وقدم محمد بن حميد البلد، فحاربه زريق، فقتل محمد أصحابه، ثم طلب الأمان، فأمنه، وحمله إلى المأمون، وأقام محمد بن حميد حتى نقى البلاد ممن كان يخاف ناحيته، فلما أمكنه محاربة بابك عبا لقتاله، وزحف إليه، فحاربه محاربة شديدة له في كل ذلك الظفر، ثم صار إلى موضع ضيق فيه حزونة، فترجل ابن حميد وجماعة معه، فحمل عليهم أصحاب بابك، فقتل محمد وجماعة من وجوه أصحابه، وانهزم العسكر، وأقام على الجيش مهدي بن أصرم قرابة لابن حميد، وكان ذلك في أول سنة 214.
ولما قتل محمد بن حميد ولى المأمون عبد الله بن طاهر، وعقد له على كور الجبال وأرمينية وآذربيجان، وكتب إلى القضاة وعمال الخراج بالانتهاء إلى أمره، فخرج عبد الله، وأقام بالدينور، وكتب إلى مهدي بن أصرم، ومحمد بن يوسف، وعبد الرحمن بن حبيب، القواد الذين كانوا مع محمد بن حميد، أن يقيموا بمواضعهم.
وتوفي طلحة بن طاهر بخراسان، فولى المأمون مكانه عبد الله، ووجه إليه بعهده وعقده مع إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن أكثم، قاضي القضاة، فنفذ عبد الله إلى خراسان في هذه السنة، فولى المأمون آذربيجان ومحاربة بابك علي بن هشام، وولى عبد الأعلى بن أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، فقدم البلد، وقد تغلب على جرزان محمد بن عتاب، وانضمت إليه الصنارية، فحاربه فهزمه ابن عتاب، ولم يكن له ضبط ولا معرفة بالحرب، فولى المأمون خالد بن يزيد بن مزيد، فأخرج من كان في الحبس بالعراق من عشيرته، وشخص إلى الجزيرة، فانضم إليه خلق عظيم من ربيعة، ثم صار إلى البلد، فلما قدم خلاط أتاه سوادة بن عبد الحميد الجحافي فأمنه، ثم صار إلى النشوي، وقد كان تغلب بها يزيد بن حصن مولى بني محارب، فهرب منه يزيد بن حصن، وأتى كسال، فأقام بها، وبعث إلى محمد بن عتاب، وأتاه في الأمان مظهراً للطاعة، فأمنه خالد، ثم قال: الصنارية في طاعتك! فقال له محمد بن عتاب: ما هم لي في طاعة! فزحف إليهم خالد، فواقعهم بجرزان، فهزمهم، وأخذ مواشيهم، ثم دعا إلى الصلح، وصالحهم على ثلاثة آلاف رمكة وعشرين ألف شاة فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى وثبوا ووثب معهم القيسية، وشغبوا على خالد، وكان في القوم علي بن يحيى الأرمني، فأسره خالد، وأسر جماعة، ووجه بهم إلى المأمون، فصيرهم في ناحية أبي إسحاق المعتصم، وضمهم إليه، وفرض لهم. ثم ولى المأمون عبد الله بن مصاد الأسدي مكان خالد، وأشخص خالداً إليه، فخاف خالد أن يكون قد سعى عنده، فلما قدم ضمه إلى أخيه المعتصم، وقدم عبد الله بن مصاد الأسدي البلد، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، واستخلف ابنه علياً، فاضطرب البلد، وولى المأمون الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني، فقدم والبلد مضطرب، فقاتل أهل قلعة ليايقين، ففتحها، وانصرف إلى دبيل، فأقام بها، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل بن شعيب التفليسي في حمل الأموال، فدافعه إسحاق ورد رسله، فزحف إلى تفليس، فلما قرب منه خرج إليه، فأعطاه مالاً، فانصرف عنه.
وعقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على مصر والمغرب، ولابنه العباس على الجزيرة سنة 214، فقدم العباس الجزيرة، وقد وثب بلال الشاري، فاجتمع هو وأبو إسحاق وجماعة من معهما من القواد عليه، فظفروا به، فقتلوه.
ووثب القيسية واليمانية بمصر بناحية الحوف، فحاربهم عيسى بن يزيد الجلودي، فهزموه غير مرة، فوجه أبو إسحاق بعمير بن الوليد عاملاً على مصر مكان الجلودي، فحاربهم وأكثر فيهم النكاية، ثم قتل، فأمر المأمون أبا إسحاق أن ينفذ إليهم، فسار إليهم من الرقة، فدعاهم إلى الأمان، فأبوا عليه، فقاتلهم، فظفر بهم، وأسر عبد الله بن جليس الهلالي رئيس القيسية، وعبد السلام الجذامي رئيس اليمانية، فضرب أعناقهما وصلبهما على جسر مصر، وأسر منهم خلقاً عظيماً حملهم إلى بغداد.
ووشي يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم، وأن يكون مقيما حتى يوافيه، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة.
وخرج المأمون متوجها إلى أرض الروم في المحرم سنة 215، فغزا الصائفة، وافتتح أنقرة نصفا بالصلح ونصفا بالسيف، وأخربها، وهرب منويل البطريق منها، وفتح حصن شمال، ثم انصرف، فنزل دمشق ثم أتاه الخبر أن أهل البشرود من كور مصر قد ثاروا، فأمر أخاه أبا إسحاق أن يوجه الأفشين حيدر ابن كاوس، فوجه به وكف عاديتهم، ونفذ إلى برقة، وقد خالف أهلها فافتتحها، وأسر مسلم بن نصر بن الأعور، وانصرف إلى مصر سنة 216، وقد عاود أهل الحوف وأهل البشرود المعصية، فحاربهم.
وغزا المأمون أرض الروم سنة 216، ففتح اثني عشر حصناً، وعدة مطامير، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف، فوجه العباس ابنه، فلقيه، فهزمه، وفتح الله على المسلمين، ووجه إليه توفيل ملك الروم بالأسقف صاحبه، وكتب إليه كتابا بدأ فيه باسمه، فقال المأمون: لا أقرأ له كتابا يبدأ فيه باسمه ورده وكتب إليه توفيل بن ميخائيل: لعبد الله غاية الناس في الشرف، ملك العرب، من توفيل بن ميخائيل ملك الروم من قبل... وسأل أن يقبل منه مائة ألف دينار والأسرى الذين عنده، وهم سبعة آلاف أسير، وأن يدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم، ويكف عنهم الحرب خمس سنين، فلم يجبه إلى ذلك، وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة من ديار مضر. وتوفيت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور يوم الإثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة 216، وفي هذا اليوم ورد نعي عمرو بن مسعدة مات بإذنه وفي هذه السنة توفي طوق بن مالك الربعي في شهر رمضان.
واشتدت شوكة من كان يحارب الأفشين بمصر من أهل الحوف والبيما والبشرود، وهي من كور أسفل الأرض، فخرج المأمون إلى كور مصر، وقدم الأفشين في محاربة أهل الحوف، فزحف إليهم بنفسه، فقتلهم وسبى البيما، وهم قبط البشرود، واستفتى في ذلك فقيها بمصر يقال له الحارث بن مسكين مالكي، فقال: إن كانوا خرجوا لظلم نالهم، فلا تحل دماؤهم وأموالهم، فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، هؤلاء كفار لهم ذمة، إذا ظلموا تظلموا إلى الإمام، وليس لهم أن يستنصروا با... ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم. وأخرج المأمون رؤساءهم، فحملهم إلى بغداد.
ووشي محمد بن أبي العباس الطوسي، وأحمد بن أبي داود يحيى بن أكثم إلى المأمون تقربا إلى أبي إسحاق، فسخط عليه المأمون، وأمر بنفيه من عسكره، ونزع السواد عنه، وأخرجه إلى بغداد، وأمره أن لا يخرج من منزله، فأخرج من مصر، وأرسل موكلين به، وسخط أيضاً على عيسى بن منصور القائد الرافقي، وأخرجه من عسكره، وكان السخط عليهما في يوم واحد.
وكان مقام المأمون بمصر سبعة وأربعين يوماً، قدم لعشر خلون من المحرم، وخرج لثلاث بقين من صفر سنة 217، وقدم دمشق منصرفاً من مصر، فأقام أياماً، ثم شخص إلى الثغر، فنزل أذنة معسكرا بها، وقد كان أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي، وعبد الرحمن بن حبيب، وغيرهما من أصحاب محمد بن حميد الطوسي، الذين كانوا باذربيجان، صاروا إلى باب المأمون، فرقوا على علي بن هشام، ونسبوه إلى الخلاف والمعصية، وكتب العباس بن سعيد الجوهري صاحب بريد علي بن هشام بمثل ذلك، فوجه المأمون بعجيف بن عنبسة، وكان من أجل قواده وأحمد بن هشام، وأشخص عجيف علياً إلى أذنة، فأمر المأمون بضرب عنقه وعنق أخيه الحسين بن هشام، وكان المتولي لذلك منهما بيده ابن أختهما أحمد بن الخليل بن هشام، ونصب رأس علي بن هشام على قناة أياماً، ثم وجه به إلى برقة، فجعل في المنجنيق، ثم رمى به في البحر.
