء، وأنه يظهر العصبية، فكتب إليه: أن أقدم، واستخلف عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ففعل ذلك، ثم كتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان، ويأمره بأقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم إلى مرو، فعرض ذلك عليهم، فأبوا عليه، فكتب إلى عمر انهم قد رضوا بالمقام، فحمد عمر ربه على ذلك.
    وبلغ عمر ما فيه من في بلاد الروم مع مسلمة من الضرر والفاقة، فوجه عمر بن قيس على الصائفة، ووجه معه الكساء والطعام والأعطيه لمن كان مع مسلمة من المسلمين، فوجه عمر عبد العزير بن حاتم بن النعمان الباهلي، فأوقع بالترك، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا، فقال رجل من المسلمين لعمر في أسير منهم: لو رأيت هذا، يا أمير المؤمنين، يقتل المسلمين، لرأيت قتالاً ذريعا فقال: قم فاضرب عنقه.
    وفاة علي بن الحسينوتوفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في سنة تسع وتسعون، وقال قوم سنة مائة، وله ثمان وخمسون سنة، وكان أفضل الناس، وأشدهم عبادة، وكان يسمى زين العابدين، وكان يسمى أيضاً ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ولما غسل وجد على كتفيه جلب كجلب البعير، فقيل لأهله: ما هذه الآثار؟ قالوا: من حمله للطعام في الليل يدور به على منازل الفقراء.
    قال سعيد بن المسيب: ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين. وما رأيته قط إلا مقت نفسي، ما رأيته ضاحكا يوماً قط. وكانت أمه حرار بنت
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:30 am

    وظهر يزيد بن جرهم الداعية، وبلغ عمر بن هبيرة الخبر، فعزله وولى خراسان مسلم بن سعيد الكلابي، فقدم خراسان، فغزا بالناس، فلم يصنع شيئاً، فلما انصرف راجعاً من فرغانة تبعته الترك وأهل فرغانة، فقاتلوه قتالاً شديداً وكان قد استعمل نصر بن سيار على بلخ، فكتب إليه أن يمده بالرجال، وأن يحشر الناس إليه، فدعاهم نصر بن سيار إلى ذلك، فأبوا عليه وقاتلوه، وكانت بينهم وبين نصر وقعة تسمى وقعة البروقان.
    واستعمل يزيد على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وكتب إليه يأمره أن يجمع بين عثمان بن حيان المري وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم في الحدين اللذين جلدهما أبو بكر عثمان بن حيان، فإن وجد أن أبا بكر ظلمه أقاده منه ففعل، وتحامل على أبي بكر، فجلده حدين قودا بعثمان بن حيان.
    وخطب عبد الرحمن فاطمة بنت الحسين بن علي، فأرسل إليها رجالاً يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر ولدها بالسياط. فكتبت إلى يزيد كتابا، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه، وقال: لقد ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا من رجل يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا؟ فكتب إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري، وكان بالطائف، أن يتولى المدينة، ويأخذ عبد الرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار، ويعذبه حتى يسمعه ضربه، ففعل ذلك، فرئي عبد الرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس.
    ووجه يزيد الجراح بن عبد الله الحكمي، فغزا الترك، وفتح بلنجر، وسبى خلقاً عظيماً في سنة مائة وأربع، وانتهى إلى نهر الروباس، ثم سار حتى انتهى إلى نهر الران، ولقي ابن خاقان صاحب الخزر فقاتله فهزمه، وقتل مقاتلته، وسبى سبياً كثيراً. ولما فتح بلنجر سار، فجعل ينزل بلداً بلداً يتبع خاقان ملك الخزر، حتى صار إلى نهر دبيل من عمل آذربيجان، فاقتتلوا هناك، وقتل الجراح وجميع أصحابه.
    وولي يزيد بن أبي مسلم إفريقية، فقدمها وعبد الله بن موسى اللخمي محبس بها، فقال له: أعط الجند من مالك أرزاقهم لخمس سنين، فقال: لا أقدر على ذلك، فحبسه، وأخذ موالي موسى بن نصير فوسم أيديهم، وردهم إلى الرق، واستخدم عامتهم في حرسه، فوثب عليه غلام منهم يقال له جرير دخل عليه وهو يأكل عنباً، فقتله، فلما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر ولي بشر بن صفوان الكلبي، فلم يزل مقيما بها ولاية يزيد.

    وكتب يزيد إلى عمر بن هبيرة، وهو عامل على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة مائة وخمس، ولم يمسح السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب، حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع على النخل والشجر، وأضر بأهل الخراج، ووضع على التانئة، وأعاد السخر والهدايا وما كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، والمساحة التي يؤخذ بها مساحة ابن هبيرة.
    وكان يزيد قد جعل ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية العهد لابنه الوليد، وكان هشام بالجزيرة، فوجه إليه خالد بن عبد الله القسري يحسن له خلع نفسه من ولاية العهد على أن الجزيرة له طعمة.
    قال خالد بن عبد الله: فأتيته، فذكرت له ذلك، فأسرع الإجابة، فقلت له: أيها الإنسان إن استشرتني وعاهدتني على أن تكتم على أشرت عليك. فقال: قد استشرتك ولك عهد الله أن أكتم عليك. فقلت: إنما هي أيام قلائل حتى تصير الجزيرة أحد أعمالك. قال: فكيف بالسلامة من يزيد؟ قلت: علي! قال: افعل ما بدا لك، فإنها يد مشكورة لك. فانصرفت إلى يزيد فقلت: يا أمير المؤمنين! إني أتيت رجلاً صعباً، فأنشدك الله أن توقع العداوة والشر بينكم، وتوجدوا الناس السبيل إلى الطعن فيكم والاختلاف عليكم، ولكن تصير الوليد ولي العهد بعد أخيك. فركن إلى ذلك وفعله، فما زال هشام يشكر ذلك لخالد حتى ولي الخلافة فولاه العراق.
    وكان الغالب على يزيد سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وصاحب شرطة كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه يزيد بن أبي كبشه السكسكي، وحاجبه خالد مولاه.
    وكانت ولايته أربع سنين، وتوفي لأربع بقين من شعبان سنة مائة وخمس، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه الوليد بن يزيد، ودفن بالبلقاء من أرض دمشق، وخلف من الولد عشرة ذكوراً وهم: الوليد، ويحيى، ومحمد، والغمر، وسليمان، وعبد الجبار، وداود وأبو سليمان والعوام، وهاشم وأقام الحج للناس في ولايته سنة مائة وواحد عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، سنة مائو واثنان عبد الرحمن أيضاً، سنة مائو وثلاث عبد الرحمن أيضاً، سنة مائة وأربع عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري.
    وغزا بالناس في ولايته سنة مائة واثنان الوليد بن هشام أرض الروم، فنزل على المخاضة عند أنطاكية، ولقي عمر بن هبيرة الروم بأرمينية الرابعة، فهزمهم، وأسر منهم سبعمائة، سنة مائة وثلاث غزا العباس بن الوليد، فأصيب الناس في السرايا، وأغارت الترك على أرض اللان، وغزا عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعثمان بن حيان المري، فنزلا على حصن ففتحاه، سنة مائة وأربع عبد الرحمن بن سليمان الكلبي على الصائفة اليمنى، وعثمان بن حيان المري على الصائفة اليسرى، سنة مائة وخمس سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم رجع فغزا ناحية الترك، فبلغ قصر قطن، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي باب اللان، حتى خرج من الباب. وكان الفقهاء في ولايته يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، سالم بن عبد الله ابن عمر، القاسم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعاً مولى عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن دينار، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووس اليماني، عطاء بن أبي رباح، حبيب بن أبي رباح، حبيب بن أبي ثابت، عبد الله بن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي.
    أيام هشام بن عبد الملك بن مروانثم ملك هشام بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وأتته الخلافة وهو بقرية يقال لها الزيتونة من الجزيرة، فجاء البريد، فسلم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 105، ومن شهور العجم في كانون، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ست درجات وثمانيا وخمسين دقيقة، والقمر في القوس سبع درجات وتسع دقائق، والمشتري في الميزان ست درجات وخمسين دقيقة راجعاً، والمريخ في العقرب إحدى وعشرين درجة وتسعاً وثلاثين دقيقة، والزهرة في القوس عشرين درجة وثلاث دقائق، وعطارد في الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة.
    وولي خالد بن عبد الله القسري العراق باليد التي كانت له عنده، وكان قد كتب إلى الجنيد بن عبد

    الرحمن يأمره أن يكاتب خالداً، ففعل، وعظم أمر الجنيد ببلاد السند، ودوخها حتى صار إلى أرض الجرز، ثم إلى أرض الصين، ودعا ملكها إلى الإسلام، فقاتله، فثبت له الجنيد، فأقام يقاتله ورمى حصنه بالنفط والنار، فطفاها، فقال الجنيد: في الحصن قوم من العرب هم أطفئوا النار، ولم يزل يقاتله، حتى طلب الصلح وصالحه، وفتح المدينة، فوجد فيها رجلين من العرب، فقتلهما. وأقام الجنيد أياماً ثم غزا الكيرج ومعه أشندر أبيد الملك في مقاتلته، فهرب الراه ملك الكيرج، فافتتحها الجنيد، فسبى، وغنم، واستقامت أموره، فوجه بعماله إلى المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسرست والبيلمان والمالبة وغيرها من البلاد، وكتب إليه هشام بفتح أتاه من الروم يخبره أن المسلمين أسروا عدة، وغنموا حمرا وبقرا، فكتب إليه الجنيد: أني نظرت في ديواني، فوجدت ما أفاء الله علي، مذ فارقت بلاد السند، ستمائة ألف وخمسين ألف رأس من السبي، وحملت ثمانين ألف ألف درهم، وفرقت في الجند أمثالها مراراً.
    وأقام الجنيد عدة سنين، ثم استعمل خالد مكانه تميم بن زيد العتبي، فوجه ثمانية عشر ألف ألف طاطري خلفها الجنيد في بيت المال، ولم يستقم لتميم أمر، وكثر خلاف أهل البلاد عليه، وكثرت حروبه، وفشا القتل في أصحابه، وخرج من البلد يريد العراق، فكتب خالد إلى هشام أن يولي الحكم بن عوانة الكلبي، فقدم الحكم وبلاد الهند كلها قد غلب عليها، إلا أهل قصة، فقالوا: ابن لنا حصنا يكون للمسلمين يلجأون إليه! فبنى مدينة سماها المحفوظة، وأجلى القوم المتغلبين بعد حرب شديدة، وهدأت البلاد وسكنت، وكان مع الحكم عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، وجماعة من وجوه الناس، فلم يزل مقيما في البلد، حتى عزل خالد، وولي يوسف بن عمر الثقفي.
    وولي هشام مسلمة بن عبد الملك أرمينية وآذربيجان سنة 107، فوجه سعيد بن عمرو الحرشي على مقدمته، فلقي عسكرا للخزر، ومعهم عشرة آلاف من أسارى المسلمين، فحاربهم، فهزمهم، وقتل عامتهم، واستنقذ الأسارى منهم، وفعل ذلك مرة بعد مرة أخرى، وقتل ابن خاقان، وفتح عدة مدائن، ووجه برأس ابن خاقان إلى هشام من غير أن يوافق مسلمة، فأغضبه ذلك، وكتب إليه يلومه وعزله، وصير مكانه عبد الملك بن مسلم العقيلي، وأمره أن يقيد سعيد بن عمرو الحرشي ويحبسه بمدينة يقال لها قبله.
    وقدم مسلمة البلد وأحضر الحرشي، فأغلظ له، ودق لواءه، وبعث به إلى سجن برذعة، فكتب إليه هشام يلومه على ذلك، ووجه برسل من قبله حتى أخرجوا سعيد بن عمرو الحرشي من السجن، وحملوه إليه.
    وسار مسلمة في البلاد التي للخزر حتى صار إلى جرزان، فافتتحها، وقتل أهلها، ثم صار إلى شروان، فسالمه أهلها، ثم أتى مسقط، فصالحه أهلها، ووجه خيله إلى أرض اللكز، فصالحه أهلها، وبعث إلى طبرستان، فصالحه أهلها، فسار في البلاد لا يلقاه أحد حتى بلغ أرض ورثان، فلقيه خاقان ملك الخزر، وكان مع مسلمة جماعة من ملوك البلدان التي فتحها، فجعل مروان ابن محمد على مقدمته، فلقي القوم، فأقام يقاتلهم أياماً، وربما فقد، فيقال لمسلمة: قتل مروان! فيقول: أما والله دون أن يسلم عليه بالخلافة فلا! ففتح عامة البلدان.
    وعزل هشام مسلمة وولي مروان بن محمد، فصار إلى الحصن الذي فيه ملك السرير، وهو سرير من ذهب كان بعث به بعض ملوك الفرس، ويقال إن أنوشروان بعث به إليه فسمي بذلك السرير، فصالحه على ألف وخمسمائة غلام سود الشعور، ثم صار إلى تومان شاه، فصالحه ملكها، ثم دخل إلى أرض زريكران، فصالحه ملكها ثم صار إلى حمزين فحاربهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وفتح أكثر البلد، وجمع الطعام إلى مدينة الباب، ولم يزل هناك.
    وكان بشر بن صفوان الكلبي عامل المغرب، فلما ولي هشام بعث إليه بأموال عظام وهدايا، فأقره هشام على إفريقية، فلم يزل بها حتى مات، فلما مات بشر بن صفوان ولي هشام إفريقية عبيدة بن عبد الرحمن القيسي، ولم يزل بها، فأغزى الناس في البحر، فغنم غنائم كثيرة، فخرج إلى هشام بأموال جليلة وعشرين ألف عبد، فاستعفاه فأعفاه، وولى مكانه عقبة بن قدامة التجيبي، فلم يقم إلا يسيرا حتى عزل، وولى عبيد الله بن الحبحاب، فغزا غزوات كثيرة... وقتل كلثوم بن عياض، ثم ولي حنظلة بن صفوان الكلبي، فقدم إفريقية، وقد تغلب على بعض النواحي عكاشة

    بن أيوب الفزاري، فظفر به حنظلة، ولم يزل مقيما إلى أيام مروان بن محمد.
    وظهر سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى بني هاشم سنة 111، وظهرت دعوتهم، وكثر من يجيبهم، وقدم بكير بن ماهان، فأجابه خلق كثير إلى خلع بني أمية وبيعة بني هاشم، وكثر أشياعه وأصحابه، ثم حضرت بكير بن ماهان الوفاة، فاستخلف أبا سلمة حفص بن سليمان الخلال وكتب بذلك إلى محمد بن علي بن عبد الله، وأعلمه أنه يرضاه، فأقره، وكتب إلى أصحابه يأمرهم بالسمع والطاعة، فاستقاموا جميعاً عليه، وولى خالد بن عبد الله أخاه أسد بن عبد الله خراسان، فبلغه خبرهم، فأخذ جماعة منهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فما زالوا في خوف، حتى مات أسد، وولي خراسان جعفر بن حنظلة البهراني.
    وولي سجستان يزيد بن الغريف الهمداني، فلما قدم سجستان ساءت سيرته، وأظهر الفسق، فقتله قوم من الخوارج وثبوا عليه وهو جالس في مجلسه، وعلى رأسه ألف وخمسمائة مدجج، وكان الخوارج خمسة نفر، فقدم إليه بعضهم، فضربه بالسيف، فقتله، ووثب الجند عليهم، فقتلوهم بعد أن قتلوا جماعة منهم. فلما بلغ خالد بن عبد الله الخبر ولي الأصفح بن عبد الله الكلبي، فصار إلى النية في الشتاء، فندب الناس إلى الغزو، فأتاه شيخ من أهل البلد يقال له عبد الله بن عامر، فقال: أيها الأمير! ليس هذا وقت غزو، فقال أنا أعلم بوقت الغزو منك، ونفذ، فلما صار على رأس شعب من الشعاب أتاه عمرو بن بجير فقال: أصلح الله الأمير، ليس هذا وقت دخول هذا الشعب. فقال: لو كنت عاقبت المتكلم بالأمس لما سمعت هذا اليوم، واقتحم الشعب، حتى إذا أمعن فيه أخذ العدو عليه مضايقه، واجتمع فقتل الجيش بأسره، فلم ينج منه أحد، فلما أتى خالداً الخبر بقتل الأصفح ومن معه من المسلمين، ولي عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، فلم يزل مقيماً بها ولاية خالد.
    ؟
    وفاة أبي جعفر محمد بن علي
    وتوفي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة 117، وسنة ثمان وخمسون سنة.
    قال أبو جعفر: قتل جدي الحسين ولي أربع سنين وإني لأذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت. وكان يسمى أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم.
    قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال لي رسول الله: إنك تستبقي حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي اسمه علي اسمي، إذا رأيته لم يخل عليك، فأقرئه مني السلام! فلما كبرت سن جابر، وخاف الموت، جعل يقول: يا باقر! يا باقر! أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه، ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله! إن أباك يقرئك السلام.
    قال أبو حمزة الثمالي: سمعت محمد بن علي يقول: يقول الله عز وجل: إذا جعل عبدي همه في هما واحدا جعلت غناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقاً جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت عليه أمره ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك.
    وقيل لمحمد: أ تعرف شيئاً خيراً من الذهب؟ قال: نعم! معطية. وقال: اصبر للنوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تعط أحداً من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه له. وقال: كفى العبد من الله ناصراً أن يرى عدوه يعصي الله.
    وقال: شررالآباء من دعاه البر إلى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق.
    وسئل أبو جعفر عن قول الله عز وجل: وقولوا للناس حسناً. قال: قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم قال: إن الله عز وجل يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف.
    وقال: لو صمت النهار مالي في سبيل الله لا أفطر، وصليت الليل لا أفتر، ومالي في سبيل الله علقا علقا، ثم لم تكن في قلبي محبة لأوليائه، ولا بغضه لأعدائه، ما نفعني ذلك شيئاً.
    وكان له من الولد خمسة ذكور: أبو عبد الله جعفر، وعبد الله، وإبراهيم، وعبيد الله درج صغيراً، وعلى درج صغيراً.

    وتوفي علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب سنة 118، وكان مولده في الليلة التي قتل في صبيحتها علي بن أبي طالب وتوفي بالاحهير بين الحميمة وأذرح من عمل دمشق، وسنة ثمان وسبعون سنة، وأمه زرعة بنت مشرح ابن معديكرب، أحد ملوك كندة الأربعة. وكان ذا غناء وفضل وشرف ورواية عن أبيه.
    قال: سمعت أبي يقول: إن من غصبته نفسه فيما تحب لم يطمعها فيما يحب. وقال: سمعت أبي يقول: تعاشر الناس حينا بالتقوى، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالمروة، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالحياء، ثم رفع ذلك، فانهتك الغطاء.
    وكان يقول: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. وقال: سخاء الناس عما في أيدي الناس أفضل من سخائها بالبذل، والقناعة لذة العيش، والرضا بالقسم أكثر من مروة الإعطاء، ومن حفظ من نفسه أربعاً فهو خليق ألا ينزل به ما نزل بغيره: العجلة، واللجاج، والعجب، والتواني.
    وكان لعلي بن عبد الله بن عباس من الولد اثنان وعشرون ولدا: محمد بن علي، وأمه العالية بنت عبيد الله بن عباس، وداود، وعيسى لأم ولد، وسليمان، وصالح لأم ولد، وأحمد، وبشر، ومبشر، وإسماعيل، وعبد الصمد، لأمهات أولاد، وعبد الله الأكبر، أمه أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، لا عقب له، وعبيد الله، وأمه فلانة بنت الحريش، وعبد الملك، وعثمان، وعبد الرحمن، وعبد الله الأصغر، وهو السفاح، ويحيى، وإسحاق، ويعقوب، وعبد العزيز، وإسماعيل الأصغر، وعبد الله الأوسط، وهو الأحنف، لأمهات أولاد شتى.
    قدم محمد بن علي بن عبد الله على هشام، ومعه ابنه أبو العباس غلام، فلما خرج من عنده قال لبعض أصحابه: شكوت إلى أمير المؤمنين ثقل الدين والعيال، فاستهزأ بي، وقال: أنتظر ابن الحارثية، يعني هذا الغلام.
    وألح هشام في طلب الخوارج... فجلس يوماً، وجمع إليه الخوارج، فقال: يا قوم! خافوا الله ولا تدعوا الجهاد! فبايعوه، وأقام أياماً وحضرته الوفاة، فقال لهم: إني لست بأحد أوثق مني بالبهلول بن عمير الشيباني، فلما مات خرج البهلول، فصار إلى قرب الكوفة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فوجه إليه بخيل، فاتبعته من عين التمر إلى الموصل، فقتل بالموصل.
    وأنكر هشام على خالد بن عبد الله أموراً بلغته، منها: أنه فرق أموالا عظاما، مبلغها ستة وثلاثون ألف ألف درهم، فاستعظمها، وإنه قال: ما زادت أمية في شرف قسر هكذا، وجمع بين إصبعيه، فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني مقالتك، وإنما أنت من بجيلة الذليلة الحقيرة، وستعلم يا ابن النصرانية إن الذي رفعك سيضعك. وأقام خالد على العراق أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة، فلما عزم هشام على صرفه أحضر حسان النبطي، وكان ينظر في أمر خالد بن عبد الله كله، فأشرف عليه بالقتل، وحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ليصدقنه، أو ليقتلنه، فأتاه حسان بصناديق وقائع على خالد، وكان أول كاتب رفع على عامل بلده، ولما وقف هشام من أمر خالد على ما أراد كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي، وكان عامله باليمن، كتاباً بخطه لم يطلع عليه أحداً، يأمره بالنفوذ إلى العراق، وأن يستر خبره حتى يقدمها، فيقبض على خالد وأصحابه، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم.
    فخرج يوسف من اليمن، وقد أسر أمره، وكان في سبعة نفر، حتى قدم العراق، وكان مقدمه العراق سنة 120، ووافى يوسف بن عمر في الليل في خمسة نفر حتى صار إلى المسجد الجامع، فلما أقيمت الصلاة تقدم خالد ليصلي، فجذبه يوسف فأخرجه، ثم تقدم وقرأ: إذا وقعت الواقعة، في أول ركعة، ثم قرأ في الثانية: سأل سائل بعذاب واقع، ثم أقبل على الناس بوجهه، فعرفهم نفسه، وأخذ خالدا وأصحابه، فعذبهم أنواع العذاب، وطالبهم بالمال، فاجتمع جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس، فقالوا: نحن نتحمل هذا المال عنه ونؤديه، فيقال إن يوسف قبل ذلك منهم، فلما حملوا إليه المال طالب خالداً وأخذ خالداً، فألبسه جبة صوف، وجمع يده إلى عنقه، ثم أتى به إليه، وهو جالس على دكان، فجذبه حتى سقط لوجهه، فقال بعض من حضر: رأيت خالداً وقد فعل مثل هذا بعمر بن هبيرة الفزاري لما عزله عن العراق، فمن ولي شيئاً فليحسن.

    وخوف يوسف خالداً وعماله، ووظف عليهم الأموال، وعذبهم حتى مات أكثرهم في يده: فوظف على أبان بن الوليد البجلي عشرة آلاف ألف، ووظف على طارق بن أبي زياد عامل فارس عشرين ألف ألف، ووظف على الزبير عامل أصبهان والري وقومس عشرين ألف ألف درهم، وعلى غيرهم ما دون ذلك، فاستخرج أكثر المال.
    وكان بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عامل خالد على البصرة، فهرب من سجن يوسف، فلحق بهشام، فكتب فيه يوسف إلى هشام فأشخصه إليه، فعذبه حتى قتله، وجعل داره بالكوفة سجنا واستصفى داره بالبصرة. ولما بلغ الحكم بن عوانة عامل السند ما فعل يوسف بعمال خالد أوغل في بلاد العدو، وقال: إما فتح يرضى به يوسف، وإما شهادة أستريح بها منه، فلقي العدو، فلم يزل يقاتل حتى قتل، وقد كان استخلف على الخيل عمرو ابن محمد بن القاسم الثقفي.
    ولما قتل الحكم بن عوانة بأرض السند تنازع خلافته عمرو بن محمد الثقفي وابن عرار، فكتب إلى يوسف بن عمر، وكتب بذلك إلى هشام، فكتب إليه هشام: إن كان عمرو بن محمد قد اكتهل فوله فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو، فولاه، وأرسل بعهده إليه، فأخذ ابن عرار، فحبسه وقيده. وبني عمرو بن محمد بن القاسم مدينة دون البحيرة سماها المنصورة، ونزلها في منزل الولاة. وكلب العدو، وملكوا ملكاً، ثم زحفوا إلى المنصورة فحصروها، فكتب عمرو إلى يوسف، فوجه إليه بأربعة آلاف، فانصرف عنه الملك، وقوض أمره، فتجهز للعدو وجعل على مقدمته معن بن زائدة الشيباني، وكبس عسكر ذلك الملك ليلاً، وصبر أصحابه، فقتل من العدو خلقاً عظيماً. وأشرف ذلك الملك، فمر به قوم من أصحابه ولم يعرفه المسلمون، فلما رأوه قالوا: الراه الراه، أي الملك، فاستنقذوه، ومر هاربا هو وأصحابه لا يلوي على شيء، واستقامت البلاد لعمرو، وكان معه في عسكره مروان بن يزيد ابن المهلب، فوثب في جماعة من القواد مايلوه على ذلك، حتى انتهب متاعه وأخذ دوابه، فخرج إليه عمرو ومعه معن بن زائدة وعطية بن عبد الرحمن، فهزمه، وفرق أصحابه، وهرب مروان، فنادى عمرو: الناس كلهم آمنون إلا ابن المهلب، فدل عليه فقتله. وأقدم هشام زيد بن علي بن الحسين، فقال له: إن يوسف بن عمر الثقفي كتب يذكر أن خالد بن عبد الله القسري ذكر له أن عندك ستمائة ألف درهم وديعة، فقال: ما لخالد عندي شيء! قال: فلا بد من أن تشخص إلى يوسف ابن عمر حتى يجمع بينك وبين خالد. قال: لا توجه بي إلى عبد ثقيف يتلاعب بي، فقال: لا بد من إشخاصك إليه، فكلمه زيد بكلام كثير، فقال له هشام: لقد بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة، وأنت ابن أمه. قال: ويلك! مكان أمي يضعني؟ والله لقد كان إسحاق ابن حرة وإسماعيل ابن أمه، فاختص الله عز وجل ولد إسماعيل، فجعل منهم العرب، فما زال ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله، ثم قال: اتق الله، يا هشام! فقال: أومثلك يأمرني بتقوى الله؟ فقال: نعم! إنه ليس أحد دون أن يأمر بها، ولا أحد فوق أن يسمعها.
    فأخرجه مع رسل من قبله، فلما خرج قال: والله إني لأعلم أنه ما أحب الحياة قط أحد إلا ذل. وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة، فإني رأيته رجلاً حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله.
    فلما قدم زيد الكوفة دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند أمير المؤمنين؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالداً! فأحضره وعليه حديد ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد ابن علي، فأذكر ما لك عنده! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه. فأقبل يوسف على زيد، وقال له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك. قال: فأستريح ثلاثا، ثم أخرج. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال: فيومي هذا. قال: ولا ساعة واحدة. فأخرجه مع رسل من قبله، فتمثل عند خروجه بهذه الأبيات:
    منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
    شرده الخوف وأزرى به ... كذلك من يكره حر الجلاد
    قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد

    فلما صار رسل يوسف بالعذيب انصرفوا، وانكفأ زيد راجعاً إلى الكوفة، فاجتمع إليه من بها من الشيعة، وبلغ يوسف بن عمر، فوثب بينهم وكانت بينهم ملحمة، ثم قتل زيد بن علي، وحمل على حمار، فأدخل الكوفة، ونصب رأسه على قصبة، ثم جمع فأحرق وذرى نصفه في الفرات ونصفه في الزرع، وقال: والله، يا أهل الكوفة، لأدعنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم. وكان مقتل زيد سنة 121.
    ولما قتل زيد، وكان من أمره ما كان، تحركت الشيعة بخراسان، وظهر أمرهم، وكثر من يأتيهم ويميل معهم، وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أمية، وما نالوا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة ورئيت المنامات وتدورست كتب الملاحم، وهرب يحيى بن زيد إلى خراسان، فصار إلى بلخ، فأقام بها متوارياً، وكتب يوسف إلى هشام بحاله، فكتب إلى نصر بن سيار بسببه، فوجه نصر جيشاً إلى بلخ، عليهم هدبة بن عامر السعدي، فطلبوا يحيى حتى ظفروا به، فأتوا به نصراً، فحبسه في قهندز مرو.
    وبلغ هشاماً اضطراب خراسان، وكثرة من بها، فكتب إلى يوسف بن عمر: ابعث إلي برجل له علم بخراسان فبعث إليه بعبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي، فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومن بها ممن يصلح أن يولاها، فسمي له جماعة من قيس وربيعة، فكان إذا سمى رجلاً من ربيعة قال: إن ربيعة لا يسد بها الثغور! فسمي نصر بن سيار الليثي، فقال: كأنه نصر وسيار، فقال: يا غلام اكتب عهده، فكتب العهد، وأمره أن يعاجل يوسف بن عمر، وكان نصر بن سيار قبل ذلك تولى كورة من كور خراسان، فعزل جعفر بن حنظلة وولي البلد.
    وكان يوسف أخذ عمال خالد فحبسهم، وكان ممن أخذ: عيسى بن معقل العجلي، وعاصم بن يونس العجلي، وكان أبو مسلم، واسمه إبراهيم بن عثمان، قبل أن يسميه محمد بن علي عبد الرحمن، يخدم عيسى بن معقل، وقد سمعهم يتكلمون في دعوة بني هاشم حتى فهم الأمر، وقد ارتحل سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب يريدون مكة، فدخلوا السجن إلى عيسى بن معقل، وعاصم بن يونس، فرأوا أبا مسلم يختلف إليهم، ويذاكرهم هذا الأمر، فأخرجوه معهم، وأدخلوه إلى محمد بن علي فكلمه، وقال: إني لأحسب هذا الغلام صاحبنا بل هو هو، فاقبلوا قوله، وانتهوا إلى أمره، واستوصوا به، فإنه صاحب الأمر لا شك فيه.
    وبعض أهل العلم بالدولة يقول: إن أبا مسلم لم يلحق محمد بن علي، إنما لقي ابنه إبراهيم بن محمد بن علي.
    وكان يزيد بن عبد الملك جعل ولاية العهد لابنه الوليد بن يزيد، فكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه وبين هشام، فدخل الوليد يوماً إلى هشام، فلم يجده في مجلسه، ووجد فيه خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقال له الوليد: من الرجل؟ متجاهلا به، فغضب ابن هشام، وقال: من لم يتم لجدك شرف إلا بمصاهرته. قال: وإنك لتقول هذا، يا ابن اللخناء! وتنازعا كلاماً قبيحاً، وخرج هشام، وقد سمع الكلام، فأمسكا، ولم يقم إليه الوليد، فقال له هشام: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالح. قال: ما فعلت طنابيرك؟ قال: مغلمة. قال: ما فعل جلساؤك جلساء السوء؟ قال: عليهم لعنة الله إن كانوا شرا من جلسائك. قال: أقيموه، فأخذ بيده، وأقيم من مجلسه.
    وكان هشام من أحزم بني أمية وأرجلهم وكان بخيلاً، حسوداً، فظاً، غليظاً، ظلوماً، شديد القسوة، بعيد الرحمة، طويل اللسان، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب والبقر، وكان الغالب عليه الأبرش ابن الوليد الكلبي، وصاحب شرطة كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه الربيع ابن زياد بن سابور، وحاجبه الحريش مولاه، وعمل الخز الرقم وغيره، والوشي والأرمني وأصناف الثياب، وكانت ولايته عشرين سنة إلا خمسة أشهر، وتوفي يوم الأربعاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول سنة 125، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، ومنع وكلاء الوليد بن يزيد من الخرائن، فلم يوجد له كفن حتى كفنه خادم له، وقيل: بل كفنه الأبرش الكلبي، فصلى عليه العباس بن الوليد، وقيل: بل الأبرش الكلبي، ودفن بالرصافة.