وغزا المأمون بلاد الروم في هذه السنة، وهي سنة 217، وصار إلى حصن من حصون الروم يقال له لؤلؤة، فأقام عليه حينا لم يفتحه، فبنى عليه حصنين أنزل فيهما أبا إسحاق والرجال، ثم قفل متوجها إلى قرية يقال لها سلغوس، وخلف على حصنه أحمد بن بسطام، وخلف أبو إسحاق على حصنه محمد بن الفرج بن أبي الليث بن الفضل، وصير عندهم زاد سنة، وخلف المأمون على جميع الناس عجيف بن عنبسة، فمكرت الروم أصحاب لؤلؤة بعجيف، فأسروه، فمكث في أيديهم شهراً، وكاتبوا ملكهم، فسار نحوهم، فهزمه الله بغير قتال، وظفر من كان في الحصنين من المسلمين بعسكره، فحووا كل ما كان فيه. فلما رأى ذلك أهل لؤلؤة، وأضر بهم الحصار، طلب رئيسهم الحيلة، فقال لعجيف: أخلي سبيلك على أن تطلب لي الأمان من المأمون، فضمن له ذلك، فقال: أريد رهينة. فقال: أنا أحضرك ابني، فوجه إلى خليفته أن يوجه إليه بفراشين نصرانيين، ويخوسان ويجملان، فوجه معهما بجماعة من غلمان نصارى في زي المسلمين ففعل ذلك، فدفعهم عجيف إليهم، وخرج، فلما صار إلى المعسكر كتب إليهم: أن الذين في أيديكم نصارى، وأنتم مخيرون فيهم، فكتب إليه رئيسهم: أن الوفاء حسن وهو من دينكم أحسن. فأخذ لهم عجيف الأمان وفتحها وأسكنها المسلمين.
وصار المأمون إلى دمشق سنة 218، وامتحن الناس في العدل والتوحيد، وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها، فامتحنهم في خلق القرآن، وأكفر من امتنع أن يقول القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته فقال كل بذلك، إلا نفراً يسيراً.
وكتب المأمون على عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكان أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء، وكبر بعد كل صلاة، فبقي ذلك سنة، وحول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة، وقال: هذه سنة أحدثها معاوية.
وكان بشر بن الوليد الكندي، قاضي المأمون ببغداد، قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر، وأطافه على جمل، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء، فقال: إني قد نظرت في قضيتك، يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثم أقبل على الفقهاء، فقال: أ فيكم من وقف على هذا؟ قالوا: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بشر بم أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم أبي بكر وعمر. قال: حضرك خصومه قال: لا قال فوكلوك؟ قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم؟ قال: لا! قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته، فيبطل الحد؟ قال: لا! قال: فأمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل كافرتان. قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة؟ قال: لا! قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق، أفيشهد عندك شاهداً عدل؟ قال: قد زكي أحدهما. قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين؟ قال: لا! قال: ثم أقمت الحد في رمضان، فالحدود تقام في شهر رمضان؟ قال: لا! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود يقام؟ قال: لا! ثم شبحته بين العقابين، فالمحدود يشبح؟ قال: لا! قال: ثم جلدته عرياناً، فالمحدود يعرى؟ قال: لا! قال: ثم حملته على جمل، فأطفته، فالمحدود يطاف به قال لا قال ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد، فالمحدود يحبس بعد الحد؟ قال: لا! قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك، خذوا عنه ثيابه، وأحضروا المحدود ليأخذ حقه منه. فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملا بحقوقه، عارفا بأحكامه، تقول الحق، وتعمل به، وتأمر بالعدل، وتؤدب من رغب عنه، إن هذا، يا أمير المؤمنين، حاكم أجد برأيه فأخطأ، فلا تفضح به الحكام، وتهتك به القضاء. فأمر به، فحبس في داره حتى مات.
ورفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك كان وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهوداً، فأحضرت علياً والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن... رووا أن فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وإن أبا بكر لم يجز شهادتهم. فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: إن علياً والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما أجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة، وكتب بذلك وسلمت إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وغزا المأمون بلاد الروم سنة 218، وقد استعد لحصار عمورية، وقال: أوجه إلى العرب، فأتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها، حتى أضرب إلى القسطنطينية، فأتاه رسول ملك الروم يدعوه إلى الصلح والمهادنة ودفع الأسرى الذين قبله، فلم يقبل، فلما قرب من لؤلؤة أقبل، فأقام أياماً وتوفي بموضع يقال له البدندون، بين لؤلؤة وطرسوس، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218، وسنة ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم، وكانت خلافته منذ يوم سلم عليه بالخلافة في حياة المخلوع إلى أن مات اثنتين وعشرين سنة، ومنذ قتل المخلوع عشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين، ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطة العباس بن المسيب ابن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين، ثم عبد الله بن طاهر، فاستخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه طاهر بن إبراهيم خليفة له على شرطه، وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين، ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلازي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام، ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد ابن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى.
وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا، وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر، وهو ابن معللة، وتوفي في حياته، ومحمد الأصغر، وعبيد الله، أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أيام المعتصم باللهوولي أبو إسحاق محمد بن الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها ماردة، وبايع له القواد والجند الذين كانوا مع المأمون، وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218.
وكانت الشمس يومئذ في الأسد ثلاث عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في الميزان خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في القوس درجة وعشر دقائق، والمريخ في القوس أربع درجات وخمساً وثلاثين دقيقة، وعطارد في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والرأس في الحمل عشر دقائق.
وامتنع بعض القواد من البيعة لمكان العباس من المأمون، فخرج إليهم العباس من مضربه، فكلمهم بكلام استحمقوه فيه، فشتموه، وبايعوا لأبي إسحاق، وانصرف المعتصم من الثغر يريد العراق، فلما صار بالرقة ولي غسان بن عباد الجزيرة وقنسرين والعواصم، ونفذ إلى بغداد، فقدمها يوم السبت مستهل شهر رمضان، وعلى جنده الديباج المذهب، وأقر عمال المأمون على أعمالهم ثلاثة أشهر، ثم استبدل بهم.
وخرجت المحمرة بالجبل، فقتلوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، وعرضوا لحاج خراسان، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، فوجه المعتصم هاشم بن باتيجور فكانت بينه وبينهم وقعة فهزموا هاشما، فوجه المعتصم إسحاق بن إبراهيم في جيش، واستخلف إسحاق على الشرط أخاه طاهراً، ونفذ فواقعهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأقام حتى أصلح البلد بعد أن نالته منهم شدة. وتحرك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بالطالقان، واتبعه جماعة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فلما لحقه هرب محمد بن القاسم من الطالقان إلى نيسابور، وذكر أن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأخذه عبد الله بن طاهر، فحمله إلى المعتصم، فحبسه في قصره فهرب منه ليلة الفطر سنة 219، فطلبوه، فلم يقدروا عليه.
ووثب الزط بالبطائح بين البصرة وواسط، فقطعوا الطريق، فوجه إليهم المعتصم أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فهزموه، فعقد المعتصم لعجيف في جمادى الأولى سنة 219، فطلبوا الأمان وخرجوا إليه على حكم المعتصم، فأدخلهم بغداد، فأجاز المعتصم لهم الأمان، وأسكنهم خانقين.
وسخط المعتصم على الفضل بن مروان وزيره، وبطش بجماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم، ووجه الفضل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمر بطلب أموالهم، فركب به إلى داره، وأخرج منها مالا عظيما، ثم نفى، فقال فيه راشد بن إسحاق:
يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني، يا أمير المؤمنين مناظرته فقال شأنك به فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال قال بل علمته من الرجال. قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟ قال: علمته شيئاً بعد شيء. قال فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال: بقي علي. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين. قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله. وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة 220، فاختط موضع المدينة التي بناها، وأقطع الناس المقاطع، وجد في البناء حتى بنى الناس القصور والدور، وقامت الأسواق، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة، وهناك دير للنصارى، فاشترى من أهل الدير الأرض، واختط فيه، وصار إلى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة، فبنى هناك عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وكان ابتداء ذلك في سنة 221، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.
واشتدت شوكة بابك، وكان محمد بن البعيث قد شايعه، وعصمة الكردي صاحب مرند في طاعته، فوجه المعتصم طاهر بن إبراهيم أخا إسحاق بن إبراهيم، عامل البلد، وأمره بمحاربة القوم، فلما قدم البلد كتب ابن البعيث إلى المعتصم يعلمه أنه في الطاعة، وأنه في التدبير على بابك وأصحابه، ثم مكر بعصمة الكردي صاحب مرند، فتزوج ابنته، وصار إليه إلى مرند، ثم دعاه إلى منزله فحمل عليه وعلى من معه في الشرب، فلما سكروا حملهم في الليل إلى قلعته التي يقال لها شاهي، ثم أنفذهم إلى المعتصم، فأجازه المعتصم، وحباه، وأعطاه، وذلك لأنه أخبر طاهر بن إبراهيم بما كان منه، وسأله أن يبعث إليه الحديد والبغال يحملهم إليه، ففعل ذلك طاهر، فحملهم إلى المعتصم، وكتب إليه بخبرهم، فغلظ المعتصم على إسحاق، وقال: ما أرى عند أخيك شيئاً ولا أرى الرجلة إلا عند ابن البعيث.
ووجه الأفشين حيدر بن كاوس الأسروشني، وعقد له على جميع ما اجتاز به من الأعمال، وحملت معه الأموال وخزائن السلاح، فلما صار الأفشين إلى الجبل أخذ من كان به من الصعاليك والوجوه، فنفذ، فكانت بينه وبين بابك وقائع، وكان عسكره بموضع يقال له برزند، فصار بموضع يقال له سادراسب فأقام في محاربته حولا حتى كثرت الثلوج، ثم رجع إلى برزند، ثم وجه بخليفته إلى سادراست، وزحف وصير في كل ناحية... وصار يد روذالروذ، فخندق خندقاً، وبنى سوراً، وكمن الكمناء، وزحف إلى البذ يوم الخميس لتسع خلون من شهر رمضان سنة 222، فأرسل إليه بابك يسأله أن يكلمه، فوافقه، وبينهما نهر، فعرض عليه الأفشين الأمان، فسأله أن يؤخره يومه ذلك، فقال له: إنما تريد أن تحصن مدينتك، فإن أردت الأمان، فاقطع الوادي. فانصرف واشتدت الحرب، ودخل المسلمون مدينة البذ، وهرب بابك وستة من أصحابه، وأخرج من كان بالبذ من أسارى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة.