    وخلف من الولد عشرة: مسلمة، ويزيد، ومحمداً، وعبد الله، وسليمان، ومروان، ومعاوية، وسعيداً، وعبد الرحمن، وقريشاً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 105 إبراهيم بن هشام، سنة 106 هشام بن عبد الملك، سنة 107 إبراهيم بن هشام، وفي سني 108، 109، 110، 111 و112 إبراهيم أيضاً، سنة 113 سليمان ابنه، سنة 114 خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، سنة 115 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 116 الوليد بن يزيد بن عبد الملك، سنة 117 خالد بن عبد الملك بن الحارث... سنة 119 أبو شاكر مسلمة بن هشام، سنة 120 وسنة 121 وسنة 122 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 123 يزيد بن هشام، سنة 124 محمد بن هشام بن إسماعيل. وغزا بالناس في ولايته سنة 106، غزا معاوية بن هشام، وبعث بالوضاح صاحب الوضاحية فأحرق الزرع والقرى لأن الروم حرقوا المرعى، وغزا الصائفة اليسرى سعيد بن عبد الملك، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي اللان، سنة 107 معاوية أيضاً، سنة 108 مسلمة بن عبد الملك على الصائفة اليمنى، وعاصم بن يزيد الهلالي على الصائفة اليسرى، سنة 109 معاوية بن هشام، ومعه البطال على مقدمته، فافتتح خنجره، وغزا مسلمة الترك، فأخذ عليهم باب اللان، ولقي خاقان، سنة 111 معاوية بن هشام على الصائفة اليسرى، وسعيد بن هشام على الصائفة اليمنى، وسارت الترك إلى آذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو الطائي، فهزمهم، سنة 112 صار الترك إلى أرض أردبيل، فغزاهم الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقي ملك الترك، فقتله، وغزا معاوية بن هشام الروم فلم يمكنه دخول بلادهم، فرابط بالعمق من ناحية مرعش، سنة 114 معاوية بن هشام ومسلمة بن عبد الملك، سنة 115 معاوية وسليمان ابنا هشام، وعلى المقدمة عبد الله البطال، فلقي قسطنطين فأسره، وهزم الروم، سنة 116 معاوية بن هشام، سنة 117 معاوية وسليمان ابنا هشام، وغزا مروان بن محمد بلاد الترك... مروان بن محمد، سنة 121 مسلمة بن هشام بلغ ملطية، سنة 122 مروان ابن محمد ناحية أرمينية، وسليمان بن هشام ناحية ملطية، سنة 123 سليمان بن هشام الصائفة، ومروان بن محمد جيلان وموقان من أرض أرمينية، سنة 124 سليمان بن هشام، فلقي أليون طاغية الروم وأرطباس، فانصرف، ولم يكن بينهم حرب، سنة 125 الغمر بن يزيد بن عبد الملك.
    وكان الفقهاء في أيامه سالم بن عبد الله بن عمر الهيثم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب القرظي، نافعاً مولى عبد الله ابن عمر، عاصم بن عمر بن قتادة، محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووساً اليماني، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عطاء بن أبي رباح، عمرو بن دينار، عبد الله بن أبي نجيح، حبيب بن أبي ثابت، عبد الملك ابن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي، القاسم بن عبد الرحمن، عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، سماك بن حرب الذهلي، الحكم بن عيينة الكندي، حماد ابن أبي سليمان، أبا معشر زياد بن كليب، طلحة بن مصرف الهمداني، نعيم بن أبي هند الأشجعي، أشعث بن أبي الشعثاء، سعيد بن أسبوع، أبا حازم الأعرج، قتادة بن دعامة السدوسي، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يزيد بن عبد الله بن الشخير، عبد الرحمن بن جبير، مكحولا الدمشقي، راشد بن سعد المقرئ، ميمون بن مهران، أبا قبيل المعافري، يزيد بن الأصم.
    أيام الوليد بن يزيدوملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي، وأتته الخلافة وهو بدمشق بعد وفاة هشام بعشرة أيام، وكان ذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة 521، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ستا وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في السنبلة خمس درجات وعشرين دقيقة، والمريخ في الجدي أربع درجات، والزهرة في الجدي ست عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة، وعطارد في الحوت اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق، والرأس في الدلو إحدى عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة.
    وعزل الوليد عمال هشام وعذبهم أنواع العذاب، خلا يوسف بن عمر الثقفي عامل العراق، وذلك إنه وجد في ديوان هشام كتباً من العمال يقومون عزمه في خلع الوليد، إلا يوسف، فإنه أشار عليه ألا يفعل، فأقره على عمله، وكتب إليه في خالد بن عبد الله القسري، فلم يزل يوسف يعذبه...

    وعقد لابنه الحكم بولاية العهد بعده، وولاه دمشق، وعقد من بعده لعثمان ابنه، وولاه حمص، وضم إليه ربيعة بن عبد الرحمن الفقيه، وجعله قائماً بأمره.
    وعزل إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام، عن المدينة ومكة والطائف، وولى خاله يوسف بن محمد الثقفي المدينة ومكة.
    وكان نصر بن سيار لما أخذ يحيى بن زيد بن علي بن الحسين في أيام هشام صار به إلى مرو، فحبسه في قهندز مرو، وكتب إلى هشام بخبره، فوافق ورود كتابه موت هشام، فكتب إليه الوليد: أن خل سبيله، وقيل: بل احتال يحيى ابن زيد حتى هرب من الحبس، وصار إلى بيهق من أرض أبرشهر فاجتمع إليه قوم من الشيعة، فقالوا: حتى متى ترضون بالذلة؟ واجتمع معه نحو مائة وعشرين رجلاً، فرجع حتى صار إلى نيسابور، فخرج إليه عمرو بن زرارة القسري، وهو عامل نيسابور، فقاتل يحيى، فظهر يحيى عليه، فهزمه وأصحابه، وأخذوا أسلحتهم، ثم اتبعوهم حتى لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه. وسار يحيى يريد بلخ، فوجه إليه نصر بن سيار سلم بن أحوز الهلالي، فسار سلم حتى صار إلى سرخس وسار يحيى حتى صار إلى باذغيس، وسبق إلى مرو الروذ، فلما بلغ نصرا ذلك سار إليه في جموعه، فلقيه بالجوزجان فحاربه محاربة شديدة، فأتت نشابة فوقعت في يحيى، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وقاتل أصحابه بعده، حتى قتلوا عن آخرهم.
    وقدم في هذه السنة سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب، وهم رؤساء دعاة بني هاشم، على محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بأموال وهدايا، ومعهم أبو مسلم، فقال لهم محمد: لن تلقوني بعد وقتي هذا، وأنا ميت في سنتي هذه، وكان ذلك في أول سنة 125، وصاحبكم ابني إبراهيم مقتول، فإذا قضى الله فيه قضاءه، فصاحبكم عبد الله بن الحارثية، فإنه القائم بهذا الأمر، وصاحب هذه الدعوة الذي يؤتيه الله الملك، ويكون على يده هلاك بني أمية، وأخرجه إليهم حتى رأوه، وقبلوا يديه ورجليه، وقال لهم: إن عبد الرحمن صاحبكم، يعني أبا مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه القائم بهذه الدولة.
    وتوفي محمد بن علي في آخر سنة 125، وهو ابن سبع وستين سنة، فلما بلغ القوم وفاة محمد بن علي، قدموا على إبراهيم بأبي مسلم وأعلموه أنه صاحب أمرهم أمره عليهم، ثم قال لقحطبة بن شبيب: وأنت والله الذي تلقى نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، فتهزمهما، وتقاتل عساكرهما، ويفتح الله لك حتى تصير إلى الفرات لا ترد لك راية.
    فخرجوا إلى خراسان، وقد وقعت العصبية بين مضر واليمن، وذلك أن نصر بن سيار تحامل على اليمن وربيعة، وقدم المضرية، فوثب به جديع ابن علي الكرماني الأزدي، وكان رئيس الأزد يومئذ ورجلهم، وقال له: لا ندعك وفعلك، ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر فحبسه، فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف، ثم اجتمعوا عليه، ورام نصر أن يخدعه فيصير إليه، فلم يفعل، وكان في نصر بعض الخرق، فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد اجتمع رأيهما معه على نصر بن سيار، وثب به فحاربه، وكان له العلو على نصر، فمال أبو مسلم إلى الكرماني، فقال له: ادع إلى آل محمد ! وجعل يمايل أصحابه، ويدعوهم إلى ذلك، حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان.
    وكان عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، ويزيد بن عرار، لما قتل الحكم ابن عوانة عامل السند، تنازعا خلافته، فكتب هشام إلى يوسف بن عمر في ذلك، فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو بن محمد بن القاسم، فولاه، فلما ولي الوليد عزل عمرو بن محمد بن القاسم عن السند، وولي يزيد بن عرار، فغزا ثماني عشرة غزاة، وكان ميمون النقيبة.
    واضطربت البلدان كلها، وكان الوليد مهملا لأمره، قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملأه وقيان وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن أمور الناس، وشرب ومجون، فبلغ من مجونه أنه أراد أن يبني على الكعبة بيتاً يجلس فيه للهو، ووجه مهندساً لذلك، فلما ظهر هذا منه مع قتله خالد بن

    عبد الله القسري وتعذيبه إبراهيم ومحمد ابني هشام حتى ماتا، واستذمامه إلى الناس وإلى أهل بيته، ومن كان في ناحيتهم من العرب، استمال يزيد بن الوليد بن عبد الملك جماعة من أهل بيته، فمايلوه على خلع الوليد، وشايعه على ذلك بنو خالد بن عبد الله القسري وجماعة من اليمانية إلى البيعة ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، واجتمع إليه جماعة، وخرج مولى للوليد فعرفه الخبر، فضربه مائة سوط، وزحف إليه يزيد بن الوليد رويدا رويدا إلى قرية تعرف بالبخراء، فنزل قصراً بها بعساكره يتلو بعضها بعضا، فقاتلوه، فقاتلهم حتى قتل، فابتدره الناس بأسيافهم، فاحتزوا رأسه، وقطعوا يده، فنصب رأسه بدمشق.
    وكان قتله لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة 126، وكانت ولايته سنة وخمسة أشهر، وكان على شرطة عبد الرحمن بن حميد الكلبي، وعلى حرسه قطري مولاه، وحاجبه قطن مولاه، وخلف من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً: عثمان، ويزيد، والحكم، والعباس، وفهراً، ولؤياً، والعاص، وموسى، وقصياً وواصلا وذؤابة، وفتحا والوليد، وسعيداً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 125 محمد بن موسى الثقفي.
    أيام يزيد بن الوليد بن عبد الملكوملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأمه شاهفريد بنت فيروز بن كسرى، مستهل رجب سنة 621، بعد قتل الوليد بخمس، وكانت الشمس يومئذ في الحمل إحدى عشرة درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الحوت عشرين درجة، وزحل في السنبلة عشرين درجة، والمشتري في الجوزاء ثلاث درجات وخمسين دقيقة، والمريخ في الجوزاء خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في الجدي عشر درجات، وعطارد في الحمل إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة. ونقص الناس من إعطائهم، فسمي يزيد الناقص، واضطربت عليه البلدان، فكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين. وساعد العباس أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وسليمان بن هشام.
    وبايع لأخيه إبراهيم بن الوليد بولاية العهد من بعد ثلاثة أيام من ولايته، ووجهه إلى الأردن، وقد أمروا عليهم محمد بن عبد الملك، فوافقوه، فأرسل إليهم عبد الرحمن بن مصاد يقول لهم: علام تقتلون أنفسكم؟ أقبلوا إلينا نجمع لكم الدنيا والآخرة، وأنا أضمن لكل رجل منكم ألف دينار، فافترقوا.
    وكانت ولايته خمسة أشهر، والفتنة في جميع الدنيا عامة، حتى قتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد الحضرمي، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي، وأخرج أهل المدينة عاملهم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. وغلب على أمره يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وكان على شرطة يزيد بن الشماخ اللخمي، وعلى حرسه سلام مولاه، وحاجبه جبير مولاه، وكان في بيت مال الوليد يوم قتل سبعة وأربعون ألف ألف دينار، ففرقها يزيد عن آخرها، وكان قدرياً، وتوفي لانسلاخ ذي القعدة، وصلى عليه إبراهيم بن الوليد، ودفن بدمشق، وقيل إن أخاه إبراهيم سقاه السم.
    وأقام الحج في تلك السنة، وهي سنة 126، عمر بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقيل... إن الحجاج بن عبد الملك... ووثب ثابت بن نعيم الجذامي على مروان، وهو بأرمينية، فظفر به مروان، فمن عليه، وانصرف مروان من أرمينية، واستخلف عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، واستخلف على الباب والأبواب إسحاق بن مسلم العقيلي، ثم جمع أرمينية لإسحاق بن مسلم العقيلي.
    أيام إبراهيم بن الوليدثم ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد، يقال لها سعار، في اليوم الذي توفي فيه يزيد بن الوليد، فأقام أربعة أشهر، وقدم مروان بن محمد بن مروان من أرمينية خالعاً له، فلما صار بحران دعا إلى نفسه، فبايع له أهل الجزيرة سراً، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسروراً ابني الوليد بن عبد الملك معسكرين بحلب، فهزم عسكريهما، وأسرهما ثم مضى حتى أتى حمص وعليها عبد العزيز.

    وبلغ إبراهيم الخبر، فوجه إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلقي مروان ومن معه من أهل الجزيرة وقنسرين وحمص، فالتقوا بعين الجر من عمل دمشق، فتناوشوا القتال يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة 127 وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام وأصحابه، فلحقوا بإبراهيم، وأقبل مروان حتى نزل دير العالية، فبايع له أهل دمشق، ودخلها، فخلع إبراهيم نفسه، وبايع لمروان يوم الإثنين للنصف من صفر سنة 127، ولم يزل مع مروان حتى غرق بالزاب، في وقعة عبد الله بن علي.
    أيام مروان بن محمدبن مروان ودعوة بني العباس وملك مروان بن محمد بن مروان، وأمه أم ولد يقال لها ريا، في صفر سنة 127، وبايع له من بدمشق من بني أمية وغيرهم، وكتب إلى عمال البلدان فأتته كتبهم بالسمع والطاعة والانقياد، وأتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على المعصية، فسار إليهم، واستخلف بدمشق عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فحاصرهم حتى فتح المدينة، وهرب منه السمط بن ثابت بن الأصبغ بن ذوالة، وأسر معاوية بن عبد الله السكسكي.
    وأتاه الخبر أن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري قتل يوسف بن عمر الثقفي، وكان يوسف محبوسا، فلما رأى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك اضطراب أمر مروان بن محمد أمر يزيد بن خالد بن عبد الله القسري بالمضي إلى السجن، وأمره أن يقتل يوسف بن عمر، ويقتل عثمان والحكم ابني الوليد بن يزيد، ففعل ذلك.
    وأراد مروان أن يرجع، فأتاه الخبر أن الضحاك بن قيس الحروري قد غلب على ناحية العراق، وحارب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وإنه قد صار إلى الجزيرة، وجاز الموصل، فصار إلى نصيبين، وبها عبد الله بن مروان، فحاصره، وكان عامل إسحاق بن مسلم بالباب والأبواب رجلاً يقال له مسافر، وكان يرى رأي الخوارج، فكتب إليه الضحاك بعهده على أرمينية، وكان أهلها قتلوا عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي عامل أرمينية، فتوجه إليها، وصار مروان إلى حران، فابتنى بها منزلة في موضع يقال له: دباب البين، وبلغ الضحاك خبره، فأقبل نحوه، فمر بالموصل، فحصرها، ثم كره أن يطول الأمر به، فنفذ إلى نصيبين، فحصرها، ثم نفذ إلى حران حتى واقف مروان، فحاربه محاربة شديدة، وظفر الضحاك عليه مراراً حتى عزله سريره، وجلس عليه، ثم قتل الضحاك سنة 127، وافترق الخوارج فرقاً.
    وصار سليمان بن هشام بن عبد الملك ومن هرب من اليمانية من أصحاب يزيد ابن خالد بن عبد الله معهم، وسار سليمان بن هشام بن عبد الملك يريد الشام، فلقيه مروان بخساف، فهزمه، ومضى سليمان، وأصحاب الضحاك عليهم الخيبري، فسار في عسكر عظيم، فلقي مروان فقتله مروان، فولت الخوارج أمرها أبا الذلفاء الشيباني، فرجع بأصحابه إلى الموصل، واتبعه مروان، فقاتله شهراً، ثم انهزم أبو الذلفاء، فوجه مروان خلفه عامر بن ضبارة المري، فصار أبو الذلفاء إلى عمان، فقتل، قتله الجلندي بن مسعود الأزدي، فخرج أبو عبيدة خليفة الضحاك إلى الكوفة، فولى مروان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري العراق، فقدمها سنة 128، فقتل خليفة الضحاك، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن، فوجه إليه مروان بالرماحس بن عبد العزيز، وولي عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك المدينة ومكة.
    وقدم مكة ليقيم الحج، ووافت الحرورية، ومعهم أبو حمزة المختار بن عوف الحروري الأزدي، حتى وقفوا على جبل عرفات، وكان أبو حمزة من قبل عبد الله بن يحيى الكندي الذي يسمى طالب الحق، فلما وقفوا بعرفات أرعبوا الناس وأخافوهم، فأرسل إليهم عبد الواحد يعظم عليهم البلد الحرام والأيام العظام ويوم الحج الأكبر، فوادعوهم يوم عرفة وأربعة أيام، وصاروا إلى منى فعسكروا ناحية منها، فلما انصرفوا لحق عبد الواحد المدينة، فدعا الناس إلى الديوان، ووجه بالجيش وعليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان بقديد في صفر سنة 130، فقتل عبد العزيز ومن معه من أهل المدينة، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا عليهم الحرورية.

    وقدمت الحرورية المدينة لعشر بقين من صفر، وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وغلب أبو حمزة على المدينة، وخطبهم خطبة مشهورة، وكان أهل المدينة يصلون خلفه، ويعيدون الصلاة، ثم ساروا يريدون الشام، ولقيهم خيل لمروان عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فأوقعوا بهم بوادي القرى، فزحف الحرورية منهزمين إلى المدينة، فخرج إليهم أهل المدينة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ووافاهم ابن عطية، فانهزموا، فأتبعهم إلى مكة، ثم اتبعهم إلى اليمن حتى قتل عبد الله بن يحيى، ودنوا من صعدة فقتل فيهم حتى وطئ الناس عليهم، ثم دخلوا صنعاء، فأتاه كتاب مروان بتولية الموسم، فخرج، فلما صار في بعض الطريق توفي في عسكره.
    وأراد مروان أن ينفذ إلى العراق، فأتاه خبر أهل حمص انهم عصوا، فصار إليهم، فوضع عليها المنجنيق حتى هدم سورها، فطلبوا الأمان، فأمنهم إلا ثلاثة نفر لم يؤمنهم وقتلهم.
    وكان منصور بن جمهور لما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة العراق هرب حتى أتى السند، وكان ابن عرار عامل السند قرابة له، فصار خلف النهر، وأرسل إليه ابن عرار ألا تبرح مكانك! فرد عليه: إنما أردت المقام قبلك، فلا وصل الله رحمك، ولا قرب قرباك، وستعلم بعد، ثم عمل المراكب بسدوسان وحملها على الإبل حتى ألقاها في مهران، ثم لقي ابن عرار، فحاربه حتى هزمه إلى المنصورة، وحصره منصور بن جمهور، فطلب ابن عرار الأمان، فقال: لا أعطيك الأمان إلا حكمي، فنزل على حكمه، فأمر فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي، وأقام منصور بالمنصورة، وبعث أخاه منظوراً إلى قندابيل والديبل. ولم يزل منصور مقيما بالسند حتى ظهر أبو مسلم بخراسان، ووجه أبو مسلم برجل يقال له مغلس من أهل سجستان إلى السند، فلما أظلهم وثب أصحاب منظور أخي منصور بن جمهور، فقتلوه، وكتبوا إلى مغلس فأتاهم، فلقيه منصور بن جمهور، فقاتله، فهزمه، وأسر مغلس، فأتي به منصور، فقتله وقتل أكثر قتلة أخيه.
    واشتدت شوكة الكرماني بخراسان، ودامت الحرب بينه وبين نصر بن سيار، وظهر الكرماني على نصر بن سيار، وكان أبو مسلم الغالب على أمر الكرماني، فحدثني جماع
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:31 am

    وطلب مروان إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لما بلغه أن دعوة أبي مسلم له، وأنه الذي يؤهل لهذا الأمر. فحدث عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: كنت مع أبي جعفر عبد الله بن محمد بالحميمة، ومعه ابناه جعفر، ومحمد، وهما صبيان، فأنا أداعبهما وألاعبهما فقال لي: أي شيء تصنع بهذين الصبيين، أ ما ترى ما نحن فيه؟ فنظرت، فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، فقلت: دعني أخرج! فقال: تخرج من بيتي، وأنت ابن عمار بن ياسر؟ قال: فأخذوا بأبواب المسجد، وأشير لهم إلى إبراهيم ليأخذوه، وقد كان وصف لهم بصفة أبي العباس، وأبو العباس الموصوف بقتلهم، فلما أتي به إلى مروان قال: ليس هذه الصفة! فقال الرسول: قد والله رأيت الصفة، ولكن قلت: إبراهيم بن محمد، وهذا إبراهيم بن محمد، فردهم في طلب أبي العباس، فوجدوه قد تغيب، فأمر مروان بإبراهيم فغطى وجهه بقطيفة، حتى مات، وقيل: بل أدخل رأسه في جراب نوره حتى مات، وفيه يقول ابن هرمة:
    وكنت أحسبني جلدا فضعفني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
    فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مال ومسكين
    وأظهر أبو مسلم الدعوة لبني هاشم، وطلب نصر بن سيار منه المتاركة، وسأله الموادعة، فوجه إليه لاهز بن قريظ في جماعة من أصحابه، وكان لاهز ابن قريظ أحد النقباء، فأمره أن يحضر ليبايع، فدخل لاهز عليه فقال: أجب الأمير! ثم تلا: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين. فقال نصر: أدخل إلى بستاني وأخرج إليهم، فدخل إلى بستان له، فركب دوابه، ومضى هاربا، فمات بقرية يقال لها ساوة، وأخذ أبو مسلم لاهز بن قريظ، فضرب عنقه. وقدم إلى نيسابور في شهر رمضان، أو شوال، ووجه عماله، فاستعمل سباع بن معمر الأزدي على سمرقند، واستعمل أبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، وجعل أبا نصر مالك بن الهيثم الخزاعي على شرطه، ووجه محمد ابن الأشعث الخزاعي إلى الطبسين وفارس، ووجه الحسن بن قحطبة على مقدمته، ثم قدم قحطبة بن شبيب، ومعه عهد إبراهيم بن محمد بن علي، وسيره يعمل عليها، فأمضى أبو مسلم له ذلك ووجهه لقتال جند بني أمية، فسار قحطبة حتى أتى جرجان، فلقي نباتة بن حنظلة، فنشبت الحرب، فقتل نباتة، وهزم جنده، واحتوى على ما في عسكره، وصير الغنائم إلى خالد بن برمك، فقسمها بين أصحابه.
    وأقام قحطبة إلى غرة المحرم سنة 131، ثم وجه بابنه الحسن بن قحطبة إلى قومس على مقدمته، ولحقه فوجهه من الري إلى همذان، ووجه العكي إلى قم وأصبهان، وسار قحطبة حتى صار إليها وفيها عامر بن ضبارة المري، فأرسل إليه يدعوه إلى بيعة آل محمد، فأرسل إليه ابن ضبارة: يا علوج! أما والله إني لأرجو أن أقرنكم في الحبال! وكان في أربعين ألفاً من أهالي الشام، فواقعه قحطبة، فقتله، وقتل من كان معه من أصحابه، فلم ينج منهم إلا القليل، فهربوا إلى ابن هبيرة وهو إذ ذاك بجلولاء.
    وصار قحطبة إلى نهاوند وبها أدهم بن محرز الباهلي في جماعة ممن ضوى إليه، فحصرها قحطبة ثلاثة أشهر حتى أفنى أكثرهم ثم فتحها، وسار إلى حلوان، وكان قحطبة يقول: ما من شيء فعلته إلا وقد خبرني به الإمام إلا أنه أعلمني ألا أعبر الفرات.
    ووجه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد إلى شهرزور، فلقي عثمان بن زياد فهزمه واستباح عسكره.
    قال حميد بن قحطبة: حدثني أبي قال: دخلت مسجد الكوفة أيام بني أمية، وعلى فرو غليظ، فجلست إلى حلقة، وشيخ في صدر القوم يحدثهم، فذكر أيام بني أمية، وذكر السواد ومن يلبسه فقال. يكون ويكون، ويخرج رجل يقال له قحطبة، كأنه هذا الأعرابي، وأشار إلى، ولو أشاء أن أقول هو هو لقلت. قال قحطبة: فخفت على نفسي، فتنحيت ناحية، فلما انصرف كلمته، فقال: لو شئت أن أقول إنك أنت هو لقلت. فسألت عنه فقيل لي: هو جابر بن يزيد الجعفي.
    وكان ابن هبيرة بواسط العراق فتحصن بها، وأدخل الطعام والأنزال، وانصرف إليها فلال

    العساكر. وقدم قحطبة العراق فوافى به عسكرا ليزيد بن هبيرة، واستباحة، وصار إلى الزاب، وهو من الفلوجة العليا، على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة، فلقي يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 132، فاقتتلوا ساعة من الليل، ثم انهزم ابن هبيرة، حتى رجع إلى واسط، فتحصن بها، فلما فرغ قحطبة من قتاله قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: أيها الناس، أنا والله ما خرجنا إلا لإقامة الحق وإزالة دولة الباطل، وقد أعلمتكم أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أعلمني أن ألقى نباتة بن حنظلة الكلابي، وعامر بن ضبارة المري، فأهزمهما واستبيح عسكرهما، وأقتل مقاتلتهما، وأنبأتكم بذلك قبل كونه، وقد رأيتم صدق ما خبرتكم، وإن الإمام أعلمني أن لا أعبر الفرات، وإنكم تعبرونه، فلا يفقد من الجيش أحد غيري، وإنه والله لا كذب فيما قال فإذا فقدتموني فأمير الناس حميد بن قحطبة، فإن غاب فالحسن بن قحطبة، والسلام على من اتبع الهدى، ورحمة الله وبركاته.
    فلما كان السحر عبروا الفرات، وكان في أيام المد وكثرة الماء، فلما أصبحوا فقدوا قحطبة، فلم يعرفوا له خبراً، وقالوا: غرق، وقالوا: سقط عليه جرف، وقالوا: غار به فرسه، وكان أبو مسلم قد كتب إليه... من الكوفة: أني قد أعددت لك من المنازل، فكتب إليه قحطبة: أيها الوزير لئن لقيتك إذا إن لبني أمية بعد لبقاء.
    وانهزم ابن هبيرة بعد أن غرق قحطبة، فلما بلغ مروان الخبر قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمن سمع بميت يهزم حياً؟ وسار حميد بن قحطبة حتى دخل الكوفة بعد ما فقد قحطبة بأربع ليال، وقد أخذ محمد بن عبد الله القسري الكوفة لبني هاشم، وأظهر دعوتهم، وشرد من كان بها من بني أمية وأصحابهم، وأظهر السواد، وغلب سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب على البصرة وسود، ودعا إلى بني هاشم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، واستعمل العمال، ووجه الحسن بن قحطبة إلى ابن هبيرة، وأتبعه بمالك بن الهيثم، وأمرهما أن يحاصراه، فأناخ الحسن على المدينة الغربية، ومالك على الشرقية، ووجه هشام بن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة، وكان عامل أخيه على الأهواز، فقاتله حتى فض جمعه، ثم انهزم عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فلحق بسلم بن قتيبة الباهلي، وهو عامل يزيد بن عمر على البصرة.
    وقدم أبو العباس وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرم سنة 132، فصيرهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد في بني أود، وكتم أمرهم، فلم يطلع على خبرهم أحد، فأقاموا في تلك الدار شهرين، حتى لقي أبو حميد غلاماً لهم، فسأله عنهم، فأخبره بسوء ضعفهم، فصار إليهم وهم في، فقال: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فأشير له إلى أبي العباس، فسلم عليه بالخلافة، فمضى، فأحضر أصحابه، وأخرج أبا العباس، وبايع الناس له، فلما بلغ أبا سلمة الخبر جاءهم ركضا حتى لحقهم، فقال له: عجلتم، وأرجو أن يكون خيراً. وصار أبو العباس إلى المسجد، فخطب وصلى.
    ووجه أبو العباس عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لقتال مروان، فلقيه بالزاب بالقرب من الموصل، وإنما كان قصد مروان إلى الزاب لأن بني أمية كانت تروي في ملاحمها أن المسودة لا يجوز سلطانهم الزاب، فكانوا يتوهمون أنه زاب الموصل، فقصده مروان، وهو يرى أنه لا يجوزه، وإنما ذلك زاب بأقاصي الغرب، فحاربه عبد الله بن علي، فهزمه، ثم لم يزل في أثره، وهو منهزم لا يلوي على شيء، حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى الشام، فجعل لا يمر بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، حتى صار إلى دمشق، وهو مضمر أن يتحصن بها، فانتهبه أهل دمشق، ووثب عليه من بها من قيس، فدخلها عبد الله بن علي عنوة، وقتل الوليد بن معاوية بن مروان ابن عبد الملك، خليفة مروان بها، ومضى مروان إلى فلسطين هارباً، فلحقه عبد الله بن عبد الملك، فأسره عبد الله بن علي، وأسر معه عبد الله بن يزيد بن عبد الملك، فوجه بهما إلى أبي العباس، فصلبهما بالحيرة.

    وقدم صالح بن علي عاملاً على مصر، وقد هرب مروان إليها، فاتبعه، فألجأه إلى قرية بوصير من كورة أشمون من الصعيد، فلم يزل مواقفاً له، والحرب بينهما، ثم أرسل إليه مروان: متى ظفرت بهذا الأمر فأوصيك بالحرم خيراً فأرسل إليه صالح: يا جاهل! إن الحق لنا عليك في نفسك، ولك علينا في حرمك.
    وانصرف عبد الله بن علي راجعا إلى دمشق وصالح في قتال مروان، ثم قتل مروان في المعركة، وصاحب الجيش عمر بن إسماعيل الحارثي، وكانت مدة مروان في ولايته إلى أن قتل خمس سنين، وقتل في ذي الحجة سنة 132، وهو ابن أربع وستين سنة، وقيل: ثمان وستين سنة، وحز رأسه، فلما قور جاءه هر فأخذ لسانه، وحمل الرأس إلى أبي العباس، فلما وضع بين يديه قال: أيكم يعرف هذا؟ فقال سعيد بن عمرو بن جعدة: هذا رأس مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم، خليفتنا بالأمس. فأنكر الناس ذلك عليه، فقال أبو العباس: ما أراد الشيخ بهذا القول إلا الوفاء.
    وكان الغالب على مروان أبو حديدة السلمي، وإسماعيل بن عبد الله القسري، وإسحاق بن مسلم العقيلي، وعلى شرطة الكوثر بن الأسود الغنوي، وهو الذي قال له يوماً في قتاله: انزل، ويلك! فقاتل، فأبى أن يفعل، فقال مروان: والله لأسوءنك! فقال: وددت والله أنك تقدر على ذلك، وكان على حرسه سقلاب مولاه، وحاجبه سليم مولاه.
    وكان له من الولد الذكور أربعة: عبد الملك، وعبد الله، وعبيد الله، ومحمد، وكان عبد الله وعبيد الله ابنا مروان ليلة قتل مروان توجها نحو الصعيد، ثم صار إلى بلاد النوبة، وتلاحق بهما جماعة من أصحاب مروان، فصاروا زهاء أربعة آلاف، وتخلف عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بمصر، واستتر حتى دل عليه صالح بن علي.
    وخرج مع عبد الله وعبيد الله جماعة من نسائهم من البنات والأخوات وبنات العم ماشيات، هائمات على وجوههن، حتى مر رجل من أهل الشام بصبية ملقاة تنكر، وإذا هي بنت لمروان بنت ست سنين، فحملها معه حتى دفعها إلى عبد الله بن مروان.
    ووافى القوم بلاد النوبة فأكرمهم عظيم النوبة ثم قالوا: نقر في بعض هذه الحصون التي في بلاد النوبة، فلعلنا نتخذ منها معقلا، ونقاتل من يلينا من العدو، وندعو إلى طاعتنا لعل الله أن يرد علينا بعض ما أخذ منا. فقال لهم عظيم النوبة: إن هذه الأغربة، يريد السودان، كثير عددها، قليل سلبها، وإني لا آمن عليكم أن تصابوا فيقال: أنت قتلتهم. فقالوا: نحن نكتب لك كتاباً أنا وردنا بلادك، فأكرمت مثوانا، وأحسنت جوارنا، وجهدت ألا نبرح من عندك، فأبينا حتى خرجنا، ونحن لك شاكرون. ثم خرجوا، فأخذوا في بلاد العدو فكانوا ربما لقوا الجيش من الحبشة، فقاتلوهم حتى صاروا إلى بجاوة، فلقيهم عظيم البجة، فقاتلهم، وانصرفوا يريدون اليمن، فمروا في البلاد، وعرض لعبد الله وعبيد الله طريقان بينهما جبل، فأخذ كل واحد منهما في طريق، وهما يريان أنهما يلتقيان بعد ساعة، فسارا يومهما ذلك، ثم راما الرجوع فلم يقدرا عليه، وسارا أياماً، ثم لقي عبيد الله منسراً من مناسر الحبشة، فقاتلهم، وزرقه رجل منهم بمزراق، فقتل عبيد الله، واستأسر أصحابه، فأخذت الحبشة كل ما معهم، وتركوهم، فمروا في البراري على وجوههم عراة حفاة، حتى أهلكهم العطش، فكان الرجل يبول في يده ويشربه، ويبول ويعجن به الرمل ويأكله، حتى لحقوا عبد الله بن مروان وقد ناله من العرى والشدة أكثر مما نالهم، ومعه عدة من حرمه عراة حفاة ما يواريهن شيء، قد تقطعت أقدامهن من المشي وشربن البول حتى تقطعت شفاههن، حتى وافوا المندب، فأقاموا بها شهراً، وجمع الناس لهم شيئاً، ثم خرجوا يريدون مكة في زي الحمالين.
    وأقام الحج في أيام مروان في سنتي 127و128 عبد العزيز بن عمرة بن عبد العزيز، سنة 129 عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، ووافى معه الحج أبو حمزة المختار بن عوف الإباضي، صاحب الأعور عبد الله بن يحيى الكندي، والذي يسمي نفسه طالب الحق، سنة 130 عبد الملك بن محمد بن مروان، سنة 131 محمد بن عبد الملك بن عطية السعدي، وقيل هي آخر حجة لبني أمية، ولم يغز في أيام مروان.

    وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبا الحويرث المرادي، عمرو بن دينار، صالح بن كيسان، أبا الزناد عبد الرحمن ابن ذكوان، عبد الله بن أبي نجيح، قيس بن سعد، أبا الزبير محمد بن مسلم، إبراهيم بن ميسرة، عبد الملك بن عمير الليثي، سلمة بن كميل، جابر بن يزيد الجعفي، غيلان بن جامع المحاربي، أبا بكر بن نسر بن حرب، يزيد بن عبد الله بن الشخير، سالم الأفطس، عبد الكريم الحنفي.
    أيام أبي العباس السفاحبويع عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكنيته أبو العباس، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي، يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132، ومن شهور العجم في تشرين الآخر.
    وكانت الشمس يومئذ في القوس عشر دقائق، والقمر في الدلو إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في العقرب اثنتين وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الأسد سبعاً وعشرين درجة، والزهرة في الميزان ثلاثين درجة، وعطارد في العقرب إحدى عشرة درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الميزان خمساً وأربعين دقيقة، وكانت بيعته في الكوفة في دار الوليد بن سعد الأزدي. وقيل: إن أبا سلمة إنما أخفى أبا العباس وأهل بيته بها، ودبر أن يصير الأمر إلى بني علي بن أبي طالب، وكتب إلى جعفر بن محمد كتابا مع رسول له، فأرسل إليه: لست بصاحبكم، فإن صاحبكم بأرض الشراة، فأرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه إلى ذلك، فقال: أنا شيخ كبير وابني محمد أولى بهذا الأمر، وأرسل إلى جماعة بني أبيه، وقال: بايعوا لابني محمد، فإن هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إلي فقال جعفر بن محمد: أيها الشيخ! لا تسفك دم ابنك، فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار الزيت.
    وأقام أبو سلمة ينتظر انصراف رسله إليه، ومر أبو حميد، فلقي غلام أبي العباس، فدله على موضعه، فأتاه فسلم عليه بالخلافة، ثم خرج فأخبر أصحابه بموضعه، فمضى معه ستة، وهم: أبو الجهم بن عطية، وموسى بن كعب، وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وأبو شراحيل، وعبد الله بن بسام، وأبو حميد سابعهم سراً من أبي سلمة، فسلموا على أبي العباس بالخلافة، وألبسه أبو حميد السواد، وأخرجه، فمضى به إلى المسجد الجامع، وبلغ الخبر أبا سلمة، فأتى ركضا حتى لحقهم، فقال: إني إنما كنت أدبر استقامة الأمر وإلا فلا أعمل شيئاً فيه.
    وقد قدمنا ذكر بيعة أبي العباس في أيام مروان، ووصفنا ما عمل من وجه لمحاربة مروان، ووصلنا من الخبر بذلك إلى قتل مروان ما يغني عن إعادته. وكان من قدم إلى الكوفة من بني هاشم اثنين وعشرين رجلاً، منهم: داود، وسليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بن داود، وجعفر، ومحمد ابنا سليمان، والفضل، وعبد الله ابنا صالح، وأبو العباس، ومحمد ابنه، وجعفر، ومحمد ابنا المنصور، وعيسى بن موسى بن محمد، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا إبراهيم، ويحيى بن محمد، والعباس بن محمد. ولما بويع أبو العباس صعد المنبر في اليوم الذي بويع فيه، وكان حييا، فارتج عليه، فأقام مليا لا يتكلم، فصعد داود بن علي، فقام دونه بمرقاة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، وقال: أيها الناس! الآن تقشعت حنادس الفتنة، وانكشف غطاء الدنيا، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وعاد السهم إلى النزعة، وأخذ القوس باريها، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والتعطف عليكم، ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير، فنحكم في الخاصة والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنه والله أيها الناس! ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أولى به من علي بن أبي طالب، وهذا القائم خلفي، فاقبلوا، عباد الله، ما آتاكم بشكر، واحمدوه على ما فتح لكم، أبدلكم

    بمروان عدو الرحمن، حليف الشيطان، بالفتى المتمهل الشاب المتكهل، المتبع لسلفه والخلف من أئمته وآبائه، الذين هدى الله، فبهداهم اقتدى مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وأبواب الرحمة، ومفاتيح الخير، ومعادن البركة، وساسة الحق، وقادة العدل. ثم نزل فتكلم أبو العباس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ووعد من نفسه خيراً ثم نزل.
    وولي أبو العباس الكوفة داود بن علي، فكان أول من ولاه أبو العباس، ووجه بأخيه أبي جعفر إلى خراسان لأخذ البيعة على أبي مسلم، فصار إلى مرو في ثلاثين فارساً، فلم يحتفل به أبو مسلم، ولم يلتقه، واستخف به، فانصرف واجدا عليه، وشكاة إلى أبي العباس وأعلمه ما نال منه، وكثر عليه في بابه، فقال أبو العباس: فما الحيلة فيه، وقد عرفت موضعه من الإمام ومن إبراهيم، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها؟ وقدم أبو مسلم على أبي العباس، فأكرمه وأعظمه، ولم يذكر له من أمر أبي جعفر شيئاً. ودخل إليه يوماً من الأيام، وأبو جعفر جالس معه، فسلم عليه وهو قائم، ثم خرج ولم يسلم على أبي جعفر، فقال له أبو العباس: مولاك مولاك لم لا تسلم عليه؟ يعني أبا جعفر. فقال: قد رأيته، ولكنه لا يقضي في مجلس الخليفة حق أحد غيره.
    ولما قتل صالح مروان بن محمد وجه برأسه إلى أبي العباس، وحوى خزائنه وأمواله، وحمل أبا عثمان، ويزيد بن مروان، ونسوة من آل مروان وبناته، فلما صرن إلى الكوفة أطلق النساء وحبس الرجال، وأخذ عبد الله بن مروان بمكة، فحمل أيضاً، وحبس مع سائر أهله.
    وولي أبو العباس داود بن علي الحجاز، فقدم، وعامل مروان الوليد ابن عروة بن عطية السعدي مقيم بمكة لم يعلم بأن الناس بايعوا أبا العباس، فلما علم هرب، وقدم داود فخطب خطبة له مشهورة ذكرهم فيها ما فضلهم الله به، فظلم من ظلمهم، ثم قال: إنما كانت لنا فيكم تبعات وطلبات، وقد تركنا ذلك كله، وأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم، وصغيركم وكبيركم، وقد غفرنا التبعات، ووهبنا الظلامات، فلا ورب هذه البنية لا نهيج أحداً! وضرب بيده إلى الكعبة، فبينا هو يخطب إذ قام سديف بن ميمون، فقال: أصلح الله الأمير! أدننى منك، وأذن لي في الكلام! فقال: هلم! فصعد المنبر حتى كان دون داود بمرقاة، ثم أقبل على الناس بوجهه، فحمد الله، وصلى على محمد ثم قال: أ يزعم الضلال، خطئت أعمالهم، إن غير آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتراثه، ولم، وبم معاشر الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، والورثة للسلب، مع ضربهم في الفيء لجاهلكم، وإطعامهم في اللاواء جائعكم، وأيمانهم بعد الخوف سائلكم؟ لم ير مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الأمة بواجب حق الحرمة، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلده ما بين عينيه يوم خيبر، لا يرد له أمراً، ولا يعصي له قسماً. إنكم والله، معشر قريش، ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار الله لكم طرفة عين قط. ثم نزل، فاستتم داود خطبته ثم نزل.
    فلما انقضى الموسم وجه داود إلى قوم كانوا بمكة من بني أمية، فقتل جماعة منهم، وأوثق جماعة منهم في الحديد، ووجههم إلى الطائف، فقتلوا هنالك، وحبس خلقاً من الخلق، فماتوا في حبسه، وصار إلى المدينة ففعل مثل ذلك، ولم يقم بالمدينة إلا شهرين حتى توفي.
    وبلغ أبا العباس عن أبي سلمة الخلال أمور أنكرها، وذكر له تدبيره وما كان عليه، وتأخيره له، والتماسه صرف الدولة إلى بعض الطالبيين، وكتب إليه أبو مسلم من خراسان أن اقتل أبا سلمة، فإنه العدو الغاش، الخبيث السريرة، فكتب إليه أبو العباس: أن وجه أنت من يقتله، وكره أبو العباس أن يوحش أبا مسلم بقتله، أو يوجد سبيلا إلى الاحتجاج به عليه، فوجه أبو مسلم مراد بن أنس الضبي، فجلس على باب أبي العباس وكان يسمر عنده، فلما خرج ثار إليه فضرب عنقه. وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يكتب إليه: للأمير حفص بن سليمان، وزير آل محمد من أبي مسلم أمين آل محمد. فقال سليمان ابن مهاجر لما قتل أبو سلمة:
    إن الوزير، وزير آل محمد، ... أودي، فمن يشناك كان وزيرا

    ووجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط، وكان الحسن بن قحطبة محاصرا ليزيد بن عمر بن هبيرة، وأمره بمجادته، فحوصر أحد عشر شهراً، وكان معه جماعة من قواد مروان وأصحابه، وممن كان مع عامر بن ضبارة، ونباتة بن حنظلة، الذين قتلهم قحطبة، وكان يزيد قد استعد لحصار سنتين، وأدخل الأقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل، فصدقوه المحاربة، وطلب الأمان ووجه السفراء، فأجيب إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان، وشرط له فيه ما سأل. وختمه أبو العباس. وخرج ابن هبيرة حتى صار إلى أبي جعفر، فبايع ثم رجع إلى موضعه، وكان يركب كل يوم في ألف فارس وألف راجل، فقال بعض أصحاب أبي جعفر له: أصلح الله الأمير! إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر. فقال لأبي غسان حاجبه: قل لابن هبيرة فليقلل من جمعه! فركب إليه في خمسمائة راجل، فقال له الحاجب: كأنك تأتيناً مباهياً، فركب إليهم في ثلاثين فارساً، وثلاثين راجلاً، فكان أبو جعفر يقول: ما رأيت أنبل من ابن هبيرة، ولا أتيه، إن كان ليدخل إلي، فيقول: كيف أنت يا هذا، أو حالك، وكيف ما يأتيك عن صاحبك؟ فإن كنت لأحدثه فيقول: أيها لله أبوك! ثم يتداركها فيقول: أصلح الله الأمير! إني قريب عهد بإمارة، وكان الرجل يحدثني، فأقول بهذا ونحوه. وقال له يوماً: حدثني! فقال: لأمحضنك النصيحة محضاً، إن عهد الله لا ينكث وعقدته لا تحل، وإن إمارتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها.
    ووجدت كتب لابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن حسن يعلمه أن يبايع له، وأن قبله أموالاً وعدة وسلاحاً، وأن معه عشرين ألف مقاتل، فأنفذت الكتب إلى أبي العباس، فقال أبو العباس: نقض عهده، وأحدث ما أحل به دمه، فكتب إلى أبي جعفر: أن اضرب عنقه، فإنه غدر، ونكث، ونقض العهود، وكثرت كتبه بذلك، وكتب أبو مسلم من خراسان يحرض على قتله، ويخبر أن الأمر لا يستقيم ما كان حيا، وإنه ممن لا يصلح للاستبقاء. وقال أبو جعفر للحسن بن قحطبة الطائي: أن أمير المؤمنين قد أمر بقتل هذا الرجل، فتول ذلك! فقال له الحسن: إن قتلته كانت العصبية بين قومي وقومه، والعداوة، واضطرب عليك من بعسكرك من هؤلاء وهؤلاء، ولكن أنفذ إليه برجل من مضر يقتله. فوجه إليه بخازم بن خزيمة التميمي، فأتاه في جماعة، فوافاه وهو جالس في رحبة القصر بواسط، فلما رآهم قال: أقسمت بالله إن في وجوه القوم لغدرة! فلما دنوا منه قام ابنه داود في وجوههم، فضربه بعضهم بالسيف فجدله، وصاروا إلى يزيد فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه، ثم تتبعوا قواده وأصحابه، فقتلوهم عن آخرهم.
    وخرج شريك بن شيخ المهري ببخارى فقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، أن نسفك الدماء، ونعمل غير الحق. فوجه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي، فقاتله، فقتله.
    وخرج أبو محمد السفياني، وهو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بما لديه، وخرج محمد بن مسلمة بن عبد الملك بحران، وحاصر موسى بن كعب، وكان عامل أبي جعفر، وأبو جعفر يومئذ عامل الجزيرة، ورماها بالمنجنيق، وحرق أبوابها، وكان ذلك سنة 133.
    ثم بلغ محمد بن مسلمة قتل أبي محمد السفياني وقتل أبي الورد بن كوثر ابن زفر، فانصرف عنها، وتفرق جمعه، واتبعه موسى بن كعب، فقتل خلقاً من أصحابه، وتعمد عدة مدائن من الجزيرة.
    وأقام إسحاق بن مسلم العقيلي بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصر له، وقيل: لم يحاصره أبو جعفر، ولكن عبد الله بن علي حاصره، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فلا أدعها أبداً حتى أعلم أن صاحبها قد مات، أو قتل.
    وأرسل إليه أبو جعفر يقول: إن مروان قد قتل، فقال: حتى أتبين ذلك، فلما صح عنده أنه قتل طلب الأمان وأعطيه، وصار مع أبي جعفر، وكان عظيم المنزلة عنده.
    وانصرف عبد الله بن علي إلى فلسطين بالسبب الذي شرحناه من خبره فيما شرحنا من خبر مروان، فلما صار بنهر أبي فطرس، بين فلسطين والأردن، جمع إليه بني أمية، ثم أمرهم أن يغدوا عليه لأخذ الجوائز والعطايا، ثم جلس من غد، وأذن لهم، فدخل عليه ثمانون رجلاً من بني أمية، وقد أقام على رأس كل رجل منهم رجلين بالعمد، وأطرق ملياً، ثم قام العبدي فأنشد قصيدته التي يقول فيها:
    أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من كلاب النار

    وكان النعمان بن يزيد بن عبد الملك جالساً إلى جنب عبد الله بن علي، فقال له: كذبت يا ابن اللخناء! فقال له عبد الله بن علي: بل صدقت يا أبا محمد، فامض لقولك! ثم أقبل عليهم عبد الله بن علي، فذكر لهم قتل الحسين وأهل بيته، ثم صفق بيده فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتى أتوا عليهم، فناداه رجل من أقصى القوم:
    عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
    فالقرابات بيننا واشجات ... محكمات القوى بعقد شديد
    فقال: هيهات! قطع ذلك قتل الحسين! ثم أمر بهم، فسحبوا، فطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام، فأكل، فقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان قد دخل معهم... قال: رجوت أن ينالوا خيراً، فنال معهم، فقال عبد الله بن علي:
    ومدخل رأسه لم يدنه أحد ... بين الفريقين حتى لزه القرن
    اضربا عنقه. وقدم عبد الله بن علي دمشق في شهر رمضان سنة 132، فحاصرها، واستغاث الناس، ووجهوا إليه بيحيى بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج إليه، فسأله الأمان، فأجابه إلى ذلك، فدخل فنادى في الناس الأمان، فخرج خلق من الخلق، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا، أيها الأمير، كتاب الأمان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، فإذا بالسور قد غشيه المسودة، فقال له: قد دخلتها قسراً فقال يحيى: لا والله، ولكن غدراً. فقال عبد الله: لو لا ما أعرف من مودتك لنا، أهل البيت، لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم، فقال: يا غلام خذ هذا العلم فاركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن. فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد.
    ونادى المنادي بعد أن قتل خلق كثير من الخلق: الناس آمنون، إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن معاوية، وأبان بن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكرياء.
    وصار عبد الله بن علي إلى المسجد الجامع، فخطبهم خطبة مشهورة يذكر فيها بني أمية وجورهم وعداوتهم، وانهم اتخذوا دين الله هزؤاً ولعباً، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمأثم، وما ساروا به في أمة محمد من تعطيل الأحكام وازدراء الحدود والاستئثار بالفيء، وارتكاب القبيح، وانتقام الله منهم، وتسليط سيف الحق عليهم، ثم نزل.
    ويقال إن أبا العباس كتب إليه: خذ بثأرك من بني أمية، ففعل بهم ما فعل، ووجه فنبش قبور بني أمية، فأخرجهم وأحرقهم بالنار، فما ترك منهم أحداً، ولما صار إلى رصافة أخرج هشام بن عبد الملك، ووجده في مغارة على سريره، قد طلى بماء يبقيه، فأخرجه، فضرب وجهه بالعمود، وأقامه بين العقابين فضربه مائة وعشرين سوطا، وهو يتناثر، ثم جمعه فحرقه بالنار. وقال عبد الله عند ذلك: إن أبي، يعني علي بن عبد الله، كان يصلي يوماً، وعليه إزار ورداء، فسقط الرداء عنه، فرأيت في ظهره آثار السياط، فلما فرغ من صلاته قلت: يا أبة! جعلني الله فداءك، ما هذا؟ فقال: إن الأحول، يعني هشاماً، أخذني ظلماً، فضربني ستين سوطاً، فعاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين.
    وخرج حبيب بن مرة المري بالحوران فبيض ونصب رجلاً من بني أمية فزحف إليه عبد الله بن علي فقتله وفرق جمعه.
    وكان عامل مروان على إفريقية عبد الرحمن بن حبيب العقبي فقدمها سنة 127 ولم يزل مقيماً بها حتى قتل مروان فلما علم أهل إفريقية بقتل مروان وثبت عليه جماعة من أهل البلد منهم عقبة بن الوليد الصدفي من ناحية... وتفرقت بنو أمية بعد قتل مروان فخلف منهم بإفريقية جماعة فصاروا إلى عبد الرحمن بن حبيب فأقام عبد الرحمن على محاربة أصحاب أبي العباس فوثب به أخوه إلياس بن حبيب فدعا إلى بني العباس فبايعه الناس وأخذ من صار إلى إفريقية من بني أمية فحبسهم وكتب بخبرهم إلى أبي العباس.
    ووثب أهل الموصل على عاملهم فانتهبوه وأخرجوه فولى أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي الموصل وضم إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان فقدمها في سنة 133 فقتل من أهلها خلقا عظيما وقيل إنه اعترض الناس في يوم جمعة فقتل ثمانية عشر ألف إنسان من صليب العرب ثم قتل عبيدهم ومواليهم حتى أفناهم فجرت دماؤهم فغيرت ماء دجلة فلم يعرف لأهل الموصل وثوب إلى هذه الغاية.

    وولي أبو العباس محمد بن صول أرمينية فسار إليها في خلق عظيم ومسافر بن كثير متغلب على البلد وكان خليفة إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان فحاربه محمد بن صول حتى قتله واستولى على أرمينية وصد أهل البيلقان إلى قلعة الكلاب وأسلموا المدينة ورئيسها يومئذ ورد بن صفوان السامي من ولد سامة بن لؤي وجمعوا إليهم لفيفا من الصعاليك وغيرهم بقلعة الكلاب فوجه إليهم محمد بن صول صالح بن صبيح الكندي فحاصرهم وقتل منهم خلقاً عظيماً.
    ووجه أبو العباس إلى السند موسى بن كعب التميمي ومنصور بن جمهور متغلب عليها فنفذ موسى في عشرين ألف مقاتل فصار إلى قندابيل فأقام بها حينا ثم كاتب موسى من كان مع منصور من أصحاب... وكاتبهم قبائلهم وزحف موسى حتى أتى منصوراً فانهزم منه ومر في مفازة وأدركه فقتله.
    وانتقل أبو العباس من الحيرة فنزل الأنبار واتخذ بها مدينة سماها الهاشمية سنة 134 واشترى من الناس أشرية كثيرة بني فيها وأقطعها أهل بيته وقواده ثم رفع إليه أهل تلك الأرضين والمنازل انهم لم يقبضوا أثمانها فقال: هذا بناء أسس على غير تقوى وأمر فضربت مضاربه بظاهرها وبريها حتى استوفى القوم أثمان أرضهم ثم عاد إلى قصره.
    وولى أبو العباس أبا جعفر أخاه الجزيرة والموصل والثغور وأرمينية وآذربيجان فخرج حتى صار إلى الرقة واختط الرافقة على شط الفرات وهندسها له أدهم بن محرز فولى الحسن بن قحطبة الطائي الجزيرة وولى يزيد بن أسيد السلمي أرمينية ثم عزله وولي الحسن بن قحطبة أرمينية فلم يزل عليها أيام أبي العباس.
    وكان سليمان بن هشام بن عبد الملك قد استأمن إلى أبي العباس فقدم معه بابنين له فأكرمه أبو العباس وبره وأجلسه وابنيه على النمارق والكراسي فكان أبو العباس يجلس بالعشيات ويأذن لخواصه وأهل بيته فدخل عليه أبو الجهم ليلة وقد أذن لأهله وخواصه فقال له: إن أعرابيا أقبل يوضع على ناقته حتى أناخها بالباب وعقلها ثم جاءني وقال: استأذن لي على أمير المؤمنين فقلت: اذهب وضع عنك ثياب سفرك وعد علي سأستأذن عليه. فقال: إني آليت ألا أضع عني ثوبا ولا أحل لثاما حتى أنظر إلى وجهه. قال: فهل أنبأك من هو قال: نعم زعم أنه سديف مولاك فقال: سديف ايذن له فدخل أعرابي كأنه محجن فوقف فسلم عليه بأمره المؤمنين ثم تقدم فقبل بين يديه ورجليه ثم تأخر فوقف مثله ثم اندفع فقال:
    أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
    يا أمير المطهرين من الرج ... س ويا رأس منتهى كل رأس
    أنت مهدي هاشم وهداها ... كم أناس رجوك بعد إياس
    لا تقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس
    أفنها أيها الخليفة وأحسم ... عنك بالسيف شافه الأرجاس
    أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
    ولقد ساءني وساء قبيلي ... قربهم من نمارق وكراسي
    خوفهم أظهر التودد منهم ... وبهم منكم كحز المواسي
    واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
    والقتيل الذي بحران أمسى ... رهن رمس في غربة وتناسي
    نعم كلب الهراش مولاك لو لا ... حله من حبائل الإفلاس
    فقام سليمان بن هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن مولاك هذا يحرضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابني وقد تبينت والله أنك تريد أن تغتالنا. فقال: لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على غير غيلة فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك. يا أبا الجهم. أخرجه وأخرج ابنيه فاضرب أعناقهم وأتني برؤوسهم فخرج فضرب أعناقهم وأتاه برؤوسهم.

    وقدم عبد الله بن الحسن بن الحسن على أبي العباس ومعه أخوه الحسن ابن الحسن بن الحسن فأكرمه أبو العباس وبره وآثره ووصله الصلات الكثيرة ثم بلغه عن محمد بن عبد الله أمر كرهه فذكر ذلك لعبد الله بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين ما عليك من محمد شيء تكرهه وقال له الحسن بن الحسن أخو عبد الله بن الحسن: يا أمير المؤمنين! أتتكلم بلسان الثقة والقرابة أم على جهة الرهبة للملك والهيبة للخلافة فقال: بل بلسان القرابة. فقال: أرأيت يا أمير المؤمنين إن كان الله قضى لمحمد أن يلي هذا الأمر ثم أجلبت وأهل السموات والأرض معك أكنت دافعاً عنه قال: لا قال: فإن كان لم يقض ذلك لمحمد ثم أجلب محمد وأهل السموات والأرض معه أيضرك محمد قال: لا والله ولا القول إلا ما قلت. قال: فلم تنغص هذا الشيخ نعمتك عليه ومعروفك عنده قال: لا تسمعني ذاكراً له بعد اليوم.
    وبلغ أبا العباس أن محمد بن عبد الله قد تحرك بالمدينة فكتب إلى عبد الله ابن الحسن في ذلك وكتب في الكتاب:
    أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
    فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
    وكيف يريد ذاك وأنت منه ... بمنزلة النياط من الفؤاد
    وكيف يريد ذاك وأنت منه ... وزندك حين يقدح من زناد
    وكيف يريد ذاك وأنت منه ... وأنت لهاشم رأس وهاد
    وطفئ أمر محمد في خلافة أبي العباس فلم يظهر منه شيء وكان متى بلغ أبا العباس عنه شيء ذكر ذلك لعبد الله فيقول: يا أمير المؤمنين! أنا نحميها بكل قذاة يخل ناظرك منها فيقول: بك أثق وعلى الله أتوكل. وكان أبو العباس كريماً حليماً جواداً وصولاً لذوي أرحامه. حدثني محمد بن علي بن سليمان النوفلي عن جده سليمان قال: دخلنا على أبي العباس جماعة من بني هاشم فأدنانا حتى أجلسنا معه ثم قال: يا بني هاشم! احمدوا الله إذ جعلني فيكم ولم يجعلني بخيلاً ولا حسوداً. واستأذن أبو مسلم في القدوم فأذن له فقدم من خراسان في سنة 136 فلما حضر وقت الحج استأذنه فأذن له وحج معه أبو جعفر المنصور فلما خرجا اشتدت بأبي العباس العلة فقيل له: صير ولاية عهدك إلى أبي جعفر فمات في علته بعد نفوذه إلى الحج.
    وكان الغالب عليه أبو الجهم بن عطية الباهلي وكان له سمار وجلساء منهم: أبو بكر الهذلي وخالد بن صفوان وعبد الله بن شبرمة وجبلة بن عبد الرحمن الكندي وكان على شرطته عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي وعلى حرسه أبو بكر بن أسد بن عبد الله الخزاعي وحاجبه أبو غسان مولاه وكان قاضيه عبد الرحمن بن أبي ليلى وابن شبرمة.
    ولما اشتدت علته قدم عليه وفدان أحدهما من السند والآخر من إفريقية فلما بلغه قدومهما قال: أنا ميت بعد ثلاث. قال عيسى بن علي فقلت: بل يطيل الله بقاءك فقال: حدثني أخي إبراهيم عن أبي وأبيه عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده: أنه يقدم علي في مدينتي هذه في يوم واحد وافدان: أحدهما وافد السند والآخر وافد أهل إفريقية فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أغيب في لحدي ويورث الأمر بعدي. ثم نهض وقال: لا ترم مكانك حتى أخرج إليك.
    قال: فلم أزل بمكاني حتى سلم المؤذنون في وقت صلاة العصر بالخلافة فخرج إلى رسوله يأمرني بالصلاة بالناس فدخلت فلم يخرج إلى أن سلم المؤذنون لوقت صلاة العشاء فخرج إلى رسوله يأمرني بالصلاة بالناس ففعلت ذلك ثم أتيت مكاني إلى إدراك الليل فلما فرغت من قنوتي خرج إلي ومعه كتاب معنون: من عبد الله ووليه إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والأولياء وجميع المسلمين ثم قال: يا عم إذا خرجت نفسي فسجني بثوبي واكتم موتي حتى يقرأ هذا الكتاب على الناس فإذا قرئ فخذ ببيعة المسمى فيه فإذا بايع الناس فخذ في أمري وجهزني وصل علي وادفني. فقلت: يا أمير المؤمنين فهل وجدت علة فقال: وأية علة أقوى من الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كذبت ولا كذبت ولا كذبت خذ هذا الكتاب وامض راشداً.

    واعتل من ليلته وتوفي يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136 وهو ابن ست وثلاثين سنة وقيل: لم يبلغ تلك السن وذلك أنه ولد في سنة 105 في أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان وصلى عليه إسماعيل بن علي وقيل عيسى بن علي ودفن في الأنبار في قصره وكانت ولايته أربع سنين وتسعة أشهر وخلف ابنا لم يكن بلغ وابنته ريطة امرأة المهدي التي حرمت على جميع خلفاء بني هاشم إلا زوجها.
    وأقام الحج للناس في أيامه سنة 132 داود بن علي سنة 133 زياد بن عبيد الله الحارثي سنة 134 عيسى بن موسى سنة 135 سليمان بن علي.
    وغزا بالناس في أيامه سنة 133 أقبل طاغية الروم وهو قسطنطين حتى أناخ على ملطية فحصرها فصولح عنها وزحف إليه موسى بن كعب التميمي فلم يكن بينهما لقاء وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي يعلمه أن العدو قد كلب بالغفلة عنه وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه فيبث جيوشه في نواحي الثغور وزحف حتى قطع الدرب ولم يزل يعبى حتى أتاه خبر وفاة أبي العباس فانصرف.
    وكان الفقهاء في أيامه يحيى بن سعيد الأنصاري ابن أبي طوالة الأنصاري موسى بن عقبة عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أبا حمزة الثمالي زيد بن أسلم أبا خازم القاضي هشام بن عروة بن الزبير محمد بن... بن علقمة موسى بن عبيدة الربذي ابن أبي صعصعة ربيعة الرأي عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب محمد بن إسحاق بن يسار عبد الله بن طاووس صدقة... يسار حميد بن قيس الأعرج عبد الله بن عثمان بن خثيم عثمان بن الأسود عبد الملك بن جريج عبد الملك بن عمير الليثي أبا سار النسائي مجالد بن سعيد الأجلح بن عبد الله الكندي منصور بن المعتمر السلمي مطرف بن طريف الحارثي جابر بن يزيد الجعفي الحسن بن عمر الفقيمي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الحسن بن عمارة مسعر بن كدام عبد الجبار بن عباس الهمداني زفر بن الهذيل إسحاق بن سويد العذري أبا بكر بن نسر بن حرب يونس بن عبيد أبا المعتمر سليمان التيمي عمرو بن عبيد حميد الطويل مولى خزاعة عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي سالم الأفطس عبد الكريم الحنفي.
    أيام أبي جعفر المنصورهو عبد الله بن محمد بن علي وأمه سلامة البربرية وبويع في اليوم الذي توفي فيه أبو العباس وهو يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ومن شهور العجم في حزيران سنة 136. وكانت الشمس يومئذ في السرطان درجة وعشر دقائق والقمر في الجوزاء سبع درجات وخمساً وأربعين دقيقة وزحل في الجدي ست عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا والمشتري في الحمل سبعا وعشرين درجة والمريخ في العقرب تسع عشرة درجة وأربعين دقيقة والزهرة في الثور خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة وعطارد في السرطان إحدى عشرة درجة والرأس في السرطان درجة وخمسين دقيقة.
    وكان أبو جعفر حاجاً فأخذ له عيسى بن علي البيعة على من حضر من الهاشميين والقواد بالأنبار ووافاه الخبر بذلك في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس بخمسة عشر يوماً فبايع أبو مسلم ومن حضر من الهاشميين والقواد وكان الذي وافاه بالخبر محمد بن الحصين العبدي فقال: أي موضع هذا؟ قالوا: موضع يقال له زكية. قال: أمر يزكى إن شاء الله وبويع بالصفية فقال: أمر يصفو لنا أعداد السنين وحثوا النجاء.
    وكان أبو العباس قبل وفاته قد كتب إلى عبد الله بن علي في غزو الصائفة وأمره بقطع الدرب فلما توفي أبو العباس كره عيسى بن علي ومن حضر من الأبناء أن يكتبوا إلى عبد الله بن علي فكتبوا إلى صالح بن علي وهو بمصر يعرفونه الحادثة في أبي العباس وما كان عهد به أبو العباس لأبي جعفر ومبايعتهم له واجتماعهم عليه وأمره أن يبايع ويصير إلى الشام فيأخذ البيعة على عبد الله.
    وبلغ عبد الله الخبر وقيل: بعث عيسى بن علي ببيعة المنصور مع أبي غسان يزيد بن زياد حاجب أبي العباس فلحقه وقد كان قطع الدرب إلى بلاد الروم فرجع حتى صار إلى دلوك من أرض جند قنسرين فأحضر حميد بن قحطبة الطائي وجماعة من القواد الذين كانوا معه

    فقال: ما تشهدون أن أمير المؤمنين أبا العباس قال: من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي فشهدوا له بذلك. وبايعوا وبايع أكثر أهل الشام له وكتب إلى عيسى بن علي وغيره يعلمهم مبايعة من قبله من القواد وأهل الشام له بصحة عهد أبي العباس إليه وتوجه يريد العراق فلما صار إلى حران وافى موسى ابن كعب عاملاً بها فعرفه شهادة من أشهد الله أن أبا العباس جعله ولي عهده فلما تحصن بها حاصره أربعين يوماً ثم أعطاه الأمان على أن يخرج عنها ويخلي بينه وبينها وتوجه يريد العراق.
    فقدم أبو جعفر الكوفة غرة المحرم فنزل الحيرة وصلى بالناس الجمعة ثم شخص إلى الأنبار إلى مدينة أبي العباس فضم إليه أطرافه وخزائن أبي العباس وبلغه أمر عبد الله بن علي وتوجهه إلى العراق فقال لأبي مسلم: ليس لعبد الله ابن علي غيري أو غيرك. فكره أبو مسلم ذلك وقال: يا أمير المؤمنين! إن أمر عبد الله بالشام أقل وأذل وأمر خراسان أمر يجل خطبه ثم انصرف أبو مسلم إلى منزله وقال لكاتبه: ما أنا وهذان الرجلان. ثم قال: ما الرأي إلا أن أمضي إلى خراسان وأخلي بين هذين الكبشين فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا إليه: سمعنا وأطعنا فرأى أنا قد أنعمنا وعملنا له عملاً. فقال له كاتبه: أعيذك بالله من أن تمكن أهل خراسان من الطعن عليك وأن يروا أنك نقضت أمراً بعد تأكيده. فقال: ويحك إني نظرت فيمن قتلت بالسيف صبراً سوى من قتل في المعارك فوجدتهم مائة ألف من الناس فلا قليل من الله.
    فلم يزل به كاتبه حتى أجاب أبا جعفر إلى الخروج وعسكر في خلق عظيم ثم سار حتى صار إلى الجزيرة، فواقع عبد الله بن علي عدة وقائع، وكان حميد بن قحطبة الغالب على أمر عبد الله بن علي، ثم بلغه أن عبد الله يريد قتله، فاحتال حتى صار إلى أبي مسلم، فعظم ذلك على عبد الله بن علي، وخاف أن يفعل بنظرائه من قواد خراسان الذين معه مثل ذلك.
    قال السندي بن شاهك: سمعت عبد الصمد بن علي يقول: إني عند عبد الله ابن علي إذ دخل حاجبه، وكان عبد الصمد مع عبد الله بن علي، فقال: رسول أبي مجرم بالباب، فقال: إيذن له، فدخل رجل كريه الوجه، قبيح المنظر، كثير الشعر، طويل اللسان، عظيم الخلق، كثير حشو الخفنان، فسلم سلاماً عاماً، ثم قال: إن الأمير أبا مسلم يقول: علام تقاتلني، وأنت تعلم أنه لا يقاتلك؟ وواقع أبو مسلم عبد الله بن علي بنصيبين، وفرق جمعه، فهرب عبد الله، وأمر أبو مسلم ألا يعترضه أحد، فصار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن علي، وكان عامل البصرة، فلم يزل مختفياً عنده.