ومضى بابك على بغلة، وقد لبس ثياب الصوف، وكتب الأفشين إلى البطارقة بأرمينية وآذربيجان في طلبه، وضمن لمن جاء به ألف ألف درهم والصفح عن بلادهم، فصار بابك إلى رجل من البطارقة يقال له سهل بن سنباط، فأخذه، وكتب إلى الأفشين بخبره، فأنفذ، فأخذه، وكتب بالفتح وبما كان من تدبيره، فقريء الفتح، وكتب به إلى الآفاق في... حتى أصلح البلاد، وسار واستخلف منكجور الفرغاني خال ولده.
وقدم على المعتصم، وهو بسر من رأى، فتلقاه القواد والناس على مراحل، ودخلها لليلتين خلتا من صفر سنة 223، وبابك بين يديه على الفيل، حتى دخل إلى المعتصم، فأمر بقطع يدي بابك، ورجليه، ثم قتله وصلبه بسر من رأى، ووجه بأخيه عبد الله إلى بغداد، فقتله إسحاق بن إبراهيم، وصلبه على رأس الجسر في الجانب الشرقي من بغداد.
وكان الأفشين لما قدم آذربيجان ولي أرمينية محمد بن سليمان الأزدي السمرقندي، فقدمها، وقد خالف سهل بن سنباط بالران، وتغلب عليها، فدخل بلاده، فبايته سهل، فهزمه ووثب محمد بن عبيد الله الورثاني بورثان، فوجه إليه الأفشين منكجور ليحاربه، وتكلم في أمره علي بن يحيى الأرمني، فأمنه المعتصم، فقدم به علي بن يحيى، ثم ولى الأفشين أرمينية محمد بن خالد بخاراخذاه، فلما قدم حارب الصنارية، وصار إلى تفليس، فبره إسحاق بن إسماعيل، ووصله، ثم ولى أرمينية علي بن الحسين بن سباع القيسي، فاستضعفه أهل البلد، حتى كان يسمى اليتيم لضعفه ومهانته، فولى المعتصم خالد بن يزيد أرمينية وناحية من ديار ربيعة، فلما بلغ خبره أرمينية تحصن كل رئيس فيها، واشتد خوفهم منه، وعملوا على العصيان، فكتب منصور بن عيسى السبيعي، صاحب بريد أرمينية، إلى المعتصم بذلك، فرد خالداً، وأمر بإقرار علي بن الحسين، فلم يلبث إلا أياماً حتى شغب الجند عليه ببرذعة، وطلبوا أرزاقهم فقال: ليس لي شيء، والأموال عند أهل البلد، وطالب أهل البلد، فامتنعوا عليه، وتحصنوا في حصونهم ثم تراسلوا، واجتمعوا، فحاصروه ببرذعة، فوجه المعتصم حمدويه بن علي بن الفضل إلى البلد، فصار إلى النشوي، فخرج إليه يزيد بن حصن في الأمان... فكان لا يهيجهم خوفاً من أن يعلوا عليه. ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها، وأخرجوهم، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً، حتى جلس على الأرض، وندب الناس للخروج، ووضع الإعطاء، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة، وقدم أشناس التركي على مقدمته، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223، ودخل أرض الروم، فقصد أرض عمورية، وكانت من أعظم مدائنهم، وأكثرها عدة ورجالاً، فحاصرها حصاراً شديداً.
وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم فلما دنا وجه المعتصم بالأفشين في جيش عظيم، فلقي الطاغية، وأوقع به وهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، فأوفد طاغية الروم من قبله وفدا إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدوا أمري، وأنا أبنيها بمالي ورجالي، وأرد من أخذ من أهلها، وأخلي جملة من في بلد الروم من الأسارى، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة.
وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223، فقتل وسبى جميع من فيها وأخذ ياطس خال ملك الروم، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم، وانصرف، فلما صار بإذنه حبس العباس ابن المأمون لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار، فأمر أن تفرق على الجند، ويؤمروا أن يلعنوه، فأحصوا، فوجدوا ثمانين ألف مرتزق، فدفع إليهم دينارين دينارين، وتمم ذلك المعتصم من عنده، ودفع العباس إلى الأفشين مقيدا ليسيره، فلما صار بحند رأس توفي، وقيل إن الأفشين أطعمه طعاما كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء، فحمل إلى منبج، فدفن بها، وسخط المعتصم على عجيف بن عنبسة لأنه كان سبب معصيته، وحمله من أذنة في الحديد الثقيل، في فيه لبود قد خيطت عليه، وفي عنقه غل عظيم، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا، على مرحلة من نصيبين، مات، ودفن بها، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه، وأن يدعي صالحا المعتصمي، ولعنه، وبرئ منه.
وكان المازيار، وهو محمد بن قارن بن بنداد هرمز أصبهبذ طبرستان قد قدم على المأمون، بعد وفاة أبيه وتصيير مملكة طبرستان إلى عمه، فملكه المأمون على مدينتين من مدن طبرستان، وكتب إلى عمه في تسليمهما إليه، وخرج متوجها، فلما بلغ عمه ذلك أغاظه وبلغ منه، فخرج كأنه يتلقاه، وكان مع المازيار مولى لأبيه له دراية، فقال إن عمك لم يخرج في هذه الهيئة إلا ليفتك بك، فإذا قربت منه، وانفردت عن أصحابك، فإني أدفع إليك الحربة، فضعها في صدره، ففعل ذلك، فقتل عمه، واجتمعت عليه المملكة، وضبط البلد، وكتب إلى المأمون بأن عمه كان مخالفاً لملكه على البلد.
فلما عظم أمره كتب من جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار خرشاد محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين، ثم ذهب بنفسه أن يقول: موالي أمير المؤمنين، ثم تفاقم أمره حتى أظهر المعصية، وخلع، ويقال إن الأفشين كاتبه، وحمله على الخلع، فوجه المعتصم محمد بن إبراهيم لمحاربته في جيش، فنفذ وكتب إلى عبد الله بن طاهر أن يمده بالجيوش، فحاربه، وألح عليه عبد الله بالبعثة إليه بالجيوش، فحاربه، فقطعوا الأودية والحزونة، وخرج ليلاً، فوضع يده في يد قرابة لعبد الله، وقدم به سنة 226، فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك.
فحدثني محمد بن عيسى قال: قدم بالمازيار، وقد حبس الأفشين في ذلك الوقت، فجمع ابن داود بينه وبين المازيار، وقال له: هذا الأفشين الذي زعمت أنه حملك على المعصية. فقال له الأفشين: والله إن الكذب بالسوقة لقبيح، فكيف بالملوك؟ والله ما ينجيك كذبك من القتل، فلا تجعل الكذب خاتمة أمرك. فقال المازيار: والله ما كتب إلي، ولا راسلني، إلا أن أبا الحارث وكيلي أخبرني أنه لما قدم عليه بره وأكرمه، فرد الأفشين إلى الحبس، فضرب المازيار حتى قتل.
وكان أول سبب حبس الأفشين أن منكجور الفرغاني خال ولد الأفشين وخليفته باذربيجان، خلع هناك، وجمع إليه أصحاب بابك، وسار إلى ورثان، فقتل محمد بن عبيد الله الورثاني وجماعة من أولياء السلطان، فقال المعتصم للأفشين: أحضر منكجور! فوجه إليه الأفشين بأبي الساج، المعروف بديوداد، في جيش عظيم، ثم بلغ المعتصم أن منكجور إنما خلع بأمر الأفشين، وأنه إنما وجه إليه بأبي الساج مدداً له، فوجه محمد بن حماد على البريد، ووجه ببغا التركي، فحارب منكجور، فلما صدقه القتال ضرع منكجور إلى طلب الأمان، فأعطاه الأمان، وقدم به إلى سر من رأى، وقد حبس الأفشين، وكان حبسه في سنة 226، ثم توفي في الحبس، وصلب على باب العامة بسر من رأى عرياناً، ساعة من نهار، ثم أنزل فأحرق بالنار.
وكان الغالب على المعتصم أحمد بن أبي دواد الأيادي قاضي القضاة، والفضل ابن مروان الكاتب، ثم غضب على الفضل، فنفاه واستصفى ماله، فغلب عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه عجيف بن عنبسة، ثم الأفشين، ثم إسحاق بن يحيى بن معاذ وحجبه جماعة من الأتراك منهم: وصيف، وسيما الدمشقي، وسيما الشرابي، ومحمد بن حماد بن دنفيس، وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن في قصره المعروف بالجوسق، وكانت سنة 49 سنة وكانت ولايته ثماني سنين، وخلف من الولد الذكور ستة: هارون الواثق، وجعفر المتوكل، ومحمداً، وأحمد، وعلياً، والعباس.
أيام هارون الواثق باللهوولى هارون الواثق بالله بن أبي إسحاق، وأمه أم ولد، يقال لها قراطيس، يوم توفي المعتصم، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وكان ذلك من شهور العجم في كانون الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجدي خمس عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة.
وتوجه إسحاق بن إبراهيم ساعة بايع إلى بغداد، فسار ليلته أجمع، ووافى بغداد قبل أن يطلع الفجر، فوكل بالأطراف والسجون، وأحضر القواد والوجوه، فأخذ عليهم البيعة، ووثب عوام الجند والغوغاء بشعيب بن سهل قاضي الجانب الشرقي ببغداد، فانتهبوا داره، فوجه إسحاق جعفر معيشة، وإبراهيم الديرج، وجماعة معهما، فأخرجوا شعيب بن سهل، حتى صاروا به إلى دار إسحاق.
وأراد الواثق الحج في هذه السنة، وصحت عزيمته، فتأخر حجه، وأذن لأمه، فخرجت، ومعها جعفر بن المعتصم، فلما صارت بالكوفة توفيت، وأذن الواثق لأخيه جعفر في النفوذ، فنفذ وأقام الحج بالناس وكان أول من عقد له الواثق من قواده أشناس التركي ولاه من بابه إلى آخر عمل المغرب، فوجه عماله، وكتب إلى محمد بن إبراهيم الأغلب بولاية المغرب من قبله، وكان المدبر له أحمد بن الخصيب.
وولى الواثق خراسان إيتاخ التركي، والسند وكور دجلة، وكانت السند قد اضطربت، وقتل عمران بن موسى بن يحيى بن خالد عامل السند، فوجه إيتاخ إلى السند عنبسة بن إسحاق الضبي، فقدم البلد، وقد تغلب عليه عدة ملوك، فلما قدمها عنبسة سمعوا وأطاعوا وخرجوا إليه جميعاً خلا عثمان... فسار إليه عنبسة... فأقام على البلد تسع سنين.
ووثب ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، ووثب بفلسطين رجل يقال له تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب، ويلقب بالمبرقع، في لخم وجذام وعاملة وبلقين، وصار إلى كورة الأردن، وخلع قوم من البربر ببرقة، ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص، ووثبوا بعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة، فوجه الواثق رجاء بن أيوب الحضاري، فبدأ بدمشق، فأوقع بابن بيهس، فأسره، وسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره وحمله إلى سر من رأى، فوقف بباب العامة، ونودي عليه، وصار رجاء إلى مصر سنة 228، فنزل الجيزة، ثم توجه إلى برقة، فهرب من كان فيها، وظفر بجماعة منهم، فحملهم، ثم انصرف.
وتوفي عبد الله بن طاهر بخراسان سنة 230، وهو ابن سبع وأربعين سنة، ومنزله منها نيسابور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة، وولى الواثق طاهر بن عبد الله، وكان عبد الله بن طاهر قد ضبط خراسان ضبطا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة. وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز، وقطعوا الطريق، حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، فوجه الواثق بغا الكبير سنة 230، وأمره أن يقتل كل من وجده من الأعراب، فشخص قبل أوان الحج، فاجتمعت قيس من كل ناحية، وأكثرهم بنو سليم ورئيسهم عزيزة، فلقيهم، فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم عالماً حبسهم في دار يزيد بن معاوية بالمدينة، فنقبوا وخرجوا على أهل المدينة، فوثب عليهم أهل المدينة، فقتلوا عامتهم، وحمل بغا الباقين في الأغلال، ووافى إسحاق بن إبراهيم الموسم في تلك السنة.
وسخط الواثق على إبراهيم بن رباح، وكان إبراهيم مقدماً عنده بمكانه منه، أيام إمرته، فولاه ديوان الضياع، فتشاغل باللهو، وفوض أمره إلى نجاح بن سلمة كاتبه، وإلى يمان بن... النصراني، وتجافيا للناس عن أموال كثيرة، فكثروا عليه عند الواثق، فأمر بقبض ضياعه وأمواله، وصير ما كان إليه إلى عمر بن فرج الرخجي.
وكان أحمد بن الخصيب كاتب أشناس التركي، وهو يلي أعمال الجزيرة، والشامات، ومصر، والمغرب، والمدبر لذلك أحمد، فرفع إلى الواثق أنه قد حاز أموالا عظيمة، فسخط عليه، وقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم، وعذبا، وعذبت أمهما.
وتوفي أشناس في هذه السنة، فصيرت مرتبته وأكثر أعماله إلى إيتاخ التركي، وتركت ضياعه وأمواله بحالها لولده، ورد القيام بها إلى عبد الله بن صاعد، فلم يزل يقوم بها إلى أن توفي. وانتقضت أرمينية، وتحرك بها قوم من العرب والبطارقة والمتغلبين، وتغلب ملوك الجبال والباب والأبواب على ما يليهم، وضعف أمر السلطان، فولى الواثق خالد بن يزيد بن مزيد، وأمره بالنفوذ، وضم إليه كورا من كور ديار ربيعة، فسار في جيش عظيم، فلما بلغ المتغلبين بتلك البلاد خبره هابوه، وكتب أكثرهم يذكر أنه لم يزل في الطاعة، ووجهوا بالهدايا، فقال: لا أقبل إلا هدية من جاءني، فزاد ذلك في وحشتهم، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل يأمره أن يقدم عليه، فلم يفعل، فزحف إليه، فكاد أن يعطي إسحاق بيده.
واعتل خالد، فأقام أياماً، ثم مات، فحمل في تابوت إلى دبيل، فدفن فيها، وتفرق أصحابه، فعاد البلد إلى أقبح أحواله، فولى الواثق محمد بن خالد مكان أبيه، فكتب محمد يذكر انصراف أصحاب أبيه وسأل ردهم إليه، فوجه أحمد بن بسطام إلى نصيبين، فضرب، وحبس، وحرق الدور، فاجتمع إلى محمد أصحاب أبيه ومواليه، فحارب الصنارية وإسحاق، حتى أخرجه، وهزمهم، ولم يزل ضابطا للبلد.
وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً.
وكتب طاغية الروم يذكر كثرة من بيده من أسارى المسلمين ويدعو إلى الفداء فأجابه الواثق إلى ذلك، ووجه بخاقان الخادم... المعروف بأبي رملة والآخر جعفر بن أحمد الحذاء، وكان صاحب الجيش، وولى الثغر أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، فصاروا إلى موضع يقال له نهر اللامس على مرحلتين من طرسوس، وحضر ذلك الفداء سبعون ألف رامح سوى من ليس معه رمح، وكان أبو رملة وجعفر الحذاء واقفين على قنطرة النهر، فكلما مر رجل من الأسرى امتحنوه في القرآن، فمن قال إنه مخلوق فودي به، ودفع إليه ديناران وثوبان، فبلغ عدة من فودي به خمسمائة رجل وسبعمائة امرأة، وكان هذا في المحرم سنة 231.
وصار أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي إلى ابن أبي دؤاد في بعض أموره، فرده، فانصرف ذاما له، فجعل يبسط عليه لسانه ويشهد عليه بالكفر، فمال إليه قوم منهم، وهم لا يشكون أن ذلك غضب للدين، فاشرأبت قلوبهم للمعصية لسبب القرآن، وخرج قوم، فضربوا بطبل، وصاروا إلى ناحية صحراء أبي السري، فأخذوا، وأقروا عليه، فكتب الواثق إلى إسحاق في إشخاصه، فأشخصه إليه، فكلمه بكلام غليظ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات، وامتحنه في القرآن، فأبى أن يقول إنه مخلوق، وشتمه الواثق، فرد عليه، فضرب عنقه وصلبه بسر من رأى، ووجه برأسه، فنصب ببغداد في الجانب الشرقي.
وخرج محمد بن عمرو الشيباني الخارجي بديار ربيعة وأبو سعيد محمد ابن يوسف بها فخرج إليه مع الجند ومحمد بن عمرو في ثلاثمائة، أو أربعمائة من الخوارج فصار إلى سنجار، ثم انهزم إلى ناحية الموصل، فتبعه أبو سعيد، فأسره وأدخله نصيبين على بقرة، وحمله... إلى الواثق، فكتب إليه: ما ينبغي أن يقتل، فإنه لن يخرج خارجي ما دام حياً، فلم يزل محبوساً أيام الواثق.
وفرق الواثق أموالا جمة بمكة والمدينة وسائر البلدان على الهاشميين وسائر قريش والناس كافة، وقسم في أهل بغداد قسماً كثيرة مرة بعد أخرى على أهل البيوتات وعلى عامة الناس، وكثر الحريق ببغداد، وفرق على قوم من التجار أموالا جمة، وبنى لقوم وأسقط ما كان يؤخذ ممن يرد في بحر الصين من العشر.
وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك، وعمر بن فرج الرخجي، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه إسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ.
واعتل الواثق، واشتدت علته حتى حفر له في الأرض حفير كالتنور ثم سخن بحطب الطرفاء، وصير فيه مراراً، وكان يقول في علته: لوددت أني أقلت العثرة، وأني حمال أحمل على رأسي. وقيل له في البيعة لابنه، فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً.
وكان قد انتقل من قصور المعتصم، وبنى له قصرا على شط دجلة يقال له الهاروني، وجعل له دكتين: دكة غربية ودكة شرقية، وكان من أحسن القصور، وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وسنة يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الولد الذكور ستة: محمداً، وعلياً، وعبد الله، وإبراهيم، وأحمد، ومحمداً الأصغر.
أيام جعفر المتوكلوبويع جعفر بن المعتصم، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وكان أول من بايعه سيما التركي، المعروف بالدمشقي، ووصيف التركي، وركب إلى دار العامة من ساعته وأمر بإعطاء الجند لثمانية أشهر، وسلم عليه أولاد سبعة خلفاء مجتمعين: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأحمد بن الرشيد وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون وإخوته، وأبو أحمد بن المعتصم وإخوته، ومحمد بن الواثق، وأقر الأمور على ما كانت عليه أربعين صباحاً، ثم سخط على محمد بن عبد الملك واصطفى أمواله وعذبه حتى مات، وكان يعتد عليه بأمور كثيرة.