    وبعث أبو جعفر برسل يحصون ما حصل في يد أبي مسلم من الخزائن والأموال، منهم: إسحاق بن مسلم العقيلي، ويقطين بن موسى، ومحمد بن عمرو النصيبي التغلبي، فغضب أبو مسلم، وقال أؤتمن على الدماء، ولا أؤتمن على الأموال، وشتم يقطين بن موسى، فقال يقطين لما رأى ما داخله عليه: امرأتي طالق ثلاثاً إن كان أمير المؤمنين وجهني إليك إلا مهنئاً بالفتح، فاستخف بإسحاق بن مسلم، ومحمد بن عمرو، وشتمهما، وتناول أبا جعفر بلسانه حتى ذكر أمه وقال: ويلي على ابن سلامة فانصرف القوم إلى أبي جعفر فأخبروه الخبر فزاد ذلك فيما في قلبه عليه وولى هشام بن عمرو العقيلي مكان أبي مسلم فانصرف أبو مسلم وأقبل يريد خراسان مغاضبا لأبي جعفر فمر بالمدائن وأبو جعفر نازل برومية وبينه وبينه فرسخان فلم يلقه ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان فاتبعه أبو جعفر بعيسى بن موسى وجرير بن عبد الله البجلي ونفر معهما من الشيعة فلحقوه فعظموا عليه الخطب وقالوا له: إن الأمر لم يبلغ حيث تظن فشاور مالك بن الهيثم وكان خليفته وقال: ما ترى قال: أرى أن تصير إلى خراسان فتستعتب الرجل منها وتكتب إليه منها سمعك وطاعتك فإذا فعلت ذلك لم يلحقك لوم وإلا فهو آخر عهدك بالدنيا إن وقعت عينه عليك. فما زال رسل أبي جعفر حتى فتلوه عن رأيه وأقبل نحو العراق فلما جاز عقبة حلوان قال لمالك بن الهيثم: ما الرأي قال: الرأي تركته وراء العقبة. فقال: إني والله لا أقتل إلا بأرض الروم. وقدم على أبي جعفر وهو نازل برومية في المضارب فقال له: كدت أن تنفذ قبل أن أفضي إليك بما أحتاج إليه. فمكث يختلف إليه أياماً ثم أتاه يوماً وقد هيأ له أبو جعفر عثمان بن نهيك وكان على حرسه في عدة وهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة وتقدم إلى عثمان فقال: إذا علا صوتي وصفقت بيدي فاقتلوا العبد.
    ودخل أبو مسلم فاجلس في الحجرة وقيل له: أمير المؤمنين على شغل. فجلس ملياً ثم أذن له وقيل له: انزع سيفك! فقال: ولم قيل: وما عليك فلم يزالوا به حتى نزع سيفه ثم دخل وليس في البيت إلا وسادة فجلس عليها ثم قال: يا أمير المؤمنين فعل بي ما لم يفعل بأحد أخذ سيفي عن عاتقي قال: ومن فعل بك هذا قبحه الله فأقبل أبو مسلم يتكلم فقال له: يا ابن اللخناء إنك لمستعظم غير العظيم ألست الكاتب إلى تبدأ باسمك على اسمي ألست الذي كتبت إلى تخطب عمتي آمنة بنت علي وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله ألست الفاعل كذا والفاعل كذا وجعل يعد عليه أموراً فلما رأى أبو مسلم ما قد دخله قال: يا أمير المؤمنين إن قدري أصغر من أن يدخلك كل ما أرى. فعلا صوت أبي جعفر وصفق بيديه فخرج القوم فضربوه بأسيافهم فصاح: أوه ألا مغيث ألا ناصر وهم يضربونه حتى قتلوه فلما قتل قال أبو جعفر:
    اشرب بكأس كنت تسقى بها ... أمر في فيك من العلقم
    كنت حسبت الدين لا يقتضي ... كذبت والله أبا مجرم
    وكفن في مسح وصير في جانب المضرب وقيل لأصحابه: اجتمعوا فإن أمير المؤمنين قد أمر أن ينثر عليكم الدراهم ونثرت عليهم بدرة دراهم فلما أكبوا يلتقطونها طرح عليهم رأس أبي مسلم فلما نظروا إليه أسقط ما في أيديهم وعرتهم ضعضعة وكان ذلك في شعبان سنة 137 وخرج قوم من أصحاب
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:33 am

    وبنى مسجد الخيف بمنى وصيره على ما هو عليه من السعة ولم يكن بها قبل ذلك وحج أبو جعفر سنة 140 لينظر ما زيد في المسجد الحرام وقد كان بلغه أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن تحرك فلما قدم المدينة طلبه فلم يظفر به فأخذ عبد الله بن حسن بن حسن وجماعة من أهل بيته فأوثقهم في الحديد وحملهم على الإبل بغير وطاء وقال لعبد الله: دلني على ابنك وإلا والله قتلتك فقال عبد الله: والله لامتحنت بأشد مما امتحن الله به خليله إبراهيم وإن بليتي لأعظم من بليته لأن الله عز وجل أمره أن يذبح ابنه وكان ذلك لله عز وجل طاعة فقال: إن هذا لهو البلاء العظيم وأنت تريد مني أن أدلك على ابني لتقتله وقتله لله سخط.
    وقال أبو جعفر: يا ابن اللخناء فقال: وإنك لتقول هذا؟ ليت شعري أي الفواطم لخنت يا ابن سلامة؟ أ فاطمة بنت الحسين أم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدتي فاطمة بنت أسد بن هاشم جدة أبي أم فاطمة ابنة عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة جدتي؟ قال: ولا واحدة من هؤلاء وحمله.
    وانصرف أبو جعفر على طريق الشام فأتى بيت المقدس ثم صار إلى الجزيرة فنزل خارج الرقة وقد كان منصور بن جعونة الكلابي وثب بها فأسر فأحضره فضرب عنقه ثم صار إلى الحيرة فحبس عبد الله بن حسن بن حسن وأهل بيته فلم يزالوا في الحبس حتى ماتوا وقد قيل: إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان.
    وحدثني أبو عمرو عبد الرحمن بن السكن عن رجل من آل عبد الله: أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن كتب إلى أبيه لما بلغه شدة ما يلقى من الحبس يستأذنه أن يظهر حتى يضع يده في أيديهم فأرسل إليه عبد الله: إن ظهورك يا بني يقتلك ولا يحييني فأقم بمكانك حتى يرتاح الله بفرج وأخذ أبو جعفر في بناء الرافقة وكان ابتداؤها في أيام أبي العباس وقال: أما أنا فلست أنزلها فقيل له: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان أبي صار إلى هشام وهو بالرصافة فجفاه وناله منه ما يكره ثم انصرف وأنا وأخي معه فلما صار إلى هذا الموضع قال لي ولأخي: أما إنه سيبني أحدكما في هذا الموضع مدينة فقلت له: ثم ما ذا؟ فقال: لا ينزلها لكن ينزلها ابنه وأنا أعلم أني لا أنزلها ولكن ينزلها ابني محمد يعني المهدي.

    وولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي خراسان فاستخلف على الشرطة أخاه عمر بن عبد الرحمن وقتل المغيرة بن سليمان ومجاشع بن حريث وقصد لشيعة بني هاشم فقتل منهم مقتلة عظيمة وجعل يتبعهم ويمثل بهم فكتب إليه أبو جعفر يحلف له ليقتلنه فخلع سنة 141 فوجه إليه أبو جعفر بالمهدي فصار المهدي إلى الري واستعمل على خراسان أسيد بن عبد الله الخزاعي ووجه معه بالجيوش فلقي عبد الجبار بمرو فهزم عسكره وهرب عبد الجبار فاتبعه فأسره وبعث به إلى أبي جعفر فوافاه وهو بقصر ابن هبيرة من بغداد على مرحلة فقال له عبد الجبار لما وافاه: يا أمير المؤمنين قتله كريمة فقال: تركتها وراءك يا ابن اللخناء وقدمه فضرب عنقه وصلبه فأقام على الخشبة أياماً ثم جاء أخوه عبيد الله بن عبد الرحمن ليلاً فأنزله ودفنه فبلغ أبا جعفر ذلك فقال: دعوه إلى النار.
    وولى أبو جعفر أرمينية يزيد بن أسيد السلمي وولى آذربيجان يزيد ابن حاتم المهلبي فنقل اليمانية من البصرة إليها وكان أول من نقلهم وأنزل الرواد بن المثنى الأزدي تبريز إلى البذ وأنزل مر بن على الطائي نريز... الهمداني الميانج وفرق قبائل اليمن فلم يكن باذربيجان من نزار أحد إلا الصفر بن الليث العتبي وابن عمه البعيث بن حلبس.
    وتحركت الخزر بناحية أرمينية ووثبوا بيزيد بن أسيد السلمي فكتب إلى أبي جعفر يعلمه أن رأس طرخان ملك الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم وأن خليفته قد انهزم فوجه إليه أبو جعفر جبريل بن يحيى البجلي في عشرين ألفاً من أهل الشام وأهل الجزيرة وأهل الموصل فواقع الخزر فقتل خلق من المسلمين وانهزم جبريل ويزيد بن أسيد حتى أتيا خرس فلما انتهى الخبر إلى أبي جعفر بما نال وظهور الخزر ودخولهم بلاد الإسلام أخرج سبعة آلاف من أهل السجون وبعث فجمع من كل بلد خلقاً عظيماً ووجه بهم وبفعله وبنائين فبنى مدينة كمخ ومدينة المحمدية ومدينة باب واق وعدة مدن جعلها ردا للمسلمين وأنزلها المقاتلة فردوا الحرب فحاربهم قومهم وقوي المسلمون بتلك المدن وأقام بالبلد ساكناً.
    ثم تحركت الصنارية بأرمينية فوجه أبو جعفر الحسن بن قحطبة عاملاً على أرمينية فحاربهم فلم يكن له بهم قوة فكتب إلى أبي جعفر بخبرهم وكثرتهم فوجه إليه عامر بن إسماعيل الحارثي في عشرين ألفاً فلقي الصنارية فقاتلهم قتالاً شديداً وأقام أياماً يحاربهم ثم رزقهم الله الظفر عليهم فقتل منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان ثم انصرف إلى تفليس فقتل من كان معه من الأسرى ووجه في طلب الصنارية حيث كانوا ثم ولى أبو جعفر أرمينية واضحا مولاه فلم يزل عليها وعلى آذربيجان خلافة أبي جعفر كلها ووثب أهل طبرستان وأظهروا الخلع والمعصية وزحفوا في جيوش عظيمة فوجه إليهم المهدي خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلبي فهزموا جيوشهم وفتحت طبرستان سنة 142.
    وخرج أبو جعفر في هذه السنة إلى البصرة يريد الحج فلما صار بالجسر الكبير أتاه الخبر بأن أهل اليمن قد أظهروا المعصية وأن عبد الله بن الربيع عامل اليمن قد هرب ممن وثب عليه وضعف عنهم وأن عيينة بن موسى ابن كعب التميمي عامل السند قد عصى وأظهر الخلع فوجه بمعن بن زائدة الشيباني إلى اليمن وعمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إلى السند وانصرف أبو جعفر من البصرة ولم يحج.
    وقدم معن بن زائدة اليمن فقتل من بها قتلاً فاحشاً وأقام بها تسع سنين وكان موسى بن كعب التميمي لما انصرف عن بلاد السند خلف ابنه عيينة بن موسى فخالف عليه قوم ممن كان معه من ربيعة واليمن فقتل عامتهم وأظهروا المعصية فوجه أبو جعفر عمر بن حفص هزارمرد إلى السند فلم يسلم عيينة ومنعه من الدخول فأقام بالديبل وكان معه عقبة بن مسلم وحاربه عمر بن حفص وكان أصحاب عيينة يستأمنون إلى عمر فطلب عيينة الصلح فصالحه وأخرجه مع رسله وبعث به إلى المنصور.
    وأقام عمر بن حفص بالمنصورة ومضى عيينة مع رسله حتى إذا كان في بعض الطريق هرب من الرسل ومضى يريد سجستان حتى دنا من الرخج فضربه قوم من اليمانية فقتلوه وذهبوا برأسه إلى المنصور.

    وأقام عمر بن حفص بالسند سنتين ثم عزله أبو جعفر وولى هشام بن عمرو التغلبي فصار إلى المنصورة فأقام بها ووجه إلى ناحية الهند بجيش فغنموا وأصابوا رقيقا وقيل لهشام: إن المنصورة لا تحملك والملتان بلاد واسعة ومنها معرى فسار إليها فاستخلف على المنصورة أخاه بسطام بن عمرو فلما قرب من الملتان خرج صاحبها إليه في خلق ليرده والتقيا فكانت بينهما وقعة عظيمة ثم انهزم صاحب الملتان وظفر هشام ونزل المدينة وسبى سبياً كثيراً ثم عمل السفن وحملها على نهر السند حتى القندهار ففتحها وسبى وهدم البد وبنى موضعه مسجداً ثم قدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند فلم يقم بالعراق إلا قليلاً حتى مات فولى المنصور معبد بن الخليل التميمي فكان محموداً في البلد.
    وصار أبو جعفر إلى بغداد سنة 144 فقال: ما رأيت موضعا أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة والفرات وشريعة البصرة والأبلة وفارس وما والاها والموصل والجزيرة والشام ومصر والمغرب ومدرجة الجبل وخراسان فاختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر في الجانب الغربي من دجلة وجعل لها أربعة أبواب بابا سماه باب خراسان شرع على دجلة وبابا سماه باب البصرة شرع على الصراة التي تأخذ من الفرات وتصل إلى دجلة وبابا سماه باب الكوفة وبابا سماه باب الشام وعلى كل باب من هذه الأبواب مجالس وقباب مذهبة يصعد إليها على الخيل وجعل عرض السور من سفل سبعين ذراعاً وضرب على سائر بغداد سوراً وجد في البناء وأحضر المهندسين والبنائين والفعلة من كل بلد وأقطع مواليه وقواده القطائع داخل المدينة فدروب المدينة تنسب إليهم وأخذهم بالبناء وأقطع آخرين على أبواب المدينة وأقطع الجند أرباض المدينة وأقطع أهل بيته الأطراف وأقطع ابنه المهدي وجماعة من أهل بيته ومواليه وقواده.
    وشخص المهدي من خراسان منصرفاً إلى العراق في هذه السنة وهي سنة 144 فخرج أبو جعفر لاستقباله بنهاوند وقدم فصار إلى الكوفة فنزل الحيرة والمدينة التي بناها المنصور وسماها الهاشمية فأقام المهدي أياماً ثم ابتنى بريطة بنت أبي العباس بالحيرة.
    وبلغ المنصور أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن قد تحرك بالمدينة فكاتبه أهل البلدان فخرج حاجا ولم يدخل المدينة في منصرفه وصار إلى الربذة فأتي بجماعة من العلويين ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن حسن لأمه فسألهم عن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن فقالوا: ما نعلم له موضعا ولا نعرف له خبراً فقال لمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أقطعتك ووصلتك وفعلت وفعلت ولم أؤاخذك بذنوب أهل بيتك ثم تستميل على عدوي وتطوي أمره عني ثم أمر به فضرب ضرباً شديداً وطيف به بالربذة على حمار وأشخص القوم جميعاً على أقتاب بغير وطاء.
    وانصرف أبو جعفر من حجه فصار إلى بغداد ونزل مدينته المعروفة بباب الذهب سنة 145 وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجها إلى الكرخ ولم يقر أبو جعفر إلا أياماً حتى أتاه الخبر بخروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن وظهور أمره فرجع إلى الكوفة فأقام بقصر ابن هبيرة بين الكوفة وبغداد أياماً وولي رياح بن عثمان بن حيان المري المدينة وقال: ما وجدت لهم غيرك ولا أعلم لهم سواك فلما قدم رياح المدينة قام على المنبر فخطب خطبة له مشهورة يقول فيها: يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراكم المفني رجالكم والله لأدعها بلقعاً لا ينبح فيها كلب.
    فوثب عليه قوم منهم وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا فكتب إلى أبي جعفر يخبره بسوء طاعة أهل المدينة فأرسل أبو جعفر إلى رياح رسولاً وكتب معه كتاباً إلى أهل المدينة يأمره أن يقرأه عليهم وكان في الكتاب: أما بعد يا أهل المدينة فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد امنكم خوفا وليقطعن البر والبحر عنكم وليبعثن عليكم رجالاً غلاظ الأكباد بعاد الأرحام بنو قعر بيوتكم يفعلون ما يؤمرون والسلام.

    فصعد رياح المنبر وقرأ الكتاب فلما بلغ: يذكر غشكم صاحوا من كل جانب: كذبت يا ابن المجلود حدين ورموه بالحصى وبادر المقصورة فأغلقها فدخل دار مروان ودخل عليه أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد المخزومي فقال: أصلح الله الأمير إنما يصنع هذا رعاع الناس فاقطع أيديهم وأجلد ظهورهم فقال له بعض من حضر من بني هاشم: لا نرى هذا ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور فجمعهم وقرأ عليهم كتاب المنصور فوثب حفص بن عمر بن عبد الله بن عوف الزهري وأبو عبيدة بن عبد الرحمن بن الأزهر هذا من ناحية وهذا من ناحية فقالا لرياح: كذبت والله ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك ثم قالا للرسول: أتبلغ أمير المؤمنين عنا قال: ما جئت إلا لذلك قالا: فقل له: أما قولك إنك تبدل المدينة وأهلها بالأمن خوفاً فإن الله عز وجل وعدنا غير هذا قال الله عز وجل: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً فنحن نعبده لا نشرك به شيئاً.
    وظهر محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بالمدينة مستهل رجب سنة 145 فاجتمع معه خلق عظيم وأتته كتب أهل البلدان ووفودهم فأخذ رياح ابن عثمان المري عامل أبي جعفر فأوثقه بالحديد وحبسه وتوجه إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن إلى البصرة وقد اجتمع جماعة فأقام مستترا وهو يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته فلما بلغ أبا جعفر أراد الخروج إلى المدينة ثم خاف أن يدع العراق مع ما بلغه من أمر إبراهيم فوجه عيسى بن موسى الهاشمي ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم فصار إلى المدينة وخرج محمد إليه في أصحابه فقاتلهم في شهر رمضان ومضى أصحابه إلى الحبس فقتل رياح بن عثمان.
    وكانت أسماء ابنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بالمدينة وكانت معادية لمحمد بن عبد الله فوجهت بخمار أسود قد جعلته على قصبة مع مولى لها حتى نصبه على مئذنة المسجد ووجهت بمولى لها يقال له مجيب العامري إلى عسكر محمد فصاح: الهزيمة الهزيمة قد دخل المسودة المدينة فلما رأى الناس العلم الأسود وانهزموا وأقام محمد يقاتل حتى قتل.
    فلما قتل محمد بن عبد الله بن حسن وجه عيسى بن موسى كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة فدخلها فتتبع أصحاب محمد فقتلهم وانصرف إلى العراق وكان إبراهيم بن عبد الله قصد إلى الكوفة وهو لا يشك أن أهل الكوفة يثبون معه بأبي جعفر فلما صار بالكوفة لم يجد ناصراً وبلغ أبا جعفر خبره فوضع الأرصاد والحرس بكل موضع فرام الخروج فلم يقدر فعلم أنه قد أخطأ فأعمل الحيلة وكان مع إبراهيم رجل يقال له سفيان بن يزيد العمي فصار إلى أبي جعفر فقال له: يا أمير المؤمنين تؤمنني وأدلك على إبراهيم بعد أن أدفعه إليك فقال: أنت آمن وأين هو قال: بالبصرة فوجه معي برجل تثق به وحملني على دواب البريد واكتب إلى عامل البصرة حتى أدله عليه فيقبض عليه فوجه معه بأبي سويد صاحب طاقات أبي سويد ببغداد في باب الشام فخرج ومعه غلام عليه جبة صوف وعلى عنقه سفرة فيها طعام حتى ركب البريد معه أبو سويد وذلك الغلام فلما صار إلى البصرة قال سفيان لأبي سويد انتظرني حتى أعرف خبر الرجل ومضى فلم يعد وكان الغلام الذي عليه الجبة الصوف إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن فلما أبطأ صار أبو سويد إلى سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب وكان عامل الناحية فقال له: أين الرجل قال: لا أدري فكتب إلى أبي جعفر فعلم أنه إبراهيم وأنها حيلة.
    وخرج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالبصرة وقد بايع أهلها وكان خروجه في أول شهر رمضان فقصد دار الإمارة والأمير سفيان بن معاوية المهلبي فتحصن منه في القصر ثم طلب الأمان فأمنه إبراهيم فخرج سفيان بن معاوية وأسلم البلد فقبض إبراهيم على بيت المال وغيره.
    وكان في البلد جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي فخرجا إلى ميسان فأقاما هناك متحصنين في خندق ووجه إبراهيم بن عبد الله إلى الأهواز المغيرة بن الفزع السعدي فأخرج محمد بن الحصين عاملها وغلب على البلد ووجه يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب إلى فارس فدخلها وأخرج عنها إسماعيل بن علي ووجه هارون ابن سعد العجلي إلى واسط واستولى على ما حولها ووجه برد بن لبيد اليشكري إلى كسكر فغلب عليها.

    وخرج إبراهيم من البصرة واستخلف نميلة بن مرة الأسعدي وكان قد أحصى ديوانه فكانوا ستين ألفاً فخرج من البصرة في أول ذي القعدة فأخذ على كسكر يقصد المنصور وكان أبو جعفر قد كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بسرعة القدوم فلما وصله قال له: يا أبا موسى أنت أولى بالفتح من جعفر ومحمد ابني سليمان فأنفذ ليكمل الله الظفر على يديك فخرج في ثمانية عشر ألفاً من الجند وشيعة أبي جعفر وكتب إلى جعفر ومحمد ابني سليمان ابن علي أن يصيرا معه.
    وزحف إبراهيم حتى صار إلى قرية يقال لها باخمرا وصار عيسى بن موسى إلى قرية يقال لها سحاً وقدم حميد بن قحطبة الطائي للقتال والتحمت الحرب وكانت أشد حرب والدائرة على عيسى بن موسى حتى شك الناس في علو إبراهيم وظفره ثم إن سلم بن قتيبة الباهلي خرج على أصحاب إبراهيم من ناحية بخيل فتوهموا كمينا فانهزموا وبقي إبراهيم في أربعمائة من الزيدية يحارب أشد محاربة وكان إبراهيم يدعو إلى أخيه محمد فلما قتل محمد دعا إلى نفسه.
    وحدثني رجل من القحطانية قال: أخبرني... قال: رأيت إبراهيم في اليوم الذي واقعه عيسى على بغلة دهماء وسديف بن ميمون آخذ بثفر بغلته وهو يقول:
    خذها أبا إسحاق مليتها ... في سيرة ترضى وعمر طويل
    وظهر إبراهيم ظهوراً شديداً حتى هزم العسكر مرة بعد أخرى وزحف حتى قرب من الكوفة وحتى دعا أبو جعفر بنجائبه ليصير إلى بغداد وكان العلو في إبراهيم حتى أنه لم يشك أنه يدخل الكوفة.
    وكان أبو جعفر لا ينام في تلك الليالي وحمل إليه امرأتان فاطمة بنت محمد الطلحية وأم الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد فوجه بهما إلى بغداد ولم يكشف لهما كشفاً.
    ولما أن هزم أصحاب إبراهيم قام يحارب أشد حرب في أربعمائة من أصحابه إلى أن قتل وأخذ رأسه فوجه به إلى أبي جعفر وهو بالكوفة فوضع بين يديه وأذن للناس فجعلوا يدخلون فينالون من إبراهيم وأخيه وأهله حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فقال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فسر بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد مرحباً وأهلاً هاهنا فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله.
    وأتاه الحسن بن زيد فعرض عليه الرأس فلما رآه استنقع لونه وتغير وجهه فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد قتلته صواما قواماً وما كنت أحب أن تبوء بإثمه فقال له رجل من أهله: كأنك تزري على أمير المؤمنين في قتله فقال: كأنك أردت مني أن أكذب عليه وقد صار إلى الله فقال أبو جعفر: والله ما كنت أنتظر إلا أن يدخل صاحبك من ذلك الباب فأدعو بك فأضرب عنقك واخرج من الباب الآخر فقال له: أو كنت أسبقك إلى ذلك.
    وانصرف أبو جعفر بعد قتل إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بثلاثة أشهر فنزل مدينة بغداد نزول مستوطن في شهر ربيع الأول سنة 146 وكان ذلك من شهور العجم في تموز وأشخص المهدي إلى خراسان عاملاً عليها ومعه وجوه الجند والصحابة فاجتمع قواد خراسان إلى أبي جعفر وذكروا له فعال المهدي في نبل أخلاقه ومدحوه وسألوه أن يصير إليه تولية العهد من بعده فكتب إلى عيسى بن موسى وهو بالكوفة يعلمه ما قد وقع بقلوب أهل خراسان وغيرهم من هذا الأمر وكان عيسى بن موسى يقول: إن له ولاية العهد بعد أبي جعفر فلما ورد عليه كتاب أبي جعفر بما اجتمع عليه القواد وأهل خراسان من تصيير ولاية العهد من بعده للمهدي وأشار عليه بأن يسبق إلى ذلك كتب إليه عيسى يعظم عليه هذا الأمر ويذكر له ما في نكث العهود ونقض الأيمان وأنه لا يأمن أن يفعل الناس هذا في بيعته وبيعة ابنه وجرت بينهما مراسلات. وقدم عيسى بغداد فوثب به الجند يوماً بعد يوم وصاروا إلى بابه حتى خاف على نفسه فلما رأى ذلك رضي وسلم فبايع المنصور بولاية العهد لابنه المهدي سنة 147 ولم يبق أحد إلا دخل في البيعة وجعل لعيسى ولاية العهد بعد المهدي والمهدي يومئذ بخراسان وأتته كتب أبيه بالبيعة له فبايع من معه من القواد وأهل خراسان جميعاً خلا باذغيس فإنه خالف بها استاذسيس فادعى النبوة وصحبه على ذلك خلق كثير فوجه إليه المهدي خازم بن خزيمة التميمي فحاربه ففض جموعه فأسره وحمله إلى أبي جعفر إلى بغداد فقتله وفي هذه السنة كان انقضاض الكواكب.
    ؟وفاة أبي عبد الله جعفر بن محمد وآدابه

    وتوفي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر بالمدينة سنة 148 وله ست وستون سنة وكان أفضل الناس وأعلمهم بدين الله وكان من أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم.
    قال سفيان: سمعت جعفراً يقول: الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة وترك حديث لم نروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه.
    وقال جعفر: ثلاثة يجب لهم الرحمة: غني افتقر وعزيز قوم ذل وعالم تلاعب به الجهال.
    وقال: من أخرجه الله من ذل المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بغير مال وأعزه الله بغير عشيرة ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل ومن لم يستح من طلب الحلال خفت مؤونته ونعم أهله ومن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه فأطلق لسانه من أمور الدنيا دائها ودوائها وأخرجه منها سالماً.
    وروي أنه قال لما نزلت على رسول الله: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية قال: ومن لم يتعز بعزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ومن اتبع طرفة ما في أيدي الناس طال همه ولم يشف غيظه ومن لم ير الله عليه نعمة إلا في كل مأكل ومشرب فقد قصر عمره ودنا عذابه وقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فعرفها بقلبه وشكرها بلسانه إلا ما أعطي خير مما أخذ.
    وقال: إن مما ناجى الله عز وجل به موسى: يا موسى لا تنسني على حال ولا تفرح بكثرة المال فإن نسياني يميت القلب وعند كثرة المال تكثر الذنوب يا موسى كل زمان يأتي بالشدة بعد الشدة وبالرخاء بعد الرخاء والملك بعد الملك وملكي قائم لا يزول ولا يخفى على شيء في الأرض ولا في السماء وكيف يخفى على ما كان ابتداؤه مني وكيف لا تكون همتك فيما عندي وأنت ترجع لا محالة إلي.
    وقال: خلتان من لزمهما دخل الجنة فقيل: وما هما قال: احتمال ما تكره إذا أحبه الله وترك ما تحب إذا كرهه الله فقيل له: من يطيق ذلك فقال: من هرب من النار إلى الجنة.
    وقال: فعل المعروف يمنع ميتة السوء والصدقة تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر وقول لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
    وقال: ما توسل إلي أحد بوسيلة ولا تذرع بذريعة هي أحب إلي ولا أقرب مني من يد أسلفته إياها أتبع بها أختها لأحسن ريها وحفظها إذا كان منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل وما سمحت نفسي برد بكر من الحوائج وقال: أوحى الله إلى موسى بن عمران: أدخل يدك في فم التنين إلى المرفق فهو خير لك من مسألة من لم يكن للمسألة بمكان.
    وقال: لا تخالطن من الناس خمسة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك والكذاب فإن كلامه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد منك القريب والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو شربه والبخيل فإنه يخذلك أحوج ما تكون إليه والجبان فإنه يسلمك ويتسلم الدية. وقال: المؤمنون يألفون ويؤلفون ويغشى رحلهم.
    وقال: من غضب عليك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءاً فاتخذه لك خلاً ومن أراد أن تصفو له مودة أخيه فلا يمارينه ولا يمازجنه ولا يعده ميعاداً فيخلفه.
    وكان لجعفر بن محمد من الولد إسماعيل وعبد الله ومحمد وموسى وعلي والعباس.
    قال إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلت لحيته بالدموع فقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين قال: فإن سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم توفي فقلت: ومن هو يا أمير المؤمنين قال: جعفر بن محمد فقلت: أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه فقال لي: إن جعفراً كان ممن قال الله فيه: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وكان ممن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات.