وكان محمد رجلاً شديد القسوة، قليل الرحمة، جباها للناس، كثير الاستخفاف بهم، لا يعرف له إحسان إلى أحد، ولا معروف عنده، وكان يقول: الحياء خنث، والرحمة ضعف، والسخاء حمق فلما نكب لم ير إلا شامت به وفرح بنكبته.
وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى ابن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى. ونهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن، وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاهم جميعاً، وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهى عن المناظرة والجدال فأمسك الناس.
ولما قتل محمد بن حميد ولى المأمون عبد الله بن طاهر، وعقد له على كور الجبال وأرمينية وآذربيجان، وكتب إلى القضاة وعمال الخراج بالانتهاء إلى أمره، فخرج عبد الله، وأقام بالدينور، وكتب إلى مهدي بن أصرم، ومحمد بن يوسف، وعبد الرحمن بن حبيب، القواد الذين كانوا مع محمد بن حميد، أن يقيموا بمواضعهم.
وتوفي طلحة بن طاهر بخراسان، فولى المأمون مكانه عبد الله، ووجه إليه بعهده وعقده مع إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن أكثم، قاضي القضاة، فنفذ عبد الله إلى خراسان في هذه السنة، فولى المأمون آذربيجان ومحاربة بابك علي بن هشام، وولى عبد الأعلى بن أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، فقدم البلد، وقد تغلب على جرزان محمد بن عتاب، وانضمت إليه الصنارية، فحاربه فهزمه ابن عتاب، ولم يكن له ضبط ولا معرفة بالحرب، فولى المأمون خالد بن يزيد بن مزيد، فأخرج من كان في الحبس بالعراق من عشيرته، وشخص إلى الجزيرة، فانضم إليه خلق عظيم من ربيعة، ثم صار إلى البلد، فلما قدم خلاط أتاه سوادة بن عبد الحميد الجحافي فأمنه، ثم صار إلى النشوي، وقد كان تغلب بها يزيد بن حصن مولى بني محارب، فهرب منه يزيد بن حصن، وأتى كسال، فأقام بها، وبعث إلى محمد بن عتاب، وأتاه في الأمان مظهراً للطاعة، فأمنه خالد، ثم قال: الصنارية في طاعتك! فقال له محمد بن عتاب: ما هم لي في طاعة! فزحف إليهم خالد، فواقعهم بجرزان، فهزمهم، وأخذ مواشيهم، ثم دعا إلى الصلح، وصالحهم على ثلاثة آلاف رمكة وعشرين ألف شاة فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى وثبوا ووثب معهم القيسية، وشغبوا على خالد، وكان في القوم علي بن يحيى الأرمني، فأسره خالد، وأسر جماعة، ووجه بهم إلى المأمون، فصيرهم في ناحية أبي إسحاق المعتصم، وضمهم إليه، وفرض لهم. ثم ولى المأمون عبد الله بن مصاد الأسدي مكان خالد، وأشخص خالداً إليه، فخاف خالد أن يكون قد سعى عنده، فلما قدم ضمه إلى أخيه المعتصم، وقدم عبد الله بن مصاد الأسدي البلد، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، واستخلف ابنه علياً، فاضطرب البلد، وولى المأمون الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني، فقدم والبلد مضطرب، فقاتل أهل قلعة ليايقين، ففتحها، وانصرف إلى دبيل، فأقام بها، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل بن شعيب التفليسي في حمل الأموال، فدافعه إسحاق ورد رسله، فزحف إلى تفليس، فلما قرب منه خرج إليه، فأعطاه مالاً، فانصرف عنه.
وعقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على مصر والمغرب، ولابنه العباس على الجزيرة سنة 214، فقدم العباس الجزيرة، وقد وثب بلال الشاري، فاجتمع هو وأبو إسحاق وجماعة من معهما من القواد عليه، فظفروا به، فقتلوه.
ووثب القيسية واليمانية بمصر بناحية الحوف، فحاربهم عيسى بن يزيد الجلودي، فهزموه غير مرة، فوجه أبو إسحاق بعمير بن الوليد عاملاً على مصر مكان الجلودي، فحاربهم وأكثر فيهم النكاية، ثم قتل، فأمر المأمون أبا إسحاق أن ينفذ إليهم، فسار إليهم من الرقة، فدعاهم إلى الأمان، فأبوا عليه، فقاتلهم، فظفر بهم، وأسر عبد الله بن جليس الهلالي رئيس القيسية، وعبد السلام الجذامي رئيس اليمانية، فضرب أعناقهما وصلبهما على جسر مصر، وأسر منهم خلقاً عظيماً حملهم إلى بغداد.
ووشي يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم، وأن يكون مقيما حتى يوافيه، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة.
وخرج المأمون متوجها إلى أرض الروم في المحرم سنة 215، فغزا الصائفة، وافتتح أنقرة نصفا بالصلح ونصفا بالسيف، وأخربها، وهرب منويل البطريق منها، وفتح حصن شمال، ثم انصرف، فنزل دمشق ثم أتاه الخبر أن أهل البشرود من كور مصر قد ثاروا، فأمر أخاه أبا إسحاق أن يوجه الأفشين حيدر ابن كاوس، فوجه به وكف عاديتهم، ونفذ إلى برقة، وقد خالف أهلها فافتتحها، وأسر مسلم بن نصر بن الأعور، وانصرف إلى مصر سنة 216، وقد عاود أهل الحوف وأهل البشرود المعصية، فحاربهم.
وغزا المأمون أرض الروم سنة 216، ففتح اثني عشر حصناً، وعدة مطامير، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف، فوجه العباس ابنه، فلقيه، فهزمه، وفتح الله على المسلمين، ووجه إليه توفيل ملك الروم بالأسقف صاحبه، وكتب إليه كتابا بدأ فيه باسمه، فقال المأمون: لا أقرأ له كتابا يبدأ فيه باسمه ورده وكتب إليه توفيل بن ميخائيل: لعبد الله غاية الناس في الشرف، ملك العرب، من توفيل بن ميخائيل ملك الروم من قبل... وسأل أن يقبل منه مائة ألف دينار والأسرى الذين عنده، وهم سبعة آلاف أسير، وأن يدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم، ويكف عنهم الحرب خمس سنين، فلم يجبه إلى ذلك، وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة من ديار مضر. وتوفيت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور يوم الإثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة 216، وفي هذا اليوم ورد نعي عمرو بن مسعدة مات بإذنه وفي هذه السنة توفي طوق بن مالك الربعي في شهر رمضان.
واشتدت شوكة من كان يحارب الأفشين بمصر من أهل الحوف والبيما والبشرود، وهي من كور أسفل الأرض، فخرج المأمون إلى كور مصر، وقدم الأفشين في محاربة أهل الحوف، فزحف إليهم بنفسه، فقتلهم وسبى البيما، وهم قبط البشرود، واستفتى في ذلك فقيها بمصر يقال له الحارث بن مسكين مالكي، فقال: إن كانوا خرجوا لظلم نالهم، فلا تحل دماؤهم وأموالهم، فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، هؤلاء كفار لهم ذمة، إذا ظلموا تظلموا إلى الإمام، وليس لهم أن يستنصروا با... ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم. وأخرج المأمون رؤساءهم، فحملهم إلى بغداد.
ووشي محمد بن أبي العباس الطوسي، وأحمد بن أبي داود يحيى بن أكثم إلى المأمون تقربا إلى أبي إسحاق، فسخط عليه المأمون، وأمر بنفيه من عسكره، ونزع السواد عنه، وأخرجه إلى بغداد، وأمره أن لا يخرج من منزله، فأخرج من مصر، وأرسل موكلين به، وسخط أيضاً على عيسى بن منصور القائد الرافقي، وأخرجه من عسكره، وكان السخط عليهما في يوم واحد.
وكان مقام المأمون بمصر سبعة وأربعين يوماً، قدم لعشر خلون من المحرم، وخرج لثلاث بقين من صفر سنة 217، وقدم دمشق منصرفاً من مصر، فأقام أياماً، ثم شخص إلى الثغر، فنزل أذنة معسكرا بها، وقد كان أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي، وعبد الرحمن بن حبيب، وغيرهما من أصحاب محمد بن حميد الطوسي، الذين كانوا باذربيجان، صاروا إلى باب المأمون، فرقوا على علي بن هشام، ونسبوه إلى الخلاف والمعصية، وكتب العباس بن سعيد الجوهري صاحب بريد علي بن هشام بمثل ذلك، فوجه المأمون بعجيف بن عنبسة، وكان من أجل قواده وأحمد بن هشام، وأشخص عجيف علياً إلى أذنة، فأمر المأمون بضرب عنقه وعنق أخيه الحسين بن هشام، وكان المتولي لذلك منهما بيده ابن أختهما أحمد بن الخليل بن هشام، ونصب رأس علي بن هشام على قناة أياماً، ثم وجه به إلى برقة، فجعل في المنجنيق، ثم رمى به في البحر.
وغزا المأمون بلاد الروم في هذه السنة، وهي سنة 217، وصار إلى حصن من حصون الروم يقال له لؤلؤة، فأقام عليه حينا لم يفتحه، فبنى عليه حصنين أنزل فيهما أبا إسحاق والرجال، ثم قفل متوجها إلى قرية يقال لها سلغوس، وخلف على حصنه أحمد بن بسطام، وخلف أبو إسحاق على حصنه محمد بن الفرج بن أبي الليث بن الفضل، وصير عندهم زاد سنة، وخلف المأمون على جميع الناس عجيف بن عنبسة، فمكرت الروم أصحاب لؤلؤة بعجيف، فأسروه، فمكث في أيديهم شهراً، وكاتبوا ملكهم، فسار نحوهم، فهزمه الله بغير قتال، وظفر من كان في الحصنين من المسلمين بعسكره، فحووا كل ما كان فيه. فلما رأى ذلك أهل لؤلؤة، وأضر بهم الحصار، طلب رئيسهم الحيلة، فقال لعجيف: أخلي سبيلك على أن تطلب لي الأمان من المأمون، فضمن له ذلك، فقال: أريد رهينة. فقال: أنا أحضرك ابني، فوجه إلى خليفته أن يوجه إليه بفراشين نصرانيين، ويخوسان ويجملان، فوجه معهما بجماعة من غلمان نصارى في زي المسلمين ففعل ذلك، فدفعهم عجيف إليهم، وخرج، فلما صار إلى المعسكر كتب إليهم: أن الذين في أيديكم نصارى، وأنتم مخيرون فيهم، فكتب إليه رئيسهم: أن الوفاء حسن وهو من دينكم أحسن. فأخذ لهم عجيف الأمان وفتحها وأسكنها المسلمين.