    وكان إسماعيل بن علي من خيار بني هاشم وأفاضلهم ولاه أبو جعفر المنصور فارس وقد خرج مهلهل الحروري بها فلقيه في جمع فقتله وهزم عسكره وأسر من أصحابه أربعمائة وكان عبد الصمد أخوه معه فقال: أصلح الله الأمير اضرب أعناقهم فقال له إسماعيل بن علي: إن أول من علم قتال أهل القبلة علي بن أبي طالب ولم يكن يقتل أسيراً ولا يتبع منهزماً ولا يجهز على جريح.
    وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس يتولى لأبي جعفر قنسرين والعواصم فبلغه كثرة عدده ومواليه فخافه فكتب إليه في القدوم عليه فكتب: أنه شديد العلة فلم يقبل ذلك وكان قد سل فصار إلى بغداد فلما رآه أبو جعفر صرفه ولم يأمر له بصلة ولا بر فقال: إن أمير المؤمنين يئس مني ففعل هذا بي والله يحيى العظام وهي رميم فلما صار إلى عانات من كور الفرات مات وكان نظير أبي جعفر في السن.
    وولي أبو جعفر أهل بيته البلدان فولى إسماعيل بن علي فارس وسليمان ابن علي البصرة وعيسى بن موسى الكوفة وصالح بن علي قنسرين والعواصم والعباس بن محمد الجزيرة وعبد الله بن صالح حمص والفضل بن صالح دمشق ومحمد بن إبراهيم الأردن وعبد الوهاب بن إبراهيم فلسطين والسري بن عبد الله بن تمام بن العباس بن عبد المطلب مكة وجعفر بن سليمان المدينة ويحيى بن محمد الموصل ثم صرفه وولي ابنه جعفراً وصير معه هشام بن عمرو.
    وكان عماله من العرب يزيد بن حاتم المهلبي ومحمد بن الأشعث الخزاعي وزياد بن عبيد الله الحارثي ومعن بن زائدة الشيباني وخازم بن خزيمة التميمي وعقبة بن سلم الهنائي ويزيد بن أسيد السلمي وروح بن حاتم المهلبي والمسيب بن زهير الضبي وعمر بن حفص المهلبي والحسن بن قحطبة الطائي وسلم بن قتيبة الباهلي وجعفر بن حنظلة البهراني والربيع بن زياد الحارثي وهشام بن عمرو التغلبي فكان ينقل هؤلاء في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم وكان عماله من مواليه: عمارة بن حمزة ومرزوقا أبا الخصيب وواضحا ومنارة والعلاء ورزينا وغزوان وعطية وصاعداً ومريداً وأسداً والربيع.
    وكتب المنصور إلى معن بن زائدة الشيباني وهو على اليمن سنة 151 أن يقدم فاستخلف ابنه زائدة على اليمن وقدم على أبي جعفر وكان معن قد أسن فقال له أبو جعفر: كبرت سنك يا معن قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين قال وإنك لتتجلد قال على أعدائك قال وإن فيك لبقية قال هي لك فأنفذه إلى خراسان والمهدي بها فانصرف المهدي وأقام معن لقتال من هناك من الخوارج حتى قتل منهم خلقا عظيما وأفناهم فلما رأوا انهم لا قوة لهم بمحاربته استعملوا الحيلة وكان يبني دارا له ببست فدخل بعضهم في هيئة البنائين ثم صيروا السيوف في طنان القصب فأقاموا أياما فلما توسطوا الدار أخرجوا السيوف ثم حملوا عليه وهو في رداء فقتلوه فتجرد يزيد بن مزيد ابن أخيه فقتل من الخوارج خلقاً عظيماً حتى جرت دماؤهم كالنهر ثم شخص إلى بغداد واتبعه الشراة وكان يركب في موكب ضخم من موالي عمه وعشيرته فلم يظفروا له بغرة حتى صار على الجسر ببغداد فشدوا عليه فترجل فقتل منهم خلقاً عظيماً وضربوه ضربات بالسيوف وكانت وقعة جليلة وقتل من الخوارج قتالاً عظيماً وأمن الناس فلا يعلم أن الخوارج دخلت قط بغداد ظاهراً فقتلت أحداً إلا ذلك اليوم وأقام زائدة بن معن بن زائدة خليفة أبيه باليمن حتى قتل أبوه واستعمل المنصور مكانه الحجاج بن منصور ثم صرفه فاستعمل مكانه يزيد بن منصور.
    وخالف أهل اليمامة والبحرين سنة 152 وقتلوا أبا الساج عامل أبي جعفر عليهم فوجه عليهم عقبة بن سلم الهنائي فقتل من بها من ربيعة مجازاة لما فعل معن باليمن وقال لو كان معن على فرس جواد وأنا على حمار أعرج لسبقته إلى النار وسبى العرب والموالي.

    وقدم على عقبة رسول ببشارة من عند المنصور فقال له عقبة ما عندي مال فأعطيك إلا أنني أعطيك ما قيمته خمسمائة ألف درهم قال وما ذاك قال أدفع إليك خمسين رجلاً من ربيعة فتنطلق بهم فإذا صرفت إلى البصرة أظهرت أنك تريد ضرب أعناقهم وصلبهم على أبواب أعداء أمير المؤمنين فإنك لا تشير إلى أحد إلا افتدى منك بعشرة آلاف درهم قال قد رضيت فدفعهم إليه فقدم بهم البصرة ووقف بهم في المربد وأظهر أنه يريد ضرب أعناقهم وصلبهم فاجتمع الناس حتى كادت تكون فتنة وسوار ابن عبد الله قاضي البصرة يومئذ فأرسل إلى الرسول فأحضره ثم وجه فحبس القوم وقال تمسك عنهم حتى آمرك وكتب إلى المنصور بخبرهم وعظم عليه الخطب منهم وكتب إليه أنه قد عفا عنهم وجزاه الخير.
    وقتل إلياس بن حبيب الفهري عامل إفريقية فولى أبو جعفر حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب ابن أخي إلياس فأقام بها مدة ووثب رجل يقال له عاصم بن جميل الإباضي فقتله وكثرت الإباضية بإفريقية وولت عليهم أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري فاستفحل أمره وغلب على البلد فولى أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعي فقدم طرابلس وزحف إليه أبو الخطاب من القيروان فحاربه فقتله محمد بن الأشعث ووجه برأسه إلى أبي جعفر.
    وصار محمد بن الأشعث إلى القيروان فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج عليه هاشم بن أشتاخنج الخراساني وضافره من بالبلد من الجند وأهل خراسان فأخرجوه عن البلد وولوا عليهم رجلاً يقال له عيسى بن موسى الخراساني وانصرف ابن الأشعث إلى العراق.
    وكتب أبو جعفر إلى الأغلب بن سالم التميمي بولاية البلد فوثب أهل إفريقية فنحوا الأغلب بن سالم وولوا الحسن بن حرب فلما بلغ أبا جعفر الخبر كره اضطراب البلد وكتب إلى الحسن بن حرب بولاية البلد فلما سكن البلد ولي عمر بن حفص المهلبي هزارمرد فقدم البلد فلم يقم إلا يسيراً حتى وثب به يعقوب بن تميم الكندي المعروف بأبي حاتم ومعه أهل البلد فحاصره بالقيروان فلم يزل محاصراً حتى قتل سنة 153 وغلب على البلد أبو حاتم يعقوب بن تميم الإباضي.
    وولى أبو جعفر يزيد بن حاتم المهلبي المغرب سنة 154 وخرج يشيعه حتى أتى بيت المقدس فأمره بالنفوذ وانصرف أبو جعفر فاستنفر الشامات والجزيرة وقدم يزيد بن حاتم مصر فأقام بها يسيراً ثم شخص إلى إفريقية فصار إلى طرابلس في خلق عظيم وزحف إليه أبو حاتم الإباضي فالتقيا بطرابلس فقاتله وقامت الحرب بينهما أياماً فقتل أبو حاتم وخلق عظيم من أصحابه وقدم يزيد بن حاتم القيروان سنة 155ونادى في الناس جميعاً بالأمان ولم يزل مقيماً على البلد خلافة أبي جعفر وخلافة المهدي وخلافة موسى وبعض خلافة الرشيد.
    وتحرك أهل الطالقان فوجه إليهم عمر بن العلاء ففتح الطالقان ودنباوند وديلمان وسبى من الديلم سبايا كثيرة ثم صار إلى طبرستان فلم يزل مقيماً بها خلافة المنصور.
    ووجه المنصور الليث مولى أمير المؤمنين إلى فرغانة وملكها يومئذ فتران بن افراكفون ومنزله مدينة يقال لها كاشغر فحاربهم محاربة شديدة حتى طلب ملك فرغانة الصلح فصالحهم على مال كثير وأوفد ملك فرغانة رجلاً من أصحابه يقال له باتيجور فعرض عليه الإسلام فأبى فلم يزل محبوساً إلى أيام المهدي وقال لا أخون الملك الذي وجهني.
    وبنى أبو جعفر مدينة المصيصة وكانت حصنا صغيرا قيل إن عبد الله ابن عبد الملك بن مروان كان بناه وكانت الروم تطرقهم في كل وقت فتستبيح ذلك الموضع فبنى عليها السور وجعل عليها الخندق وأسكنها المقاتلة وحمل إليها أهل المحابس وكان الذي تولى بناءها العباس بن محمد وصالح بن علي وأخذ أبو جعفر أموال الناس حتى ما ترك عند أحد فضلاً وكان مبلغ ما أخذ لهم ثمانمائة ألف ألف درهم وكان يقول لأهل بيته إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ فأنا أراعيكم ببصري واهتم بكم بنفسي فالله الله في أنفسكم فصونوا وفي أموالكم فاحتفظوا بها وإياكم والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له من أنت؟ وكان يقول الملوك ثلاثة فمعاوية وكفاه زيادة وعبد الملك وكفاه حجاجه وأنا ولا كافي لي.
    وكان يقول من قل ماله قل رجاله ومن قل رجاله قوي عليه عدوه ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه ومن اتضع ملكه استبيح حماه.

    وقال يوماً لأصحابه إن هذا الملك أفضى إلي وأنا حنيك السن قد حلبت هذا الدهر أشطره وزاحمت المشاة في الأسواق وشاهدتهم في المواسم وغازيتهم في المغازي فو الله ما أحب أن أزداد بهم خبرا على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي منذ تواريت عنهم بهذه الجدارات وتشاغلت عنهم بأمورهم مع إني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت العيون عليهم حتى أتتني أخبارهم وهم في منازلهم.
    وحدثني بعض أشياخنا قال إن أبا جعفر يوماً ليخطب ويذكر الله إذ قام إليه رجل فقال أذكرك من تذكر يا أمير المؤمنين به فقال سمعاً سمعاً لمن قبل عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن تأخذني العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأنت أيها القائل ما الله أردت بها وإنما أردت أن يقال قام وقال وعوقب فصبر وأهون بقائلها لو هممت فاهتبلها ويلك إذ غفرت وإياك وإياكم أيها الناس وأختها فإن الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت وردوا الأمر إلى أهله تصدروه كما أوردوه ثم عاد إلى الموضع من الخطبة.
    وحج أبو جعفر في خلافته خمس حجج سنة 140 و141 و147 و152 و158 فلم يتم الحج وهلك في أول العشر فأقام الحج إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.
    وقال أبو جعفر لما حضرته الوفاة لمواليه إني كنت رأيت في المنام قبل أن يفضي هذا الأمر إلينا كانا في المسجد الحرام إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت ومعه لواء فقال أين عبد الله فقمت أنا وأخي وعمي فسبقنا أخي يعني أبا العباس فأخذ اللواء فخطا به خطوات أحصيها وأعدها ثم سقط وسقط اللواء من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى موضعه فقال أين عبد الله فقمت أنا وعمي فزحمت عمي فألقيته وتقدمت فأخذت اللواء فخطوت به خطوات أحصيها وأعدها ثم سقطت وسقط اللواء من يدي وقد انقضت تلك الخطأ وأنا ميت في يومي.
    ومات لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 158 وهو ابن 68 سنة ودفن ببئر ميمون وصلى عليه ابنه صالح فكانت ولايته 22 سنة وخلف من الولد الذكور ستة محمداً المهدي وأمه أم موسى بنت منصور الحميريه وصالحا ويعقوب وأمهما الطلحية... وكان ابنه جعفر الأكبر قد توفي في حياته وأمه أم موسى بنت منصور الحميريه.
    وكان الغالب عليه أبو أيوب الخوزي وكان أبو أيوب كاتباً لسليمان ابن حبيب المهلبي الذي كان أبو جعفر عامله في أيام بني أمية فعتب على أبي جعفر فأمر بضربه وحبسه فتخلصه أبو أيوب فحفظ ذلك له فاستوزره ثم سخط عليه وقتله واستصفى ماله وقتله سنة 154 ولم يعرف أن أحداً غلب عليه بعد وكان له سمار منهم هشام بن عمرو التغلبي وعبد الله بن الربيع الحارثي وإسحاق بن مسلم العقيلي والحارث بن عبد الرحمن الحرشي وكان أول من ولي القضاة الأمصار من قبله وكان يوليهم أصحاب المعاون وكان قضاته عثمان بن عمر التميمي ويحيى بن سعيد الأنصاري ثم عبد الله بن صفوان الجمحي وعلى الكوفة شريك بن عبد الله النخعي وعلى البصرة عمر بن عامر السلمي ثم سوار بن عبد الله العنبري وعلى مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي وعلى شرطة عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى أن عزله وولاه خراسان واستعمل أخاه عمر بن عبد الرحمن ثم عزله لما عصى أخوه وفتك به واستعمل موسى بن كعب التميمي ثم المسيب ابن زهير الضبي وكان في أول أمره خليفة موسى بن كعب ثم مات موسى وكان كعب بن مالك على حرسه ثم عثمان بن نهيك ثم استعمل مكانه أبا العباس الطوسي وكان حاجبه عيسى بن روضة مولاه ثم حجبه الربيع مولاه وغلب على أكثر أموره.
    وأقام الحج للناس في أيامه في سنة 136 إسماعيل بن علي وقيل أبو جعفر وكان معه أبو مسلم سنة 137 إسماعيل بن علي سنة 138 فضل بن صالح ابن علي سنة 139 وهو عام الخصب العباس بن محمد بن علي سنة 140 أبو جعفر المنصور سنة 141 صالح بن علي وهو على دمشق وحمص وقنسرين سنة 142 إسماعيل بن علي سنة 143 عيسى بن موسى بن محمد ابن علي سنة 144 أبو جعفر المنصور سنة 145 السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب سنة 146 عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي سنة 147 أبو جعفر المنصور سنة 148 جعفر ابنه سنة 149 محمد بن إبراهيم بن علي سنة 150 عبد الصمد بن علي سنة 151 محمد بن إبراهيم سنة 152 أبو جعفر المنصور سنة 153 المهدي وهو ولي عهد أبيه سنة 154

    محمد بن إبراهيم سنة 155 عبد الصمد بن علي سنة 156 العباس بن محمد سنة 157 إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي سنة 158 خرج أبو جعفر يريد الحج فمات وأقام الحج إبراهيم. وغزا بالناس في أيامه سنة 138 صالح بن علي على جند الشام والعباس بن محمد بن علي على خراسان ولم يغز بلاد الروم منذ غزا الغمر بن يزيد في سنة 152 إلى هذه الغاية وأقام صالح بن علي واليا على الشام والثغور وهو يغزي بلاد الروم أمراء من قبله عليهم ابنه الفضل بن صالح وغيره سنة 142 العباس بن محمد سنة 143 العباس أيضاً سنة 145 حميد بن قحطبة سنة 146 محمد بن إبراهيم سنة 147 السري بن عبد الله بن الحارث سنة 148 الفضل بن صالح سنة 149 يزيد بن أسيد سنة 155 يزيد بن أسيد سنة 157 زفر بن عاصم الهلالي.
    وكان الفقهاء في زمانه يحيى بن سعيد الأنصاري محمد بن عبد الرحمن بن أبي طوالة هشام بن عروة بن الزبير محمد بن عمر بن علقمة موسى ابن عبيدة بن أبي صعصعة ربيعة الرأي وهو ابن أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عثمان بن الأسود حنظلة بن أبي سفيان عبد الملك بن جريج عبد العزيز بن أبي الرواد إبراهيم بن يزيد محمد يزيد الأتدي أبا سار البشاري واسمه هرار بن مرة سليمان بن مهران الكاهلي الحسن بن عبد الله النخعي أبا حيان يحيى بن سعيد التيمي مجالد بن سعيد محمد بن السائب الكلبي الأجلح بن عبد الله الكندي البرا بن أبي زائدة الهمداني يونس بن أبي إسحاق السبيعي الحسن بن عمر الفقيمي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى الحجاج بن أرطأة أبا حنيفة النعمان بن ثابت محمد بن عبد الله العرزمي الحسن بن عمارة مسعر بن كدام أبا حمزة الثمالي سفيان بن سعيد الثوري عبد الجبار بن عباس الهمداني يحيى بن سلمة بن كهيل عبد الله بن عون المزني خالد بن مهران أبا المعتمر سليمان التيمي عمرو بن عبيد سوار بن عبد الله أبا الأشهب العطاردي حميد الطويل شعبة بن الحجاج العبدي حماد بن سلمة حماد بن زيد عبد الله بن محرر عمرو بن قيس الكندي الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو غالب بن عبد الله العقيلي.
    ؟؟
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:34 am

    أيام المهدي
    وهو محمد بن عبد الله المنصور وأمه أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن ذي سهم بن يزيد الحميري وبويع في اليوم الذي توفي فيه المنصور وأخذ الربيع له البيعة بمكة على من حضر من الهاشميين والقواد وكان صالح بن المنصور حاضرا وموسى بن المهدي فأنفذ إليه الخبر مع منارة مولى أبي جعفر ووصيته فسار منارة اثني عشر يوماً إلى بغداد والمهدي بها فأحضر القواد والهاشميين والصحابة فبايعوا.
    وكانت الشمس يومئذ في الميزان أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة والقمر في الجوزاء عشرين درجة وخمسين دقيقة وزحل في الميزان ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة والمشتري في الجدي سبع عشرة درجة وأربعين دقيقة والمريخ في الجوزاء خمس درجات وأربعين دقيقة راجعا والزهرة في الميزان خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة وعطارد في العقرب ثماني عشرة درجة وعشر دقائق والرأس في الثور تسع درجات وعشر دقائق.
    وقرأ المهدي وصية أبي جعفر وكانت نسختها بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله أمير المؤمنين إلى المهدي محمد ابن أمير المؤمنين ولي عهد المسلمين حين أسند وصيته إليه بعده واستخلفه على الرعية من المسلمين وأهل الذمة وحرم الله وخزائنه وأرضه التي يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين إن أمير المؤمنين يوصيك بتقوى الله في البلاد والعمل بطاعته في

    العباد ويحذرك الحسرة والندامة والفضيحة في القيامة قبل حلول الموت وعاقبة الفوت حين تقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب هيهات أين منك المهل وقد انقضى عنك الأجل وتقول رب ارجعني لعلي أعمل صالحاً فحينئذ ينقطع عنك أهلك ويحل بك عملك فترى ما قدمته يداك وسعت فيه قدماك ونطق به لسانك واستركبت عليه جوارحك ولحظت له عينك وانطوى عليه غيبك فتجزي عليه الجزاء الأوفى إن شرا فشرا وإن خيراً فخيراً فلتكن تقوى الله من شأنك وطاعته من بالك استعن بالله على دينك وتقرب به إلى ربك ونفسك فخذ منها ولا تجعلها للهوى ولن تعمل الشر قامعا فليس أحد أكثر وزراً ولا أعز إثماً ولا أعظم مصيبة ولا أجل رزيئة منك لتكاثف ذنوبك وتضاعف أعمالك إذ قلدك الله الرعية تحكم فيهم بمثل الذرة فيقتضون منك أجمعون وتكافي على أفعال ولاتك الظالمين فإن الله يقول إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فكأني بك وقد أوقفت بين يدي الجبار وخذلك الأنصار وأسلمك الأعوان وطوقت الخطايا وقرنت بك الذنوب وحل بك الوجل وقعد بك الفشل وكلت حجتك وقلت حيلتك وأخذت منك الحقوق وأقتاد منك المخلوق في يوم شديد هوله عظيم كربه تشخص فيه الأبصار لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع فما عسيت أن يكون حالك يومئذ إذا خاصمك الخلق واستقضى عليك الحق إذ لا خاصة تنجيك ولا قرابة تحميك تطلب فيه التباعة ولا تقبل فيه الشفاعة ويعمل فيه بالعدل ويقضي فيه بالفضل قال الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فعليك بالتشمير لدينك والاجتهاد لنفسك فافكك عنقك وبادر يومك واحذر غدك واتق دنياك فإنها دنيا غادرة موبقة ولتصدق لله نيتك وتعظم إليه فاقتك وليتسع إنصافك وينبسط عدلك ويؤمن ظلمك وواس بين الرعية في الاحتكام واطلب بجهدك رضي الرحمن وأهل الدين فليكونوا أعضادك وأعط حظ المسلمين من أموالهم ووفر لهم فيأهم وتابع أعطياتهم عليهم وعجل بنفقاتهم إليهم سنة سنة وشهرا شهراً وعليك بعمارة البلاد بتخفيف الخراج واستصلح الناس بالسيرة الحسنة والسياسة الجميلة وليكن أهم أمورك إليك تحفظ أطرافك وسد ثغورك وإكماش بعوثك وارغب إلى الله عز وجل في الجهاد والمحاماة عن دينه وإهلاك عدوه بما يفتح الله على المسلمين ويمكن لهم في الدين وابذل في ذلك مهجتك ونجدتك ومالك وتفقد جيوشك ليلك ونهارك واعرف مراكز خيلك ومواطن رحلك وبالله فليكن عصمتك وحولك وقوتك وعليه فليكن ثقتك واقتدارك وتوكلك فإنه يكفيك ويغنيك وينصرك وكفى به مؤيداً ونصيراً وأمره بعد ذلك بأمور يطول الكتاب بها فاقتصرنا على صدر الوصية.
    وأظهر جزعاً شديداً على المنصور ووردت الوفود عليه يعزونه فجعل كل قوم يقولون بما أمكنهم حتى دخل شبيب بن شيبة فعزاه ثم قال يا أمير المؤمنين إن الله لم يرض لك إذ قسم لك الدنيا إلا بأسناها وأرفعها فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا بمثل ما رضي الله لك من الدنيا وعليك بتقوى الله فإنها عليكم نزلت ومنكم أخذت وإليكم ردت.
    وقدم الربيع مستهل المحرم ومعه مفاتيح الخزائن فجلس المهدي للناس في النصف من المحرم وأمر الربيع فأحضر دفتر القبوض ووجه إلى كل من كان أبو جعفر قبض شيئاً من ماله فأحضره وأقبل عليهم فقال إن أمير المؤمنين المنصور كان بما حمله الله من أموركم وقلده من رعايتكم يدبر عليكم كما يدبر الوالد البر على ولده وكان أنظر لكم منكم لأنفسكم وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم فحرس لكم من أموالكم ما لم يأمن ذهابه وهذه أموالكم مبارك لكم فيها فخللوا أمير المؤمنين من إبطائها عنكم ثم أمر بإخراج من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس فأطلقهم وأمر لهم بجوائز وصلات وأرزاق داره ثم أطلق سائر الناس ولم يطلق أحداً إلا وكساه ووصله على قدره حتى بلغ إلى عبد الله بن مروان وكان في الحبس من أيام أبي العباس فأمر بتخلية سبيله وأعطاه عشرة آلاف درهم فقال له عيسى بن علي إن في أعناقنا بيعة له وقد كان هذا الرجل ولي عهد أبيه وأنت أعلم وقد كان وهب لكاتبي جوهراً قيمته ثلاثون ألفاً.

    وكان سبب الجوهر الذي ذكره عيسى أن امرأة عبد الله بن مروان وهي أم يزيد قدمت الكوفة رجاء أن تجد من تكلمه في زوجها وقيل لها لو كلمت عيسى بن علي فجاءت إلى كاتبه عباس بن يعقوب فكلمته ووهبت له جوهراً كان بقي عندها وسألته أن يكلم عيسى فيتكلم فيه فأخذ الجوهر ولم يكلمه فقال عبد الله بن الربيع الحارثي لما فعل المهدي ما فعل من رد الأموال وإطلاق المحبسين وأمن الخائفين وصلات المعدمين سمعت المنصور يقول للمهدي لما ودعه عند خروجه إلى مكة إني تركت الناس ثلاثة أصناف فقيراً لا يرجو إلا غناك وخائفاً لا يرجو إلا أمنك ومسجونا لا يرجو الفرج إلا منك فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية لا تمدد لهم كل المد.
    ودخل الحارث بن عبد الرحمن إلى المهدي فذكر ما حضر من أمر المنصور ومكر الربيع وقال لقد رأيت من تدبيره ما لا يهتدي إليه أحد قال وما ذاك قال لما توفي المنصور صير الربيع صالحا أخاك في صدر المجلس وقدمه على جميع من حضر فلما دفن قدم ابنك موسى وقال لأخيك كنت أولى بالتقدم لغيبة أخيك المهدي فلما صار أبوك تحت الأرض وولي الأمر أبو هذا كان أولى بالتقدم منك فقال المهدي إن ساس الملك أحد فليسسه مثل الربيع.
    وخلع المهدي عيسى بن موسى من ولاية العهد واشترى ذلك بعشرة آلاف ألف درهم وبايع لابنه موسى بولاية العهد من بعده سنة 159 ثم بايع لابنه هارون بولاية العهد بعد موسى.
    وحج المهدي سنة 160 فجرد الكعبة وكساها القباطي والخز والديباج وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها إلى أسفلها وكانت الكعبة في جانب المسجد لم تكن متوسطة فهدم حيطان المسجد الحرام وزاد فيه زيادات واشترى من الناس دورهم ومنازلهم وأحضر الصناع والمهندسين من كل بلد وكتب إلى واضح مولاه وعامله على مصر في حمل الأموال إلى مكة واتخاذ الآلات وما يحتاج إليه من الذهب والفسيفساء وسلاسل القناديل والخروج بها حتى يسلمها إلى يقطين بن موسى ومحمد بن عبد الرحمن وصير الكعبة في الموسط وزاد مما يلي الكعبة إلى باب الصفا تسعين ذراعا ومن الكعبة إلى باب بني شيبة ستين ذراعا وصير ذرعه مكسرا مائة ألف ذراع وعشرين ألف ذراع وطول المسجد من باب بني جمح إلى باب بني هاشم إلى العلم الأخضر أربعمائة ذراع وأربع أذرع وفيه من الأساطين مما حمل في البحر من مصر أربعمائة وأربع وثمانون أسطوانة طول كل أسطوانة عشر أذرع وصير فيه أربع مائة طاق وثمانية وتسعين طاقاً وجعل في المسجد الأبواب ثلاثة وعشرين باباً فكان المهدي آخر من زاد في المسجد الحرام وبنى العلمين اللذين يسعى بينهما وبين الصفا والمروة وبينهما من الذرع مائة واثنتا عشرة ذراعاً فصار بين الصفا والمروة لما أخرج المسجد إلى الموضع الذي هو فيه الساعة سبعمائة وأربع وخمسون ذراعاً ووسع المسجد الذي لرسول الله وزاد فيه مثل ما كان عليه وحمل إليه عمد الرخام والفسيفساء والذهب ورفع سقفه وألبس خارج القبر الرخام.
    وبنى الثغر المعروف بالحدث سنة 163 وكان فيه دفع للعدو وتسديد وذلك أن الروم أغاروا على مرعش فسبوا وقتلوا خلقا فلما بنى المهدي الحدث عظم ارتفاق أهل الثغور به وأغزى هارون ابنه في هذه السنة ومعه جماعة من القواد والجند وخرج يشيعه إلى جيحان ففتح هارون في تلك الغزاة سمالو وعدة حصون ثم أغزاه سنة 164 فبلغ إلى القسطنطينية فطلب منه الروم الصلح فصالحهم وانصرف.
    وعزل عقبة بن سلم الهنائي عن اليمامة والبحرين لما بلغه من قتله ما قتل من ربيعة وقال لا يراني الله أبوء بإثمه ولا أرضي فعله فلما قدم عقبة بن سلم لقيه الحسن بن قحطبة وقال له يا عقبة أدخلت نفسك النار فقال ما أنصفتنى يا أبا الحسن أدخلت نفسي النار لأنفي عنك العار.
    وقدم غلام من أهل اليمامة من ربيعة كان عقبة بن سلم قتل أباه وعمه وخالين له وخمسة إخوة فوقف له على باب المهدي فلما جاز عقبة في موكبه ضربه بسكين مسمومة فقتله وأخذ الغلام إلى المهدي فسأله عن قصته فقصها عليه فأراد تخليته فتكلم القواد وقالوا والله ما فيه درك من عقبة ولكنه إن ترك وثب كل يوم كلب من الكلاب على قائد فقتله فأمر المهدي بضرب عنقه. واضطربت خراسان وتحركت السغد وفرغانة وخرج يوسف البرم وهو رجل من موالي ثقيف ببخارى يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاتبعه على ذلك خلق من الناس

    فحارب السلطان وخرج أحمد بن أسد إلى فرغانة ففتح حتى وصل إلى كاسان وهي المدينة التي ينزلها الملك وكان يزيد بن مزيد الشيباني يحارب يحيى الشاري فكتب إليه المهدي أن ينكفئ فيمن معه إلى يوسف البرم فلقيه فكانت بينهما وقعات عدة ثم هزمه يزيد فرفع علما أحمر وأمن من يصير تحته فصار أصحاب يوسف كلهم تحته وأسر يوسف فحمله إلى المهدي فلما دخل إليه كلمه بكلام غليظ فشتمه المهدي فقال لبئس ما أدبك أهلك فضرب عنقه وصلبه.
    وكتب إلى عمر بن العلاء وكان بطبرستان أن يصير إلى جرجان فيخرج من بها من المحمرة بعد أن يدعوهم إلى الطاعة فصار إلى جرجان ففرق جمع المحمرة وقتل عبد القاهر وفض الجمع.
    ووجه المهدي رسلاً إلى الملوك يدعوهم إلى الطاعة فدخل أكثرهم في طاعته فكان منهم ملك كابل شاه يقال له حنحل وملك طبرستان الإصبهبذ وملك السغد الإخشيد وملك طخارستان شروين وملك باميان الشير وملك فرغانة فرنران وملك أسروشنه أفشين وملك الخرلخية جيغويه وملك سجستان رتبيل وملك الترك طرخان وملك التبت حهورن وملك السند الرأي وملك الصين بغبور وملك الهند وأبراح وهو فور وملك التغزغز خاقان.
    واستعمل المهدي روح بن حاتم المهلبي على السند فقدمها والزط قد تحركوا بها فلم يقم إلا يسيراً حتى عزل وولي نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ثم ضمت السند إلى محمد بن سليمان بن علي الهاشمي واستعمل عليها عبد الملك بن شهاب المسمعي فولى أقل من عشرين يوماً وردت السند إلى نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ثم استعمل المهدي الزبير بن العباس من ولد قثم بن العباس بن عبد المطلب ولم يبلغ البلد فاستعمل المهدي بمصبح ابن عمرو التغلبي وكانت العصبية بالسند أول ما وقعت فاستعمل ليث بن طريف مولاه فقدم المنصورة فأقام بها شهراً والزط قد كثروا فجرد عليهم السيف فأفناهم.
    وشخص المهدي إلى البصرة سنة 165 يريد الحج فخبر بقلة الماء في الطريق فأقام وبلغه أن أمر السند قد اضطرب فوجه إلى الليث بجيش من البصرة وسار راجعاً إلى بغداد.
    وخرج يريد الشام وعسكر بالبردان فأتاه الخبر بوفاة عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس فانصرف إلى بغداد حتى حضر جنازته ومشى فيها ثم رجع إلى معسكره.
    وخرج حتى صار إلى الثغر ثم صار إلى بيت المقدس فأقام أياماً وانصرف فلما صار بجند قنسرين لقيته تنوخ بالهدايا وقالوا نحن أخوالك يا أمير المؤمنين فقال من هؤلاء قيل تنوخ حي ينتمي إلى قضاعة ووصف له حالهم وكثرة عددهم وقيل له إنهم كلهم نصارى فقال لا أرضاكم أنتم إلى خؤولتي وارتد منهم رجل فضرب عنقه فخافوا فثبتوا على الإسلام.
    وتوفي عيسى بن موسى سنة 167 فولى المهدي ابنه موسى بن عيسى الكوفة وما كان إلى أبيه من الأعمال.
    وتوفي يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وكان عامل أبي جعفر على اليمن فاستعمل المهدي مكانه رجاء بن سلام بن روح بن زنباع الجذامي ثم ولي علي بن سليمان بن علي وهو الذي كتب إليه في إشخاص الغطريف ابن عطاء أخي الخيزران أم موسى وهارون ابنيه وكان الغطريف غلاماً لرجل من أهل جرش فأعتقه وكان يؤاجر نفسه بنطر كروم فبعث إلى عامله على جرش في حملة فوجده في كرم عليه جبة صوف فكساه وحباه وحمله إلى المهدي فرفع منزله ثم صرف علياً وولي عبد الله بن سليمان ثم صرفه وولي منصور بن يزيد بن منصور الحميري ثم صرفه وولي عبد الله بن سليمان بن علي وصرفه وولي سليمان بن يزيد الحارثي ثم عبد الله بن محمد بن إبراهيم الزينبي وهو ابن بنت سليمان ثم إبراهيم بن سليمان العبدي ثم الغطريف بن عطاء خال موسى وهارون ثم الربيع بن عبد الله الحارثي.
    وأمر المهدي بجباية أسواق بغداد وجعل عليها الأجرة وجعل سعيد الحرشي بذلك فكان أول ما جبيت أسواق بغداد للمهدي فيقال إنه قام إليه رجل فقال عندي نصيحة يا أمير المؤمنين فقال لمن نصيحتك هذه لنا أم للعامة أم لنفسك قال لك يا أمير المؤمنين قال ليس الساعي أعظم عورة ولا

    أفحش لؤما من قابل سعايته ولن تخلو من أن تكون حاسد نعمه فلا نشفي غيظك أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك ثم أقبل على الناس فقال لأعلمن ما تنصح لنا متنصح إلا بما لله فيه رضي وللمسلمين صلاح فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب من استتر عنا لم نكشفه ومن أبدانا طلبنا توبته ومن أخطأ علينا أقلناه عثرته إني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة والقلوب لا تبقى لوال لا يعطف إذا استعطف ولا يعفو إذا قدر ولا يغفر إذا ظفر ولا يرحم إذا استرحم من قلت رحمته واشتدت سطوته وجب مقته وكثر مبغضوه. وكان المهدي قد ألح في طلب الزنادقة وقتلهم حتى قتل خلقا كثيراً فبلغه أن صالح بن أبي عبيد الله كاتبه زنديق فأحضره فلما صح عنده أمره استتابه فقال لا رغبة عما أنا عليه ولا حاجة في غيره فأمر المهدي أبا عبيد الله أباه أن يقوم فيضرب عنقه فقام فأخذ السيف ثم دنا من ابنه فلما رفعه رجع فقال يا أمير المؤمنين إني قمت سامعاً مطيعاً وأنه أدركني ما يدرك الرجل في ولده فأمره فجلس ثم أمر بضرب عنقه بين يديه ثم أملى عليه كتاباً وهو ينظر إلى ابنه مقتولاً ثم قال إن كنت كرهت قتل عدو لله كافر به فأبعدك الله فلما قام أبو عبيد الله قال بعض الجلساء ما أحسب هذا يطيب قلبه أبدا فقال كذلك والله أظنه وإنه لقريب من ابنه ثم كانت السخطة عليه وصير مكانه يعقوب بن داود وأتى بصالح بن عبد القدوس فاستتابه فتاب فلما خرج من عنده ذكر له قوله:
    والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يواري في ثرى رمسه
    قال وإنك لتقول هذا فرده فضرب عنقه ولم يستتبه ووثب أهل الحوف بمصر سنة 168 فخرج إليهم موسى بن مصعب وكان العامل بها فقاتلهم قتالاً شديداً وكان صاحب علمه هاشم بن عبد الرحمن ابن معاوية بن حديج السكوني فنكس العلم وانهزم ومال أهل الخوف على موسى بن مصعب فقتلوه فولى المهدي الفضل بن صالح الهاشمي فلم يرد البلد إلا بعد وفاة المهدي.
    وكان الغالب على المهدي صدر خلافته معاوية بن عبد الله المعروف بأبي عبيد الله مولى الأشعريين ثم وقف منه على خيانة وصير مكانه يعقوب بن داود وكان يعقوب جميل المذهب ميمون النقيبة محباً للخير كثير الفضل حسن الهدى ثم عزله وسخط عليه فحبسه فلم يزل محبوساً حتى مات المهدي وصير مكانه محمد بن الليث صاحب البلاغة.
    وكان علي بن يقطين والحسن بن راشد يغلبان على أموره وكان على شرطته نصر بن مالك ثم مات نصر فولى أخاه حمزة بن مالك ثم عزله وولي عبد الله بن مالك وكان على حرسه محمد بن إبراهيم ثم عزله واستعمل مكانه أبا العباس الطوسي وكان حاجبه الربيع مولاه وكان قضاته ابن علاثة العقيلي وعافية بن يزيد الأزدي وعلى الكوفة شريك بن عبد الله وعلى البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري وعلى المدينة عبد الله بن محمد بن عمران التيمي وكان أول قاض قضى بها من قبل خليفة وعلى مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي ثم استعمل ابن اليسع الكندي من أهل الكوفة ثم غوث بن سليمان الحضرمي من أهل مصر ثم المفضل بن فضالة القتباني.
    وأصاب الناس في آخر سنة 168 ودخول سنة 169 وباء وموت كثير وظلمة وتراب أحمر كانوا يجدونه في فرشهم وعلى وجوههم.
    وخرج المهدي من بغداد لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 169 إلى الجبل فنزل قرية يقال لها الرذ من أرض ماسبذان وخرج يتصيد فأقام سائر يومه يطرد واتبعت الكلاب ظبياً وأمعن في الطلب واقتحم الظبي باب خربة ومرت الكلاب واقتحم به الفرس في أثره فصدمه باب الخربة وحمل إلى مضاربه فتوفي لثمان بقين من المحرم سنة 169 وهو ابن ثمان وأربعين. وحكي أنه أصبح ذات يوم فقال لعلي بن يقطين ولجماعة جلسائه أصبحت اليوم جائعا فأتي بخبز ولحم بارد فأكله وأكل القوم معه ثم قال إني داخل هذا البهو فنائم فيه فلا تنبهوني حتى انتبه فدخل فنام ونام القوم في الرواق فما راعهم إلا بكاؤه فتبادروا إليه وسألوه عن حاله فقال أرأيتم ما رأيت قالوا ما رأينا شيئاً قال رأيت شيخاً لو رأيته بين مائة ألف لعرفته وهو آخذ بعضادة البهو وهو يقول:
    كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ركنه ومنازله
    وصار عميد القصر من بعد بهجة ... وملك إلى قبر علته جنادله

    فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادى عليه معولات حلائله
    فلم يلبث بعد ذلك إلا عشرة أيام حتى توفي وكانت خلافته عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوماً وصلى عليه ابنه علي بن ريطة ودفن بالرذ وخلف من الولد الذكور ثمانية موسى وهارون وعليا وعبيد الله وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ومنصوراً.
    وأقام الحج للناس في أيامه سنة 159 يزيد بن منصور الحميري سنة 160 المهدي وأمر بالتوسعة في المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 161 موسى ابن المهدي سنة 162 إبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر سنة 163 علي بن المهدي وأمه ريطة بنت أبي العباس سنة 164 خرج المهدي يريد الحج فسار من الكوفة أربع مراحل ومعه خلق عظيم فعطش الناس وبلغه قلة الماء في الطريق فرجع من العقبة وحج بالناس صالح بن أبي جعفر سنة 165 صالح بن أبي جعفر سنة 166 محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي سنة 167 إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي سنة 168 علي بن المهدي.
    وغزا بالناس في أيامه سنة 159 جاءت الروم إلى سميساط فسبوا خلقاً كثيراً فوجه إليهم صغيراً مولاه فاستنقذ المسلمين وغزا بالناس العباس ابن محمد فبلغ أنقرة سنة 160 غزا ثمامة بن الوليد العبسي سنة 161 غزا عيسى بن علي ولقيه جيش الروم فحاصروه سنة 162 الحسن بن قحطبة الطائي سنة 163 هارون بن المهدي ففتح سمالو سنة 164 هارون أيضاً فبلغ خليج القسطنطينية سنة 166 ثمامة بن الوليد سنة 167 الفضل بن صالح سنة 168 محمد بن إبراهيم.
    وكان الفقهاء في أيامه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب إبراهيم بن محمد بن أبي الحسن سعيد بن عبد العزيز الجمحي عبد العزيز بن أبي حازم عبد الحميد المدني يونس بن أبي إسحاق السبيعي الحجاج بن أرطأة النخعي سفيان بن سعيد الثوري شريك بن عبد الله النخعي يحيى بن سلمة بن كهيل سلمة الأحمر إبراهيم بن سعد الزهري أبا مخنف لوط بن يحيى سفيان ابن الحسن الحماني جعفر بن عتاب يحيى بن أبي زائدة علي بن مسهر محمد بن مروان السدي زياد بن الطفيل عبد الرحمن بن مالك مالك بن الفضيل أبا محمد بن... محمد بن جابر اليمامي أبا الأشهب جعفر بن حيان العطاردي سلمة بن علقمة سعيد بن إياس خالد بن دينار جرير بن حازم الأزدي شعبة بن الحجاج حماد بن سلمة مهدي بن ميمون موسى ابن علي بن رباح عبد الله بن لهيعة جعفر بن الغطريف بقية بن الوليد الحمصي عبد السلام بن عبد الملك الدمشقي.
    أيام موسى بن المهديوبويع لموسى الهادي بن محمد المهدي وأمه أم ولد يقال لها الخيزرانة بماسبذان وكان غائباً بجرجان وأخذ له أخوه هارون البيعة وكتب إليه بالخبر فوافاه الرسول وهو نصير الوصيف بعد وفاة أبيه بثمانية أيام وكانت الشمس يومئذ في الأسد سبع عشرة درجة والقمر في الأسد اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة وزحل في الدلو درجة وأربعين دقيقة راجعاً والمشتري في العقرب أربع عشرة درجة وثلاثين دقيقة والمريخ في السرطان ثمانياً وعشرين درجة وخمسين دقيقة والزهرة في السنبلة ثماني درجات وثلاثين دقيقة وعطارد في السنبلة تسع درجات وخمسين دقيقة والرأس في الميزان تسعاً وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة.
    وارتحل من جرجان بعد ثلاثة أيام إلى العراق فنزل بعيساباذ وكان المهدي بنى هذا الموضع فاستتمه موسى وكان به منزلة وولي الغطريف بن عطاء خاله خراسان وأعمالها فقدم خراسان وكانت هادئه الأمور ساكنة والملوك في الطاعة فظهر منه أمور قبيحة وضعف شديد فاضطربت البلاد وتحرك جماعة من الطالبيين وصاروا إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم بالنصر والمعونة وذلك أن موسى ألح في طلب الطالبيين وأخافهم خوفا شديدا وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والأعطيه وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم فلما اشتد خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي وكان له مذهب جميل وكمال ومجد وقالوا له أنت رجل أهل بيتك وقد ترى ما أنت وأهلك

    وشيعتك فيه من الخوف والمكروه فقال وإني وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم فقال لهم إن الشعار بيننا أن ينادي رجل من رأى الجمل الأحمر فما وافاه إلا أقل من خمسمائة وكان ذلك في سنة 169 بعد انقضاء الموسم فلقيه سليمان بن أبي جعفر والعباس بن محمد بن علي وموسى بن عيسى بفخ فانهزم ومن كان معه وافترقوا وقتل الحسين بن علي وجماعة من أهله وهرب خاله إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي فصار إلى المغرب فغلب على ناحية تتاخم الأندلس يقال لها فاس فاجتمعت عليه كلمة أهلها.
    فذكر أهل المغرب أن موسى وجه إليه من اغتاله بسم في مسواك فمات وصار إدريس بن إدريس مكانه وولده بها إلى هذه الغاية يتوارثون تلك المملكة واضطربت اليمن على الربيع بن عبد الله الحارثي مولى موسى فاستعمل الحصين بن كثير العبدي ثم صرفه واستعمل مكانه أيوب بن جعفر الهاشمي ثم رد الربيع بن عبد الله الحارثي على البلد خلا صنعاء فلم تزل البلاد مضطربة أيام موسى كلها.
    وقدم الفضل بن صالح مصر فلم يهج أحداً من أهل الحوف الذين قتلوا موسى بن مصعب عامل المهدي فسكنهم وكف عن طلبهم فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج دحية بن الأصبغ بن عبد العزيز بناحية أهناس من قرى صعيد مصر في خلق عظيم فقطع الطريق وأخاف السبيل ثم تغلب فجبى الخراج فوجه الفضل بن صالح بقائد يعرف بسفيان ورجل من أهل الفيوم يعرف بعبد الله بن علي المرادي فلقيا دحية بموضع يقال له صحراء بويط وناوشاه الحرب فانهزم دحية فدخل قرموساً وهو الأتون الذي يعمل فيه الفخار فأخذاه أسيراً وأتيا به الفضل فضرب عنقه وصلبه وبعث برأسه إلى موسى.
    وشجرت بين موسى وبين أخيه الوحشة فعزم على خلعه وتصيير ابنه جعفر ولي العهد ودعا القواد إلى ذلك فتوقف عامتهم وأشاروا عليه أن لا يفعل وسارع بعضهم وقووا عزيمته في ذلك وأعلموه أن الملك لا يصلح أن صار إلى هارون فكان ممن سعى في خلعه أبو هريرة محمد بن فروخ الأزدي القائد ؟؟؟؟نقص صفحة 406
    أيام هارون الرشيدوولي هارون الرشيد بن محمد المهدي وأمه الخيزران في اليوم الذي توفي فيه أخوه موسى وهو لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة 170 ومن شهور العجم في أيلول.
    وكانت الشمس يومئذ في السنبلة عشرين درجة والقمر في الحوت خمساً وعشرين درجة وخمسين دقيقة وزحل في الدلو إحدى عشرة درجة راجعاً والمشتري في القوس سبع عشرة درجة والمريخ في القوس ثمانياً وعشرين درجة وعشر دقائق والزهرة في السنبلة خمس درجات وأربعين دقيقة والرأس في الميزان ثماني درجات وست دقائق.
    وولد المأمون في الليلة التي استخلف فيها الرشيد فبشر به فلذلك سماه المأمون وولد محمد بن هارون بعده بستة أشهر ووجه موسى بن عيسى في الليلة التي ولي فيها ليقيم الحج للناس ثم بدا له في الخروج فخرج هو فلحقه في الطريق فأقام الحج وأعطى أهل مكة والمدينة عطايا كثيرة وفرق فيهم أموالاً ثم انصرف فصار إلى قبر المهدي بماسبذان فتصدق عنده بأموال عظيمة وجعلها رسما في كل سنة.
    وولي الفضل بن يحيى خراسان فشخص إليها وقد خالف أهل الطالقان فافتتح الطالقان وزحف صاحب الترك في خلق عظيم ولقي عسكر الفضل والتحمت بينهما الحرب فضرب وجه صاحب الترك فاستنام واستباح الفضل عسكره وغنم أمواله وفيه يقول الشاعر:
    للفضل يوم الطالقان وقبله ... يوم أناخ به على خاقان
    ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين تواليا يومان
    وكان يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن قد هرب إلى خراسان ودخل أرض الديلم فكتب هارون إلى صاحب الديلم يطلبه منه ويتهدده فطلبه فلما رأى يحيى ذلك طلب الأمان من الفضل فأمنه وحمله إلى الرشيد فحبسه فلم يزل محبوساً حتى مات.
    وقيل إن الموكل به منعه من الطعام أياماً فمات جوعاً.

    وخبرني رجل من موالي بني هاشم قال: كنت محبوساً في الدار التي فيها يحيى بن عبد الله فكنت إلى جانب البيت الذي هو فيه فربما كلمني من خلف حائط قصير فقال لي يوماً: إني قد منعت الطعام والشراب منذ تسعة أيام فلما كان اليوم العاشر دخل الخادم الموكل به ففتش البيت ثم نزع عنه ثيابه ثم حل سراويله فإذا بأنبوبة قصب شدها في باطن فخذه فيها سمن بقر كان يلحس منه الشيء بعد الشيء يقيم برمقه فلما أخذها لم يزل يفحص برجله حتى مات.
    فحدثني أبو جميل قال: خرجت إلى البصرة في أيام المأمون فركب معنا في السفينة خادم فكان يخبرنا أنه من خدم الرشيد ثم حدثنا بحديث يحيى بن عبد الله وأنه الذي تولى قتله بمثل ما تقدم ذكره فلما كان في الليل قام إليه رجل كان في السفينة فدفعه في الماء والسفينة تسير فغرقه.
    وبايع هارون لابنه محمد بالعهد من بعده سنة 175 ومحمد ابن خمس سنين وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة وأخرج محمداً إلى القواد فوقف على وسادة فحمد الله وصلى على نبيه وقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس لا يغرنكم صغر السن فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء وجعل الرجل من بني هاشم يقول في ذلك حتى انقضى المجلس ونثرت عليهم الدراهم والدنانير وفار المسك وبيض العنبر.
    واستعمل هارون على السند سالما اليونسي مولى إسماعيل بن علي مكان الليث مولى أمير المؤمنين فأحسن السيرة ولم يلبث أن ولي إسحاق بن سليمان ابن علي الهاشمي وقدم البلد وكان عفيفا ثم عزله وولى طيفور بن عبد الله ابن منصور الحميري فهاجت بين اليمانية والنزارية حرب فوجه جابر بن الأشعث الطائي على غربي النهر ومكران ثم ولى سعيد بن سلم بن قتيبة فوجه أخاه كثير بن سلم فأساء السيرة وكان مذموما وصير الرشيد السند إلى عيسى بن جعفر بن المنصور فبعث إليها محمد بن عدي الثعلبي فلما قدم بدأ بالعصبية والتحامل وضرب القبائل بعضها ببعض وخرج من المنصورة يريد الملتان فلقيه أهلها فقاتلوه فهزموه ونهبوا ما معه من السلاح وفر منهزما لا يلوي على شيء حتى صار إلى المنصورة والتحمت العصبية بين اليمانية والنزارية واتصلت فولى الرشيد عبد الرحمن... ثم ولى أيوب بن جعفر بن سليمان ثم ولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي سنة 184 فوجه إليها أخاه المغيرة فرفعت النزارية رؤوسهم وعزموا على أن يقسموا البلاد أرباعا: ربعا لقريش وربعا لقيس وربعا لربيعة ويخرجوا اليمانية.
    ولما قدم المغيرة أغلق أهل المنصورة الأبواب ومنعوه الدخول إلا أن يعاهدهم ألا يستعمل فيهم العصبية أو يخرجوا جميعاً عن المدينة ويدخلها فخرج من به رمق ودخلها المغيرة فتحامل على النزارية فقاتلوه فهزموه وسار داود بن يزيد لما بلغه الخبر حتى قدم البلد فجرد فيهم السيف فقتل من النزارية خلقاً عظيماً وصار إلى المنصورة فأقام يقاتلهم عشرين يوماً ولم تزل الحروب بينهم عدة شهور ففتحها ثم سار إلى سائر مدن السند فلم يزل يفتح ويخرب إلى أن استقامت له البلاد.
    وولى هارون سليمان بن أبي جعفر دمشق فوثب به أهلها بسبب القلة البلور التي كانت في محرابهم فأخرجوه وانتهبوا كل ما كان معه.
    وخرج رجل من بني مرة يقال له عامر بن عمارة ويكنى أبا الهيذام بحوران من أرض دمشق فقتل اليمانية وذلك في سنة 176 فوجه إليهم الرشيد السندي وجماعة من القواد فقتل أبو الهيذام وفرق جمعه.

    وخرج هارون يريد الشام فلما بلغه قتل أبي الهيذام مضى إلى الثغر فأغزى هرثمة بن أعين بلاد الروم وأمر ببناء طرسوس في سنة 171 فأحكم بناءها وجعل لها خمسة أبواب وحولها سبعة وثمانين برجا ولها نهر عظيم يشق في وسطها عليه القناطر المعقودة وكان ابتداء بنائها على يد أبي سليمان مولاه ثم انصرف إلى العراق يريد الحج واستخلف على الشامات والجزيرة جعفر بن يحيى بن خالد فظهرت العصبية بحمص فصعد جعفر بن يحيى منبرها فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وقال: يا أهل الشام! أحذركم عواقب البطر ووبال ما لا يشكر من النعم وملمة كل خطب يدفع إلى ندم فإن السعيد من سعد بغيره والشقي من شقي بنفسه وأتعظ به غيره والمغبون من غبن عقله والمفتون من فتن في دينه والمحزوم من حزم حظه من ربه والخاسر من باع آخرته بدنياه وآجله بعاجلة وإنما يخشى الله من عباده العلماء ولم يعط الله من عباده إلا أولي البهاء...في كلام كثير.
    وخرج الوليد بن طريف الحروري بالجزيرة سنة 179 وكان عبد الملك ابن صالح يتولاها ويتولى بعض الشام فحصره الوليد بالرقة فوجه الرشيد موسى بن خازم التميمي في جيش فهزمه الوليد فوجه بمعمر بن عيسى العبدي فكانت بينهما وقائع ثم مات معمر وهو في محاربته فتوجه إليه يزيد بن مزيد الشيباني فواقعه يوماً واحداً ثم قال له في اليوم الثاني: ابرز يا وليد ولا يقتل الناس بيني وبينك! فبرز له فقتله يزيد واحتز رأسه وبعث به إلى الرشيد وتفرق أصحابه ثم اجتمعت طائفة منهم مع رجل يقال له خراشة فمالوا نحو الجزيرة مما يلي ديار ربيعة.
    ولم يزل يزيد بن حاتم المهلبي على إفريقية منذ أيام المنصور إلى أيام الرشيد ثم توفي واستخلف على إفريقية ابنه داود بن يزيد بن حاتم فلم يقم فيهم بالعدل وقاتلوه فهزموه فولى الرشيد روح بن حاتم المهلبي فقدم البلد فسكنهم ثم مات فولى الرشيد نصر بن حبيب المهلبي ثم عزله وولى الفضل بن روح فثار عليه عبد الله بن الجارود واجتمع معه أهل المغرب فحاربوه فقتلوا عساكره وظفروا به فحبسوه وأصحابه.
    وغلب على البلد عبد الله بن الجارود فطلب الأمان وسأل أن يقضي له حوائج سماها فأجابوه إلى كل ما سأل وانصرفوا إلى الرشيد بخبره.
    ووجه الرشيد هرثمة بن أعين إلى الشام ومصر والمغرب يتقراها ويصلحها فلم يزل يمر ببلد بلد فيصلح ما يريد إصلاحه حتى صار إلى مصر في سنة 179 وقد كانوا وثبوا على عاملهم وصار هرثمة إلى المغرب فلما بلغ طرابلس من أرض المغرب أعطى جندها أرزاقهم الفائتة وآمنهم جميعاً حتى قدم القيروان سنة 179 فآمن الناس وسكنهم.
    وخرج عليه قوم في ناحية من النواحي، فوجه إليهم جيشاً ففرقهم، وأقام هرثمة حتى أصلحها ثم عاد إلى مصر، فأقام بها حتى استقامت أحوالها، وحمل من رأى حملة منها ثم انصرف.
    وولى الرشيد إفريقية محمد بن مقاتل العكي فثار عليه تمام بن تميم التميمي حتى حصره في القيروان، ثم فتح أهل القيروان الباب لتمام فدخل المدينة، وطلب محمد بن مقاتل الأمان فأمنه، وخرج ابن مقاتل إلى العراق وتغلب تمام على البلد، ثم ثار عليه أهل خراسان وأهل الشام، فحاربوه، فانهزم منهم. وقدم إبراهيم بن الأغلب فولاه أهل المغرب عليهم، فضبط عليهم، وبلغ الرشيد ذلك، فكتب إليه بعهده على إفريقية وبعث إليه بالعهد مع يحيى ابن موسى الكندي.
    وكان إبراهيم بن الأغلب بن سالم أحد الجند الذين أخرجوا من مصر إلى إفريقية، وكان يتولى شرطة صاحب إفريقية فلما توفي ابن مقاتل واستخلف إبراهيم على البلد ضبطه وحسنت طاعة أهله وكان يحمل إلى صاحب إفريقية من مصر، في كل سنة، ستمائة دينار فكتب إبراهيم بن الأغلب إلى الرشيد يعلمه أنه يقوم بالبلد بغير مال فولاه إياه، فدام أمره وأمر ولده إلى هذه الغاية. وكان الرشيد ولى اليمن العباس بن سعيد مولاه، فضج منه أهل اليمن، وحكي عنه مذاهب قبيحة، فصرفه الرشيد وولى مكانه إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم الإمام ثم صرفه، وولى عبد الله بن مصعب الزبيري ثم صرفه، وولى أحمد بن إسماعيل بن علي مكانه، ثم صرفه، وولى حماداً البربري مولاه فجار على أهل اليمن وغلظ عليهم.

    ووثب الهيصم بن عبد المجيد الهمداني باليمن سنة 179، وغلب عليها، فكان معقلة بجبل يقال له مسور، وكان معه عمر بن أبي خالد الحميري مقيما بعشتان، وكان معه الصباح بناحية يقال لها حراز، فلقوا حماداً البربري فكانت بينهما وقائع قتل فيها نيف وعشرون ألفاً من الناس، وأسر حماد عمر بن أبي خالد فوجه به إلى الرشيد واتصلت الحرب بينه وبين الهيصم تسع سنين، ثم صار إلى حماد رجل من أهل البلد، فأعلمه أن الهيصم قد نزل من قلعته وصار إلى قرية من القرى متنكرا يتجسس الأخبار فوجه معه إلى تلك القرية بقائد يقال له حراد فأخذ الهيصم فقال الهيصم: والله إن القتل لشيء ما أنكره، وما خلقت الرجال إلا للموت والقتل. فحمله حماد على جمل، وأدخله إلى صنعاء، ثم وجه به إلى الرشيد فأنشده في شعر طويل:
    فشفاء ما لا تشتهي ... ه النفس تعجيل الفراق
    فدعا بالهيصم فأمر بضرب عنقه، وانحرف حماد البربري إلى صباح فضرع صباح إلى الأمان فأعطاه الأمان وقيل: لم يعطه إياه، ولكنه أسره ووجه به إلى الرشيد مع ستمائة رجل من أصحاب الهيصم فضرب أعناقهم جميعاً، وصلب الهيصم وصباحا معا، وأقام حماد البربري على اليمن ثلاث عشرة سنة، وسام أهلها سوء العذاب، حتى صاح قوم منهم بالرشيد وهو بمكة: نحن نعوذ بالله وبك، يا أمير المؤمنين! اعزل عنا حماداً البربري إن كنت تقدر. فقال: لا ولا كرامة.
    وكان حماد عبدا لهارون فأعتقه في أول خلافته ثم عزل الرشيد حمادا واستعمل مكانه عبد الله بن مالك فلم يزل في البلد محمود السيرة جميل المذهب حتى توفي هارون.
    وفاة موسى بن جعفروتوفي موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم ولد، يقال لها حمدة سنة 183، وسنة ثمان وخمسون سنة وكان ببغداد في حبس الرشيد قبل السندي بن شاهك فأحضر مسروراً الخادم وأحضر القواد والكتاب والهاشميين والقضاة ومن حضر ببغداد من الطالبيين، ثم كشف عن وجهه، فقال لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعرفه حق معرفته، هذا موسى بن جعفر. فقال هارون: أ ترون أن به أثرا وما يدل على اغتيال؟ قالوا: لا! ثم غسل وكفن وأخرج ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي.
    وكان موسى بن جعفر من أشد الناس عبادة، وكان قد روى عن أبيه. قال الحسن بن أسد: سمعت موسى بن جعفر يقول: ما أهان الدنيا قوم قط إلا هناهم الله إياها وبارك لهم فيها، وما أعزها قوم قط إلا نغصهم الله إياها.
    وقال: إن قوماً يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفاً، فهم الآمنون يوم القيامة إن كنت لأرى فلاناً منهم.
    وذكر عنده بعض الجبابرة فقال: أما والله لئن عز بالظلم في الدنيا ليذلن بالعدل في الآخرة. وقيل لموسى بن جعفر وهو في الحبس: لو كتبت إلى فلان يكلم فيك الرشيد؟ فقال: حدثني أبي عن آبائه أن الله عز وجل أوحى إلى داود: يا داود! إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني عرفت ذلك منه إلا وقطعت عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته.
    وقال موسى بن جعفر: حدثني أبي أن موسى بن عمران قال: يا رب! أي عبادك شر؟ قال: الذي يتهمني. قال يا رب وفي عبادك من يتهمك؟ قال: نعم! الذي يستجيرني، ثم لا يرضى بقضائي. وكان له من الولد ثمانية عشر ذكراً، وثلاث وعشرون بنتاً، فالذكور: على الرضا وإبراهيم والعباس والقاسم، وإسماعيل وجعفر وهارون والحسن وأحمد ومحمد وعبيد الله وحمزة وزيد وعبد الله وإسحاق والحسين والفضل وسليمان وأوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته فلم تتزوج واحدة منهن إلا أم سلمة، فإنها تزوجت بمصر، تزوجها القاسم ابن محمد بن جعفر بن محمد فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد، حتى حلف أنه ما كشف لها كنفا، وأنه ما أراد إلا أن يحج بها.
    وبايع الرشيد لابنه المأمون بعد محمد بولاية العهد في هذه السنة، وهي سنة 183، وأخذت له البيعة على الناس كلهم حتى أهل الأسواق، فكان بين البيعة للمأمون والبيعة لمحمد ثماني سنين، وكان يبعث بالمأمون وبمحمد إلى الفقهاء والمحدثين فيسمعان منهم، ويحضر لهما أهل الكلام والنظر فكان محمد بطيء الحفظ، وكان المأمون سريع الحفظ.
    وأخذ الرشيد العمال والتناة والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام فطالبهم بصنوف من العذاب، وكان سنة 184.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:35 am

    واعتل الرشيد في تلك السنة علة شديدة أشفى منها، فدخل إليه الفضيل بن عياض فرأى الناس يعذبون في الخراج فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت رسول الله يقول: من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فارتفع العذاب من تلك السنة.
    وأقام الرشيد بالرافقة حتى بناها وكان مقامه بها سنة 186، وحج في تلك السنة، ومعه محمد والمأمون وجلة بني هاشم والقواد والكتاب فلم يتخلف منهم أحد له ذكر وقدر، وقدم الرشيد المدينة فأعطى أهل المدينة ثلاثة أعطية وكسي كثيرة، ثم صار إلى مكة، فلم يفعل مثل ذلك.
    ولما صار إلى مكة صعد المنبر فخطب، ثم نزل فدخل البيت، ودعا بمحمد والمأمون فأملى على محمد كتاب الشرط على نفسه وكتب محمد الكتاب، وأحلفه على ما فيه، وأخذ عليه العهود والمواثيق وفعل بالمأمون مثله، وأخذ عليه مثل ذلك وكان نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه محمد بن هارون في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده، وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعاً، وولي أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي برضى مني وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان بثغورها وكورها، وأجنادها وخراجها وطرازها وبريدها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها في حياته وبعد موته، وشرطت لعبد الله أخي على الوفاء بما جعل له هارون أمير المؤمنين من البيعة والعهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه هارون أمير المؤمنين من قطيعة وجعل له من عقده أو ضيعة من ضياعه وعقده أو ابتاع من الضياع والعقد وما أعطاه في حياته من مال، أو حلي، أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو رقيق قليلاً أو كثيراً، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين أخي، موفرا عليه مسلماً له. وقد عرفت ذلك كله شيئاً شيئاً باسمه وأصنافه ومواضعه أنا وأخي عبد الله بن هارون فإن اختلفنا في شيء منه، فالقول فيه قول عبد الله أخي لا انتقصه صغيراً ولا كبيراً من ماله، ولا من ولايته خراسان وأعمالها، ولا أعزله عن شيء منها، ولا أستبدل به غيره، ولا أخلعه ولا أقدم عليه في العهد والخلافة أحداً من الناس جميعاً، ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه، ولا خاص ولا عام من أموره وولايته ولا أمواله، ولا قطائعه ولا عقده ولا أغير عليه شيئاً بسبب من الأسباب، ولا آخذ أحداً من كتابه وعماله وولاة أموره ممن صحبه وأقام معه، بمحاسبة في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه هارون أمير المؤمنين في حياته وصحته من الجباية والأموال والطراز والبريد والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك من ولايتها ولا آمر بذلك أحداً، ولا أرخص فيه لغيري، ولا أحدث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه، ولا ألتمس قطيعته ولا أنقص شيئاً مما جعل له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته، وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في كتابي هذا، وأخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة ولا أرخص لأحد من الناس كلهم في خلعه، ولا مخالفته، ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولاً، ولا أرضى به في سر ولا علانية، ولا أغمض عليه، ولا أتغافل عنه، ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر ولا صادق ولا كاذب ولا ناصح ولا غاش ولا قريب، ولا بعيد، ولا أحد من ولد آدم ذكراً وأنثى مشورة ولا حيلة، ولا مكيدة في شيء من الأمور سرها وعلانيتها وحقها وباطلها وباطنها وظاهرها، ولا سبب من الأسباب أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي وشرطت في كتابي هذا علي، وأوجبت على نفسي، وشرطت وسميت، وإن أراد أحد من الناس شراً، أو مكروهاً، أو خلعاً أو محاربة، أو الوصول إلى نفسه ودمه، أو حرمه، أو ماله، أو سلطانه أو ولايته جميعاً، أو فرادى مسرين ذلك أو مظهرين له، أن أنصره وأحوطه وأدفع عنه، كما أدفع عن نفسي، ومهجتي، ودمي، وشعري، وبشري، وحرمي وسلطاني وأجهز الجنود إليه، وأعينه على كل من أعنته وخالفه ويكون أمري وأمره في ذلك واحداً أبداً ما كنت حيا، ولا أخذله، ولا أسلمه، ولا أتخلى عنه.