وصار المأمون إلى دمشق سنة 218، وامتحن الناس في العدل والتوحيد، وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها، فامتحنهم في خلق القرآن، وأكفر من امتنع أن يقول القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته فقال كل بذلك، إلا نفراً يسيراً.
وكتب المأمون على عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكان أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء، وكبر بعد كل صلاة، فبقي ذلك سنة، وحول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة، وقال: هذه سنة أحدثها معاوية.
وكان بشر بن الوليد الكندي، قاضي المأمون ببغداد، قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر، وأطافه على جمل، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء، فقال: إني قد نظرت في قضيتك، يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثم أقبل على الفقهاء، فقال: أ فيكم من وقف على هذا؟ قالوا: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بشر بم أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم أبي بكر وعمر. قال: حضرك خصومه قال: لا قال فوكلوك؟ قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم؟ قال: لا! قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته، فيبطل الحد؟ قال: لا! قال: فأمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل كافرتان. قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة؟ قال: لا! قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق، أفيشهد عندك شاهداً عدل؟ قال: قد زكي أحدهما. قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين؟ قال: لا! قال: ثم أقمت الحد في رمضان، فالحدود تقام في شهر رمضان؟ قال: لا! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود يقام؟ قال: لا! ثم شبحته بين العقابين، فالمحدود يشبح؟ قال: لا! قال: ثم جلدته عرياناً، فالمحدود يعرى؟ قال: لا! قال: ثم حملته على جمل، فأطفته، فالمحدود يطاف به قال لا قال ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد، فالمحدود يحبس بعد الحد؟ قال: لا! قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك، خذوا عنه ثيابه، وأحضروا المحدود ليأخذ حقه منه. فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملا بحقوقه، عارفا بأحكامه، تقول الحق، وتعمل به، وتأمر بالعدل، وتؤدب من رغب عنه، إن هذا، يا أمير المؤمنين، حاكم أجد برأيه فأخطأ، فلا تفضح به الحكام، وتهتك به القضاء. فأمر به، فحبس في داره حتى مات.
ورفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك كان وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهوداً، فأحضرت علياً والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن... رووا أن فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وإن أبا بكر لم يجز شهادتهم. فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: إن علياً والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما أجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة، وكتب بذلك وسلمت إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وغزا المأمون بلاد الروم سنة 218، وقد استعد لحصار عمورية، وقال: أوجه إلى العرب، فأتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها، حتى أضرب إلى القسطنطينية، فأتاه رسول ملك الروم يدعوه إلى الصلح والمهادنة ودفع الأسرى الذين قبله، فلم يقبل، فلما قرب من لؤلؤة أقبل، فأقام أياماً وتوفي بموضع يقال له البدندون، بين لؤلؤة وطرسوس، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218، وسنة ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم، وكانت خلافته منذ يوم سلم عليه بالخلافة في حياة المخلوع إلى أن مات اثنتين وعشرين سنة، ومنذ قتل المخلوع عشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين، ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطة العباس بن المسيب ابن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين، ثم عبد الله بن طاهر، فاستخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه طاهر بن إبراهيم خليفة له على شرطه، وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين، ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلازي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام، ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد ابن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى.
وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا، وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر، وهو ابن معللة، وتوفي في حياته، ومحمد الأصغر، وعبيد الله، أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أيام المعتصم باللهوولي أبو إسحاق محمد بن الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها ماردة، وبايع له القواد والجند الذين كانوا مع المأمون، وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218.
وكانت الشمس يومئذ في الأسد ثلاث عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في الميزان خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في القوس درجة وعشر دقائق، والمريخ في القوس أربع درجات وخمساً وثلاثين دقيقة، وعطارد في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والرأس في الحمل عشر دقائق.
وامتنع بعض القواد من البيعة لمكان العباس من المأمون، فخرج إليهم العباس من مضربه، فكلمهم بكلام استحمقوه فيه، فشتموه، وبايعوا لأبي إسحاق، وانصرف المعتصم من الثغر يريد العراق، فلما صار بالرقة ولي غسان بن عباد الجزيرة وقنسرين والعواصم، ونفذ إلى بغداد، فقدمها يوم السبت مستهل شهر رمضان، وعلى جنده الديباج المذهب، وأقر عمال المأمون على أعمالهم ثلاثة أشهر، ثم استبدل بهم.
وخرجت المحمرة بالجبل، فقتلوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، وعرضوا لحاج خراسان، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، فوجه المعتصم هاشم بن باتيجور فكانت بينه وبينهم وقعة فهزموا هاشما، فوجه المعتصم إسحاق بن إبراهيم في جيش، واستخلف إسحاق على الشرط أخاه طاهراً، ونفذ فواقعهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأقام حتى أصلح البلد بعد أن نالته منهم شدة. وتحرك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بالطالقان، واتبعه جماعة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فلما لحقه هرب محمد بن القاسم من الطالقان إلى نيسابور، وذكر أن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأخذه عبد الله بن طاهر، فحمله إلى المعتصم، فحبسه في قصره فهرب منه ليلة الفطر سنة 219، فطلبوه، فلم يقدروا عليه.
ووثب الزط بالبطائح بين البصرة وواسط، فقطعوا الطريق، فوجه إليهم المعتصم أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فهزموه، فعقد المعتصم لعجيف في جمادى الأولى سنة 219، فطلبوا الأمان وخرجوا إليه على حكم المعتصم، فأدخلهم بغداد، فأجاز المعتصم لهم الأمان، وأسكنهم خانقين.
وسخط المعتصم على الفضل بن مروان وزيره، وبطش بجماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم، ووجه الفضل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمر بطلب أموالهم، فركب به إلى داره، وأخرج منها مالا عظيما، ثم نفى، فقال فيه راشد بن إسحاق:
يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني، يا أمير المؤمنين مناظرته فقال شأنك به فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال قال بل علمته من الرجال. قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟ قال: علمته شيئاً بعد شيء. قال فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال: بقي علي. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين. قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله. وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة 220، فاختط موضع المدينة التي بناها، وأقطع الناس المقاطع، وجد في البناء حتى بنى الناس القصور والدور، وقامت الأسواق، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة، وهناك دير للنصارى، فاشترى من أهل الدير الأرض، واختط فيه، وصار إلى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة، فبنى هناك عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وكان ابتداء ذلك في سنة 221، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.
واشتدت شوكة بابك، وكان محمد بن البعيث قد شايعه، وعصمة الكردي صاحب مرند في طاعته، فوجه المعتصم طاهر بن إبراهيم أخا إسحاق بن إبراهيم، عامل البلد، وأمره بمحاربة القوم، فلما قدم البلد كتب ابن البعيث إلى المعتصم يعلمه أنه في الطاعة، وأنه في التدبير على بابك وأصحابه، ثم مكر بعصمة الكردي صاحب مرند، فتزوج ابنته، وصار إليه إلى مرند، ثم دعاه إلى منزله فحمل عليه وعلى من معه في الشرب، فلما سكروا حملهم في الليل إلى قلعته التي يقال لها شاهي، ثم أنفذهم إلى المعتصم، فأجازه المعتصم، وحباه، وأعطاه، وذلك لأنه أخبر طاهر بن إبراهيم بما كان منه، وسأله أن يبعث إليه الحديد والبغال يحملهم إليه، ففعل ذلك طاهر، فحملهم إلى المعتصم، وكتب إليه بخبرهم، فغلظ المعتصم على إسحاق، وقال: ما أرى عند أخيك شيئاً ولا أرى الرجلة إلا عند ابن البعيث.
ووجه الأفشين حيدر بن كاوس الأسروشني، وعقد له على جميع ما اجتاز به من الأعمال، وحملت معه الأموال وخزائن السلاح، فلما صار الأفشين إلى الجبل أخذ من كان به من الصعاليك والوجوه، فنفذ، فكانت بينه وبين بابك وقائع، وكان عسكره بموضع يقال له برزند، فصار بموضع يقال له سادراسب فأقام في محاربته حولا حتى كثرت الثلوج، ثم رجع إلى برزند، ثم وجه بخليفته إلى سادراست، وزحف وصير في كل ناحية... وصار يد روذالروذ، فخندق خندقاً، وبنى سوراً، وكمن الكمناء، وزحف إلى البذ يوم الخميس لتسع خلون من شهر رمضان سنة 222، فأرسل إليه بابك يسأله أن يكلمه، فوافقه، وبينهما نهر، فعرض عليه الأفشين الأمان، فسأله أن يؤخره يومه ذلك، فقال له: إنما تريد أن تحصن مدينتك، فإن أردت الأمان، فاقطع الوادي. فانصرف واشتدت الحرب، ودخل المسلمون مدينة البذ، وهرب بابك وستة من أصحابه، وأخرج من كان بالبذ من أسارى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة.