    وأن حدث بهارون حدث الموت، وأنا وعبد الله بحضرة أمير المؤمنين، أو أحدنا، أو كنا غائبين عنه، مجتمعين كنا أو مفترقين، وليس عبد الله بن هارون في ولايته بخراسان، فعلي لعبد الله بن هارون، أمير المؤمنين، أن أمضيه إلى خراسان، وأسلم له ولايتها وأعمالها كلها، وجنودها، ولا أعوقه عنها، ولا أحبسه قبلي، ولا في شيء من البلدان دون خراسان، وأعجل إشخاصه إليها والياً عليها وعلى جميع أعمالها، مفرداً بها، مفوضاً إليه أعمالها كلها، وأشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده، وجنوده، وأصحابه، وكتابه، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأموالهم وأهليهم، ولا أحبس عنه أحداً منهم، ولا أشرك معه في شيء منها أحداً، ولا أبعث إليه أميناً، ولا كاتباً، ولا بنداراً، ولا أضرب على يديه في قليل وكثير.
    وأعطيت أمير المؤمنين هارون وعبد الله بن هارون، على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا، عهد الله، وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين، والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت لهارون ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، أو بدلت، أو حدثت في نفسي أن أنقض شيئاً مما أنا عليه، أو قبلت من أحد من الناس، فبرئت من الله، من ولايته، ومن دينه، ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافرا به ومشركا، وكل امرأة هي في اليوم لي، أو تزوجتها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً البتة، طلاق الحرج والسنة، وعلى المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا في عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عز وجل، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله ابن أمير المؤمنين، وكتبته، وشرطته لهما، وحلفت عليه، وسميت في كتابي هذا، لازم لي الوفاء به، ولا أضمر غيره ولا أنوي إلا إياه، فإن أضمرت، أو نويت غيره، فهذه العهود والأيمان كلها لازمة لي، واجبة علي، وقواد أمير المؤمنين، وجنوده، وأهل الآفاق والأمصار، وعوام المسلمين براء من بيعتي، وخلافتي، وعهدي، وهم في حل من خلعي، وإخراجي من ولايتي عليهم، حتى أكون سوقة من السوق، وكرجل من عرض الناس، ولا حق لي عليهم، ولا ولاية، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حل من الأيمان التي أعطوني، وبراء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة، وكتبه محمد ابن هارون بخطه.
    شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبيد الله بن المهدي، وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن علي، وعيسى بن موسى ابن أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وأحمد بن إسماعيل بن علي، وسليمان بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن علي، وداود بن عيسى بن موسى، وداود بن سليمان بن جعفر، ويحيى ابن عيسى بن موسى، ويحيى بن خالد، وخزيمة بن خازم، وهرثمة بن أعين، وعبد الله بن الربيع، والفضل بن الربيع، والعباس بن الفضل، والقاسم بن الربيع، ودقاقة بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الله بن الأصم... ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة وعبد الكريم الحجبي وإبراهيم بن عبد الرحمن الحجبي، وأبان مولى أمير المؤمنين، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، وإسماعيل بن صبيح.
    وكتب في ذي الحجة سنة 186 نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله ابن أمير المؤمنين بخطه في البيت: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيته فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفته بما فيه من الفضل والصلاح له، ولأهل بيته، وجماعة المسلمين: إن أمير المؤمنين ولاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين، وولاني في حياته، وبعد موته ثغور خراسان، وكورها، وجميع أعمالها من الصدقات

    والعشر والعشور والبريد، والطراز، وغير ذلك، واشترط لي على محمد ابن هارون أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة، والولاية للعباد والبلاد بعده، وولاية خراسان، وجميع أعمالها، لا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع، والعقد، والدور، والرباع، أو ابتعت لنفسي من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال، والجوهر، والكساء، والمتاع، والدواب، في سبب محاسبة لأصحابي، ولا يتبع لأحد منهم أبدا، ولا يدخل علي، ولا على أحد كان معي ومني، ولا عمالي ولا كتابي، ومن استعنت به من جميع الناس، مكروها في نفس، ولا دم، ولا شعر، ولا بشر، ولا مال، ولا صغير، ولا كبير، فأجابه إلى ذلك، وأقر به، وكتب بذلك كتاباً، وكتبه على نفسه، ورضي به هارون أمير المؤمنين، وعرف صدق نيته، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين، وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته ومكانفته، وأجاهد عدوه في ناحيتي ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، ورضي لي به، وقبلته ولا انتقص شيئا من ذلك، ولا انتقص أمراً من الأمور التي شرطها لي عليه أمير المؤمنين، فإن احتاج محمد ابن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه خالفه، وأراد نقص شيء من سلطانه الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا، وولاناه، أن أنفذ أمره، ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي، وإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين أن يولي رجلاً من ولده العهد من بعدي، فذلك له ما وفى بما جعل لي أمير المؤمنين هارون، واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعلى إنفاذ ذلك، والوفاء به، ولا أنقض ذلك، ولا أغيره، ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحداً من ولدي، ولا قريباً، ولا بعيداً من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحداً من ولده العهد بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك.
    وجعلت لأمير المؤمنين هارون ولمحمد ابن أمير المؤمنين على الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد ابن أمير المؤمنين بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له، وعلى عهد الله وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، فإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت وسميت في كتابي هذا، أو غيرت، أو بدلت، أو نكثت، أو غدرت، فبرئت من الله، ومن ولايته، ومن دينه ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافراً به مشركاً، وكل امرأة هي اليوم لي، أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً البتة، طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة، أحرار لوجه الله، وعلى المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذراً واجباً علي، وفي عنقي، حافياً راجلاً، لا يقبل الله مني إلا الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لي لا أضمر غيره ولا أنوي سواه.
    وشهد الشهود الذين شهدوا على أخيه محمد ابن أمير المؤمنين، وأقام الرشيد الحج لناس، وأمر بتعليق هذين الكتابين، فعلقا أيام الموسم على باب الكعبة، وقرئا على الناس عدة مرار، وجعلا في الكعبة.
    وانصرف الرشيد، فنزل الحيرة، فأقام أياماً، ثم مضى على طريق البرية، فنزل بموضع من الأنبار يقال له الحرف، بدير يقال له العمر، وأقام يومه، وقتل جعفر بن يحيى بن خالد وزيره في تلك الليلة بغير أمر متقدم قبل ذلك، وأصبح، فحمله إلى بغداد، فقطع ثلاث قطع، وصلب على جسر بغداد، ولبغداد يومئذ ثلاثة جسور، وحبس يحيى بن خالد بن برمك وولده وأهل بيته، واستصفى أموالهم، وقبض ضياعهم، وقال: لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا لقطعتها، وأكثر الناس في أسباب السخط عليهم مختلفون.

    وحدث إسماعيل بن صبيح قال: بعث إلى الرشيد يوماً، وهو ببغداد، فدخلت، فلم أر في المقاصير والأروقة أحداً، حتى انتهيت إليه، فقال: يا إسماعيل! هل رأيت في الدار أحداً؟ فقلت: لا، والله! قال: فطف المجالس والأروقة والمقاصير! فطفت فلم أجد أحداً، فقال: عد ثالثة فعدت، ثم قال: خذ ذلك الكرسي! فأخذته، وخرج وفي يده عمود حتى صار إلى وسط الصحن، ثم قال: ضع الكرسي! فوضعته، فجلس عليه، والعمود في يده، ثم قال: اجلس! فأوحشت نفسي خيفة، وجلست، فقال: إني أريد أن أفشي إليك سراً، والله لئن سمعته من أحد من الناس لأضربن عنقك! فتراجعت نفسي، وقلت: إن كنت يا أمير المؤمنين قلته لأحد، أو تقوله، فلا حاجة بي إليه. فقال: ما قلته لأحد، ولا أقوله، إني أريد أن أوقع بال برمك إيقاعاً ما أوقعه بأحد، وأجعلهم أحدوثة ونكالا إلى آخر الأبد. فقلت: وفقك الله، يا أمير المؤمنين، وأرشد أمرك! ثم قام، فعاد، وأخذت الكرسي، فرددته، وقلت: إنما أراد أن يعرف ما عندي فيهم، فبعث بي إليهم، وكان يفعل ذلك كثيراً، ثم حال الحول، وحال حول ثان، ثم حال ثالث، فلما كان رأس الحول الرابع قتلهم، وكان قتل جعفر في صفر سنة 188 بدير العمر، وكان يحيى بن خالد قد نزل هذا الدير منصرفاً من الحج، قبل أن يحل بهم الأمر بحول كامل، فدخل إلى الدير الذي قتل ابنه جعفر فيه، فطافه، فظهر له قس، فقال له: مذ كم بنيت هذه البيعة؟ فقال: مذ ستمائة سنة، وهذا قبر صاحبها، فوقف على قبر عليه كتابه فقرأها، فإذا عليه:
    إن بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب
    تنفح بالمسك ذفاريهم ... وعنبر يقطبه القاطب
    والقطن والكتان أثوابهم ... لم يجنب الصوف لهم جانب
    فأصبحوا حشاً لدود الثرى ... والدهر لا يبقى له صاحب
    أضحوا وما يرجو لهم راغب ... خيراً ولا يرهبهم راهب
    كأنما جنتهم لعنة ... سار إلى بين بها راكب
    قال: فتغير وجه يحيى، وقال: أعوذ بالله من شرك، يا قس! فغاب القس بين عينيه، فطلبه فلم يقدر عليه. وأقام يحيى وولده في الحبس عدة سنين، وكتب يحيى إلى الرشيد يستعطفه ويذكر له حرمته وتربيته، فوقع على ظهر رقعته: إنما مثلك يا يحيى ما قال الله عز وجل: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
    وأغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة في هذه السنة، وهي سنة 188، ومعه عبد الملك بن صالح الهاشمي، وعلى أمره إبراهيم بن عثمان بن نهيك، فحاصر حصن سنان وقرة، وأصاب الناس جوع شديد، وعوز، وغلاء، وطلب الروم الصلح على أن يدفعوا إليه ثلاثمائة وعشرين مسلما، فقبل، وانصرف، وأخذ الرشيد أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، فحبسه بالرافقة سنة 188، فهرب أحمد بن عيسى من الحبس، وصار إلى البصرة، وكان يكاتب الشيعة يدعوهم إلى نفسه، فأذكى الرشيد عليه العيون، وجعل لمن جاء به الأموال، فلم يقدر عليه، فأخذ حاضر صاحبه، والمدبر لأمره، فحمل إلى الرشيد، فلما صار ببغداد، وهو بباب الكرخ، قال: أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، وقد أخذني السلطان، فمنعه الموكلون به من الكلام، فلما دخل على الرشيد سأله عنه وتهدده، فقال: والله لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتها عنه، وأغلظ في الجواب، وقال: أنا شيخ قد جاوزت التسعين، أفأختم عملي بأن أدل على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقتل؟ فأمر الرشيد، فضرب حتى مات، وصلب ببغداد، وطفى أحمد بن عيسى، ولم يعرف خبره بعد ذلك.
    وحبس الرشيد عبد الملك بن صالح بن علي الهاشمي في هذه السنة، وهي سنة 188، وذلك أن ابنه عبد الرحمن، وكاتبه قمامة بن يزيد، وكان مولى لعبد الملك، رفعا عنه أنه يؤهل نفسه للخلافة، وأنه يراسل رؤساء القبائل والعشائر بالشام والجزيرة، وكان نبيلاً، فصيحاً، حسن البيان، فقال: ما سبب حبسي؟ فإن كان لذنب اعترفت به، أو لبلاغ تنصلت منه، فأحضره الرشيد، فقال: هذا ابنك عبد الرحمن يذكر ما كنت تدبره من المعصية والشقاق. فقال: ليس يخلو ابني أن

    يكون مأموراً معذوراً، أو عدواً محذوراً، وقد قال الله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم، قال: فهذا قمامة بن يزيد كاتبك يذكر مثل ذلك، وقد سأل أن يجمع بينه وبينك. قال: من كذب علي، وأشاط بدمي لغير مأمون أن يبهتني.
    وحدثني بعض أشياخنا قال: أخرج الرشيد يوماً عبد الملك بن صالح بن علي فأقبل عليه، فقال: كأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وإلى الوعيد قد أوري نارا، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً بني هاشم! لا تستوعروا السهل وتستسهلوا الوعر، ولا تبطروا النعم وتستجلبوا النقم، فعن قليل يذم ذو الحكم رأيه، وينكص ذو الحزم على عقبيه، وتستبدلون الذل بعد العز، والخوف بعد الأمن. فقال عبد الملك: أفذا أتكلم أم توأماً، يعني واحدا أو اثنين؟ فقال: بل فذا! قال: فخف الله فيما ولاك، وأحفظه في رعاياك التي استرعاك، ولا تجعل الكفر موضع الشكر، ولا العقاب بدل الثواب، ولا تقطع رحمك التي أوجب الله عليك، وألزمك حقها، ونطق الكتاب بأن عقوقها كفر، واردد الحق على محقه، ولا تصرف الحق إلى غير أهله، فلقد جمعت عليك الألسن بعد افتراقها، وسكنت القلوب بعد نفارها، وشددت أواخي ملكك بأشد من ركن يلملم، فكنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:
    ومقام ضيق فرجته ... بلساني وبياني وجدل
    لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
    قال: ثم خرج، فأتبعه الرشيد بصره، وقال: أما والله لو لا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك. وخرج هارون الرشيد إلى الري سنة 189، فلما صار بقرماسين بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، وكان بين البيعة للمأمون وبيعة القاسم ست سنين، ثم سار حتى نزل الري وكتب إلى محمد ابنه، وكان ببغداد، يأمره بالخروج إلى الري والقيام بما خلف بها وكتب إلى بنداد هرمز، صاحب طبرستان، فخرج، وشروين صاحب طخارستان، فخرج بنداد هرمز على يدي هرثمة بن أعين، وأخرج ابنه قارون، فصيره في معسكر الرشيد، فانصرف الرشيد من الري، واستخلف عبد الله بن مالك الخزاعي على قومس، وطبرستان، ودنباوند، وسار إلى بغداد، فمر بها نهاراً ولم ينزلها، فلما صار إلى الجسر أمر بتحريق جثة جعفر بن يحيى وقتل الوليد بن جشم، وولى الرشيد علي بن عيسى بن ماهان خراسان مكان منصور بن يزيد بن منصور الحميري سنة 189، وضم إليه جماعة من القواد فيهم: رافع بن الليث الليثي، وأمره أن لا يستعمله على بلد قاصيا، فلما قدم علي بن عيسى خراسان استعمل رافع بن الليث على سمرقند، فلم يحل عليه الحول حتى خلع، ونادى بالمعصية، وحارب.
    وبلغ الرشيد أن ذلك عن تدبير من علي بن عيسى، فوجه هرثمة بن أعين في أربعة آلاف كأنه مدد لعلي بن عيسى، حتى دخل المدينة، ثم صار إلى دار الإمارة، وأدخل الجند الذين معه الدار، وأخرج الكتاب فدفعه إلى علي بن عيسى فلما قرأه قال: أسامع أنت مطيع؟ قال: نعم فدعا بقيد ثقيل، فقيده، ثم أخرجه من ساعته، وخرج معه، حتى جاز من عمل مرو، وبعث به مع رسل من قبله إلى الرشيد وأمر الرشيد بحبسه وحبس ولده، وقبض أمواله، فلم يزل محبوسا حتى مات الرشيد.
    وكانت أرمينية قد انتقضت بعد وفاة المهدي، فلم تزل منتقضة أيام موسى، فلما ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي أرمينية قام بها سنة وشهرين، وضبطها، وصلحت البلاد، وأعطي أهلها الطاعة، ثم ولى الرشيد يوسف بن راشد السلمي مكان خزيمة بن خازم، فنقل إلى البلد جماعة من النزارية، وكان الغالب على أرمينية اليمانية، فكثرت النزارية في أيام يوسف، ثم ولى يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، فنقل إليها ربيعة من كل ناحية حتى هم اليوم الغالبون عليها، وضبط البلد أشد ضبط، حتى لم يكن به أحد يتحرك، ثم ولى عبد الكبير بن عبد الحميد من ولد زيد بن الخطاب العدوي، وكان منزله حران، فصار إليها في جماعة من أهل ديار مضر، ولم يقم إلا أربعة أشهر حتى صرف، وولى الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، فسار إليها بنفسه، فلما قدم توجه إلى ناحية الباب والأبواب، فغزا قلعة حمزين، فهزمه أهل حمزين، ففانصرف ما يلوي على شيء حتى أتى العراق، واستخلف على البلد عمر بن أيوب الكناني.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 364
    تاريخ التسجيل : 08/11/2009
    العمر : 64
    الموقع : https://zxcv.all-up.com

    كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي Empty رد: كتاب : تاريخ اليعقوبي المؤلف : اليعقوبي

    مُساهمة  Admin الأحد ديسمبر 01, 2013 11:37 am

    فلما صار الفضل إلى العراق، وجه أبا الصباح على خراج أرمينية، وسعيد ابن محمد الحراني اللهبي على حربها، فوثب أهل برذعة على أبي الصباح، فقتلوه، وانتقضت أرمينية، وظهر فيها أبو مسلم الشاري، فولى الفضل خالد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية ووجه إليه عبد الملك بن خليفة الحرشي في خمسة آلاف فلقوا أبا مسلم الشاري برويان، فهزمهم، وانصرف أبو مسلم إلى قلعة الكلاب، فأخذها.
    واستعمل الرشيد على أرمينية العباس بن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، فلما صار إلى برذعة وثب به البيلقانية، فتحصن منهم في ربض برذعة، ووجه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري في ستة آلاف، والتقيا، وكانت بينهما وقعة، وقتل معدان الحمصي، فصار أبو مسلم الشاري إلى دبيل، فحصرها أربعة أشهر ثم انصرف، فصار إلى البيلقان فنزلها.
    وقوي أمر أرمينية، ووجه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفاً، ويزيد ابن مزيد الشيباني في عشرة آلاف، وأمر يزيد بن مزيد أن يقصد أرمينية، وأمر الحرشي أن يأخذ على آذربيجان، وكان قد تغلب باذربيجان مهلهل التميمي، فلقيه الحرشي فقاتله، فهزمه، وأصلح البلاد، ثم صار إلى أرمينية ليجتمع ويزيد بن مزيد على محاربة أبي مسلم الشاري، فوافى البلد وقد مات، وقام من بعده السكن بن موسى البيلقاني مولى... وكان منزله البيلقان، فلما بلغه قدوم يحيى الحرشي وجه إليه الخليل بن السكن في خيار خيله، فلقي الحرشي، فأسره الحرشي، وزحف إلى البيلقان، فلما بلغ السكن الخبر خرج هاربا، فصار إلى قلعة الكلاب، وصار أهل البيلقان إلى الحرشي، فطلبوا الأمان، فأدخلوا المدينة، فامن أهلها، وهدم حصنها.
    وسار السكن إلى يزيد بن مزيد في ثمانية آلاف مستأمناً منه، وحمله إلى الرشيد، ولما سكن البلد ولى الرشيد موسى بن عيسى الهاشمي، فأقام بأرمينية سنة، فعاد انتقاضها، فاضطربت نواحيها، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال الرشيد: ما أرى لها إلا الحرشي، فعزل موسى بن عيسى، ووجه الحرشي عاملا عليها، فوضع فيهم السيف حتى استقامت، ثم ولى الرشيد أحمد بن يزيد ابن أسيد السلمي، فلما قدم وثب به من كان في البلد من أهل خراسان ممن قدم مع الحرشي وقبل الحرشي، وقاتلوه، وتعصبوا عليه وقالوا: لا سمع لك ولا طاعة، فولى الرشيد سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فلما قدم البلد تلاءمت الناس شهوراً، ثم تعبث بالبطارقة، فخالف عليه أهل الباب والأبواب، ووثبوا بعاملة، وكان النجم بن هاشم صاحب الباب والأبواب، فقتله سعيد بن سلم، فوثب ابنه حيون بن النجم، فقتل عامل سعيد على الباب والأبواب، وكشف رأسه للمعصية، وكتب إلى خاقان ملك الخزر، فزحف إليه ملك الخزر في خلق عظيم، فأغار على المسلمين، فقتل وسبى خلقا عظيما، وسار حتى أتى جسر الكر، وسبى خلقاً من المسلمين، وقتل عالماً، وحرق البلاد، وقتل النساء والصبيان. فلما بلغ الرشيد خبره وجه بتحاب، وأمره أن يعرض على سعيد بن سلم، ويقيمه للناس فلما وافى البلد أعطاه سعيد مالاً، فمال التحاب إلى أخذ المال، فبلغ الرشيد ذلك فوجه نصر بن حبيب المهلبي عاملاً على البلد، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وولى علي بن عيسى بن ماهان، فلما قدم ساءت سيرته، ووثب به أهل شروان، واضطرب البلد، فولى الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، ورد علياً إلى خراسان، وجمعت ليزيد بن مزيد أرمينية وآذربيجان، فلما قدم تلاءمت الناس، وأصلح البلد، وساوى بين النزارية واليمانية، وكتب إلى أبناء الملوك والبطارقة يبسط آمالهم، فاستوى البلد.
    ثم ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي، فأخذ البطارقة وأبناء الملوك، فضرب أعناقهم، وسار فيهم أسوأ سيرة، فانتقضت جرجان والصنارية، فأنفذ إليهم جيشاً، فقتلوه، فوجه إليهم سعيد بن الهيثم بن شعبة بن ظهير التميمي في جيش عظيم، فقاتل أهل جرجان والصنارية حتى أجلاهم عن البلد، وانصرف إلى تفليس، فأقام خزيمة بن خازم أقل من سنة، ثم عزله، وولى سليمان بن يزيد بن الأصم العامري، وكان شيخاً عفيفاً، مغفلاً، فضعف حتى لم يكن له أمر يجوز، حتى كاد أن يغلب على البلد. وولى الرشيد العباس بن زفر الهلالي، فانتقضت عليه الصنارية، فقاتلهم، وضعف عنهم، فوجه الرشيد محمد بن زهير بن المسيب الضبي، وكان آخر عمال الرشيد على أرمينية.

    وخلع أهل حمص سنة 190، ووثبوا على واليهم، فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم ويسألون الإقالة، فعفا عنهم، ونفذ إلى بلاد الروم، فغزا الصائفة، وفتح هرقلة والمطامير.
    وحجت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور في هذه السنة، وهي سنة 190، فنال الناس عطش شديد، وغارت زمزم حتى لم يوجد فيها من الماء إلا القليل، وحفرت زمزم، فنزل فيها عدة أذرع، فكان الماء زاد يسيراً، وكان مقدار رشاء زمزم ثماني عشرة ذراعاً، فحفر فيها تسع أذرع ليزيد، فكان أول ما حفر في زمزم.
    واجتمع عند الرشيد عمه، وعم أبيه، وعم جدة، سليمان بن جعفر عمه، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جده، فقال عبد الصمد بن علي: أحمد الله، يا أمير المؤمنين، على نعمة عليك، فقد جمع لك ما لم يجمع لخليفه قبلك، ثم جمع لك عمك، وعم أبيك، وعم جدك.
    وكان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك، وجعفر والفضل ابناه، صدراً من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي، فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة، ثم كان الفضل بن الربيع يغلب عليه، وإسماعيل بن صبيح، وعلى شرطة القاسم بن نصر بن مالك، ثم عزله وولى خزيمة بن خازم، ثم عزله وولى المسيب بن زهير الضبي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم عزله واستعمل علي بن الجراح الخزاعي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن خازم، وكان على حرسه جعفر بن محمد بن الأشعث، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم هرثمة بن أعين، وكان حاجبه الفضل ابن الربيع.
    وخرج هارون إلى خراسان في شعبان سنة 192، فنزل قرماسين، فصار بها شهر رمضان وضحى بالري، فلما صار إلى جرجان كتب إلى عيسى بن جعفر بالخروج إليه، فخرج إليه عيسى، فلما صار في بعض الطريق توفي.
    فحدثني شيخ من آل المهلب كان مع عيسى بن جعفر قال: دخلنا إليه يوماً، وقد اشتدت علته، فسمعناه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت والله نفسي! فقلنا له: إنك بحمد الله اليوم صالح. فقال: إني دققت ما يخرج من أذني، فوجدته رميما، حتى أغمي عليه، وسمع النساء بكاء الرجال، فغلبن الخدم، وخرجن فأفاق ورفع رأسه، فنظر إليهن وقال:
    قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم جئن برزن للنظار
    ثم قضى من ساعته، فلما بلغ الرشيد خبر وفاته، اشتد جزعه عليه، فدخل على جارية، فقالت: يا أمير المؤمنين إن عيسى كان يريد بك ما صار إليه، فأحاقه الله به، وهذا مسرور وحسين يعلمان ذلك. فقالا: صدقت! فتسلى ودعا بالطعام، وصار هارون إلى طوس، فنزل قرية يقال لها سناباذ، وهو شديد العلة، وتوفي مستهل جمادى الأولى سنة 193، وهو ابن ست وأربعين سنة، وصلى عليه ابنه صالح بن هارون، وكان المأمون قد نفذ إلى مرو قبل ذلك بثلاثة وعشرين يوماً، وجاء نعيه من طوس إلى مدينة السلام يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا: عبد الله المأمون، ومحمداً الأمين، والقاسم، وأبا إسحاق المعتصم، وأبا عيسى، وأبا العباس، وعلياً، وصالحاً، وأبا يعقوب، وأبا علي، وأبا أحمد، وأبا أيوب، وكل مكنى من بني هاشم فاسمه محمد.
    وأقام الحج في ولايته سنة 170 هارون الرشيد، سنة 171 عبد الصمد بن علي، سنة 172 يعقوب بن المنصور، سنة 173 الرشيد، سنة 174 وسنة 175 الرشيد، سنة 176، سليمان بن أبي جعفر، سنة 177 الرشيد، سنة 178 محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، سنة 179 الرشيد، وكان قد اعتمر فلم يزل معتمرا حتى حج، فانصرف إلى البصرة، سنة 180 موسى بن عيسى، وجهه هارون من الرقة، سنة 181 الرشيد، سنة 182 موسى بن عيسى، سنة 183 العباس بن موسى، سنة 184 إبراهيم بن المهدي، سنة 185 منصور بن المهدي، سنة 186 الرشيد، سنة 187 عبد الله بن العباس بن محمد، سنة 188 الرشيد، وهي آخر حجة حجها، ولم يحج بعده خليفة، سنة 189 العباس بن موسى بن عيسى، سنة 190 عيسى بن موسى الهادي، سنة 191 الفضل بن العباس بن محمد بن علي، سنة 192 العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر.

    وغزا بالناس في أيامه سنة 171 يزيد بن عنبسة الحرشي، عاملا من قبل إسحاق بن سليمان، سنة 172 محمد بن إبراهيم، سنة 173 إبراهيم بن عثمان، سنة 174 سليمان بن أبي جعفر، سنة 175 عبد الملك بن صالح، وقيل إنه لم يدخل بلاد الروم، ولما صار إلى الدرب وجه الفضل بن صالح، سنة 176 هاشم بن الصلت، سنة 177 داود بن النعمان من قبل عبد الملك، سنة 178 يزيد ابن غزوان، سنة 179 الفضل بن محمد، سنة 180 إسماعيل بن القاسم سنة 181 هارون الرشيد، فافتتح حصن الصفصاف، سنة 182 إبراهيم بن القاسم من قبل عيسى بن جعفر، سنة 183 الفضل بن العباس، سنة 184 محمد بن إبراهيم، سنة 185 إبراهيم بن عثمان، سنة 186 إبراهيم بن عثمان أيضاً، سنة 187 القاسم ابن الرشيد، وعبد الملك بن صالح، وإبراهيم بن عثمان بن نهيك، وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان، سنة 189 الفضل بن العباس، سنة 190 الرشيد، فافتتح هرقلة والمطامير وأغزى حميد بن معيوف بالبحر، وكان أهل قبرس قد نقضوا الصلح، فغزاهم فقتل وسبى، سنة 191 خرج الرشيد يريد الغزو، فلما صار بالحدث أغزاهم مع هرثمة بن أعين، وأقام بالثغر حتى انصرف هرثمة. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمران بن إبراهيم، مالك بن أنس، إبراهيم بن محمد بن أبي الحسن الأسلمي، أبا البختري بن وهب القرشي، عبد الله بن جعفر المديني، إسماعيل بن جعفر أبا عقيل، أبا معشر السندي، سعيد بن عبد العزيز الجمحي، عبد العزيز بن أبي حازم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عبد الرحمن بن عبد الله العمري، سليمان بن فليح... عطاء ابن يزيد، سفيان بن عيينة، شريك بن عبد الله النخعي، سلمة الأحمر، أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، إبراهيم بن سعد الزهري، سفيان بن الحسن الحماني، جعفر بن عتاب بن أبي زائدة، علي بن مسهر، عبد الله بن إدريس الأودي، محمد بن مروان السدي، جرير بن عبد الحميد الكوفي، شعيب بن صفوان صاحب ابن شبرمة، جعفر بن سليمان، محمد بن الحسن، علي بن هاشم، عبد الله بن الأصلح الكندي، الطلب بن الحجاج، القاسم بن مالك المزني، علي بن ظبيان، أبا شهاب الكوفي، محمد بن مسروق القاضي، عدي بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكيع بن الجراح، يحيى بن البهائي، عمرو بن هشام، حماد بن زيد، أبا عوانة، يزيد بن زريع، عبيد الله بن الحسن، المعتمر بن سليمان، داود بن الزبرقان، عباد بن عباد المهلبي، حمزة بن نجيح، خالد بن يزيد، محمد بن راشد، عمران بن خالد صاحب عطاء، محمد بن يزيد الواسطي، عبد المنعم بن نعيم، عمر بن جميع، يوسف بن عطية، عبد العزيز بن عبد الصمد.
    أيام محمد الأمينوبويع لمحمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، ولم يكن في الخلفاء هاشمي الأبوين غير علي بن أبي طالب، ومحمد، وكانت البيعة له بطوس، في اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الأحد مستهل جمادى الأولى سنة 193، وأخذ له الفضل بن الربيع بيعة من حضر من الهاشميين والقواد، وقدم رجاء الخادم إلى محمد ببغداد يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان ذلك من شهور العجم في آذار، وكانت الشمس يومئذ في الحمل ثلاث درجات وثلاثاً وخمسين دقيقة، وزحل في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعا، والمريخ في الدلو ستاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحوت سبع درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في السرطان اثنتين وعشرين درجة.
    فبايع الناس في هذا اليوم ببغداد، وخرج إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، فصعد المنبر، فحمد الله وصلى على محمد، ثم قال: نحن أعظم الناس رزيئة وأحسن الناس بقية، رزئنا رسول الله، فلم يكن أحد أشد رزءا منا، وعوضنا خلفا ابنه، فمن ذا له مثل عوضنا؟ ثم نعاه إلى الناس، وذكرهم العهد، ثم نزل. فلما كان يوم الجمعة صعد محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، وذكر ما فضله الله به، ثم قال: وأفضت خلافة الله وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد، فعمل بالحق، وساس بالعدل، وحج بيت الله، وجاهد في سبيل الله، وبذل مهجته في طاعة الله، وباشر الجهاد طلبا لرضى الله جل وعز حتى أعز الله دينه، ثم دنياه، وأقام حقه، ووقم العدو، وآمن السبل، ونصح العباد، وعمر البلاد، وقد اختار الله له ما عنده، وأكرمه

    بلقائه، فعند الله نحسبه، وإياه نسأل حسن الخلافة من بعده، والمعونة على ما حملني من أمركم، وارغب إليه في التسديد والتوفيق لما يرتضيه فيكم. ثم حض على الطاعة، وأمر بالمناصحة، ونزل.
    وقدم الفضل بن الربيع الخزائن وبيوت الأموال ووصية الرشيد، مستهل جمادى الآخرة، وكان محمد بن هارون قد أمر بإظهار الحج فقال له الفضل ابن الربيع: إن أباك أمرني أن أقول لك إنه لن يحج بعدي أحد من خلفاء بني العباس فأقام، وحجت أمه أم جعفر معتمرة شهر رمضان، وقد كانت تقدمت في حفر عين المشاش في أيام الرشيد فقدمت مكة وقد فرغ منها، فبنت المصانع، وجعلت الحياض والسقايات ووجه محمد بعشرين ألف مثقال ذهبا، فجعلت صفائح على باب الكعبة ومسامير الباب والعتبة وأخرج عبد الملك بن صالح من الحبس، وولاه جميع ما كان إليه من الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور ورد عليه أمواله وضياعه ودفع إليه ابنه عبد الرحمن وكاتبه قمامة فحبس قمامة في حمام قد أحكم، وأوقد أشد وقود، وطرح معه سنانير، فلم يزل فيه حتى مات، وحبس ابنه فلم يزل محبوساً.
    وقال عبد الملك حين أخرج من الحبس، وذكر ظلم الرشيد له: والله إن الملك لشيء ما نويته، ولا تمنيته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته، ولو أردته لكان أسرع إلي من السيل إلى الحدور ومن النار إلى يابس العرفج وإني لماخوذ بما لم أجن ومسؤول عما لا أعرف، ولكنه والله حين رآني للملك قمنا، وللخلافة خطرا، ورأى لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم اختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الوالدة، وتميل إلى ميل الهلوك، وخاف أن تنزع إلى أفضل منزع، وترغب في خير مرغب، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتفرد لها بجهده، وتهيأ لها بكل وسعه، فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت إليه فأحط نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا بأن أخرج له من الحكم، والعلم، والحزم والعزم فكما لا يستطيع المضيع أن يكون حافظا كذا لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً، وسواء عليه عاقبني على عقلي أم عاقبني على طاعة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولم يكن لما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل المجهود إلا القليل.
    وأخرج علي بن عيسى بن ماهان من الحبس، ورد عليه أمواله، وولاه شرطته وقدمه وآثره. وولى أسد بن يزيد بن مزيد أرمينية فقدمها، وقد غلب على ناحية من البلد يحيى بن سعيد الملقب كوكب الصبح وإسماعيل بن شعيب مولى مروان ابن محمد بن مروان وكانا بناحية جرزان فاحتال لهما حتى أخذهما، ثم من عليهما، وخلى سبيلهما، وكان حسن السيرة سخياً ثم عزله محمد وولى أرمينية إسحاق بن سليمان الهاشمي فوجه إليها ابنه الفضل خليفة له، ولم يزل الفضل بها أيام المخلوع.
    وولى محمد بن سعيد بن السرح الكناني اليمن وكان من أهل فلسطين، فأقام بها ثلاث سنين، ثم عزله وولى جرير بن يزيد البجلي فخرج سعيد بن السرح من اليمن بأموال عظام، حتى صار إلى فلسطين فاتخذ الدور والضياع، فلم يزل جرير بن يزيد على اليمن حتى بويع للمأمون.
    وقد وجه الرشيد هرثمة بن أعين في جيش إلى رافع بن الليث إلى سمرقند وقد استكثف جمع رافع واستمال أهل الشاش وفرغانة، وأهل خجندة وأشروسنة والصغانيان وبخارى وخوارزم وختل وغيرها من كور بلخ وطخارستان والسغد وما وراء النهر والترك والخرلخي والتغزغز وجنود التبت وغيرهم، واستنصر بهم على قتال السلطان وقتل المسلمين وصار إلى مدينة سمرقند فتحصن بها، فلم يزل هرثمة محارباً له حتى قتل خلق من أصحابه.
    ثم استعان رافع بجيغويه الخرلخي وكان جيغويه هذا قد أسلم على يد المهدي فجعل يخادع هرثمة ويوهمه أنه معه، ومعونته وهواه لرافع ثم أظهر المعصية، والخلع فقوى أمر رافع بمكانه، وأحرق السواد بالنار، وتبرأ من أهله، ودعا لغير بني هاشم وأخذ هرثمة بإكظامهم، حتى ضرع رافع إلى الأمان فأمنه، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله، وذلك في المحرم سنة 194، فكتب المأمون إلى محمد بالفتح، وأعلمهم ما كان من تدبيره واجتهاده، حتى فتح الله عليه.