ومضى بابك على بغلة، وقد لبس ثياب الصوف، وكتب الأفشين إلى البطارقة بأرمينية وآذربيجان في طلبه، وضمن لمن جاء به ألف ألف درهم والصفح عن بلادهم، فصار بابك إلى رجل من البطارقة يقال له سهل بن سنباط، فأخذه، وكتب إلى الأفشين بخبره، فأنفذ، فأخذه، وكتب بالفتح وبما كان من تدبيره، فقريء الفتح، وكتب به إلى الآفاق في... حتى أصلح البلاد، وسار واستخلف منكجور الفرغاني خال ولده.
وقدم على المعتصم، وهو بسر من رأى، فتلقاه القواد والناس على مراحل، ودخلها لليلتين خلتا من صفر سنة 223، وبابك بين يديه على الفيل، حتى دخل إلى المعتصم، فأمر بقطع يدي بابك، ورجليه، ثم قتله وصلبه بسر من رأى، ووجه بأخيه عبد الله إلى بغداد، فقتله إسحاق بن إبراهيم، وصلبه على رأس الجسر في الجانب الشرقي من بغداد.
وكان الأفشين لما قدم آذربيجان ولي أرمينية محمد بن سليمان الأزدي السمرقندي، فقدمها، وقد خالف سهل بن سنباط بالران، وتغلب عليها، فدخل بلاده، فبايته سهل، فهزمه ووثب محمد بن عبيد الله الورثاني بورثان، فوجه إليه الأفشين منكجور ليحاربه، وتكلم في أمره علي بن يحيى الأرمني، فأمنه المعتصم، فقدم به علي بن يحيى، ثم ولى الأفشين أرمينية محمد بن خالد بخاراخذاه، فلما قدم حارب الصنارية، وصار إلى تفليس، فبره إسحاق بن إسماعيل، ووصله، ثم ولى أرمينية علي بن الحسين بن سباع القيسي، فاستضعفه أهل البلد، حتى كان يسمى اليتيم لضعفه ومهانته، فولى المعتصم خالد بن يزيد أرمينية وناحية من ديار ربيعة، فلما بلغ خبره أرمينية تحصن كل رئيس فيها، واشتد خوفهم منه، وعملوا على العصيان، فكتب منصور بن عيسى السبيعي، صاحب بريد أرمينية، إلى المعتصم بذلك، فرد خالداً، وأمر بإقرار علي بن الحسين، فلم يلبث إلا أياماً حتى شغب الجند عليه ببرذعة، وطلبوا أرزاقهم فقال: ليس لي شيء، والأموال عند أهل البلد، وطالب أهل البلد، فامتنعوا عليه، وتحصنوا في حصونهم ثم تراسلوا، واجتمعوا، فحاصروه ببرذعة، فوجه المعتصم حمدويه بن علي بن الفضل إلى البلد، فصار إلى النشوي، فخرج إليه يزيد بن حصن في الأمان... فكان لا يهيجهم خوفاً من أن يعلوا عليه. ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها، وأخرجوهم، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً، حتى جلس على الأرض، وندب الناس للخروج، ووضع الإعطاء، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة، وقدم أشناس التركي على مقدمته، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223، ودخل أرض الروم، فقصد أرض عمورية، وكانت من أعظم مدائنهم، وأكثرها عدة ورجالاً، فحاصرها حصاراً شديداً.
وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم فلما دنا وجه المعتصم بالأفشين في جيش عظيم، فلقي الطاغية، وأوقع به وهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، فأوفد طاغية الروم من قبله وفدا إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدوا أمري، وأنا أبنيها بمالي ورجالي، وأرد من أخذ من أهلها، وأخلي جملة من في بلد الروم من الأسارى، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة.
وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223، فقتل وسبى جميع من فيها وأخذ ياطس خال ملك الروم، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم، وانصرف، فلما صار بإذنه حبس العباس ابن المأمون لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار، فأمر أن تفرق على الجند، ويؤمروا أن يلعنوه، فأحصوا، فوجدوا ثمانين ألف مرتزق، فدفع إليهم دينارين دينارين، وتمم ذلك المعتصم من عنده، ودفع العباس إلى الأفشين مقيدا ليسيره، فلما صار بحند رأس توفي، وقيل إن الأفشين أطعمه طعاما كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء، فحمل إلى منبج، فدفن بها، وسخط المعتصم على عجيف بن عنبسة لأنه كان سبب معصيته، وحمله من أذنة في الحديد الثقيل، في فيه لبود قد خيطت عليه، وفي عنقه غل عظيم، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا، على مرحلة من نصيبين، مات، ودفن بها، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه، وأن يدعي صالحا المعتصمي، ولعنه، وبرئ منه.
وكان المازيار، وهو محمد بن قارن بن بنداد هرمز أصبهبذ طبرستان قد قدم على المأمون، بعد وفاة أبيه وتصيير مملكة طبرستان إلى عمه، فملكه المأمون على مدينتين من مدن طبرستان، وكتب إلى عمه في تسليمهما إليه، وخرج متوجها، فلما بلغ عمه ذلك أغاظه وبلغ منه، فخرج كأنه يتلقاه، وكان مع المازيار مولى لأبيه له دراية، فقال إن عمك لم يخرج في هذه الهيئة إلا ليفتك بك، فإذا قربت منه، وانفردت عن أصحابك، فإني أدفع إليك الحربة، فضعها في صدره، ففعل ذلك، فقتل عمه، واجتمعت عليه المملكة، وضبط البلد، وكتب إلى المأمون بأن عمه كان مخالفاً لملكه على البلد.
فلما عظم أمره كتب من جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار خرشاد محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين، ثم ذهب بنفسه أن يقول: موالي أمير المؤمنين، ثم تفاقم أمره حتى أظهر المعصية، وخلع، ويقال إن الأفشين كاتبه، وحمله على الخلع، فوجه المعتصم محمد بن إبراهيم لمحاربته في جيش، فنفذ وكتب إلى عبد الله بن طاهر أن يمده بالجيوش، فحاربه، وألح عليه عبد الله بالبعثة إليه بالجيوش، فحاربه، فقطعوا الأودية والحزونة، وخرج ليلاً، فوضع يده في يد قرابة لعبد الله، وقدم به سنة 226، فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك.
فحدثني محمد بن عيسى قال: قدم بالمازيار، وقد حبس الأفشين في ذلك الوقت، فجمع ابن داود بينه وبين المازيار، وقال له: هذا الأفشين الذي زعمت أنه حملك على المعصية. فقال له الأفشين: والله إن الكذب بالسوقة لقبيح، فكيف بالملوك؟ والله ما ينجيك كذبك من القتل، فلا تجعل الكذب خاتمة أمرك. فقال المازيار: والله ما كتب إلي، ولا راسلني، إلا أن أبا الحارث وكيلي أخبرني أنه لما قدم عليه بره وأكرمه، فرد الأفشين إلى الحبس، فضرب المازيار حتى قتل.
وكان أول سبب حبس الأفشين أن منكجور الفرغاني خال ولد الأفشين وخليفته باذربيجان، خلع هناك، وجمع إليه أصحاب بابك، وسار إلى ورثان، فقتل محمد بن عبيد الله الورثاني وجماعة من أولياء السلطان، فقال المعتصم للأفشين: أحضر منكجور! فوجه إليه الأفشين بأبي الساج، المعروف بديوداد، في جيش عظيم، ثم بلغ المعتصم أن منكجور إنما خلع بأمر الأفشين، وأنه إنما وجه إليه بأبي الساج مدداً له، فوجه محمد بن حماد على البريد، ووجه ببغا التركي، فحارب منكجور، فلما صدقه القتال ضرع منكجور إلى طلب الأمان، فأعطاه الأمان، وقدم به إلى سر من رأى، وقد حبس الأفشين، وكان حبسه في سنة 226، ثم توفي في الحبس، وصلب على باب العامة بسر من رأى عرياناً، ساعة من نهار، ثم أنزل فأحرق بالنار.
وكان الغالب على المعتصم أحمد بن أبي دواد الأيادي قاضي القضاة، والفضل ابن مروان الكاتب، ثم غضب على الفضل، فنفاه واستصفى ماله، فغلب عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه عجيف بن عنبسة، ثم الأفشين، ثم إسحاق بن يحيى بن معاذ وحجبه جماعة من الأتراك منهم: وصيف، وسيما الدمشقي، وسيما الشرابي، ومحمد بن حماد بن دنفيس، وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن في قصره المعروف بالجوسق، وكانت سنة 49 سنة وكانت ولايته ثماني سنين، وخلف من الولد الذكور ستة: هارون الواثق، وجعفر المتوكل، ومحمداً، وأحمد، وعلياً، والعباس.
أيام هارون الواثق باللهوولى هارون الواثق بالله بن أبي إسحاق، وأمه أم ولد، يقال لها قراطيس، يوم توفي المعتصم، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وكان ذلك من شهور العجم في كانون الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجدي خمس عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة.
وتوجه إسحاق بن إبراهيم ساعة بايع إلى بغداد، فسار ليلته أجمع، ووافى بغداد قبل أن يطلع الفجر، فوكل بالأطراف والسجون، وأحضر القواد والوجوه، فأخذ عليهم البيعة، ووثب عوام الجند والغوغاء بشعيب بن سهل قاضي الجانب الشرقي ببغداد، فانتهبوا داره، فوجه إسحاق جعفر معيشة، وإبراهيم الديرج، وجماعة معهما، فأخرجوا شعيب بن سهل، حتى صاروا به إلى دار إسحاق.
وأراد الواثق الحج في هذه السنة، وصحت عزيمته، فتأخر حجه، وأذن لأمه، فخرجت، ومعها جعفر بن المعتصم، فلما صارت بالكوفة توفيت، وأذن الواثق لأخيه جعفر في النفوذ، فنفذ وأقام الحج بالناس وكان أول من عقد له الواثق من قواده أشناس التركي ولاه من بابه إلى آخر عمل المغرب، فوجه عماله، وكتب إلى محمد بن إبراهيم الأغلب بولاية المغرب من قبله، وكان المدبر له أحمد بن الخصيب.
وولى الواثق خراسان إيتاخ التركي، والسند وكور دجلة، وكانت السند قد اضطربت، وقتل عمران بن موسى بن يحيى بن خالد عامل السند، فوجه إيتاخ إلى السند عنبسة بن إسحاق الضبي، فقدم البلد، وقد تغلب عليه عدة ملوك، فلما قدمها عنبسة سمعوا وأطاعوا وخرجوا إليه جميعاً خلا عثمان... فسار إليه عنبسة... فأقام على البلد تسع سنين.
ووثب ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، ووثب بفلسطين رجل يقال له تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب، ويلقب بالمبرقع، في لخم وجذام وعاملة وبلقين، وصار إلى كورة الأردن، وخلع قوم من البربر ببرقة، ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص، ووثبوا بعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة، فوجه الواثق رجاء بن أيوب الحضاري، فبدأ بدمشق، فأوقع بابن بيهس، فأسره، وسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره وحمله إلى سر من رأى، فوقف بباب العامة، ونودي عليه، وصار رجاء إلى مصر سنة 228، فنزل الجيزة، ثم توجه إلى برقة، فهرب من كان فيها، وظفر بجماعة منهم، فحملهم، ثم انصرف.
وتوفي عبد الله بن طاهر بخراسان سنة 230، وهو ابن سبع وأربعين سنة، ومنزله منها نيسابور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة، وولى الواثق طاهر بن عبد الله، وكان عبد الله بن طاهر قد ضبط خراسان ضبطا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة. وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز، وقطعوا الطريق، حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، فوجه الواثق بغا الكبير سنة 230، وأمره أن يقتل كل من وجده من الأعراب، فشخص قبل أوان الحج، فاجتمعت قيس من كل ناحية، وأكثرهم بنو سليم ورئيسهم عزيزة، فلقيهم، فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم عالماً حبسهم في دار يزيد بن معاوية بالمدينة، فنقبوا وخرجوا على أهل المدينة، فوثب عليهم أهل المدينة، فقتلوا عامتهم، وحمل بغا الباقين في الأغلال، ووافى إسحاق بن إبراهيم الموسم في تلك السنة.
وسخط الواثق على إبراهيم بن رباح، وكان إبراهيم مقدماً عنده بمكانه منه، أيام إمرته، فولاه ديوان الضياع، فتشاغل باللهو، وفوض أمره إلى نجاح بن سلمة كاتبه، وإلى يمان بن... النصراني، وتجافيا للناس عن أموال كثيرة، فكثروا عليه عند الواثق، فأمر بقبض ضياعه وأمواله، وصير ما كان إليه إلى عمر بن فرج الرخجي.
وكان أحمد بن الخصيب كاتب أشناس التركي، وهو يلي أعمال الجزيرة، والشامات، ومصر، والمغرب، والمدبر لذلك أحمد، فرفع إلى الواثق أنه قد حاز أموالا عظيمة، فسخط عليه، وقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم، وعذبا، وعذبت أمهما.
وتوفي أشناس في هذه السنة، فصيرت مرتبته وأكثر أعماله إلى إيتاخ التركي، وتركت ضياعه وأمواله بحالها لولده، ورد القيام بها إلى عبد الله بن صاعد، فلم يزل يقوم بها إلى أن توفي. وانتقضت أرمينية، وتحرك بها قوم من العرب والبطارقة والمتغلبين، وتغلب ملوك الجبال والباب والأبواب على ما يليهم، وضعف أمر السلطان، فولى الواثق خالد بن يزيد بن مزيد، وأمره بالنفوذ، وضم إليه كورا من كور ديار ربيعة، فسار في جيش عظيم، فلما بلغ المتغلبين بتلك البلاد خبره هابوه، وكتب أكثرهم يذكر أنه لم يزل في الطاعة، ووجهوا بالهدايا، فقال: لا أقبل إلا هدية من جاءني، فزاد ذلك في وحشتهم، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل يأمره أن يقدم عليه، فلم يفعل، فزحف إليه، فكاد أن يعطي إسحاق بيده.
واعتل خالد، فأقام أياماً، ثم مات، فحمل في تابوت إلى دبيل، فدفن فيها، وتفرق أصحابه، فعاد البلد إلى أقبح أحواله، فولى الواثق محمد بن خالد مكان أبيه، فكتب محمد يذكر انصراف أصحاب أبيه وسأل ردهم إليه، فوجه أحمد بن بسطام إلى نصيبين، فضرب، وحبس، وحرق الدور، فاجتمع إلى محمد أصحاب أبيه ومواليه، فحارب الصنارية وإسحاق، حتى أخرجه، وهزمهم، ولم يزل ضابطا للبلد.
وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً.
وكتب طاغية الروم يذكر كثرة من بيده من أسارى المسلمين ويدعو إلى الفداء فأجابه الواثق إلى ذلك، ووجه بخاقان الخادم... المعروف بأبي رملة والآخر جعفر بن أحمد الحذاء، وكان صاحب الجيش، وولى الثغر أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، فصاروا إلى موضع يقال له نهر اللامس على مرحلتين من طرسوس، وحضر ذلك الفداء سبعون ألف رامح سوى من ليس معه رمح، وكان أبو رملة وجعفر الحذاء واقفين على قنطرة النهر، فكلما مر رجل من الأسرى امتحنوه في القرآن، فمن قال إنه مخلوق فودي به، ودفع إليه ديناران وثوبان، فبلغ عدة من فودي به خمسمائة رجل وسبعمائة امرأة، وكان هذا في المحرم سنة 231.
وصار أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي إلى ابن أبي دؤاد في بعض أموره، فرده، فانصرف ذاما له، فجعل يبسط عليه لسانه ويشهد عليه بالكفر، فمال إليه قوم منهم، وهم لا يشكون أن ذلك غضب للدين، فاشرأبت قلوبهم للمعصية لسبب القرآن، وخرج قوم، فضربوا بطبل، وصاروا إلى ناحية صحراء أبي السري، فأخذوا، وأقروا عليه، فكتب الواثق إلى إسحاق في إشخاصه، فأشخصه إليه، فكلمه بكلام غليظ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات، وامتحنه في القرآن، فأبى أن يقول إنه مخلوق، وشتمه الواثق، فرد عليه، فضرب عنقه وصلبه بسر من رأى، ووجه برأسه، فنصب ببغداد في الجانب الشرقي.
وخرج محمد بن عمرو الشيباني الخارجي بديار ربيعة وأبو سعيد محمد ابن يوسف بها فخرج إليه مع الجند ومحمد بن عمرو في ثلاثمائة، أو أربعمائة من الخوارج فصار إلى سنجار، ثم انهزم إلى ناحية الموصل، فتبعه أبو سعيد، فأسره وأدخله نصيبين على بقرة، وحمله... إلى الواثق، فكتب إليه: ما ينبغي أن يقتل، فإنه لن يخرج خارجي ما دام حياً، فلم يزل محبوساً أيام الواثق.
وفرق الواثق أموالا جمة بمكة والمدينة وسائر البلدان على الهاشميين وسائر قريش والناس كافة، وقسم في أهل بغداد قسماً كثيرة مرة بعد أخرى على أهل البيوتات وعلى عامة الناس، وكثر الحريق ببغداد، وفرق على قوم من التجار أموالا جمة، وبنى لقوم وأسقط ما كان يؤخذ ممن يرد في بحر الصين من العشر.
وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك، وعمر بن فرج الرخجي، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه إسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ.
واعتل الواثق، واشتدت علته حتى حفر له في الأرض حفير كالتنور ثم سخن بحطب الطرفاء، وصير فيه مراراً، وكان يقول في علته: لوددت أني أقلت العثرة، وأني حمال أحمل على رأسي. وقيل له في البيعة لابنه، فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً.
وكان قد انتقل من قصور المعتصم، وبنى له قصرا على شط دجلة يقال له الهاروني، وجعل له دكتين: دكة غربية ودكة شرقية، وكان من أحسن القصور، وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وسنة يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الولد الذكور ستة: محمداً، وعلياً، وعبد الله، وإبراهيم، وأحمد، ومحمداً الأصغر.
أيام جعفر المتوكلوبويع جعفر بن المعتصم، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وكان أول من بايعه سيما التركي، المعروف بالدمشقي، ووصيف التركي، وركب إلى دار العامة من ساعته وأمر بإعطاء الجند لثمانية أشهر، وسلم عليه أولاد سبعة خلفاء مجتمعين: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأحمد بن الرشيد وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون وإخوته، وأبو أحمد بن المعتصم وإخوته، ومحمد بن الواثق، وأقر الأمور على ما كانت عليه أربعين صباحاً، ثم سخط على محمد بن عبد الملك واصطفى أمواله وعذبه حتى مات، وكان يعتد عليه بأمور كثيرة.
وكان محمد رجلاً شديد القسوة، قليل الرحمة، جباها للناس، كثير الاستخفاف بهم، لا يعرف له إحسان إلى أحد، ولا معروف عنده، وكان يقول: الحياء خنث، والرحمة ضعف، والسخاء حمق فلما نكب لم ير إلا شامت به وفرح بنكبته.
وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى ابن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى. ونهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن، وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاهم جميعاً، وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهى عن المناظرة والجدال فأمسك الناس.