    فأفسد قوم قلب محمد على المأمون وأوقعوا بينهما الشر، وكان الذي يحرضه علي بن عيسى بن ماهان والفضل بن الربيع وزينا له أن يبايع لابنه بولاية العهد من بعده، ويخلع المأمون ففعل ذلك، وبايع لابنه موسى وكان ذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة 194، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما فحرقها، وجرت الوحشة بينهما، وكتب محمد إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه في جميع القواد فكتب إليه يعلمه أنه لا سمع عليه في هذا ولا طاعة فكتب إلى من بخراسان من القواد فأجابوه بمثل ذلك، وقالوا: إنما يلزمنا لك الوفاء إذا وفيت لأخيك، وأنت قد نقضت العهود وأحدثت الأحداث، واستخففت بالأيمان والمواثيق.
    ووجه محمد إلى أم عيسى بنت موسى الهادي امرأة المأمون يطلب منها جوهراً كان عندها للمأمون فمنعته، وقالت: ما عندي شيء أملكه، فوجه من هجم منزلها، فانتهب كل ما فيه، وأخذ ذلك الجوهر، فلما انتهى ذلك إلى المأمون جمع القواد الذين قبله، فقال لهم: قد علمتم ما كان أبي شرط علي وعلى محمد وقد نكث ونقض العهود وأوجد السبيل إلى خلعه بنكثه ونقضه وتعرضه لأموالي وأسبابي وأعمالي، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه، واستخفافه بحق الله فيما نكث من ذلك، واشتغاله بالخصيان، فاتفق رأيهم على مراسلته، فإن رجع، وإلا خلعوه.
    وبلغ محمداً ذلك، فجمع قواده وذكر لهم خلع المأمون إياه وندبهم إلى الخروج إليه، فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السبيعي فسير معه جيشاً كثيفاً، فخرج حتى صار إلى حد خراسان ثم وقف وكتب إليه يحركه على المسير فامتنع، فقال: أخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان وأخذت عليك ألا تدخلها، ولا ترسل أحداً إليها، فإن جاءني إنسان من قبل المأمون إلى هاهنا قاتلته، وإلا لم أجز الحد فوجه محمد علي بن عيسى بن ماهان واليا على خراسان، وأمره بإشخاص المأمون ومن معه، وضم إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق وحملت إليه الأموال ودفع إليه قيد فضة، وقال: إذا قدمت خراسان قيد بهذا القيد المأمون واحمله إلى ما قبلي، فلما أتى المأمون الخبر ندب طاهر بن الحسين بن مصعب البوشنجي للخروج، وقبل ذلك كان قد ولاه كورة بوشنج وأزاح علته بالكراع والأموال، ونفذ، فلقي علي بن عيسى بالري في سنة 195، وعلي بن عيسى في خلق عظيم، وطاهر بن الحسين في خمسة آلاف، فخرج علي بن عيسى في نفر يسير يدور حول العسكر وبصر به طاهر بن الحسين فأسرع إليه في جماعة من أصحابه، فلاقى علياً وهو على برذون أصفر، وعليه طيلسان كحلي طويل، فدافع عنه من كان معه حتى قتل جماعة وركض، فاتبعه طاهر وحده، فضربه بسيفه حتى أثخنه، وسقط إلى الأرض، فنزل واحتز رأسه، ورجع إلى معسكره ونصب الرأس على رمح ونادى في عسكر علي بن عيسى: قتل الأمير! وبلغ أصحابه به خبره، فانهزموا وأسلموا الخزائن والكراع فلم يبت طاهر حتى حوى جميع ما كان في عسكره فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
    وكتب طاهر بالفتح إلى المأمون إلى مرو، ووجه بالرأس إليه مع رجل من أصحابه، فلما دخل على ذي الرئاستين سأله عن الخبر، فذهل، وانقطع كلامه فلم يقدر على إجابته، فهال ذلك الفضل ففتح الخريطة، وقرأ الكتب ثم قال: أين الرأس؟ فطلب ما معه، فلم يوجد، وسئل عنه فلم يتكلم، فوجه في طلبه فوجده قد سقط على مقدار ميلين، فحمل وأدخل إلى مرو.
    وقرئ الفتح على الناس وبويع للمأمون بالخلافة وخلع محمداً فأعطى جميع أهل خراسان الطاعة

    للمأمون فحدثني أحمد بن عبد الرحمن الكلبي قال: سلم على المأمون بالخلافة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: أيها الناس إني جعلت لله على نفسي أن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمداً لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالاً، ولا أثاثاً، ولا نحلة تحرم على، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي إلا ما كان في الله له، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكداً، وميثاقاً مشدداً، إني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمي، ورهبة من مسألتي إياي عن حقه وخلفه، فإن غيرت، أو بدلت، كنت للعبر مستأهلا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه وارغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته ولما بلغ محمداً قتل علي بن عيسى بن ماهان وانهزام عسكره ومصيرهم إلى حلوان وخلع أهل خراسان له واجتماع كلمتهم على المأمون وأن طاهرا قد قوي بما صار في يده من الأموال والسلاح والكراع وكتب إليه المأمون ألا يعرج دون بغداد وأن يقصدها وجه عبد الرحمن بن جبلة إليه وأمره أن يضم إليه من بحلوان من القواد والجند الذين كانوا مع علي بن عيسى فلقي طاهرا بهمذان في ذي القعدة سنة 195، فقتله طاهر واستباح كل ما في عسكره فوجه محمد عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي فرجع من حلوان.
    ووثب بالشام رجل يقال له علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية يدعو إلى نفسه، فوجه إليه محمد بالحسين بن علي بن ماهان فلما صار الحسين إلى الرقة أقام ولم ينفذ إليه، وتوفي داود بن يزيد المهلبي عامل السند فاستخلف ابنه ووثب مالك بن لبيد اليشكري بالسواد فدعا للمأمون. وبلغ محمد بن أبي خالد القائد وكان شيخ قواد الحربية والمطاع فيهم أن محمداً قد عزم على قتله والفتك به، فجمع إليه أهل الحربية والأبناء، ثم وثبوا بمحمد فوجه إليهم محمد... فتحاربوا بموضع ببغداد يقال له باب الشام فكانت تلك الحرب أول حرب وقعت ببغداد في تلك السنة. وكان عامل محمد بمصر حاتم بن هرثمة بن أعين، فعزله وولى جابر بن الأشعث الخزاعي سنة 195، فلما قدم جابر بن الأشعث لم يدع للمأمون على المنابر كما كان يدعى بعد محمد، فشغب الجند، وقالوا: لا طاعة! فأعطاهم عطاءين.
    وقدم يحيى بن محمد المديني بكتاب المأمون، فامتنع جابر بن الأشعث من البيعة له، وأقام على طاعة محمد، فوثب السري بن الحكم البلخي، وكان أحد قواد مصر، وجماعة معه، ودعوا الجند إلى البيعة للمأمون، ووعدوهم رزق سنتين، فأجابوا إلى ذلك، وأخرجوا جابر بن الأشعث من دار الإمارة، وصيروا مكانه عباد بن محمد، وكان عباد خليفة هرثمة بن أعين في البلد، فدعا للمأمون بالخلافة في رجب سنة 196... قوم، فوجه إليهم عبد بن حكيم بن كون، ومحمد بن صعير، فكانت بينهم وقعة، ثم سلموا وبايعوا، وكتب محمد إلى رجل يقال له ربيعة بن قيس الحرشي، بولاية مصر، فجمع إليه أهل الحوف وغيرهم، وقاتل عباد بن محمد، وزحف إليه حتى صار إلى قرب الفسطاط، فكانت بينهم وقعات وغلب عباداً على البلد، إلى أن وجه المأمون بالمطلب بن عبد الله الخزاعي عاملاً على مصر.
    وتوفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة، وهي سنة 196، وكان عامل محمد بن هارون على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور واضطرب البلد بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين: حزب يظاهر بمحمد وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون لا سلطان يمنعهم ولا يدفعهم، وأخذ طاهر من ناحية الجبل إلى الأهواز، وقتل محمد بن يزيد بن حاتم عامل محمد وجيلويه الكردي.

    وتوجه زهير بن المسيب الضبي إلى فارس، فأخذها وبايع بها، وصار طاهر إلى واسط لثلاث خلون من رجب بعد أن بايع أهل البصرة للمأمون على يد منصور بن المهدي، وبالكوفة على يد الفضل بن موسى بن عيسى، وبالموصل على يد المطلب بن عبد الله، وبمصر على يد عباد بن محمد، وبالرقة على يد الحسين بن علي بن ماهان، فأخرجه من كان بها من الزواقيل وغيرهم، فقدم بغداد لثمان خلون من رجب سنة 196، فأنكر مذهب محمد، وبلغه عنه ما يكره، فدعا الجند ببغداد إلى بيعة المأمون، فأجابوه، فوثب على محمد، فحبسه وأمه وولده، فلما حبسهم طالبه الجند بأرزاقهم، فاعتل عليهم، فقبضوا عليه، وأخرجوا محمداً وأمه وولده من الحبس، وبايعوه، وضربوا عنق الحسين ابن علي، فسألوا محمداً في أرزاقهم، فأعطاهم خمسمائة خمسمائة، وقارورة غالية، وعقد أربعمائة لواء لقواد شتى، واستعمل عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة، وهرثمة يومئذ معسكر بالنهروان، فالتقوا في شهر رمضان، فهزمهم وأسر علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وبعث به إلى المأمون.
    وزحف بجيشه حتى صار بموضع يقال له نهريين، من بغداد على فرسخ أو فرسخين وصار طاهر بنهر صرصر على أربعة فراسخ من بغداد، وكان طاهر في الجانب الغربي وهرثمة في الجانب الشرقي، وحرب بغداد قائمة في الجانبين جميعاً، إلا أن الأسواق قائمة، والتجار على حالهم لا يهاجون، وتجتمع على التاجر الواحد جماعة من أصحاب المأمون وجماعة من أصحاب محمد، فلا يكون بينهم تنازع، ووثب الأبناء والحربية بمحمد، ودعوا للمأمون، وكاتبوا طاهرا، وأعطوه الرهائن، فدخل طاهر بغداد، فاشتق الجانب الغربي إلى باب الأنبار.
    وكان محمد قد حبس سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي لأمر بلغه، فلما صار هرثمة على باب بغداد أخرجهما من الحبس، ووجه بهما مع جماعة من بني هاشم إلى هرثمة يدعونه إلى طاعته ويجعل له ما أراد من الأموال والقطائع، فقال لهم هرثمة: لو لا أن لا تقتل الرسل لضربت أعناقكم، فانصرفا إلى محمد! وخلى سبيلهما.
    ووثب أهل شرقي بغداد بمحمد، ودعوا للمأمون، وأجلوا خزيمة بن خازم التميمي، فصار إلى الجسر، فقطعه.
    ودخل زهير بن المسيب من كلواذى في السفن، وفيها المنجنيقات والعرادات، فصار محمد إلى قصره المعروف بالخلد في غربي بغداد، فتحصن به، فرماه زهير بالمنجنيق.
    ودخل هرثمة من باب خراسان من عسكر المهدي، وهو الجانب الشرقي من بغداد، ودخل طاهر من معسكره إلى مدينة أبي جعفر، وأحدقوا بالخلد، فخرج محمد من باب خراسان، حتى أتى دجلة يريد هرثمة، فبلغ أصحاب طاهر ذلك، فوثبوا بهرثمة، وهو في حراقة له حتى غرقوه، وأخرجوه بعد ساعة، وخرج محمد في غلالة وسراويل، حتى جلس على الشط، والعسكر يمر به ولا يعرفه، حتى مر به مولى لشكله، فعرفه، فحمله إلى منزله.
    ثم أتى طاهر بن الحسين بخبره، فوقعت بين طاهر وبين هرثمة وزهير منازعة، فأمر طاهر قريشاً الدنداني مولاه، فضرب عنقه، ونصب رأسه على رمح، ومضى به إلى معسكره بالبستان، ثم بعث به إلى المأمون. فكان مقتله يوم الأحد من المحرم سنة 198، وسمعت من يقول: لخمس خلون من صفر، وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً بخطه: أما بعد، فإن المخلوع، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لمفارقته عصمة الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عز وجل، فيما قص علينا من نبإ نوح يا نوح، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة، إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع، وأسلمه بغدره ونكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين حقه، الكائد له فيمن خان عهده ونقض عقده، حتى رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، فأحيا به أعلام الدين بعد دثور سرائرها.
    ثم كتب كتاباً بالفتح يشرح فيه خبره منذ يوم شخص من خراسان، وما عمل في بلد بلد ويوم يوم جعلناه في كتاب مفرد.

    وكانت خلافته منذ يوم توفي الرشيد إلى أن قتل أربع سنين وسبعة أشهر وواحداً وعشرين يوماً، ومنذ مات هارون إلى أن خلع ثلاث سنين، وكانت سنة يوم قتل سبعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وقيل ثمانياً وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: موسى وعبد الله، وكان الغالب عليه إسماعيل ابن صبيح الحراني، والفضل بن الربيع، وعلى شرطة محمد بن المسيب، ثم عزله وولاه أرمينية، وصير مكانه محمد بن حمزة بن مالك، ثم عزله وصير مكانه عبد الله بن خازم التميمي، وكان على حرسه عصمة بن أبي عصمة، وحجابته إلى الفضل بن الربيع يقوم بها ولد الفضل.
    وأقام الحج للناس في ولايته سنة 193 داود بن عيسى بن موسى، سنة 194 علي بن هارون الرشيد، سنة 195 داود بن عيسى، سنة 196 العباس بن موسى ابن عيسى، وهو على مكة، سنة 197 العباس، وغزا بالناس في سنة 194 الحسن بن مصعب من قبل ثابت بن نصر، سنة 195 ثابت بن نصر الخزاعي، سنة 196 ثابت بن نصر، سنة 197 ثابت بن نصر.
    وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمر بن واقد، يحيى بن سليمان الطائفي، أبا معاوية محمد بن حازم المكفوف، أسباط مولى قريش، عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عبد الرحمن بن مسهر، محمد بن كثير الكوفي صاحب التفسير، سفيان بن عيينة، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير يزيد بن إسحاق، إسماعيل بن علية، عبد الوهاب الثقفي، يحيى بن سعيد القطان، يزيد بن مالك، الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي، إسحاق الأزرق، زيد بن هارون، علي بن عاصم، حماد بن عمرو، سلم بن سالم التميمي.
    أيام المأمونوبويع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها مراجل الباذغيسية، في سنة 195، على ما ذكرنا في أيام محمد من أمره وأمر محمد، وبايع له عامة أهل البلدان سنة 196، فلما كان في المحرم سنة 198، وقتل محمد، اجتمع عليه أهل البلدان، ولم يبق أحد إلا أعطي طاعته، وادعى كل ممتنع في بلد أنه إنما كان في طاعة المأمون وعلى الميل إليه.
    وكانت الشمس يومئذ في الميزان درجة وثلاثاً وخمسين دقيقة، والقمر في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في الحمل ثماني عشرة درجة وعشر دقائق راجعاً، والمريخ في الأسد أربع درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الأسد أربعاً وعشرين درجة، وعطارد في السنبلة ثلاثاً وعشرين درجة وعشر دقائق، والرأس في الحمل أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة. ووجه المأمون المطلب بن عبد الله الخزاعي إلى مصر عاملاً عليها سنة 198، فأقام سبعة أشهر، ثم ولى العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي مصر سنة 199، فوجه بابنه عبد الله بن العباس، فحبس المطلب بن عبد الله، واستخلف إبراهيم ابن تميم على الخراج، وصير شرطته إلى عبد العزيز بن الوزير الجروي.
    وساءت سيرة عبد الله بن العباس، فوثب السري بن الحكم، واستمال الجند، ثم حارب عبد الله حتى أخرجه من البلد، وأخرج المطلب من الحبس، فبايع له، ونزل دار الإمارة، وبيت عبد الله بن العباس، وأخذ كل ما كان معه من الأموال، ومضى عبد العزيز الجروي إلى تنيس، فأقام متغلبا عليها، وعلى ما والاها من كور أسفل الأرض، وغلب السري بن الحكم على قصبة الفسطاط والصعيد، وتغلب العباس بن موسى بن عيسى على الحوف في قيس، فخذلته، فأقام ببلبيس خمسة وثلاثين يوماً.
    وفي سنة 198 وجه المأمون الحسن بن سهل إلى العراق عاملا عليها وعلى غيرها من البلد، وقد كان وثب الأصفر المعروف بأبي السرايا، واسمه السري ابن منصور الشيباني بالكوفة، ومعه محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا، ثم توفي محمد بن إبراهيم، فأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن زيد، فأخذ البصرة العباس بن محمد بن موسى الجعفري.
    وقدم زيد بن موسى بن جعفر بن محمد من الكوفة، وقد كان خلع بها، فصار إلى البصرة مع العباس بن محمد الجعفري، وأخذ واسط محمد بن الحسن المعروف بالسلق، وأخذ اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وأخذ الحجاز محمد ابن جعفر، وتغلب على نصيبين وما والاها أحمد بن

    عمر بن الخطاب الربعي، وبالموصل السيد بن أنس، وبميافارقين موسى بن المبارك اليشكري، وبأرمينية عبد الملك بن الجحاف السلمي ومحمد بن عتاب، وباذربيجان محمد بن الرواد الأزدي، ويزيد بن بلال اليمنى، ومحمد بن حميد الهمداني، وعثمان بن أفكل، وعلي بن مر الطائي، وبالجبل أبو دلف العجلي، ومرة بن أبي الرديني، وعلي ابن البهلول، ومحمد بن زهرة، وسنان وزيد بن... وبالسلسله وحن حساس وناحيتها بسطام بن السلس الربعي، وبكفر توثا ورأس عين حبيب بن الجهم، وبكيسوم وما والاها من ديار مضر نصر بن شبث النصري، وكان أصعب القوم شوكة وأشدهم امتناعاً، وبقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قنسرين عثمان بن ثمامة العبسي، وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي.
    وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فلم يبق منهم أحد، وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قنسرين، وخرب يعقوب الحاضر حتى ألصقه بالأرض، وكان فيه عشرون ألف مقاتل، فهو خراب إلى اليوم. وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن حنطان التنوخي، وبحماة وما والاها حراق البهراني، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وبالمصيصة وأذنة وما والاها من الثغور الشامية ثابت ابن نصر الخزاعي، وكان عاملا للأمين، فلما كان من أمره ما كان تغلب على البلد، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من سائر القبائل، وبمصر السري بقصبة الفسطاط والصعيد، وبأسفل الأرض عبد العزيز الجروي، وبالحوفين القيسية واليمانية.
    وغلبت لخم وبنو مدلج على الإسكندرية، ورئيس لخم رجل يقال له أحمد بن رحيم اللخمي، ثم غلب الأندلسيون، وكان ابتداء أمر الأندلسيين انهم قدموا من الأندلس في أربعة آلاف مركب، فأرسوا في ميناء الإسكندرية في الرمل، وكانوا زهاء ثلاثة آلاف رجل، فأقاموا على ساحل البحر، وما... ثم وثب بعض أعوان السلطان على رجل منهم، فوقعت عصبية، فوثب الأندلسيون على الفضل بن عبد الله أخي المطلب بن عبد الله، وقتلوا صاحب شرطته، وصاروا إلى الحصن وحاربوا أهل الإسكندرية، حتى أجلوهم عن منازلهم، فخلوا الديار والأموال، ورأسوا عليهم رجلاً يقال له أبو عبد الله الصوفي يسفك الدماء ويقتل المسلمين، ثم عزلوه وصيروا عليهم رجلاً يقال له الكناني، وأجلوا بني مدلج ولخما عن البلد، فصار البلد كله لهم، وكان ببرقة مسلم بن نصر الأعور الأنباري.
    فلما ولى المأمون الحسن بن سهل العراق وجه خليفته ذا العلمين علي بن أبي سعيد، وكتب المأمون إلى طاهر بن الحسين أن يمضي إلى الجزيرة فيحارب نصر بن شبث، فلما قدم ذو العلمين العراق غلظ ذلك على طاهر، وقال ما أنصفني أمير المؤمنين! ثم نفذ إلى الجزيرة، فحارب نصراً.
    وقدم الحسن بن سهل العراق، فنزل النهروان، وتوجه هرثمة إلى أبي السرايا، والتقوا بناحية الكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199، فكانت بينهم وقائع، فانصرف هرثمة، وزحف زهير بن المسيب الضبي إليه، فهزمه أبو السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجه إليه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد في جيش عظيم، فلقي أبا السرايا بموضع يقال له الجامع، بين بغداد والكوفة، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب من هذه السنة، فقتله أبو السرايا، وأسر أخاه هارون بن محمد بن أبي خالد وجماعة من أصحابه.
    وبلغ زهيراً الخبر، فانصرف من قصر ابن هبيرة إلى بغداد، فرجع هرثمة في جيوش عظيمة، فلقي أبا السرايا، فلم يزل هرثمة حتى صار إلى الكوفة، فقاتله قتالاً شديداً، حتى قتل عامة أصحاب أبي السرايا، ودخل هرثمة الكوفة، وخرج أبو السرايا منهزماً، حتى صار إلى واسط، ثم إلى الأهواز، فلقيه الحسن ابن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فهزمه.
    وانصرف أبو السرايا راجعاً منهزماً إلى روستقباذ، وهو عليل شديد العلة من بطن به، وبلغ

    حماداً الخادم المعروف بالكندغوش مكانه، فهجم عليه، فأخذه وأخذ معه محمد بن محمد العلوي وأبا الشوك مولاه، فصار بهم إلى الحسن ابن سهل وهو بالنهروان، فلما أدخل عليه قال له أبو السرايا: استبقني، أصلح الله الأمير. قال: لا أبقى الله على أن أبقيت عليك فأمر به فضربت عنقه، وقطع بنصفين، وصلب على جسري بغداد. وأتي بمحمد بن محمد العلوي، فقربه وأدناه وبره، وقال له: لا خوف عليك، لعن الله من غرك وولى خالد بن يزيد بن مزيد الكوفة.
    وصار الحسن بن سهل إلى المدائن، ووجه إلى محمد بن الحسن السلق عبد الله بن سعيد الحرشي، فالتقوا بواسط في شرقي دجلة، فهزم السلق، وفض جمعه.
    ووجه عيسى بن يزيد الجلودي إلى محمد بن جعفر العلوي، وقد تغلب بمكة، وأخرج داود بن عيسى الهاشمي، فلما قدم الجلودي مكة لم يحاربه واستأمن إليه، فأخذه الجلودي، وخرج به بنفسه إلى المأمون وهو بمرو، وخلف ابنه بمكة، فلما صار بجرجان توفي محمد بن جعفر، وورد كتاب المأمون على الجلودي يأمره بالرجوع إلى الحجاز، فرجع.
    ووجه حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان إلى اليمن، وإبراهيم بن موسى ابن جعفر العلوي متغلب بها، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن، وكانت وقعات منكرة تأخذ من الفريقين، وكان حمدويه قد استخلف على مكة يزيد ابن محمد بن حنظلة المخزومي، فخرج إبراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة، وبلغ يزيد بن محمد، فخندق عليه مكة، وأرسل إلى الحجبة، فأخذ الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان وصنم ملك التبت، وضربه دنانير ودراهم، وقرض قرضا من الأعراب، ودفع إليهم المال.
    وصار إبراهيم إلى مكة، فوافقه يزيد في أصحابه، وبعث إبراهيم بن موسى بعض أصحابه، فدخل من الجبل، فانهزم يزيد ولحقه بعض أصحابه فقتله، ودخل إبراهيم إلى مكة، فغلب عليها، وأقام بها حمدويه في ناحية من اليمن.
    وأشخص المأمون الرضا علي بن موسى بن جعفر من المدينة إلى خراسان، وكان رسوله إليه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل، فقدم بغداد، ثم أخذ به على طريق ماه البصرة حتى صار إلى مرو، وبايع له المأمون بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الإثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذت البيعة للرضى، ودعي له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه، ولم يبق أحد إلا لبس الخضرة إلا إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، فإنه كان عاملاً للمأمون على البصرة، فامتنع من لبس الخضرة، وقال: هذا نقض لله وله، وأظهر الخلع، فوجه إليه المأمون عيسى بن يزيد الجلودي فلما أشرف على البصرة هرب إسماعيل من غير حرب ولا قتال، ودخل الجلودي البصرة، فأقام بها، وصار إسماعيل إلى الحسن بن سهل، فحبسه، وكتب في أمره إلى المأمون وكتب بحمله إلى مرو، فحمل، فلما صار بالقرب من مرو أمر المأمون أن يرد إلى جرجان فيحبس بها، فأقام بجرجان محبوساً ممنوعاً منه، ثم رضي عنه بعد حين، ووجه ببيعة الرضا مع عيسى الجلودي إلى مكة، وإبراهيم ابن موسى بن جعفر بها مقيم، وقد استقامت له غير أنه يدعو إلى المأمون، فقدم الجلودي ومعه الخضرة وبيعة الرضا، فخرج إبراهيم فتلقاه، وبايع الناس للرضى بمكة، ولبسوا الأخضر.
    وكان حمدويه بن علي بن عيسى، لما خرج إبراهيم إلى مكة، استمال جماعة من أهل اليمن، ثم خلع، فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولاية اليمن، وأمر الجلودي بالخروج معه ومعونته على محاربة حمدويه، فخرج إبراهيم حتى صار إلى اليمن، فلم يخرج الجلودي معه، فلحقه ابن لحمدويه، فحاربه، فقتل من أصحابه خلقاً، وانهزم ابن حمدويه، وصار إبراهيم إلى صنعاء، فخرج حمدويه، فحاربه محاربة شديدة، فقتل من أصحاب إبراهيم خلقاً عظيماً، وانهزم إبراهيم، فلم يرد وجهه شيء دون مكة، وانصرف الجلودي إلى البصرة، وقد تغلب عليها زيد بن موسى، ونهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس، وكان معه جماعة من القيسية وغيرهم، فلما قرب الجلودي حاربوه يومهم ذاك، ثم انهزموا، وانهزم زيد، فأخذه عيسى، وحمله إلى المأمون، فمن عليه، وأطلق سبيله.

    وشخص هرثمة من العراق إلى مرو سنة 201، وقيل إنه انصرف بغير إذن من المأمون، فلما دخل على المأمون... قال: من نقرس، ولا يمكنني أمشي في محفة، وكلم المأمون بكلام غليظ، ودخل معه يحيى بن عامر بن إسماعيل الحارثي، فقال: السلام عليك يا أمير الكافرين! فأخذته السيوف في مجلس المأمون حتى قتل، فقال هرثمة: قدمت هذه المجوس على أوليائك وأنصارك؟ فأمر المأمون بسحب رجل هرثمة وحبسه، فأقام في محبسه ثلاثة أيام، ومات.
    وخرج بخراسان منصور بن عبد الله بن يوسف البرم، فوجه إليه المأمون وبادر منصور بن عبد الله، فقتله.
    ووثب محمد بن أبي خالد وأهل الحربية بالحسن بن سهل، حتى أخرجوه من بغداد، وأسروا زهير بن المسيب الضبي، وذلك أنه كان مع محمد بن أبي خالد... وأتوا محمد بن صالح بن المنصور، فقالوا: نحن أنصار دولتكم، وقد خشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس، وقد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضا، فهلم نبايعك، فإنا نخاف أن يخرج هذا الأمر عنكم. فقال لهم: قد بايعت للمأمون، وكان محمد بن صالح أول هاشمي بايع المأمون ببغداد، ولست لكم بصاحب وصار الحسن بن سهل إلى واسط فاتبعه محمد بن أبي خالد والحربية والأبناء، فالتقوا بقرية أبي قريش دون واسط فكانت بينهم وقعة منكرة، وأصاب محمد بن أبي خالد سهم فأثخنه، فحمل إلى جبل وأقام أياماً وتوفي، فحمل إلى بغداد.
    وقام عيسى بن أبي خالد بالعسكر وقد كان محمد بن أبي خالد أسر زهير بن المسيب الضبي فلما أدخل محمد بن أبي خالد إلى بغداد ميتاً، وثب الأبناء على زهير بن المسيب وهو محبوس، فقتلوه، وشدوا في رجله حبلا، وجروه في طرق بغداد ومثلوا به، فاجتمع قواد الحربية فبايعوا لإبراهيم ابن المهدي، المعروف بابن شكلة لخمس ليال خلون من المحرم سنة 202، ودعي له بالخلافة وسمي بالمرضي ونزل الرصافة وصلى بالناس ببغداد في مسجد المدينة وعسكر بكلواذي ومعه الفضل بن الربيع وعيسى بن محمد بن أبي خالد وسعيد بن الساجور وأبو البط، وكتب بالولايات وعقد الألوية واستقامت له الأمور، وأطاعه الأبناء وأهل الحربية وما والاها، إلا من كان في طاعة المأمون فإنهم كانوا يحاربون مع حميد بن عبد الحميد الطائي الطوسي ويصيحون: يا عنقود، يا مغني! وكان إبراهيم أسود شديد السواد، وبنصف وجهه شامة، سمج المنظر، وكانوا يدعونه عنقوداً لذلك، ثم وثب أسد الحربي وكان من أصحاب إبراهيم في جماعة من الحربية فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون وأخذ عيسى بن أبي خالد أسداً الحربي وابنا له، فقتلهما وصلبهما.
    وكان حميد بن عبد الحميد نازلا بموضع يقال له خان الحكم بنهر صرصر فراسل عيسى بن أبي خالد ليجتمعا، ثم صار حميد إلى بغداد فصلى خلف ابن أبي رجاء القاضي صلاة الجمعة، وانصرف إلى معسكره.
    وخرج مهدي بن علوان الشاري بناحية عكبراً فخرج إليه المطلب ابن عبد الله فواقعه وقعة بعد وقعة، ثم هزمه مهدي فانصرف المطلب منهزما إلى بغداد وخرج إليه أبو إسحاق بن الرشيد فواقعه، وهزم مهدي ولم يزل يتبعه حتى أسره فمن عليه المأمون وألزمه بابه، وألبسه السواد فلم يزل على باب المأمون حتى مات.
    وخرج المأمون من مرو متوجها إلى العراق سنة 202، ومعه الرضا وهو ولى عهده وذو الرئاستين الفضل بن سهل وزيره، وقد كتب للفضل الكتاب الذي سماه كتاب الشرط والحباء يصف فيه طاعته، ونصيحته، وعظته، وعنايته، وذهابه بنفسه عن الدنيا، وارتفاعه عما بذل من الأموال والقطائع والجوهر والعقد ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب، لا يدفعه، ولا يمنعه، ووقع فيه المأمون بخطه، وأشهد على نفسه، فلما صار المأمون بقومس قتل الفضل بن سهل وهو في الحمام، دخل عليه غالب الرومي وسراج الخادم بالسيوف فقتلهما المأمون جميعاً، وقتل قوماً معهما، وقتل ذا العلمين علي بن أبي سعيد وكان ابن خالة الفضل بن سهل وقال إنه الذي دس في قتله، ووجه برأسه إلى الحسن بن سهل إلى العراق وقتل خلف بن عمر البصري المعروف بالحف وموسى البصري وعبد العزيز بن عمران الطائي وغالباً الرومي وسراجاً الخادم وأقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد جزع، ولم يوجد للفضل مال ولا ضيعة، ولا فرس، ولا آنية، إلا خمسة أعبد وفرساً وبرذوناً.

    قال غسان بن عباد قلت للفضل يوماً: أيها الأمير لو أمرت أن يتخذ لك ضياع وعقد، فقال: ولم؟ ويحك إن دام ما أنا فيه فالدنيا كلها ضيعتي وعقدي، وإن زال فما أنا فيه لا يزول إلا باصطلام. قال أبو سمير: وكنت أسمع الفضل بن سهل في أيام المأمون كثيراً ما يقول:
    لئن نجوت أو نجت ركائبي ... من غالب ومن لفيف غالب
    إني لنجاء من الكرائب
    وهو لا يدري من غالب ولا يذهب إلا إلى قريش، حتى دخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون فقتله، فقال الفضل: لك مائة ألف دينار. فقال: ليس بأوان تملق ولا رشوة وقتله.
    وكان المأمون كلما مر ببلد أقام فيه، حتى يصلح حاله، وينظر في مصالح أهله، واستخلف على خراسان عند خروجه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الحسن بن سهل وكانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها جميعاً الطاعة وأسلم ملك التبت وقدم على المأمون إلى... بصنم له من ذهب على سرير من ذهب، مرصع بالجوهر، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرف الناس هداية الله لملك التبت ولم تبق ناحية

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 12:38 am